قبل نحو أربعة أسابيع، يوم أتت النيران على معسكر موريا للاجئين في جزيرة ليسبوس تاركةً أكثر من اثني عشر ألف لاجئ في العراء، حمل الاهتمام الإعلامي والحقوقي والسياسي بالخبر ملامح سرد «قصّة موت معلن». الأعوام السابقة حفلت بالتقارير والبيانات الحقوقية، والتحقيقات الصحفية المُشيرة لفداحة الأوضاع في «معسكر موريا للاستقبال وتحديد الهوية» بما يكفي لكي لا يكون ما حصل مفاجئاً على الإطلاق، بل على العكس، كما يُعبّر عنه تصريح ماركو ساندرونى، منسق عمل منظمة أطباء بلا حدود في ليسبوس، في اليوم التالي للحريق: «قنبلة موقوتة حان وقت انفجارها».
قبل أن تمسحه النيران من الوجود فجر التاسع من أيلول (سبتمبر) الماضي، كان موريا، أكبر مخيم لاجئين في أوروبا، تكثيفاً لكل ما هو بشع وخاطئ ولا إنساني في قعر التعاطي الدولي مع «أزمة اللاجئين»، لدرجة اكتساب المخيم لقب «عار الاتحاد الأوروبي». هو موقع عسكري سابق في جزيرة ليسبوس اليونانية، الملاصقة للسواحل التركية، تم تحويله لـ «مركز استقبال وتحديد هوية»، وتعزز دوره بُعيد الاتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي بخصوص اللاجئين مطلع عام 2016. وقد كانت مهمة هذا «المركز» إيواء القادمين وإطلاق عملية فرز بيروقراطي لتقرير مصيرهم، إما بالقبول بهم كلاجئين ونقلهم إلى الأراضي القارّية وإدخالهم ضمن عملية توزيع اللاجئين الأوروبية، المحكومة بالشلل شبه الدائم بسبب الخلافات بين الدول الأعضاء على كوتات الاستقبال؛ أو تقرير رفضهم، وبالتالي إعادتهم إلى تركيا (حين تسمح العلاقات الثنائية). وقد كان من المفترض أن يتّسع معسكر موريا لإيواء حوالي ثلاثة آلاف شخص، لكن مرّت عليه أسابيع وشهور عديدة تجاوز عدد المتكدسين فيها 20 ألف إنسان. وقد كان عدد قاطني المعسكر أكثر من 12 ألف لاجئ، من أكثر من 70 جنسية مختلفة، وإن مع غلبة عددية كبيرة للأفغان، لحظة احتراقه الشهر الماضي.
حوّل مزيج الاكتظاظ وضعف الخدمات وانعدام الأفق المعسكر خلال السنوات السابقة إلى «جحيم» بكل معنى الكلمة، فكل التفاصيل الحياتية، حتى الأساسية منها، عبارة عن أشغال شاقة، بما في ذلك، مثلاً، قضاء الحاجة. كان هناك مرحاض واحد لكل مئة شخص تقريباً.
وقد أدّى تكديس هكذا كمية هائلة من الناس، في هكذا ظروف قصوى، لتراجع الأوضاع الغذائية والصحّية وانعدام النظافة، كما تصاعدت نسب العنف والسرقات والاعتداءات الجسدية والجنسيّة، وقامت بيئة لا-حياة لا تُحتمل، من ملامحها التزايد الفظيع في الميول الانتحارية لدى الأطفال واليافعين، حسبما رصدت منظمات إنسانية عاملة في المجال. وقد تمدد المخيم عشوائياً تجاه كروم الزيتون المُجاورة، ما أضرّ بمصالح قطاع من سكان الجزيرة، وأدى ذلك -برفقة تزايد حالات السرقة والسطو في الجزيرة- إلى تكوين بيئة خصبة لارتفاع مشاعر العداء تجاه اللاجئين لدى أهل الجزيرة، وتحوّلت ليسبوس لـ «مقصد سياحي» لتيارات اليمين المتطرف اليونانية والأوروبية.
وبهذا الشكل، مرّت أيام وأسابيع وسنوات: الأوضاع تسوء، والمنظمات الدولية تكرر نداءاتها، ولا شيء يتغيّر. إلى أن جاءت جائحة كورونا، وزادت من معاناة قاطني موريا: المعالجة البيروقراطية لملفاتهم، الشديدة البطئ أصلاً، توقفت تقريباً؛ الظروف الإنسانية ازدادت سوءاً؛ وبدأت حالات الإصابة بفيروس كورونا تظهر بين قاطني المخيّم. قرر القائمون على المعسكر حينها فرض شروط حجر قاسية وغير مدروسة بعد أشهر من التجاهل (ومعاكِسة في تفصيلاتها لما أوصت به منظمات دولية مثل أطباء بلا حدود) ما أدى لاندلاع احتجاجات داخل المخيّم مطلع أيلول (سبتمبر)، أتى الحريق على هامشها، إذ اتهمت السلطات المحلية مجموعة من القاطنين في المخيم بتعمّد إضرام الحريق الحريق في سياق تلك الاحتجاجات، ما مدّ الخطاب العنصري ضد اللاجئين بالمزيد من الوقود: هم المسؤولون حتى عن حريقهم.
المعسكر الجديد الذي تم إعداده بعد احتراق موريا (NZZ)
خلال الأيام التالية للحريق، تفرّق قاطنو موريا الـ 12 ألفاً (ومن بينهم مئات الأطفال والقصّر غير المُرافَقين) في أنحاء الجزيرة، وحصلت مواجهات عديدة بين قوات الشرطة واللاجئين، الذين رفضوا محاولات الشرطة حصرهم وتجميعهم، وطالبوا بنقلهم من الجزيرة وتسريع البتّ في ملفاتهم، محاولين مقاومة التوجّه نحو الانضواء في معسكر جديد في نفس الجزيرة، في ثقب أسود جديد للنسيان.
من جهته، عبّر الاتحاد الأوروبي بسرعة عن رغبته بدعم اليونان في سعيها لحلّ «هذه الأزمة»، لكن النوايا سرعان ما اصطدمت بالعطالات البنيوية الحائلة دون وضع وتطبيق سياسات على المستوى الاتحادي بخصوص طالبي اللجوء و«المهاجرين غير الشرعيين». وقد أدّى الاهتمام المؤقت بالملف لإعلان ألمانيا عزمها على استقبال 1500 من قاطني موريا، و150 قاصراً غير مُرافَق؛ وأعلنت فرنسا عن استعدادها لاستقبال أرقام مماثلة. هولندا أعلنت عن استقبال 100 طالب لجوء، وإن سارعت بتوضيح أن هذا الرقم سيُحسم من الكوتا السنوية المعتادة. فنلندا ستستقبل 12 لاجئاً، رقم يبدو هزيلاً للغاية، إلى أن يُقارن بالصمت المطبق لباقي الدول الأعضاء.
وبعد أسابيع من النوم في العراء، تتوجّه نسبة كبيرة من اللاجئين، بخطىً ثقيلة، للامتثال لأوامر السلطات المحلية والتوجّه نحو معسكر جديد تم تشييده على عجل بجانب تلّة تطل على البحر مباشرةً. وقد أشارت تقارير حقوقية أن المعسكر الجديد «أسوأ حتى من معسكر موريا»، يعاني عوزاً كبيراً في كل أساسيات الحياة، ومنها مياه الشرب ووسائل التنظيف، وحتى المراحيض. لكن اللاجئين يتوجهون إليه، مع ذلك، محكومين بانعدام البدائل، وبتأكيد السلطات بأن الاستمرار بالعمل في ملفاتهم واحتمالية تحسّن أوضاعهم مشروط بامتثالهم لأمر الدخول في المعسكر؛ هذا في حين تحاول نسبةً أخرى الصمود في العراء، محاولين الحفاظ على الضغط الاحتجاجي المُطالب بنقلهم من الجزيرة إلى الأراضي القارّية. كلّ ذلك وسط أزمة كورونا، وتفشي الوباء بين اللاجئين في ليسبوس، وسط ظروف يستحيل فيها اتخاذ إجراءات النظافة والتعقيم والتباعد.
غير السعي لإعادة تأطير الآلاف الباقين في ليسبوس داخل معسكر جديد، لا يبدو أن لدى أصحاب القرار خطة لـ «حل» يغيّر بشكل نهائي هذه الأوضاع المأساوية. لا شيء يدعو للتفكير بأن مصيراً مختلفاً عن سابقه ينتظر المعسكر الجديدة: زجّ الآلاف في زنزانة أخرى من زنازين «المؤقت»، إلى أن تحصل مأساة مشابهة، ونبدأ من جديد. يحصل هذا في الاتحاد الأوروبي -على أطرافه الأقل ثراءً، لكن في الاتحاد الأوروبي في المحصلة- أي الإقليم الأكثر قدرةً على إيجاد حلول. ماذا يبقى إذن لمناطق أخرى من العالم؟ هذا دون أن نشير إلى عار استخدام «أسرى المؤقت» وكأنهم أكياس قمامة يتراشقها جيران متخاصمون، كما تفعل السلطات التركية موسمياً في سياق كباشها مع الأوروبيين، وردّ الأوربيين الكباش بـ«أحسن» منه.
إذن، مأساة حريق مخيم موريا للاجئين في جزيرة ليسبوس كانت متوقّعة؛ تتضاعف المأساة لأنها كانت متوقّعة، بل ومرجّحة، ومع ذلك حصلت؛ وتصبح المأساة مثلثة حين نرى أنه من الطبيعي أن تتكرر في المستقبل القريب. يحاول المرء ألا ينجرّ وراء مشاعره، وأن يتجنّب قول شعارات إنسانوية لا تطبيق واقعي لها، ولا فائدة منها، ربما، إلا إراحة ضميره المحميّ ضمن شبكات أمانه وامتيازاته. لكن، هل فعلاً لا يمكن إلا هذا؟ ما الخطّة؟ لدينا أمثلة كثيرة عن «مؤقت» لزج يدوم عقوداً، ولا شيء يمنعه من أن يدوم أضعافها، ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أبرزها وأقربها. آلاف الناس المحبوسين في عراء الخيارات والإمكانيات والأمان، وأحياناً في العراء الحرفي، إلى ما لا نهاية، ببساطة. حسناً، لنكن «واقعيين» ونبتعد عن «الطوباوية» و«الشعبوية». لن نقول «افتحوا الحدود»، ولا «لا تتركوا أحداً خلفكم»، ولا «وِيلكم ريفيوجيز». ماذا إذاً؟ كيف يمكن أن نثبّت يقين أن مأساة آلاف الناس العالقين في «مؤقت» ليسبوس لا تخصهّم وحدهم، وليست مشكلتهم وحدهم، وأن المسألة ليست فقط «إنسانية» أو «غيرية»، وننتقل لمرحلة أخرى، في ليسبوس، وفي ضواحي ليسبوس، في العالم أجمع؟