تحت إعلان «لا شواغر»، تبدأ المدارس الخاصة شمال غرب سوريا عامها الدراسي الحالي. في حين تعيش المدارس العامة في عفرين وشمال شرقي حلب حالةً من التخبط، ويتوزّع طلابها بين التقسيم لأفواج، ودوامٍ جزئي، وصفوفٍ محرومة، وشهادات رئيسية (تاسع وبكالوريا)، ويُوضع مدرسوها تحت ضغط إنهاء مناهجهم بيومين أسبوعياً وبدوامٍ لا يتجاوز الساعتين. ويجد طلاب الصف الأول الابتدائي أنفسهم في مدارس كاملة خالية من طلابٍ في المراحل الصفية الأخرى. وتأتي كل تلك الإجراءات ضمن خطة الوقاية من فيروس كورونا، والتي يرى بعض الأهالي الذين تواصلنا معهم أنها مجحفة، في حين يثمّن قسمٌ آخر هذه الاحترازات.
بين الخاص والعام هوةٌ تزداد اتساعاً
ازدادت أعداد المدارس الخاصة بشكلٍ ملحوظ في مختلف مناطق شمال غرب سوريا، باستثناء منطقة عفرين، التي أُغلقت فيها المدارس الخاصة بموجب قرارٍ من مديرية التربية منذ سنتين، ولم يُسمح لها بالعمل من جديد.
وتتركّز المدارس الخاصة في المراكز المدنية الأكبر، ففي إدلب تنتشر في كل من إدلب المدينة والدانا وحزّانو وسرمدا. وتعتبر الأخيرة مركز الثقل الأكبر لهذه المدارس، وتضم في صفوفها طلاباً من مختلف المناطق تتكفل الحافلات (الأوتوكارات) بتوصيلهم. وفي ريفي حلب الشمالي والشرقي تتركز المدارس في كل من إعزاز والباب.
ومع قرار إغلاق المدارس العامة في العام الماضي بسبب تفشي فيروس كورونا، افتُتحت مدارس ومعاهد خاصة لتضم الطلبة الراغبين بإكمال تحصيلهم العلمي، خصوصاً بعد النتائج الضعيفة التي حققها التعليم عن بعد نتيجة أسباب كثيرة؛ منها عدم وجود المناهج المتخصصة بهذا النوع من التعليم، وضعف الإنترنت أو غيابه، فضلاً عن عدم قدرة الأهالي على مواكبة هذا النوع من التعليم.
يقول مصطفى طبشو من مدينة أعزاز، وهو أبٌ لثلاثة أطفال، إنه اضطر هذا العام لتسجيل أبنائه في مدارس خاصة، تنوعت أقساطها السنوية بحسب الفئة العمرية، إذ وصلت في المرحلة الثانوية إلى 375 دولاراً، وفي الإعدادية إلى 200 دولار؛ أي أنّ أقساط تسجيل طالب في الثانوية تعادل راتب عامل مياومة لنحو سنةٍ كاملة.
أما في إدلب، فيبلغ متوسط الكلفة للطالب الواحد نحو 150 دولاراً سنوياً في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، وتزيد عن ذلك بمقدار خمسين دولار في المرحلة الثانوية، ومئة دولار في الثالث الثانوي. ولا تتضمن هذه المبالغ أجور المواصلات، التي تختلف بحسب طول المسافة.
وتقول المدرسة سهام العلي، وهي مدرسة لمادة الفيزياء في إحدى المدارس الخاصة بريف حلب الشرقي، إن المنطقة تشهد توجهاً غير مسبوق نحو المدارس والمعاهد الخاصة في العام الحالي، وتعزو ذلك إلى عدم وجود مدارس عامة للصفوف الانتقالية.
تقول العلي: «سابقاً كان التركيز الأكبر في المدارس الخاصة على طلاب الشهادات؛ للرفع من سويتهم التعليمية من أجل الحصول على مقعد في الجامعات، كما كانت تقتصر على طبقةٍ معينةٍ من السكان الذين يمتلكون القدرة المالية. أما اليوم، فباتت المدارس الخاصة ضرورة؛ نظراً لعدم وجود أي بديل أمام الطلاب». وتخبرنا العلي أنّ أهالي الطلبة اليوم أمام خيارين؛ «الاستثمار بمستقبل أبنائهم أو تركهم للمدارس!».
الهوّة التعليمية بين الخاص والعام بدأت بالاتساع، كما يقول صبحي الخلف، وهو مدير مدرسة عامة في إدلب. ويرى الخلف أنّ المدارس العامة سابقاً كانت «تؤدي الغرض منها بنسبةٍ جيدة»، ولم يكن الفارق ملموساً سوى عند بعض الطلبة. أما اليوم، ومع الانقطاع المستمر في التعليم العام، والظروف التي فرضتها الحرب وتدمير المدارس والاكتظاظ وغياب الوسائل الدرسية وتوقف الدعم، وما تركه انتشار فيروس كورونا مؤخراً من آثارٍ على التعليم وتوقّف المدارس بشكل كلي في العام الماضي، وجزئي في العام الحالي، فالهوة بدأت بالاتساع للدرجة التي لا يمكن إصلاحها.
ويشرح الخلف أن الطلبة «بالأصل» يعانون من ضعفٍ في التحصيل العلمي، وقد توقفوا لنحو عام عن الدراسة. ومع فرض الدوام بأفواج في إدلب سيُصار بالضرورة إلى تخفيض عدد الحصص الدرسيّة، أسوة بما حدث في إعزاز على سبيل المثال، وسيجد المُدرّس والطالب أنفسهم أمام مشكلة كبيرة في إكمال المناهج المقررة.
ولا يمتلك معظم سكان المنطقة، الذين تزيد أعدادهم عن خمسة ملايين شخص، القدرة على دفع المبالغ المفروضة للمدارس الخاصة، ولا توجد في المنطقة مدارس بقدرة استيعابية تستطيع ضمّ جميع هؤلاء الطلبة، ما سيزيد من التسرب الدراسي، خاصةً وأن 34٪ من الأطفال في سنّ الدراسة لم يلتحقوا بالمدارس، وذلك بحسب دراسة لوحدة تنسيق الدعم نشرتها في آذار (مارس) 2019، وقدّرت أعدادهم بنحو 582 ألف طفل، من أصل 1.7 مليون طفل في سن الدراسة بالمنطقة.
دوام جزئي في المدارس العامة
أعلنت مديريتا التربية في إعزاز والباب عن بدء الدوام الفيزيائي لطلاب الصف الأول الابتدائي في الثالث عشر من أيلول (سبتمبر) الماضي، تلاه قرارٌ بالتحاق طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية في العشرين من الشهر ذاته.
واختُصر الدوام في هذه المدارس على يومين أسبوعياً لكلّ صف، مع إجراءات الوقاية من انتشار الفيروس؛ فيما يبقى قرار التحاق باقي الطلبة «التدريجي» -بحسب محمد نادر حوراني، مدير تربية إعزاز- رهن القدرة على تطبيق هذه الإجراءات للحد من انتشار الوباء.
وقد تمّ تقسيم الشعب الصفيّة إلى مجموعاتٍ لمراعاة التباعد الاجتماعي، بحيث لا تضم الشعبة الصفية أكثر من 15 طالباً.
يتساءل أهالي تحدثنا إليهم حول هذه القرارات عن مصير الطلبة في باقي الصفوف الدراسية، خاصة في صفي الثامن والحادي عشر؛ وهما المرحلتان التمهيديتان للشهادات. ويقول أنس عبد اللطيف، وهو مهندس وأب لطفلين، إن الخوف على الطلاب من انتشار الفيروس أمر محق، ولكن ماذا عن الأسواق والتجمعات والشوارع والمحال التجارية والمقاهي؟ ويرى عبد اللطيف أنّ هذا الفيروس منتشرٌ في دول كثيرة، إلا أن معظمها تراجع عن قرار إغلاق المدارس والجامعات؛ إذ لا يمكن إلا أن نغلّب مصلحة الطلبة أمام وباءٍ لا نعرف المدى الزمني لانتهائه، بحسب تعبيره.
ويقول عبد اللطيف إن المدارس في إدلب فتحت أبوابها أمام الصفوف الدراسية كافة، في خطوة اعتبرها «صائبة» في منطقةٍ لا تبعد سوى كيلو متراتٍ قليلة عن أعزاز، وتعيش حالةً من عدم الاستقرار خلافاً لمناطق ريف حلب. إلا أنه يُرجع السبب إلى «تطبيق النموذج التركي في ريف حلب»، ليخلص إلى القول «غداً إنْ طلبت مديرية التربية التركية تعديل القرار سنفعل، وسندافع عما اعتبرناه خاطئاً قبل أيام».
القرار في إعزاز يشمل المدارس العامة والخاصة، بحسب تعميمين نُشرا على المعرّف الرسمي للمكتب التعليمي في المدينة، أحدهما في الرابع عشر من أيلول (سبتمبر) الماضي والآخر في التاسع والعشرين منه.
يقول من تحدّثنا معهم إن الأمر ليس إلا قرارات لا يعقبها تنفيذ؛ إذ ما تزال المدارس الخاصة تستقبل الطلبة بكافة الصفوف. ويخبرنا طبشو أن أطفاله الثلاثة ما زالوا على مقاعد الدراسة.
وتروي السيدة هناء الجبان أنها ضد إغلاق المدارس، سواء كانت الخاصة أم العامة، لكن تطبيق القرار على إحداها دون الأخرى يُعتبر ظلماً بحق الأطفال الآخرين الذين لا يمتلكون القدرة على التسجيل في المدارس الخاصة. كذلك، لم يعد هناك شاغرٌ حتى لو استطاع الأهالي تأمين هذه المبالغ. وتخبرنا هناء أن لديها طفلاً في الصف الثامن الإعدادي لم تستطع تأمين مكان له في المدرسة، ما دفعها للجوء إلى مدرسين خصوصيين في المنزل لمتابعة تعليمه.
في عفرين «صف زيادة» وحصص ناقصة
تخلو عفرين من المدارس والمعاهد الخاصة، وكانت مديرية التربية قد أعلنت بدء العام الدراسي في الثالث عشر من أيلول (سبتمبر)، ولأربعة صفوف فقط (الأول والثاني الابتدائي، التاسع، والبكالوريا).
يقول مدرس رفض ذكر اسمه، وذلك لتلقي المدرسين إيعازاً يمنع التحدث مع وسائل الإعلام تحت طائلة الفصل، إن المدارس قُسّمت إلى شعبٍ صفية للمراحل الدراسية الأربع لمراعاة التباعد الاجتماعي. وتحدث عن عدم الالتزام بالإجراءات الوقائية رغم وجود أدوات التعقيم في المدارس.
ويقول المُدرّس إن الدوام يقتصر على ساعتين، وقد تم تطبيق نظام الفوجين (صباحي ومسائي) في المدارس. وإجابةً عن سؤال إلى متى ستبقى باقي الصفوف الدراسية خارج العملية التعليمية أجاب: «مدير التربية لا يعرف ذلك.. الأوامر تأتي من تركيا ونحن ننفذ». ويضيف «تم تقليل الحصص الدرسيّة لبعض المواد الدراسية، كالفيزياء والكيمياء واللغة التركية وحصص الأنشطة، والإبقاء على المواد الأساسية في المدارس».
ويلجأ طلاب في عفرين إلى الدروس الخصوصية المنزلية كبديل عن عدم توافر التعليم، إذ يدفع الأهالي 50 ليرة تركية للمدرس شهرياً عن مادة واحدة، ما يعني دفع نحو ثلاثمائة ليرة، أي نصف راتب مدرس في عفرين شهرياً عن كل طالب. وينقص هذا المبلغ نحو 15 ليرة لطلاب المرحلتين الابتدائية والإعدادية.
يقول أحمد العمر، وهو أب لطفلين من مدينة عفرين، إنه يدفع نحو 500 ليرة تركية لتعليم طفليه، بينما تبحث عائلاتٌ لأطفالها عن محال لتعليمهم «صنعة» بدلاً من التعلّم. يخبرنا العمر أنّه «يشاهد كثيراً من أصدقاء أولاده يعملون أو يبحثون عن عمل»، فـ«الصنعة لا تخضع لقرارات كورونا في عفرين!».
دوام حضوري في إدلب
فتحت المدارس العامة أبوابها في إدلب أمام الصفوف الدراسية كافة في السادس والعشرين من أيلول الماضي، مع مراعاة الإجراءات الوقائية لوباء كورونا. ويقول بشار عطا، مدير مدرسة الأتارب، إنّ «الإدارة قسّمت المدرسة إلى قسمين بدوامين صباحي ومسائي. وبدوره، ينقسم كلُّ قسم إلى قسمين يداوم أحدهما يوماً ويعطل يوماً»، مع إبقاء ساعات الدوام على حالها واختصار «فرصة استراحة واحدة»، وبمعدل أربع ساعات يومياً.
ويقول توفيق الشاطر، نقيب معلمي حلب في إدلب، إنّه لم تصدر أي قرارات لتخفيض الساعات الدرسيّة، وإنّ التعليم الحضوري سيكون على حاله، إلا أنه من الممكن القيام بإجراءات خلال فترة الدوام الشتوي تقضي بتخفيض ساعات التدريس، خاصةً في المدارس التي تعمل بنظام الأفواج الثلاثة، بحيث تكون حصة كل فوج ساعتين يومياً. كذلك من الممكن تطبيق نظام التعليم عن بعد في بعض المدارس غير الجاهزة.
ويؤكد نقيب المعلمين أنّ ما تحدث عنه يخص نقابة المعلمين بالتعاون مع مديرية التربية، وأن الكادر التعليمي يعمل ما بوسعه لتطبيق الإجراءات الوقائية، إلا أنها لا تتحقق بنسبة كبيرة؛ خاصةً في مسألة التباعد الاجتماعي واستخدام دورات المياه.
تسود العملية التعليمية شمال غرب سوريا حالةٌ من التخبط ، وتنفرد كل مديرية من المديريات بقراراتها دون مراعاة وضع الطلبة الذين سيكونون أمام خطر التسرب الدراسي، وفي أفضل الأحوال سنكون أمام طلبة بتحصيل علمي ضعيف، ما يهدد جيلاً كاملاً أتعبته سنوات الحرب وطحنت أطفاله خارج مقاعد الدراسة والتعلم.