تَعرَّضَ الشعب السوري منذ انطلاق ثورة الحرية والكرامة في آذار 2011 لأنماط عديدة من أكثر انتهاكات حقوق الإنسان فظاعة. استعمال العنف والسلاح والذخيرة الحية في وجه متظاهرين عزل منذ اليوم الأول ألقى بظلاله على طبيعة الحل الأمني الذي انتهجته السلطة في قمع الثورة، وفي تأجيجها أيضاً. عاد الشعب السوري ليعاني مآسيَ مشابهة لانتهاكات الثمانينات والتسعينات، هذه المرة بعنف موسّع وعلى مرأى ومسمع العالم مع انتشار كاميرات الهواتف المحمولة وسهولة نشر الصور والفيديوهات والأخبار عبر الإنترنت.

لكنَّ ما حصل خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي مختلفٌ عمّا حصل بعد العام 2011 من ناحيتين أساسيتين؛ توثيق الانتهاكات التي تحصل على نطاق واسع ومكثّف بعد 2011، ومحاولة المجتمع المدني السوري الاستفادة من النزوح السوري الكبير عبر جر بعض مسؤولي النظام إلى محاكمات خارج سوريا يقدمها ناجون وناجيات وصلوا إلى دول تُتيح لهم مثل هذا الخيار.

بخصوص التوثيق، فقد برزت عشرات المبادرات، فردية أو منظمة، من ناشطين وناشطات في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، لتوثيق الانتهاكات بشكل ممنهج. ولو أن الهدف من توثيق الانتهاكات وقتها كان المناصرة وفضح الانتهاكات ولم يكن أساساً محاولة استخدامها في ملفات قضائية، لكن هذا التوثيق سيشكل أرضية مهمة جداً في محاولات تحصيل حقوق الضحايا أمام القضاء المحلي في عدة دول أوروبية لاحقاً.

ربما من المفيد هنا الإشارة إلى امتناع الحكومة السورية عن المصادقة على معاهدة روما لمحكمة الجنايات الدولية عام 2003، الأمر الذي منع المحكمة من التدخل وفتح تحقيق بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تُقترَف في سوريا. إحالةٌ خاصة للمحكمة من قبل مجلس الأمن فشلت في عام 2014 بسبب فيتو روسي-صيني مزدوج، ومع استحالة استصدار قرار مجلس أمن أيضاً لإنشاء محكمة دولية خاصة بسوريا (على غرار المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة أو راوندا)، لم يبق أمام السوريين حالياً سوى خيار اللجوء إلى محاكمات فردية أمام القضاء الوطني الأوروبي والاستفادة من تشريعات محلية أوروبية (الاختصاص العالمي لحقوق الإنسان) أو من جنسية أوروبية يحملها أحد الضحايا أو ذويهم، لمحاكمة المنتهكين ومحاولة تحصيل بعض حقوق الضحايا.

مع شبه انعدام أي دور للأمم المتحدة في فتح ملف التقاضي الدولي، ومع استحالة إنشاء محكمة دولية لسوريا، كان على السوريين الاعتماد على أنفسهم في هذا المجال. بدأت هنا رحلة المجتمع المدني السوري والمنظمات الحقوقية في هذا المجال. عملت العديد من المنظمات على دعم تحقيقات قائمة من جانب نيابات أوروبية بدأتها من تلقاء نفسها والمساهمة بمشاركة الأدلة، وعملت منظمات أخرى على تقديم دعاوى كاملة من الألف للياء ضد مُنتهكين لحقوق السوريين. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن معظم التحقيقات بدأت بمبادرة السلطات المحلية منفردة عبر النيابات العامة مباشرة، أو عبر اكتشاف المجرمين اعتماداً على التحريات أو مقابلات اللجوء مثلاً.

منافسة غير عادلة

دون سابق إنذار، وجدت منظمات حقوقية سورية، بعضها حديث العهد، نفسها أمام ملف المحاكمات أو ملف التقاضي، تحاول القيام بما تستطيع القيام به، منافسة في ذلك منظمات دولية عريقة وذات خبرة كبيرة في هذا المجال. العلاقة بين المجتمع المدني السوري والمنظمات الدولية تتسم بخصوصية كبيرة: فالمنظمات السورية غير قادرة على تحريك الدعاوى القانونية بمفردها دون المنظمات الدولية لأسباب كثيرة، كالافتقار إلى الخبرة القانونية الدولية اللازمة أو عدم التمتع بحق ممارسة مهنة المحاماة وعضوية نقابة المحاماة في الدول الأوروبية، أو عدم الإلمام بالقوانين المحلية أو باللغات المحلية. المنظمات الدولية بدورها غير قادرة على فهم السياق السوري وجمع الأدلة وترتيب الشهود دون دعم المنظمات السورية والمجتمع المدني السوري. هذه العلاقة أنتجت في غير مرة دعاوى ناجحة وملفات معقولة من حيث صلابتها، لكن شابها صراعٌ خفيٌ عن الجمهور السوري، برزت إحدى تجلياته مؤخراً ربما بانسحاب المركز السوري للإعلام وحرية التعبير من الشكوى المقدمة أمام المحكمة الدستورية الألمانية لغرض إتاحة الترجمة العربية لجميع الحضور في محكمة كوبلنز، وتقديم شكوى منفصلة عن الشكوى التي كان يقودها المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان تحمل موضوع الطلب ذاته أمام المحكمة الدستورية الألمانية ذاتها في قضية «تتشارك» فيها المنظمتان.

طبيعة المشاركة في مثل هذه الدعاوى جديرة بالتوقف عندها. ففي الوقت الذي تتقدم فيه هذه الدعاوى بشكل تقني من قبل المنظمات الدولية أو الأوروبية، يلعب المجتمع المدني السوري دوراً أساسياً فيها من حيث طرح الفكرة والبدء بجمع الأدلة ومحاولة إقناع الناجين والناجيات بالمساهمة في شكوى ما، في حين تحتكر المنظمات الغربية أو الدولية الحق القانوني في تمثيل المشتكين والوصول إلى محاضر الجلسات وتقديم الطلبات إلى القضاة واستجواب الشهود والمدعين والمُدعَى عليهم. العلاقة حسّاسة للغاية، إذ تصدر هذه المنظمات بيانات مشتركة عن «شكوى مشتركة» تم تقديمها أمام قضاء دولة ما، لكنها تُغيّبُ التفاصيل التقنية أعلاه عن المتلقي السوري، (باستثناء العاملين في وسط المجتمع المدني أو الوسط الحقوقي) وتحتكر المنظمات الدولية تفاصيل الدعوى، وللأسف تخفي المنظمات السورية هذه الجزئية عن المتلقين السوريين. في حالات كثيرة، كانت المنظمات السورية أو شخصيات المجتمع المدني «الشريكة» في هذه الدعاوى، شأنها شأن الجمهور، تتلقى تطورات القضية عبر الإعلام فقط وعبر بيانات المنظمة الدولية «الشريكة»، والتي عادة ما تجنح لاستخدام نقاط تقنية مثل «سرية الملفات» أو «عدم السماح بمشاركة الملفات مع غير المحامين الموكلين في الدعوى» في وجه المنظمات السورية الشريكة، كون هذه الشراكة غير رسمية.

في محاولة لجَسَر هذه الهوة بين «منظمات التقاضي» الدولية ومنظمات المجتمع المدني السوري وتوثيق العلاقة بين الطرفين، حاولت «مبادرة العدالة» التابعة لمؤسسة المجتمع المفتوح (Open Society Foundation) جمع معظم الأطراف الفاعلة في لقاءات دورية في العاصمة الألمانية برلين على مدار حوالي 4 سنوات ونيف للخروج بصيغة ما تعزز الشراكات القائمة وتشجع الطرفين على العمل معاً، بما في ذلك محاولة إنشاء آلية للتنسيق بين جميع الأطراف ومشاركة البيانات والأدلة. للأسف، باءت الجهود بفشل ذريع انتهى ببريد إلكتروني قصير بما معناه أنه من الأفضل أن يقود المجتمع المدني السوري مثل هذه النقاشات مع المنظمات الدولية بنفسه. الثقة محدودة، إن لم نقل معدومة. لا مجال لمشاركة الأدلة أو البيانات، والمنظمات الدولية تستأثر بالتفاصيل بعد تقديم الشكوى، ناهيك عن أن المنافسة على التمويل والموارد المادية للمنظمات أحد النقاط الشائكة والحاضرة بقوة في هذه العلاقة الخاصة.

خطوات إيجابية

قبل الخوض في تفاصيل الدعاوى القائمة في أكثر من بلد أوروبي، من المفيد تسليط الضوء على أن الحالة السورية فريدة من نوعها من حيث انطلاق المطالبة بالمحاسبة الجزائية وفتح النقاشات أمام خطوات وبرامج للعدالة الانتقالية خلال نزاع قائم، ومع استمرار المعارك والقتال وقبل تحقق أي عملية سلام. في معظم الثورات أو النزاعات أو الحروب السابقة، لم تنطلق مثل هذه العمليات إلا بعد التوصل إلى اتفاق سلام أو حتى بعد ذلك بعقود أحياناً، الأمر الذي نتج عنه صعوبة جمع الأدلة وفتح التحقيقات بعد مرور سنوات من وقوع الانتهاك. الحالة السورية «مميزة» بمجتمع مدني نشيط وفاعل على صعيد التوثيق والمناصرة، ما أدى بشكل مباشر إلى فتح الحديث عن آليات العدالة ومناقشتها والمطالبة بها رغم العرقلة السياسية الدولية التي تقودها روسيا في مجلس الأمن.

يُعَدُّ العمل على ملف التقاضي بشكل عام من أهم إنجازات المجتمع المدني السوري عبر منظماته الحقوقية. الاستفادة من التوثيق المتراكم عبر سنوات، ومن وصول مئات آلاف السوريين إلى دول أوروبية، ومن توافر دعم سياسي ومالي لهذا النوع من العمل. يعزز «التقاضي» أو «رفع الدعاوى» أمام القضاء الأوروبي المطالب المحقة للسوريين بإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب وضرورة محاسبة مرتكبي الانتهاكات في سوريا ومن جميع الأطراف، كما يرسل رسائل واضحة عن الدعم السياسي لحكومات هذه الدول للشروع بمحاكمة مسؤولين عن الانتهاكات في سوريا.

كما يساعد هذا النمط من الدعاوى بالعمل مع الناجين والناجيات، والتقرب منهم وفهم واقع وتحديات حياتهم بعد مغادرتهم سوريا بشكل أكبر وعن كثب، الأمر الذي سيساعد في تحديد ملامح أي عملية مُساءلة دولية قد تحصل في السياق السوري، وبناء مقاربة وطنية ترتكز أساساً على وضع مصلحة الضحايا أولاً. كما يعزز فهم المجتمع المدني السوري لمطالب ذوي الضحايا فيما يتعلق بتعويضات أو جبر ضرر محتمل في المستقبل. على سبيل المثال، يرفض العديد من الناجين والناجيات الانخراط بالمحاكمات نتيجة تغير رؤيتهم ومقاربتهم تجاه العدالة، ويريدون أن يكونوا بعيدين عن أي ذكريات مؤلمة.

النقطة الأكثر أهمية على المدى الطويل، هي أن انطلاق مثل هذه المحاكمات في دول تتمتع بقضاء مستقل ونزيه، وإتاحة فرصة مراجعة ما حصل على يد المنتهكين، وفتح الباب أمام الناجين والناجيات للإدلاء بأقوالهم في سياق المحاكمة، كلها نقاط تصب في صالح تعزيز وحماية «سردية الضحايا» في سوريا. عملت الحكومة السورية منذ اليوم الأول على اتهام المتظاهرين بالتطرف والعنف والإرهاب، وروجت أن ما يحصل في سوريا هو «مكافحة إرهاب» بحت، غير أن الوقائع التي تسردها الدعاوى القائمة في أكثر من بلد أوروبي، ومذكرات التوقيف الغيابية الصادرة عن قضاء أكثر من بلد أوروبي، تعزز رواية الضحايا وتدحض رواية الحكومة السورية.

التقاضي الاستراتيجي أو ما يعرف بـ «دعوى المصلحة العامة»

في كثير من الحالات، وفي حالات النزاعات المعقدة، ومع الافتقار إلى آليات عدالة دولية متاحة، أو في حال اختلال موازين القوى السياسية الدولية بشكل كبير لصالح طرف ما، يلجأ المجتمع المدني إلى ما يعرف عادة بـ «التقاضي الاستراتيجي» أو «دعاوى المصلحة العامة»، وهي دعاوى قانونية واضحة ذات أهداف أبعد من الحكم القانوني وحده، فلا يعد كسب القضية الهدف الوحيد في جميع حالات التقاضي. تعنى دعوى المصلحة العامة بالقضايا القانونية كجزء من استراتيجية أكبر لتعزيز حقوق الإنسان، وهي تركّز على قضية فردية من أجل إحداث تغيير اجتماعي أوسع. ويمكن أن تشمل غايات دعوى المصلحة العامة: نشر الوعي، أو التعريف بالقضية التي تم بناء الاستراتيجية من أجلها، أو فتح الملف أمام النقاش العام والإعلام، أو إنشاء سوابق قضائية هامة. لعل أحد أبرز الملفات القضائية المشهورة في إطار التقاضي الاستراتيجي هو ملف جدار الفصل العنصري في فلسطين، حيث عملت منظمات فلسطينية ودولية بشكل مكثّف مع الجمعية العامة للأمم المتحدة للتقدم بطلب إلى  محكمة العدل الدولية للنظر بشرعية الجدار، وحصلت على «رأي استشاري» بأن بناء الجدار ينتهك قواعد القانون الدولي. الرأي الاستشاري غير ملزم بطبيعته لكنه شكل خطوة مهمة في تثبيت حقوق الشعب الفلسطيني على المدى الطويل، وأرضية قانونية مهمة في ملاحقات قانونية ملزمة لاحقاً. على سبيل المثال، تعرضت عدة شركات أوروبية تعمل في بناء الجدار لتحقيقات جنائية أمام القضاء الأوروبي (أبرزها دعوى منظمة الحق الفلسطينية ضد شركة ريوال العاملة في بناء الجدار)، وصدرت قوائم سوداء عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان للشركات التي تعمل في بناء الجدار العازل، استناداً لرأي محكمة العدل الدولية بانتهاك بناء الجدار لقواعد القانون الدولي.

عدالة وقضاء أم تقاضٍ استراتيجي ومناصرة؟ 

مع انطلاق نشاط العديد من منظمات المجتمع المدني السوري لدعم دعاوى أو تحقيقات قائمة (بمبادرة من السلطات الأوروبية) أو رفع دعاوى جديدة، برز تساؤل مهم للغاية عن ماهية هذه الدعاوى. هل هي من أجل تحقيق العدالة للضحايا عبر دعاوى قانونية صرفة، أم أنها إحدى حالات التقاضي الاستراتيجي والمناصرة، أم الاثنان معاً؟ الواقع أن نقاشاً وسجالاً كبيراً دار بين منظمات المجتمع المدني في هذا الإطار، لكن هذا السجال لم يخرج للعلن بشكل فعلي، للمواطن السوري العادي المتابع لشؤون بلاده، ولا حتى لمجموعات المجتمع المدني المعنية بالضحايا أو المشكّلة أساساً من قبل مجموعات ضحايا. بقي هذا النقاش «النخبوي» حبيس المقالات وتبادل الردود والنقد بين منظمات عدة.

والتفريق بين النمطين في العمل أمر في غاية الأهمية. ففي حال كنا أمام دعاوى قانونية تقنية بغرض الحصول على حكم قضائي بحت، فيجب العمل عبر القنوات القانونية فقط والتي ستخرج منظمات المجتمع المدني السوري من القيادة لصالح دور أكبر للمنظمات الدولية أو الأوروبية، وسيركّز العمل عبر القنوات القانونية الصرفة التي لن تعمل مع منظمات الضحايا أو عائلات الضحايا بشكل مباشر، ولا تحبذ الإعلام والبيانات وخطابات المناصرة، كما أن مردود هذه الدعاوى «محدود» ويقتصر على القضية ذات الصلة إلى حد كبير. وقد يتسبب أي «نشاط» أو «حماس» من قبل أي منظمة سورية تعمل بذهنية المناصرة بضرر كبير للدعوى والقائمين عليها (على سبيل المثال، قيام رئيس منظمة حقوقية سورية بتصوير الجلسات بواسطة هاتفه المحمول في محاكمة أنور رسلان، الأمر الذي يشكل مخالفة إجرائية واضحة لقواعد المحاكمة، ما تسبب بإيقاف الجلسة وتدخل الشرطة ومسح الصور، وكان أحد الأسباب لاحقاً لرفض المحكمة السماح للحضور بالاستماع للترجمة العربية المتاحة للشهود والمُدَّعى عليهم بسبب «مخالفة تعليمات المحكمة» سابقاً). والمعيار الرئيسي الذي تعتمده هذه المقاربة لاختيار القضايا هو صلابة القضية وتوافر أدلة قاطعة أو قوية، بغض النظر عن القيمة المعنوية للدعوى أو رتبة أو مركز المتهم، وعن الأثر البعيد أو طويل الأمد الذي يمكن أن تحققه للضحايا ولمسار العدالة السوري بشكل عام.

في حين أن مقاربة «التقاضي الاستراتيجي» تتركز على اختيار الممكن من الدعاوى المتاحة والتقدم بها وتسجيل مكاسب صغيرة لكن تراكمية على المدى الطويل، تتيح تسليط الضوء على الجرائم التي اقتُرِفَت في سوريا وإعادة الملف للضوء والإعلام، كما تكون أكثر فعالية غالباً عندما يتم التقاضي في العديد من الحالات على مر الزمن. يتيح هذا النمط إشراكاً ودوراً أكبر للعائلات ومنظمات الضحايا، كما يتيح المجال أمام المجتمع المدني السوري للعب دور أكبر عبر الضغط والبيانات وجمع التوقيعات وتقديم عرائض المطالبة، وعبر التواصل مع الجمهور السوري بشكل أوسع، طبعاً مع الإبقاء على الشق القانوني والترافع أمام المحكمة بجانبه التقني الضيق.

والحال، أن منظمات المجتمع المدني السوري العاملة في مجال التقاضي «حائرة» بين المقاربتين. تنطلق هذه الدعاوى عادة بمبادرات سورية وجهود ناشطين سوريين لتتبنى مقاربة مناصرة واضحة وطويلة الأمد، وتتشارك فيها المنظمات السورية مع منظمات غربية أو دولية ذات خبرة أو إلمام بالقانون واللغة المحليين. لكن في الوقت نفسه تنفي المنظمات ذاتها أن هذه الدعاوى هي دعاوى مناصرة أو دعاوى استراتيجية طويلة الأمد وذات مكاسب محدودة أو رمزية في أحيان كثيرة، وتميل للمبالغة والإعلان للجمهور السوري المتابع أن «العدالة بدأت بالتحقق»، وأن قطار المساءلة لن يتوقف وأن هذه الدعوى أو تلك «ستنهي مكان رؤساء الأجهزة الأمنية في مستقبل سوريا». وردت هذه العبارة حرفياً في بيان الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان ضمن أسئلة وأجوبة حول قضية الدباغ بعد إصدار القضاء الفرنسي والألماني مذكرات توقيف غيابية لقيادات في الأجهزة الأمنية السورية (علي مملوك وجميل الحسن وعبد السلام محمود)، وأضافت المنظمة حول تطورات القضية «سوف تمنع مذكرات الاعتقال الدولية المشتبه بهم الثلاثة من السفر إلى الخارج بِحرية». في حين تعلم هذه المنظمات تماماً أن تنفيذ مذكرات التوقيف الغيابية أمر شبه مستحيل، وأن الشخصيات المطلوبة لن تسافر إلى الاتحاد الأوروبي أساساً كونها على قوائم العقوبات ومنع السفر الأوروبية، وأن تسليم هذه الشخصيات لن يحصل من قبل الحكومة السورية أو من قبل الدول التي يسافرون إليها (مثل روسيا أو إيران) أو من تلقاء أنفسهم. غير أن المنظمات العاملة على الدعوى فضّلت المبالغة في قيمة مذكرات التوقيف وتسجيل مكاسب وهمية، والقفز على الوقائع ورفع سقف توقعات الجمهور الذي سيتعرض لصدمة لاحقاً عندما تمر الشهور والسنوات (مر عامان على صدور مذكرات التوقيف الغيابية تقريباً) على عدم تنفيذ هذه المذكرات، أو على عدم توقف ممارسة التعذيب في سوريا كنتيجة رادعة بسبب مذكرات التوقيف، الأمر الذي من شأنه أيضاً أن يقوّض إيمان السوريين بالعدالة بسبب بقاء الجناة في وضع يسمح لهم بالاستمرار بارتكاب الانتهاكات بعد صدور هذه المذكرات، الأمر الذي لمسناه بشكل فعلي كمنظمة عاملة في مجال حقوق الإنسان، فعند الحديث مع الشهود والضحايا غالباً ما وردت عبارة «ما الفائدة من الحديث معكم ولا توجد نتائج؟» في معرض الردود.

تحديات كبيرة

برزت تحديات كبيرة لجهود المجتمع المدني السوري في إطار العدالة والتقاضي. قسم كبير من هذه التحديات لا يتعلق بالمجتمع المدني ذاته (مثل الدور الروسي أو محدودية الدول التي تتبنى الإطار القانوني الذي يتيح التقاضي أمام محاكمها)، غير أن قسماً ليس بقليل من هذه التحديات هو من صنيعة وإنتاج منظمات التقاضي بنفسها.

الافتقار للشفافية: يُعدّ الافتقار للشفافية والميل لـ «تمييع» التفاصيل سمة رئيسية من سمات العمل في إطار هذه الدعاوى. على سبيل المثال، تشعر المنظمات السورية ربما بالحرج من إخبار الحقيقة أنها لا تترافع فعلاً عن أحد، أو أنها لا تملك الخبرة القانونية المحلية اللازمة وأن الطرف الذي يمثل الضحايا هو منظمة دولية أو أوروبية محلية. لذلك تميل إلى تمييع التفاصيل حول القضايا المرفوعة. على سبيل المثال، في الدعوى الخاصة بأنور رسلان وإياد غريب في كوبلنز، هناك على الأقل أربع أطراف تعلن أنها «تقدمت» بالدعوى أو أنها «شريكة» في الدعوى، في حين أن جلسات المحاكمة قد أظهرت أن الطرف الذي يترافع بالدعوى هو فقط محامون أعضاء في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، يترافعون بصفتهم الشخصية في الجلسات (وفقاً لما يقتضيه قانون أصول المحاكمات الجزائية الألماني والذي لا يتيح لمنظمات بالترافع في الدعاوى الجزائية). هذا طبعاً لا يقلل من قيمة مساهمة المنظمات السورية الشريكة في جمع الأدلة أو اختيار الشهود، لكن لا مبرر لمثل هذه الضبابية حول دور كل طرف. المنظمات ذاتها تشتكي لاحقاً من «تسلط» المنظمات الغربية على الدعوى وعدم مشاركة تفاصيل مع المجتمع المدني السوري. وفي جميع الأحوال، تبقى هذه التفاصيل حبيسة المراسلات الخاصة بنشطاء المنظمات والعاملين في الوسط الحقوقي وحده، ولا يعلم بها الناجون والناجيات أو ذوو الضحايا.

المبالغة في الوعود ورفع سقف توقعات ذوي الضحايا: تعد هذه أيضاً سمة أخرى سلبية مميزة لهذا الدعاوى. مع جميع البيانات الصادرة عن هذه المنظمات، يمكن ضبط حالات من المبالغة (المتعمدة) أحياناً، كالقول إن من شأن انطلاق محاكمة أنور رسلان في كوبلنز إنهاء نظام بشار الأسد سياسياً على الصعيد الدولي، أو القول بأن مذكرات التوقيف الغيابية الصادرة بحق بعض رؤساء الأجهزة الأمنية ستنهي مستقبلهم السياسي في سوريا، وصولاً إلى التلاعب أحياناً بتفاصيل الدعاوى أو تحميلها أكثر مما تحمل. وردت عبارة تقدمنا بـ «دعوى» في معظم البيانات التي صدرت عن منظمات سورية ودولية بعد تقديم شكوى ما أمام القضاء في دولة أوروبية، والدقيق أن ما تم التقدم به هو مجرد شكوى جنائية تنتظر قبولها أو رفضها من النائب العام الذي قد يقرر فتح تحقيق بها أو رفضها، يمكن غض الطرف عن هذه الجزئية الصغيرة في حال كان الناقل للخبر إعلامياً أو ناشطاً، لكن عندما تصدر هذه البيانات عن محامين يعلمون تماماً أن ما تقدموا به هو ليس «دعوى» بعد وينتظر قبوله أو رفضه من قبل النائب العام، فنحن أمام مبالغة متعمدة.

حالات شبيهة شابت عمل منظمات دولية كبيرة، فعلى سبيل المثال، بعد أن تقدمت منظمة غارنيكا 37 بمراسلة مع المحكمة الجنائية الدولية وفق المادة 15 من النظام الداخلي للمحكمة (مجرد مراسلة تطلب من المحكمة قبول شكوى تتقدم بها المنظمة)، نقل موقع لبي بي سي تصريحات عن المحامي الرئيسي الذي تقدم بالمراسلات مع المحكمة بأنها «الدعوى» الأولى من نوعها، وأنه هذه الدعوى «تعد تقدماً كبيراً للضحايا السوريين». مر على تقديم المراسلات مع المحكمة الجنائية الدولية حوالي العام ونصف دون أي تقدم معلن، أو حتى قبول الشكوى من قبل المحكمة.

وفي حالات أسوأ، عمدت منظمات عاملة في ملف التقاضي إلى إخفاء تفاصيل تقنية صغيرة عن الضحايا وذويهم والمتابعين من غير المختصين؛ تفاصيل صغيرة لكن في غاية الأهمية. مثلاً، أن المحاكمات بموجب الاختصاص العالمي لحقوق الإنسان لا يمكن أن تطال رؤساء الدول، عملاً بمبدأ حصانة هؤلاء. لكن منظمتين دوليتين بالشراكة مع منظمات مجتمع مدني سورية شاركت في فيلم وثائقي بعنوان الدعوى ضد الأسد يتحدث عن دعوى تقدمت بها المنظمات أمام القضاء الإسباني باعتبار أن شقيقة ضحية التعذيب تتمتع بالجنسية الإسبانية. الشكوى تم تقديمها بحق تسع مسؤولين في الأجهزة الأمنية السورية، وليست ضد الأسد أو ضد «حكومة بشار الأسد» كما نقلت وسائل الإعلام. الواضح للمختصين أن عنوان الوثائقي يحمل طابعاً «رمزياً» هنا، غير أن الأمر ليس كذلك للمتابع السوري العادي.

تغييب الجمهور السوري بشكل شبه متعمد: غير المقصود هنا أن المواطن السوري المتابع لهذه القضايا والدعاوى لا يعلم ما يحصل بها، لكن المقصود أن المنظمات المشاركة في هذه الدعاوى تتحكم إلى حد كبير بالمعلومات التي يمكن نشرها وإخراجها للعلن حول هذه المحاكمات، ناهيك عن التفاصيل التقنية التي تقتضي الضرورة شرحها للمتابعين ولمجموعات الضحايا. ربما تعد محاكمة أنور رسلان الاختراق الوحيد لهذه القاعدة نظراً لمتابعة الجلسات من قبل عدد ليس بقليل من النشطاء والصحفيين. ومع ذلك، تحاول المنظمات «الشريكة» في هذه الدعوى إسكات أي صوت منتقد أو مطالب بنشر المزيد من المعلومات والشفافية حول ما يحصل أو ما يقال داخل أروقة المحكمة. في بعض الأمثلة المنفصلة، لا يعلم عدد كبير من السوريين أن الدعوى المقدمة ضد «إسلام علوش»في فرنسا تفتقر إلى أدلة قوية، وقد تتسبب بالإفراج عن علوش، وأن الحد الأقصى للتوقيف الاحتياطي في فرنسا هو 12 شهراً، سيخرج علوش بعدها من السجن (إخلاء سبيل على ذمة المحاكمة، أو منع محاكمة) إلا في حال بدأت محاكمته وهو قيد التوقيف، أو في حال توافر أدلة جديدة تبرر للقاضي تمديد توقيفه؛ أو أن القضاء الإسباني رفض النظر بالدعوى المقدمة في ملف التعذيب في إسبانيا وأن مسألة قبول الدعوى أو رفضها قيد النظر الآن أمام المحكمة الدستورية الإسبانية، وحتى في حال قبول الدعوى في إسبانيا، يمنع القانون الإسباني التحرك بمحاكمات غيابية، مما يجعل توقيف المدعى عليهم التسعة (بعض قيادات الأجهزة الأمنية في سوريا) شرطاً لازماً لأي تقدم، الأمر الذي يُستبعَد حصوله.

أدى رفع سقف التوقعات إلى درجات غير واقعية وغير صادقة مع السوريين إلى ممارسات خاطئة مكمّلة تقتضي بإخفاء تفاصيل ما يحصل عنهم، الأمر الذي لا يصب في مصلحة المجتمع المدني على المدى الطويل ويسبّب خسارة مصداقيتنا أمام الناجين والناجيات، وإلى نشوء حالة من «الهرمية» في أوساط المجتمع المدني، تحتل فيها المنظمات الدولية العاملة على القضايا والملفات رأس الهرم وتترك المجال دونها للمنظمات السورية للتنافس فيما بينها، كلٌ يحدد موقعه بحسب قربه من الدعوى أو علاقاته بالضحايا أو الملفات المقدمة أو دوره كـ «شريك» في الدعوى. تطوعت المنظمات الشريكة للعب دور رقابي وإلى الميل إلى الوصاية على الدعاوى والمشاركين فيها وعلى آراء المجتمع المدني والناشطين بخصوص هذه الدعاوى، وإلى «الشعبوية» و«الهوبرة» في وجه المنتقدين أو المطالبين بمزيد من الشفافية. لعلّ الحملة المغرضة التي قادها حقوقيون سوريون شاركوا في جلب الشهود عبر صفحات فيسبوك بحق نشطاء آخرين لمجرد التدقيق في شهادة أحد الشهود أكثر الأمثلة سوءاً هنا. هذه الحملة تجمع في طياتها الافتقار إلى الشفافية بخصوص الطرف الذي رفع الدعوى، وتفرط في المبالغة والتلاعب بسقف توقعات المتابعين عبر ترهيبهم من نتائج التشكيك بشهادة أي شاهد، وصولاً إلى تبني خطاب شعبوي خطير يحظر على أي شخص أن يطرح أسئلة حول ما يجري في هذه المحاكمات.

السوريون ليسوا وحدهم!

والحال أن المجتمع المدني السوري ليس الأول ولن يكون الأخير الذي يمر بمخاضات مشابهة. ويقتضي الإنصاف الإشارة إلى تكرار ممارسات شبيهة في دول كثيرة سابقاً ولأسباب مختلفة. على سبيل المثال، وجد المجتمع المدني العراقي نفسه خارج السياق تماماً في المحاكمات التي جرت للنظام العراقي السابق أمام توافد عشرات المنظمات الدولية لـ «بناء الملفات» أو للعمل مع فريق الدفاع أو مراقبة جلسات المحكمة. لم يهتم مجتمع المانحين الدوليين أساساً بدعم أي جهود عراقية محلية، لا سيما أن المجتمع المدني العراقي ناشئ وضعيف، وبدى تفضيل المنظمات الغربية واضحاً، مما أفضى إلى مجتمع مدني حقوقي ضعيف في العراق بشكل عام، وأدى إلى ضعف التوثيق القادم من العراق على المدى الطويل لاحقاً، وخلال فترة داعش أو انتهاكات المليشيات المدعومة إيرانياً.

التنافس بين المحلي والدولي لم يظهر فقط على صعيد المجتمع المدني، بل وصل إلى المحاكم أيضاً في محاكمات ذات طابع دولي. ربما تعد «الغرف الجنائية الخاصة في محكمة كمبوديا» التي أنشأتها الأمم المتحدة مثالاً على ذلك، فقد خرج التنافس حول القضايا والملفات بين القضاء المحلي وبين الغرف الخاصة المدعومة دولياً إلى العلن في أكثر من حالة، لا سيما الاختلاف حول «القيادات المسؤولة عن أبرز الانتهاكات»، والتي ينظر إليها المجتمع المحلي بعين مختلفة تماماً عن المعايير الدولية. الأمر الذي أدى لتوقف المحاكمات بحق بعض الشخصيات واللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا في كمبوديا للبت بين الغرف القضائية المتنازعة. ناهيك عن الخلاف حول رواتب الموظفين الدوليين المعينين في كمبوديا، والذي بلغ ضعفين إلى ثلاثة أضعاف رواتب أقرانهم المحليين من قضاة ومدعين عامين وموظفين إداريين، الأمر الذي فاقم الخلافات بين الطرفين على مدى فترة عمل المحكمة.

في السياق الفلسطيني، غالباً ما تم «الخلط» بين السياسي والقانوني أمام الشعب الفلسطيني من قبل المنظمات العاملة على الملفات القانونية، مما ساهم في رفع التوقعات لدرجات غير واقعية وأيضاً في تشويش المتلقين. ربما كان ملف الجدار الفلسطيني الأكثر حضوراً، فدخول الولايات المتحدة على الخط للضغط على محكمة العدل الدولية سياسياً ومسارعة السلطة الفلسطينية لاستغلال هذه الحادثة لحصد بعض الرصيد السياسي، ساهم في رفع توقعات الفلسطينيين بأن من شأن قرار المحكمة إيقاف بناء الجدار وهدم ما تم بناؤه منه. والواقع أن قرار المحكمة كان ذا طابع استشاري فقط وغير ملزم، وأن أي محاولة لاستصدار قرار مجلس أمن ملزم لاحقاً، مبني على «رأي» المحكمة، سيواجه فيتو أميركياً واضحاً.

المحاكمات إلى أين: مصارحة مع الشعب السوري

الجهود التي يقودها المجتمع المدني السوري أو تلك التي يشارك بها في مجال جمع الأدلة ومشاركتها وتقديم الدعاوى أو المشاركة فيها جهود كبيرة، تتطلب عملاً دؤوباً وجهداً كبيراً وتحمل آثاراً نفسية ليست بقليلة على العاملين في هذا المجال. جهود كبيرة وموضع تقدير كبير من قبل باقي أطراف المجتمع المدني ومن قبل المتابعين عموماً. يشوب هذه الجهود بعض الخلل أحياناً في طريقة العمل أو في طريقة التواصل مع الشعب السوري والمتابعين، وميل بشري طبيعي إلى تضخيم المكاسب أو إلى الإفراط في الوعود والتوقعات، التي بدورها تحمل آثاراً سلبية ليست بقليلة على أهالي الضحايا والعائلات.

الخطوة الأولى التي تقع على عاتقنا اليوم هي تحديد استراتيجية واضحة لهذه الدعاوى، الهدف المباشر وبعيد المدى منها. هل هي محاكمات قضائية بحتة لمن نستطيع إدانتهم، أم أدوات استراتيجية لتعزيز حقوق السوريين وتعزيز المطالبة بمحاكمات عادلة وإنصاف للضحايا وتسليط الضوء على ما حصل من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. مناقشة «جدوى» هذه الدعاوى أمر في غاية الأهمية، وينسحب الأمر ذاته إلى تفاصيل طبيعة الدعاوى وحجمها وتوقيتها والهدف منها وطريقة اختيارها والأطراف التي يمكن أن تشارك فيها. جميع هذه التفاصيل مغيبة عن المجتمع المدني السوري الأوسع، ويتم تداولها بين مجموعة ضيقة من المنظمات والأفراد.

الدعاوى القائمة اليوم أمام عدة محاكم أوروبية مستمرة، ستكون نتائجها متواضعة في أحسن تقدير، لن تسقط أنظمة ولن توقف ممارسات قائمة ولن تغير سياسيات الانتهاكات في سوريا، لكنها تكرّس بشكل واضح قطيعة مع حقبة الإفلات من العقاب، والمطالبة الواضحة والمحقة بالمحاسبة والعدالة قبل الشروع في المرحلة الانتقالية، وتعزز سردية الضحايا وتخلد ذكرى معاناتهم. ليس أمام المجتمع المدني السوري سوى المزيد من الانفتاح والشفافية والمصارحة مع الناس، وضبط التوقعات بطريقة لا نخسر فيها الأصدقاء والداعمين لهذه الجهود.