البداية
حين قُبِلَ الشاب العشريني الأسمر، المتخرج من الهندسة حديثاً، في وظيفة صغيرة في إحدى الجمعيات الأهلية، شعر أنّ الدنيا لم تسعه؛ كان يشتغل في كل شيء: في الإغاثة مع العمال، وفي القسم الصحي مع موظف الاستقبال، وفي القسم الإعلامي مع المصورين. كان مستعداً حتى أن ينظف الغرف مع المستخدمين لو لزم الأمر. كان ذلك في 2012، حيث كان حماسه للعمل يفوق أي شيء، وحيث كانت الجمعيات الأهلية في أوج نشاطها وعملها الإغاثي والإنساني، وبات وجودها أهم من أي وقت مضى. كان الكثيرون متحمسون للعمل وخائفون في الوقت نفسه، كما أنّ فرص العمل التي أنجبتها الظروف آنذاك وضعت كثيراً من الشبان والشابات في مواقع لم يكونوا يتوقعونها.
ظهرت الجمعيات الأهلية غير الحكومية في حمص منذ عشرينيات القرن الماضي، بدءاً من الجمعية الخيرية الإسلامية التي تقدم خدمات خيرية، والتي كانت وما زالت تضم «الميتم الإسلامي». ثم تلا ذلك ظهور جمعية كشّاف سوريا رسمياً عام 1924 وهي مرتبطة بالمنظمة العالمية للحركة الكشفية، ليأتي لاحقاً تأسيس الهلال الأحمر السوري عام 1942 المرتبط بمنظمة الصليب الأحمر الدولية. لكن جمعية كشّاف سوريا ومنظمة الهلال الأحمر ليستا «جمعيات أهلية» تماماً لارتباطهما بنظام دولي، فالجمعيات الأهلية تكون صادرة عن المجتمع المحلي ذاته، وهي مؤسسات مرخصة من الحكومة وتقوم على أعضاء محليين. ثم بعد ذلك ظهرت جمعيات أهلية أخرى مثل جمعية خالد بن الوليد التي تقدم خدمات خيرية عام 1949، وجمعية البر والخدمات الاجتماعية التي تقدم خدمات خيرية أيضاً عام 1956، وجمعية رعاية الطفل التي تعنى بشؤون الأسرة عام 1957، وجمعية عضد الفقراء الأرثوذكسية عام 1960، وجمعية النهضة العربية في حمص عام 1960، وجمعية الرحمة المارونية عام 1962. ترافق ذلك مع ظهور أول قانون ينظم عمل الجمعيات الأهلية في سوريا عام 1958 وذلك إبّان فترة الوحدة بين سوريا ومصر، وهو القانون المعمول به إلى الآن. ولا بدّ أن نذكر على الهامش أنّ الكنائس كانت على الدوام تقوم بعمل اجتماعي لا يخضع لعمل الجمعيات، بل يتبع للكنيسة ذاتها.
أما المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة التي تحضر في حمص، فقد كانت قبل الثورة محصورة في منظمة اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية، وكان تعاملهما مع الحكومة فقط. فمنظمة الصحة مثلاً تموّل وزارة الصحة، ومنظمة اليونيسيف تموّل وزارتي الصحة والتربية. أما بعد اندلاع ثورة 2011، فقد تتالى حضور المنظمات الدولية في حمص، وهي: ( UNFPA، UNHCR، UNDP، FAW، OCHA، UNFPA). ولا تمارس هذه المنظمات أنشطتها بشكل مباشر، وإنما تموِل مؤسسات حكومية أو جمعيات غير أهلية، أو حتى منظمات دولية أخرى. توجد أيضاً منظمات دولية أخرى لا تتبع للأمم المتحدة، وتعمل في حمص بعد حصولها على التراخيص الحكومية والموافقات الأمنية، إما بتمويلها الخاص أو بالمشاركة مع منظمات دولية أخرى أخرى، ومنها: (DRC ,OXFAM, PUI, ADRA والصليب الأحمر الدولي). ولا يُسمح لهذه المنظمات الدولية بمزاولة أي نشاط لها على الأراضي السورية من دون التنسيق التام مع الهلال الأحمر السوري، الذي يشرف عليه مكتب مستشار الرئيس لشؤون الهلال الأحمر، أو «الدولة» كما تسميها إحدى السيدات العاملات في هذه المنظمات. بينما تختلف الجمعيات الأهلية عن المنظمات الدولية الأخيرة في كونها تتبع لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، علماً أنّ الجمعيات الأهلية كانت قبل 1970 تتبع لوزارة الداخلية فلم يكن هناك حينها ما يسمى بوزارة الشؤون الاجتماعية، حيث كانت الجمعيات تعامل كأحزاب.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذا النص يتحدث فقط عن المنظمات والجمعيات العاملة في المجالات الإغاثية والخيرية، وذلك لأن النظام يحظر في مناطق سيطرته وجود منظمات تعمل في مجالات غير هذه المجالات، وربما بعض الأنشطة الثقافية، فيما يغيب تماماً العمل الحقوقي وتغيب معه أنشطة المناصرة. كذلك تجدر الإشارة إلى أنه يُفترض بالنقابات أيضاً أن تكون مماثلة للجمعيات الأهلية، لكن لأنها إلزامية بحكم القانون ويشرف عليها حزب البعث بطريقة أو بأخرى، فلم يعد يمكن بالتالي اعتبارها كذلك.
توقف مؤقت للتراخيص
يتذكر الشاب العشريني جيداً ما حدث لأبناء جيران أقاربه في الثمانينات، فقد رووا القصة على مسامعه عديداً من المرات. أبناء الجيران الذين كانوا ينتمون للإخوان المسلمين وقتها كانت قد تمت تصفيتهم ثم هُدم بيتهم بعد ذلك، أما هو وأسرته فلا ينتميان لأي من ذلك، لكن الذكرى بقيت عالقة في ذهنه. كان عليه أن يوزع مع بعض شباب الإغاثة بعض المعونات لأسر لا معيل لها. كانت القذائف تنهمر. ركبوا في السيارة جميعاً وهم يسابقون القذائف، وضحكاتهم تقطع الظلام الدامس. لم يتوقف عمل الجمعية رغم الظروف الصعبة، كما لم يتوقف عمل الجمعيات الأخرى وموظفيها، ولم تتوقف زيارات الناس للجمعيات، بل على العكس، معظم العاملين في تلك الجمعيات كانوا يعتبرون أنفسهم مشاركين في الأحداث كلّ بحسب دوره. معظم الأحياء مشتعلة، والخوف والترقب يملأ النفوس؛ نحن نتحدث عن العام 2013.
لم يستمر العمل في ترخيص الجمعيات الأهلية طوال الوقت، إذ توقف بشكل تام تقريباً خلال فترة الثمانينات. وبسبب توقف الدولة عن إعطاء تراخيص للجمعيات لعدة سنوات، أخذت الجمعيات الأهلية القديمة تتوسع تدريجياً بشكل هائل في كثير من المحافظات السورية. بعض هذه الجمعيات تسمى «جمعيات نفع عام» وكان يشمل ترخيص بعضها كل أراضي الإقليم الشمالي «للجمهورية العربية المتحدة»، لأن قانون الجمعيات ظهر في أيام الوحدة كما ذُكر أعلاه. حتى أنّ إحدى هذه الجمعيات لديها أكثر من 20 فرعاً على امتداد الأراضي السورية باستثناء الجنوب السوري، رغم توقف بعض فروعها عن العمل بسبب مجريات ما بعد 2011.
لكن إعطاء التراخيص الحكومية عاد للظهور مع جمعية رعاية المكفوفين وجمعية الرجاء لتمكين ذوي الإعاقة عام 1993، ثم جمعية الإنشاءات الخيرية التي تعنى بشؤون الأسرة عام 2003، وجمعية الربيع لرعاية الأطفال ذوي اضطراب التوحد عام 2005، وجمعية صندوق العافية الخيري وهي للإغاثة الطبية والصحية عام 2006، وجمعية شباب الخير عام 2009، وجميعها ما زال مستمراً إلى الآن.
أما بعد 2011، فقد ظهرت عدة جمعيات منها جمعية كريم الخيرية لاستعادة سبل العيش عام 2011، وجمعية الأمل الخيرية عام 2015، وجمعية حبة خردل عام 2016، وجمعية كاريتاس التابعة لمنظمة كاريتاس في لبنان، وجمعية بابل للبناء التي تعُنى بـ«بناء السلام»، والجمعية السورية للتنمية الاجتماعية، وغيرها.
توزّع طائفي
لم يعرف الشاب المهندس في البداية أصدقاءَ غير أولئك الذين يعمل معهم في الجمعية، والذين اضطر أن يبيت معهم في بيوتهم أحياناً لتأخرهم في العمل، وقد وثق بهم ثقة عمياء. لكن لم يلبث أن تفرق هؤلاء الأصدقاء، فبعضهم سافر، وبعضهم استشهد، بعضهم غيّر جمعيته، ثم شهد في السنوات التالية انضمام موظفين وموظفات جدد للجمعية، مثل إحدى الفتيات اللواتي لم تكن مرتدية للحجاب. كانت الهمسات تنطلق بعد مروها؛ هل هي سنية أم علوية أم مسيحية أم غير ذلك؟ انضمت فتاة أخرى بلا حجاب، وبعد ذلك أصبح الأمر عاديّاً إلى حدّ ما أخيراً، ثم ما لبثت أن نشأت صداقة بينه وبين إحدى الفتيات غير المحجبات، لكن الحذر كان موجوداً دائماً.
على الرغم من أنّ قانون الجمعيات لعام 1958 يمنع تصنيف الجمعيات على أساس طائفي، لكن يمكن من اسم الجمعيات أن نعرف انتماءَها الطائفي، مثل الجمعية الخيرية الإسلامية وجمعية عضد الفقراء الأرثوذكسية. لكن بالمقابل، لا نستطيع أحياناً الاستدلال على هذا الأمر من اسم الجمعية، بل من مكان تواجدها مثلاً، أو مما يتناقله الناس عنها. على سبيل المثال، في جمعية النهضة التي أنشئت عام 1960 نجد أنّ القائمين الإداريين عليها من العلويين، لكن كون مجلس الإدارة من هذه الطائفة أو تلك لا يمنع أبداً أن يكون المستفيدون من خدمات هذه الجمعيات من جميع الطوائف، كما لا يمنع أن يكون أيضاً هناك موظفون فيها من مختلف الطوائف رغم طابع الجمعية، مثل جمعية بابل التي ينتمي طاقمها الإداري للطائفة العلوية لكن موظفيها من مختلف الطوائف، وهذا الأمر ينسحب على باقي الجمعيات الأهلية بنسب متفاوتة. لكن الأكيد هنا أنّ النظام شدَّدَ مؤخراً على أهمية التنوع الطائفي بين كوادر موظفي الجمعيات الأهلية. ويمكن القول في هذا الصدد إنَّ هناك فصلاً بين بعض الأحياء الحمصية شئنا ذلك أم أبينا، وإنّ هذا موجود قبل اندلاع الثورة والحرب، وهو أمر غير متقصّد، لكنه أمر متعارف عليه ببساطة بين الناس. ولذلك فإنّ إداريّاً ما في جمعية ما لا يفكر مثلاً بأن يقدّم طلباً للعضوية في إدارة جمعية أخرى من غير طائفته، والعكس بالعكس، وهو أمر متفق عليه، ومفهوم من الجميع، حتى لو كان غير منطوق، ولا حتى مفكراً به بوضوح ووعي كاملين.
العلاقة مع الأمن والدولة والنظام
رأى الشاب أمام عينيه إحدى السيدات الموظفات معه في الجمعية تُعتقل أمام أعين الجميع. لم يستطع أحدٌ فعل شيء، وهو أيضاً لم يستطع فعل شيء. راقب كل شيء وسمع صرخات مكتومة من بعض الحاضرات، ثم سمع عن اعتقال شابٍّ آخر من الجمعية، كان يعرفه من بعيد، مثل حاله مع الفتاة. وحدَهم المقرّبون من المعتَقَلين فقط يعرفون حقيقة ما جرى، هو سمع بعض الأحاديث من هنا وهناك، لكنه اختار الحياد، وتجنب طرح الأسئلة، وحمَدَ الله سرّاً أنّ معرفته بهما كانت سطحية. كان يعتقد أن لا شيء يستدعي منه المجازفة، لأن أموره جيدة ولا يفكر حاليّاً بالسفر، ورغم ارتباك المشهد العام وقتها، إلّا أنّ ذلك لم يقف في وجه طموحاته التي كانت تتصاعد باطّراد مع نجاحه في العمل.
ما زال قانون الجمعيات لعام 1958 معمولاً به إلى الآن كما ذكرنا، وعلى أساسه تتم عمليات متابعة عمل الجمعيات والمنظمات، إضافة إلى تعليمات وزارة الشؤون الاجتماعية بما يخص الجمعيات، فهي تحتاج للحصول على أذون منها للقيام بأي نشاط، وتحتاج أيضاً موافقات أمنية تحصل عليها الجمعيات غالباً مع الأخذ بعين الاعتبار خبرة أصحاب الجمعيات بما سيتم الموافقة عليه، أو أحياناً المجازفة بما يمكن الموافقة عليه، حيث تقوم وزارة الشؤون الاجتماعية بإرسال المعلومات للأمن، لكن أحياناً يصطدم الحصول على الموافقات بمزاجيات تحكم المسؤولين في مديرية الشؤون الاجتماعية.
وبطبيعة الحال، حين يتقدم الأشخاص بطلب موافقة لمشروع أو مبادرة، قد يحصل بعضهم على موافقات فورية، بينما البعض يواجه بالرفض فوراً أو بالتأخير في الموافقة، تبعاً إلى علاقات الشخص بالحكومة والوزارة. وإن قام أحد بنشاط ما دون موافقة أمنية أو دون موافقة الوزارة، فقد يمضي إجراء النشاط الذي يريده ببساطة، لكن سيتبع ذلك مساءلة أمنية وقانونية لأن في الأمر تجاوزاً للقانون الذي يستلزم أخذ الموافقة. يتوقف الأمر إذن على الأشخاص أنفسهم ومدى قدرتهم على تحصيل موافقات لأنشطتهم بسرعة أكثر تبعاً لعلاقاتهم.
من الطبيعي أن تخضع أنشطة الجمعيات والمنظمات لمراقبة صارمة من النظام، حيث يوجد فرع خاص في الأمن السياسي لديه مندوبون أمنيون أو «ضباط» يتم فرزهم لكل من الجمعيات والمنظمات والنقابات، وذلك لمتابعة عملها ومتابعة الموظفين فيها، حيث يتم إجراء دراسات أمنية عليهم قبل توظيفهم.فهناك مثلاً للمنظمات الدولية (بما فيها منظمات الأمم المتحدة) ضابط أمني من شعبة الأمن السياسي لمتابعة عملها وشؤونها وشؤون موظفيها وكل ما يتعلق بها من موافقات. وبما أنّ وزارة الشؤون هي المشرفة على الجمعيات، فهي ترفع بدورها كل ما يخص ذلك لفرع الأمن السياسي وعلى أساسه تأتي الموافقة أو الرفض على تراخيص المشاريع أو على أنشطتها وغير ذلك. وقد حصل أن رفع عامل في إحدى الجمعيات طلباً لمديرية الشؤون بأن يقوم بنشاطات تتعلق بحماية الأطفال يتضمن الخروج للشارع للقيام ببعض الأنشطة، لكن طلبه قوبل بالرفض من ضمن طلبات أخرى كثيرة، وهذا يحدث بشكل متكرر، ولأسباب أمنية مفهومة بالنسبة للطرفين. وإلى جانب ذلك، يوجد المكتب الأمني للأمم المتحدة لحماية الموظفين، وهو المسؤول عن حماية أمن العاملين في المنظمات الدولية، وهذا أمر آخر منفصل لكن لا يمنع ذكره هنا.
آلية التوظيف
في عام 2017، أمسك الشاب المهندس سيرته الذاتية الورقية التي كان معتزاً بها جداً، وتوجه إلى مركز الصليب الأحمر في المدينة. لم يكن يعرف أحداً من الموظفين في المنظمة، لكنه كان يملك شيئاً أهم من المعرفة: كان يمتلك تزكية شفهية من مديرٍ قديم له في الخارج أخبره أنه يعرف موظفاً في منظمة الصليب الأحمر له أفضال عليه، وسيساعده في التوظيف فوراً في المنظمة. ظنَّ الشابّ أن المنصب السابق للشخص الذي زكاه شفهياً سيمنحه فرصة شبه مؤكدة للقبول، ورغم تردده إلا أنه قام بهذه الخطوة.
تختلف آلية التوظيف بين الجمعيات الأهلية وبين المنظمات الدولية غير الحكومية، كما تختلف بين جمعية وأخرى، ومنظمة وأخرى. بالنسبة للجمعيات مثلاً، يتم عرض الوظائف على صفحة فيسبوك للجمعية ومراسلتها عبر الإيميل وتقديم السيرة الذاتية من خلاله، أو عبر تقديم استمارة للسيرة الذاتية التي يتم ملؤها يدوياً على موقع الكتروني موجود على صفحة الجمعية ذاتها. ونحن نتكلم هنا عن السنوات الأخيرة، لأنّ الوضع كان مختلفاً قبل ذلك، حيث كان يتم قبول كثير من الأشخاص حتى لو بكفاءات أقل. أما آلية قبول الموظفين الآن فتتدخل فيها الوساطات والمعرفة الشخصية والمحسوبيات أكثر، لكن لا يمكن القول إنّ ذلك هو القاعدة، إذ يتم قبول موظفين في الجمعيات حسب كفاءاتهم فعلاً في حالات كثيرة، غير أن المناصب الإدارية الأعلى يتم غالباً قبول الموظفين فيها حسب المعرفة المسبقة، واعتبارات أخرى منها علاقات الشخص مع أطراف من النظام.
أما بالنسبة للمنظمات فالأمر يختلف في كثير من الأمور. فهناك نظام عالمي للتوظيف، يُفترض بالمنظمات العمل به، وإن كان يختلف في تطبيقه إلى حدّ ما بين منظمة وأخرى. ويمكن تقسيم هذا الأمر إلى فترتين، الأولى عند دخول المنظمات الدولية بين 2011 و2012 وهي فترة شهدت «حالة من الطوارئ» دفعت المنظمات لقبول أشخاص ذوي كفاءات متفاوتة وبالواسطات، وذلك بسبب الوضع الأمني غير المستقر، ووجود مال كثير، واستحالة التأكد من أي شيء، وعدم وجودها مسبقاً على الأرض، ما اضطرها لقبول كثير من الموظفين ولو بخبرات وكفاءات متدنية، لا سيما بين عامي 2012 و2014.
أما الفترة الثانية فتبدأ من العام 2016، حيث تغيرت آلية التوظيف تماماً وأصبحت أكثر صرامة وتنظيماً، فمثلاً أصبح الموظف يخضع لامتحان أولي متعلّق بالمنصب باللغة الإنكليزية بعد أن تُقبَلَ سيرته الذاتية المقدمة بشكل إلكتروني حصراً. ثم يخضع لامتحان ثانٍ لتقدير مهارته في اللغة الإنكليزية، ثم يجري مقابلة أو مقابلتين. وأيضاً لا بد من الإشارة إلى أن طبيعة نظام التوظيف العالمي في الأمم المتحدة تتضمّن التزكية من أحد العاملين في المنظمة، وكلمة «التزكية» هنا تخفيف لكلمة «الواسطة» بمفهومها عندنا، وهو ما يمنح «علامات» إضافية للمتقدم. فلو افترضنا مثلاً أنّ ثلاثة موظَفين تقدموا لوظيفة ما، ثم تبين أنّ علاماتهما متقاربة، يتدخل بند التزكية هنا وتتم إضافة العلامات للموظف المزكى به ثم يُقبَل في الوظيفة، حيث يكون المتقدم قد قام مسبقاً بالترتيب لهذا الأمر بالاتفاق مع بعض المسؤولين في المنظمة. كما أنّ المقابلة مع الشخص المزكّى به تختلف عن بقية المتقدمين إذ تتسم بتساهلها نسبياً، كما تختلف بحسب من يجري المقابلة وما إذا كان سورياً أو أجنبياً، وصاحب التزكية حين يصل للمقابلة يكون هو ومن يجري المقابلة على دراية جميعاً أنه على وشك أن يتمّ قبوله في الوظيفة. وأحياناً يتدخل في قبول الموظف عامل الصدفة، كأن يتقدم أحدهم للوظيفة وسط غياب المنافس المُزكّى، فيحظى بالوظيفة بسبب كفاءته فقط، وهذه ليست الحالة العامة بطبيعة الحال. لا ينطبق ما سبق على جميع المنظمات، إذ توجد بعض الفروقات حيث تختلف الآلية بينها. منظمة UNFPA مثلاً تعلن عن وظائفها عبر إعلانات داخلية فقط أو بالترشيح. وفي الإجمال، فإن القبول في وظيفة ما في منظمات الأمم المتحدة أصبح الآن أمراً صعباً جداً، لعدة أسباب منها المعايير العالية التي تتطلبها المنظمات وبسبب وجود عامل التزكية وهو أمر أساسي، الذي وإن تدخل في قبول الموظف فإنه لا ينفي تماماً امتلاكه لكفاءات معينة -ليست بالضرورة أن تكون الأفضل والأمثل للمنصب- لكنها تؤهله لتجاوز الامتحانات والمقابلات. وخلاصة ذلك أن هناك نظاماً عالمياً للتوظيف تحاول المنظمات تطبيقه هنا، لكن يمكن التلاعب به بسهولة والاحتيال عليه، حيث نجد الكثير من المتقدمين لمنصب ما في إحدى المنظمات ممن تنطبق عليهم مؤهلات المنصب لكنهم لا يحصلون عليه، بل يحصل عليه في كثير من الأحيان من هم دونهم كفاءة لأسباب تبقى غير مفهومة بالنسبة للمتقدمين. كما أنّ المناصب العالية والأكثر حساسية محصورة غالباً ضمن فئة محددة من الناس، هم من المؤيدين الثقاة للنظام.
يضاف إلى ما سبق أنه يتم أحياناً توظيف موظفين عبر طرف ثالث. أي تبرم المنظمة عقداً مع جمعية ما، وتطلب منها موظفاً للعمل معها تقوم هي بدفع معاشه. ثم بعد سنة مثلاً حين تحتاج هذه المنظمة موظفاً يكون لهذا الموظف المتعاقدة معه مسبقاً الأولوية في التوظيف، حتى لو كان بعض المتقدمين للوظيفة نفسها أكثر كفاءة منه.
ويمكن أن نضيف هنا أن غالبية الموظفين في المنظمات أو الجمعيات هم من أصحاب الشهادات العالية، والمطّلعين على كثير من الأمور، ويكونون عادة أشخاصاً اجتماعيين لأن عملهم يتطلب التواصل مع كثير من الناس، وإن كان بعضهم قد يوصف بالاستعلاء على الموظفين حوله، لا سيما من الإداريين، لكن لا يمكن تعميم ذلك أبداً. بالإضافة إلى ذلك، يصادف أحياناً أنّ يكون بعض إداريي الجمعيات محصورين ضمن أسر معينة معروفة في حمص، وينطبق هذا بالعموم على الجمعيات التي ينتمي إداريّوها إلى الطائفة السنية أو العلوية، لكن هذا ليس القاعدة بطبيعة الحال.
نشاطات الجمعيات والمنظمات
لكن موظف الصليب الأحمر، الأنيق جداً، أنكر معرفته بالشخص الذي ذكره المهندس، وسأله كما لو كان طفلاً صغيراً: «وماذا تريد أن تعمل عندنا؟». لم يعرف الشاب المهندس بم يردّ، فاعتذر ومضى في طريقه. تعلَّمَ درساً من هذا الموقف، وبدأ يفهم أصول التقديم في المرات التالية التي دأب فيها على التقدّم إلى وظائف في الصليب الأحمر أو سواه. وبدأ يعرف ما هي الوظيفة التي يمكن التقدم إليها. كان يحاول، مثل الآخرين، تحصيل أكبر عدد من الدورات التي تمتلك أسماء براقة لتزيين سيرته الذاتية الالكترونية الجاهزة باللغة الإنكليزية. ورغم أنّ لديه الكثير من المعارف إلاّ أن ذلك لم يؤدّ إلى نتيجة. كان يحرص على التنقل بين المناصب التي تتاح أمامه في جمعيته علّه يصيب مثلها في منظمة ما، أو حتى أقلّ منها.
تعتمد الأنشطة التي تقوم بها الجمعيات على اشتراطات ممولي المنظمات الدولية في كثير من الأحيان، إضافة للأنشطة التي كانت تقوم بها الجمعيات قبل 2011 واستمرّت بها بعد ذلك. ومن أهم الأنشطة الخاصة بالجمعيات الأهلية تلك المتعلقة بالمجال الصحي ومساعدة المحتاجين صحياً والتدريب المهني والمجال التعليمي وإنشاء دور الرعاية، مثل دار رعاية المسنين أو رياض ذوي الاحتياجات الخاصة، كما فعلت جمعية الرجاء. وهناك أنشطة ثقافية، كالتي تقوم بها جمعية الأصالة، وأنشطة مجتمعية وأخرى بيئية.
أما أبرز الأنشطة التي تمولها المنظمات الدولية فهي أنشطة سبل العيش، وهي مستمرة بتمويلها منذ نحو ثلاث سنوات. وتتضمّن هذه الأنشطة التدريب المهني والمنح المالية والمشاريع الصغيرة، إضافة للأنشطة الإغاثية والصحية. وهناك جانب تعمل عليه المنظمات في الفترة الأخيرة يندرج تحت بند «التماسك المجتمعي وبناء السلام»، ويتم بطريقة مخاتلة لا تثير غضب الجهات الحكومية أو الممولة، كالقيام بمبادرات وأنشطة عن أهمية الاختلاف وما إلى ذلك، إضافة إلى مشاريع تخص المرأة، كالعنف القائم على النوع الاجتماعي، والأنشطة تعليمية وأنشطة حماية الطفل.
والجدير بالذكر هنا أن هناك مدربين أجانب يدخلون إلى سوريا لإقامة ورشات تدريبية، لا سيما لموظفي المنظمات الدولية أو حتى الجمعيات، ويأخذون موافقة الحكومة، ويكونون أصلاً موظفين في منظمات الأمم المتحدة أو عن طريقها. ويأخذ هؤلاء الموافقة لدخول سوريا، أو الـ«فيزا»، كما يأخذون الموافقة على كل نشاط يريدون القيام به. فإذا أراد المدرّب الخروج لزيارة ميدانية، فهو يحتاج إلى موافقة حكومية. وإذا أرادت إدارة أي منظمة من المنظمات المتمركزة في دمشق زيارة حمص لمتابعة الوضع، فعليها الحصول على موافقة من وزارة الخارجية لأن علاقتها المباشرة مع هذه الوزارة.
التمويل
في عام 2018 تم رفع معاش الشاب المهندس الذي ما زال موظفاً في الجمعية، كما رُفعت معاشات زملائه بآلاف الليرات. لم يبدُ أن لهذا التغيير أي أثر في البداية، لكنه سرعان ما أشعل فتيل الغيرة بين بقية الموظفين، فازدادت المشاكل والمؤامرات والدسائس والنمائم، وقد شارك في بعضها أو كان محرّكاً لها. بعد سقوط كامل مدينة حمص بيد النظام، لم تعد الأمور كما في سابق عهدها، إذ ارتفعت المعاشات وقلّت المشاريع. فحمص الآن آمنة، وهناك مناطق أخرى أولى بالاهتمام، بحسب بعض المنظمات. كل شيء تغير، حتى الناس أنفسهم تغيروا، ولم يكن هو استثناءً. إذا جاءت الفرصة فقد لا يأتي غيرها. وإن لم يكن هو فسيكون سواه، إذن فليكن هو.
تعتمد الجمعيات الأهلية في تمويلها على التبرعات من رجال الأعمال أو سواهم، فيما يأتي جزء آخر من تمويلها من مشاريعها الاستثمارية التي تدرّ أرباحاً تستخدمها لإنجاز بقية خدماتها. على سبيل المثال، تمتلك جمعية البر مشفى البر الذي يدرّ أرباحاً سنوية. وتذهب هذه الأرباح كمساعدة للعائلات الفقيرة التي تحتاج للطبابة أو سواها. فيما تمتلك الجمعية الخيرية الإسلامية مدرسة خاصة، تعود عليها بأموال تصرف بعضها على رواتب الموظفين، وتستخدم الفائض من الربح لبقية خدماتها، لأن هذه الجمعيات أصلاً جمعيات غير ربحية، أي لا يحق لها الربح ويجب أن تصرف كل أرباحها لأهدافها المعلنة. وتعتمد هذه الجمعيات في تمويلها على العقود التي تبرمها مع المنظمات الدولية، ويحصل بعضها على تبرعات حكومية، لكن هذا نادر جداً. يحدث هذا مثلاً، على سبيل الافتراض، حين تصادر الجمارك كميات كبيرة من المواد، فتقوم الحكومة بتوزيعها على الجمعيات بعد أخذ حصتها طبعاً. لكن هذا نادر الحدوث كما ذكرنا سابقاً.
لا تمتلك منظمات الأمم المتحدة تمويلها الخاص، بل تعتمد على وجود المانحين، وذلك عبر مؤتمرات للحصول على التمويل من جهات أخرى كالاتحاد الأوروبي أو خارجيات الدول الأجنبية أو الشركات العالمية أو غير ذلك. وقد حدث أن أبرمت إحدى الجمعيات عقداً مع منظمة UNDP، لكن التمويل الفعلي كان عن طريق الاتحاد الأوروبي، وكان القائمون على الجمعية على دراية بذلك، والنظام أيضاً، وقد تغاضى عن ذلك لأنه سيستفيد من الدولارات التي ستدخل عن طريق البنك المركزي، والتي سيأخذ حصته منها.
صراع المبادئ
تقدَّمَ الشاب المهندس كثيراً في وظيفته خلال السنوات الماضية، وخَبِرَ الكثير. لكن لا سبيل للوصول إلى المنظمات الدولية وما يتبعها من علاقات هائلة ومجتمع مختلف ومئات الآلاف من الليرات بدلاً من الفتات الذي يأخذه الآن، والذي لا يتناسب مع مستوى جهده وخبرته. لم يعد يبالي بآراء أحد، فهو يعرف أنه تغير كثيراً خلال السنوات الماضية، والغبي هو من لا يتغير. أصبح أكثر جلافة وانتهازية وقسوة. يبني علاقات مع الجميع مهما كان انتماؤهم أو جنسيتهم، لكن بشرط وحيد، وهو وجود فرصة عبرهم للقبول في منظمة. لم يكن صاحب مبدأ وصاحب قضية منذ البداية، وإن تقاطع إخلاصه في العمل مع طموحه الشخصي فهذا ليس بالشيء الذي يعيبه. يتباهى الآن بأنه يعرف أبو فلان وأبو علتان، وبعلاقاته مع رجال أمن ساقته إليهم ظروف العمل والحياة. «في النهاية هم بشر مثلنا» يقول لنفسه، ونحن نعيش معاً في المدينة نفسها ولا مناص من ذلك. فالأمر بالنسبة له ليس أمر محبّة وكره، وليس انتصاراً وهزيمة. هو مصلحة وتأمين حياة وبناء مستقبل يبدو الحصول عليه أصعب يوماً بعد يوم.
رغم أنّ الأنشطة التي تقوم بها بعض الجمعيات ذات الإدارات المعروفة بأنها مؤيدة للنظام يكون تمويلها من جهات أجنبية عبر المنظمات الدولية، التي قد يكون لبعضها إشكاليات مع النظام كالاتحاد الأوروبي مثلاً، إلا أنّ ذلك لا يشكل مشكلة لأي من هذه الجمعيات، بحكم وجود المال الذي سيدخل البلد بأية حال، بالتالي فهي الأحق به كما ترى. وبالعموم، ترى هذه الجمعيات أن لديها واجبات وخدمات عليها تأديتها للناس بعيداً عن المواقف السياسية، لذلك تضع مواقفها السياسية جانباً في سبيل تقديم الخدمات. وترى أنّ حصولها على التمويل يساعد على تقديم خدمات لأناس ليسوا معنيين أو مهتمين بشكل مباشر بأية قضية. هي لا تبالي كثيراً بمصدر التمويل، رغم أن بعضها يعتبر منظمات الأمم المتحدة متحيزة وغير حياديّة، وهنا يكمن التناقض.
اللغة المتداولة في أنشطة الجمعيات والمنظمات
هو الآن يشارك في تغيير أي كلمة مواربة في شعارات أي مبادرة ستُقدَّمُ لوزارة الشؤون الاجتماعية، لأنه يعرف مخاوفها ويحيط بأسرار العمل. وقد حصل ذلك مؤخراً مع بعض أصدقائه القدماء، حين حذف لهم من تلقاء نفسه معظم المقترحات التي قدموها حتى قبل تقديمها للوزارة. وبما أنّ كثيراً من الأمور لن يفهمها من هو أدنى منه وظيفياً، فهو ليس مضطراً لشرح كل شيء لهم، ويتدخل بالتفاصيل في كل مناسبة يعرف تماماً أنّ حضورها لن يكون مقتصراً على «المستفيدين» والموظفين.
يحرص العاملون في المنظمات والجمعيات على استخدام لغة حيادية ولا توحي بمعانٍ خفية، بحيث تكون مباشرة وواضحة، والأهم ألّا تكون قابلة للتأويل بطريقة مختلفة. وقد حدث أن أرادت سيدة تعمل في إحدى الجمعيات تسمية حملة لها متعلقة بالمرأة مستخدمة كلمة «تغيير»، فجاءها رفض مباشر على اسم الحملة من مديرية الشؤون الاجتماعية، وكان الرفض مباشراً من المديرية حتى قبل عرضها على شعبة الأمن السياسي، لأنها تعرف مسبقاً أنها ستُرفَض. لكن بالمقابل، فإن الجمعيات والمنظمات لا تستطيع استخدام كلمات لها معانٍ معاكسة، أي لا تستطيع استخدام لغة تدعم السياسات الحكومية بشكل مباشر، لأنّ ذلك قد يثير الحاضنة الشعبية من الناس والمستفيدين، ولا بدّ من استخدام لغة محايدة لا تثير أيّ طرف أو تسيء له، أو تجعل أي طرف ينفر منها ويبتعد عنها بالتمويل والموافقات الحكومية والقبول، سواء كان هذا الطرف من الناس أو المنظمات الدولية أو الجهات الحكومية أو الأهلية.
بين محبة الناس وكرههم
هو الآن يصدّ بعنفٍ امرأة تتوسله لاستلام سلة من «المعينة» كما تسميها بلهجتها، مثلما استلمت المعونة بقية جاراتها. يندم على طريقة حديثه مع المرأة، ثم يقول: «أعتذر منك يا خالة، لكن اسمك غير مسجل عندنا». كان بصدد البحث عن موظف الاستقبال الذي وجب عليه الردّ على السيدة، لكنه تذكر لوهلة أولى لحظاته في العمل بهذا المجال، ولم ينبس بكلمة توبيخ حين هرع موظف الاستقبال إلى مكتبه ليكمل الحديث مع السيدة.
ينظر كثير من الناس بريبة إلى الجمعيات أو المنظمات الدولية، لا سيما بعد دخول المنظمات الدولية إلى البلد وتدفق الأموال إليها وعبرها إلى الجمعيات، ويعود مصدر هذه الريبة إلى وجود اشتراطات للحصول على الخدمات من الجمعيات الأهلية. مثلاً، لكي تحصل أسرة ما على سلّة غذائية يجب أن تستوفي شروطاً معينة، من ناحية الدخل والنزوح وعدد الأفراد. وحين لا تتحقق هذه الشروط يبدأ الناس بالاتهامات للجمعيات والمنظمات بأنها سارقة وتأخذ هذه السلل لها ولمعارفها. يُضاف إلى ذلك غياب الرقابة الكاملة على عملية التوزيع في هذه المنظمات، وهذا الكلام ليس جديداً، بل يحدث منذ بداية ظهور الجمعيات. فمن لا يستفيد من الخدمات ستكون لديه هذه النظرة غالباً، وأي أحد يستفيد سيغيّر هذه النظرة، ولو استفاد لمرة واحدة فإنه سيفهم أنّ الموضوع ليس برمته مجرد أموال وسرقات. وهناك أيضاً الناس الذين لا يحتاجون هذه الخدمات نظراً لأوضاعهم المادية الجيدة، فهؤلاء لديهم نظرة طيبة حول الجمعيات والمنظمات، لا سيما حين يرون أثرها الإيجابي على بعض الناس الذين يعرفونهم. لكن لا يمكن أن نقول أنّ نظرة الكره والريبة من قبل بعض الناس قادمة من فراغ، حيث توجد في بعض الجمعيات والمنظمات دلائل فساد واضحة، مثل المحسوبيات وتخديم الناس الذين يعرفونهم.
أخيراً
بعد أن شعر أنه لم يعد له مجال لاستلام منصب أعلى في جمعيته، قرر أن يتركها بعد أن ضمن وظيفة أفضل في جمعية ثانية. هو الآن يملك سيرة ذاتية قوية، وقد تعلّم أن قبوله في منظمة دولية يعتمد على أمرين، كفاءته، وشخص يزكيه من داخل المنظمة التي سيتقدّم للعمل فيها. هو يملك الأولى، لكنه يفتقد الثانية، ومع ذلك فهو لن ييأس، وطالما أنّ الأمر وصل به إلى هنا، قرر أن يقدم على منح في الخارج ليسافر، على الأقل فإن التزكية موجودة عندما يحتاج إليها.
لا يمكن إنكار أنّ وجود المنظمات والجمعيات قد قدّم مساعدة إلى حدّ ما في كثير من الجوانب، منها فرص العمل لآلاف من الأفراد، إضافة للمساعدات الغذائية والخدمات التعليمية وغيرها لأناس كثيرٌ منهم يحتاجونها فعلاً. لكن أيضاً لا يمكن أن ننكر أنّ النظام استفاد من الأموال المتدفقة للمنظمات بطريقة هائلة، أي أنّ ذلك أصبح مثل شريان مالي دائم له وما يزال مستمراً منذ سنوات، ما يدعو أن ننظر للأمر بعدة زوايا وبشكل أكثر عمقاً حول مدى فاعلية هذه المنظمات الفعلية أحياناً، وهذا الأمر بحدّ ذاته يحتاج إلى مراجعة طويلة ومعمقة لا يتسع المكان هنا لها.
أما على صعيد الموظفين العاملين في هذه الجمعيات والمنظمات، فتأتي لحظات نادرة حين يدور نقاشٌ ما، ذاتي أو جماعي بينهم، حول مدى جدوى ما يفعلونه وأهميته وموقعيتهم من الكارثة الحاصلة في البلد، ومدى مساهمتهم في دفعها ولو بشكل صغير، حيث تختلف الآراء بشكل كبير حسب مكانة الشخص ومنصبه، وحيث لن يكون جواب أحدهم مماثلاً للآخر. لكن المهم بالنسبة لهم أنها مصدر رزق أساسي في مكان مُدمَّر وعصيّ على الإصلاح، وتندر نسبة فرص العمل فيه بشكل متزايد يوماً بعد آخر.