تعيش المدن السورية الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد، منذ مطلع شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، أزمة نقصٍ في المحروقات، خصوصاً البنزين، هي الأقسى مقارنةً بأزمات تأمين المحروقات المتكرّرة خلال العامين الفائتين. كما شهدت الفترة ذاتها نقصاً في تأمين القمح اللازم لإنتاج الخبز، ما دفع حكومة النظام إلى تقليل كميات الخبز المطروحة للاستهلاك الشعبي؛ بحجة «الحدّ من الهدر»، وذلك عبر إدخالها ضمن المواد المشمولة بالبيع بكمياتٍ محدودة بموجب «البطاقة الذكية».

تنوعت تفسيرات وأسباب أزمة المحروقات، ففي حين قالت وكالة سبوتنيك الروسية إنّ الأمر متعلّقٌ بتوقّف مصفاة بانياس، وهي أكبر مصافي البلاد، عن العمل لفترةٍ مؤقتةٍ بسبب دخولها في فترة «العمرة السنوية»، حيث يُجرى استبدالٌ اعتيادي وسنوي لعددٍ من الأنابيب، على أن تحُلّ الأزمة بعد ذلك بأيامٍ قليلة، إلا أنّ جريدة الأخبار اللبنانية نفت ذلك، معلّلةً بأنّ العمرة السنوية قد انطلقت بعد أسبوعين من البداية الفعلية للأزمة، واستمرّت حتى الخامس من الشهر الجاري، غير أن الأزمة لم تُحل بعدها، ولا يبدو أنّها قريبة الحل في المدى المنظور.

جهاتٌ أخرى، من بينها وسائل إعلام النظام السوري، اعتبرت أنّ سبب الأزمة يعود إلى تأثيرات عقوبات قيصر الأميركية، التي تقف حائلاً دون إمكانية استمرار استيراد النفط. فضلاً عن ذلك، أُعيدت إلى الواجهة، كما يحصل غداة كلّ أزمة محروقات، جزئية التركيز على سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة أميركياً، على النسبة العظمى من نفط البلاد. أما شركة «تنكر تريكرز»، المختصة في مراقبة حركة تجارة النفط العالمية، فأشارت إلى تراجع مستوردات النظام السوري من النفط الإيراني اعتباراً من شهر نيسان (أبريل) الماضي، دون أن توضح إذا ما كان هذا التراجع مُتعلّقاً بالعقوبات الأميركية. كما أفادت الشركة بوجود سفن نقل إيرانية مُحمّلة بالنفط قبالة الموانئ السورية، دون أن تفرّغ حمولتها منذ عامٍ كامل، ومن بينها ناقلة محمّلة بمليوني برميل نفط ترسو قريباً من ميناء بانياس، وهي نفس الناقلة التي احتجزتها سلطات جبل طارق في آب (أغسطس) من العام الماضي.

في الوقت نفسه، ما زال النظام يؤمّن كمياتٍ، غير كافية لتغطية الطلب المحلي، من المحروقات عبر تهريبها من لبنان، وقد نشرت صفحاتٌ ومواقع عديدة صوراً لصهاريج محروقات تنقل البنزين نحو الأراضي السورية لبيعه بأسعار مضاعفة، الأمر الذي خلق أزمةً في لبنان أيضاً، ولكن أقل حدّة من الأزمة السورية، كما أنّ عمليات التهريب هذه مرشّحة دوماً للتوقّف تبعاً للأوضاع الداخلية اللبنانية.

عشاء في الكازية

يقول علي محمود (اسم مستعار)، من سكان طرطوس، إنه لم يحصل على البنزين خلال الأسابيع الماضية في يوم انتظاره الأول أمام الكازية، فثمة «طابورٌ آخر ينتظر منذ أكثر من 24 ساعة للحصول على مخصصاته بموجب البطاقة الذكية، وعادةً لا ينتهي الطابور الأول حتى يعلن القائمون على الكازية عن نفاد الخزانات وتوقّف البيع حتى اليوم التالي». يضيف علي: «من أجل ذلك، أركن سيارتي في الطابور وأعود إلى بيتي بانتظار اليوم التالي، وعندما تشرع الكازية في البيع سيتطلب مني الأمر ساعات النهار بأكملها لأحصل على كمية البنزين المخصصة لي».

ويروي أحمد الصالح (اسم مستعار)، للجمهورية صوراً من طوابير الانتظار في العاصمة دمشق، يقول: «في كل مرّة، وأسوةً بكثيرين، أحمل الطعام والشاي والقهوة وبعض الموالح إلى الكازية، وهناك بوسعي أن أتسامر مع إخوتي المصطفين في الصراط الطويل إلى أن يأتي دوري». يضحك أحمد بينما يواصل كلامه: «إننا نفعل تماماً مثلما قال خطيب الجامع الأموي السابق مأمون رحمة؛ نقضي ليالي المحبة معاً أمام الكازيات، غير أننا نتشارك، بالإضافة إلى الطعام والشراب، الكثيرَ الكثير من الذل والمهانة».

بالتوازي مع عمق أزمة المحروقات التي يعاني منها الناس في جميع مناطق سيطرة النظام السوري، فإنّ الذين تحدّثنا إليهم يؤكّدون على أنّ جميع هذه المناطق مليئة بالبنزين، ويمكن شراء كميات كبيرة منه بأسعارٍ مرتفعة. ويخبرنا أحمد الصالح أنّه «عندما بدأت الأزمة في مطلع أيلول بلغَ سعر التنكة (20 ليتر) مبلغ 20 ألف ليرة سورية، ولكنّه واصل الارتفاع حتى وصل سعر التنكة اليوم إلى 60 ألف ليرة، أي بواقع 3000 ليرة لليتر الواحد، وبإمكان أيٍّ منا أن يشتري بحراً من البنزين لو كان يملك المال».

صهاريج من الجزيرة

مع أزمة المحروقات في مناطق سيطرة النظام، يمكن مشاهدة مئات الصهاريج المحملة بالنفط متجهةً من مناطق سيطرة الإدارة الذاتية في شرق سوريا وشمالها الشرقي باتجاه مناطق سيطرة النظام. يشبّه حسين الجابر (اسم مستعار)، المُقيم في ريف الحسكة، عمليات بيع الإدارة الذاتية للنفط إلى النظام ببرنامج النفط مقابل الغذاء، مضيفاً: «لكنه برنامجٌ سوريٌّ مئة بالمئة، مع إغماضة عينٍ أميركية». ويفسّر ذلك بأنّ الإدارة الذاتية «لا تستطيع التخلي عن المواد الغذائية وأساسيات العيش التي تأتي من مناطق سيطرة النظام، وهو ما يدركه الأميركان جيداً، ولذا فمن المنطقي أن تبيعه النفط ليسمح بتمرير البضائع نحو مناطق سيطرتها. فضلاً عن ذلك، ليس بمقدور الإدارة الذاتية تصريف كميات النفط التي تنتجها المنطقة الشرقية دون بيع قسمٍ منها للنظام والاستفادة من عوائدها».

وفي السؤال عمّا إذا كانت عمليات البيع هذه تؤثّر على توفّر المحروقات في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، يجيب الجابر بالنفي، فهناك «البنزين ‘الأبوتشي’ الرديء الذي تكرّره، بطرقٍ بدائية، المصافي التابعة للإدارة الذاتية»، أما بالنسبة للبنزين أوكتان-80، فإنه يأتي عبر كردستان العراق، بيد أنّ سعره مرتفع، حيث يُباع الليتر الواحد بـ 1610 ليرات سورية. يقول الجابر: «قد تمرّ المنطقة بنقصٍ ملحوظٍ لأيام قليلة، لكن سرعان ما يملأ البنزين محطات الوقود».

ماذا عن الخبز؟

«جاء قرار إضافة الخبز إلى البطاقة الذكية لمنع الهدر، ولكنه تسبب بأزمة وبازدحامٍ شديد»، هذا ما يقوله مروان شاكر (اسم مستعار)، الذي يسكن في دمشق. يضيف شاكر: «الحكومة لا تستوعب أن المواطن السوري فقير، ولذلك سيحرص معظم الناس على الخبز أكثر من حرصهم على عيونهم، ولن يهدروا منه قطعةً صغيرة».

ترافق إدراج مادة الخبز في البطاقة الذكية مع تخفيض مخصصات الأسرة الواحدة، فغدت حصة أسرةٍ مكونة من 3 أشخاص ربطة واحدة يومياً، والأسرة المكونة من 7 أشخاص ربطتين، أما الأسرة التي يتجاوز عدد أفرادها 7 أشخاص فلها الحق في الحصول على 3 ربطات يومياً. وذلك بعد أن كانت حصة الأسرة الواحدة في نيسان (أبريل) الفائت 4 ربطات يومياً في الحد الأقصى، وبسعر 50 ليرة للربطة الواحدة من الأفران مباشرةً و60 ليرة عبر المندوبين المعتمدين.

يتذمّر مروان شاكر في حديثه مع الجمهورية من صعوبة الحصول على الخبز ورداءته، يقول: «نحن مضطرون للوقوف ساعتين على الأقل لتحصيل الخبز من الأفران التي تنتج خبزاً ليس بوسعك حين تنظر إليه إلا أن تقول ‘حاشى نعمة الله’. هنالك فرن آلي في الزاهرة ينتج خبزاً جيداً، ولكنّي لم أذهب إليه منذ سنوات، فهو يتطلب الوقوف لساعاتٍ طويلة لتحصيل الخبز. جارتنا ذهبت إلى هناك، أوصلت أولادها إلى المدرسة ووقفت في الطابور عند السابعة والنصف، ولمّا حان موعد انصراف أولادها عند الحادية عشر والنصف ظهراً كانت تحتاج إلى ساعتين إضافيتين للحصول على خبز. احتسبت ربها واشترت ربطةً من أحد الباعة الواقفين على باب الفرن بـ 700 ليرة لتلحق بأولادها، علماً أن سعر الربطة الرسمي هو 50 ليرة».

أما عند السؤال عن دور المندوبين المُعتمدين في التخفيف من أزمة الخبز، فيجيب شاكر: «نظرياً يمكنك ألا تقف على باب الفرن، وأن تحصل على الخبز من المعتمد، لكننا لا نفعل ذلك. ببساطة، الخبز الذي يبيعوننا إياه غير صالح للأكل، وذلك لأنهم يكدّسونه لعدة ساعات، وهو ما يعني أن تشتري ربطة الخبز من المندوب لتلقي بها في حاوية القمامة».

بالانتقال إلى الحسكة، ورغم أن المحافظة لا تعاني من أزمةٍ في القمح، فإنّ أزمة الخبز فيها قديمة، وهي ليست متعلّقة بتوفّر المادة في حدّ ذاتها، وإنما في نوعية الخبز وجودته. يقول صالح الجاسم: «بالنسبة إلى الخبز العادي فهو متوافر بسعر 200 ليرة سورية للربطة، ولكن يمكن أكله فقط عندما يخرج من الفرن، فبعد وقتٍ قصير سيتكسّر ويصبح غير صالحٍ للأكل. وحدهم المضطرون والأشد فقراً هم الذين يأكلون هذا الخبز. أما الخبز المستعمل على نطاقٍ أوسع، فهو الخبز السياحي الذي يبلغ سعر الربطة الواحدة منه (6 أرغفة) 500 ليرة سورية، والأسرة المكونة من 5 أشخاص بحاجة إلى ربطتين على الأقل لوجبة العشاء».

وحول اختلاف جودة الخبز من فرنٍ إلى أخر يطرح الجاسم مثال فرن «شتّو» في مدينة الحسكة، يقول: «هذا الفرن هو الوحيد الذي ينتج خبزاً صالحاً للأكل، ولكنه مخصص للتوزيع على زبائن محددين. هل يمكنك أن تتخيل أن ثمة طابع تمييزي يطال رغيف الخبز أيضاً؟ ناهيك عن أنّ قسماً من المندوبين المسؤولين عن توزيع الخبز هم ‘سرسرية’ من الدفاع الوطني، تفضّل أن تشتري الخبز السياحي على أن تحتكّ بهم».

يُشير تكرار القصور في تأمين المواد الأساسية التي يحتاجها الساكنون في مناطق سيطرة النظام، في ظلّ العقوبات ومعوقات الاستيراد، التي يُشكّل فقر الدولة وافتقارها إلى القطع الأجنبي أبرزها، إلى أنّ الواقع المعيشي للسوريين لن يذهب خلال الشهور المقبلة إلا نحو تدهورٍ مستمرٍّ لا تنفع معه خلطات الصمود التي يوصّي النظام باتباعها.