ما يزال حضور الدراما العربية على الشبكة الدرامية العالمية نتفلكس قليلاً على مستوى الكم، وغير لافت على مستوى نوعية العمل المقدم. رغم ذلك، تحظى تلك الأعمال بدعم إعلامي كبير، فالشبكة المعولمة تسعى دائماً إلى الوصول والانتشار لأكبر حد ممكن، وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد. بمجرد عرض مسلسل على الشبكة، فإنه يحظى باعتراف أوّلي، وبدعم إعلامي وإعلاني غير محدود. وآخرُ المسلسلات العربية المعروضة على نتفلكس كان مسلسل المنصة، الذي يُعرَض حالياً الموسم الأول منه، وهو من تأليف السيناريست السوري هوزان عكو، وإخراج الألماني رودريغو كريشنار، وأداء مجموعة من الممثلين السوريين والعرب.
«المنصة» هو موقع إعلامي استقصائي أسّسه كَرَم (مكسيم خليل، الشاب المختص في أمن المعلومات والبيانات، والذي يعمل كرم على استقصاء المعلومات الحساسة والمخفية ونشرها على الموقع. يُمول المنصة رجل الأعمال الإماراتي ناصر (عبد المحسن النمر)، الذي يقدم نفسه كرجل أعمال مستقل، يسعى إلى البحث عن الحقائق؛ يثق بكرم ويمول مشروعه. تنمو المنصة وتتسع لتشمل مُبرمِجاً آخر هو سيف (ياسر النيادي)، ولاحقاً تنضم إليهم أمل (رهام قصّار) كمبرمجة وعاملة في الشأن المعلوماتي. أمّا زيكو (خالد القيش) فهو صديق قديم لكرم، ويعمل في المنصة كرجل للمهمات الصعبة.
تشكّل شخصية كَرَم المنطلق الأساسي للأحداث والقضايا التي تتابعها المنصة، بدءاً من سرد المسلسل لتاريخ كَرَم الشخصي وعلاقته الندية مع أبيه (سلوم حداد)، المتحجّر دينياً، والذي اعتُقِلَ عشرين عاماً لأنه خطط لتفجير انتحاري، مروراً بعلاقته مع أخيه آدم (سامر اسماعيل) المرتبط بواحد من التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وانتهاءً عند موت أمه (سمر سامي)، الذي ظهر كحدث إشكالي ترتبط به كل الأحداث الكبرى في العمل.
تجري أحداث المسلسل في مزاج مشحون بالحركة والإثارة والجرائم، ويقسمه صنّاعه إلى أزمان متعددة: الثمانينات حيث بدايات حركات التطرف التي يشهد الطفل كرم على نشوئها. بداية العقد الأخير، تحديدا عام 2012، وقتما كان الربيع العربي في مطلعه. أخيراً، الزمن الحاضر، ويحمل معه نتائج هذه الفترات السابقة. هذا الوضوح على مستوى التقسيم الزمني للعمل، وسلاسة التنقل بين الأزمان، لم يكن ذاته على مستوى أمكنة الحدث الجاري. فالأماكن الوحيدة الواضحة والمكتوبة هي «أميركا، لوس أنجلس» حيث كان يدرس كَرَم ويعمل، و«الإمارات، أبو ظبي» مكان وجود مقر «المنصة» وعمل المجموعة الصحفية. أما باقي الأمكنة فهي تبقى مغفلة، دون توصيف وتعريف. مكان طفولة كرم وشبابه وبيت أهله وذويه غير واضح، مكان تواجد التنظيم الإرهابي الذي تلاحقه المنصة وتسعى للكشف عنه غير مُسمَّى. يقدم العمل هذه الأماكن بأكثر صيغة عمومية ممكنة. على مستوى تكوين الفضاء، ديكوره وإكسسواره وأزياء الكومبارس، فلم يكن لها هوية، وكانت خليطاً من مدن العراق والشام ومصر، ورغم أن كل العناصر تتكلم اللهجة الشامية، لكن المسلسل لا يُسمّي المكان، ويُبقيه مجهولاً، وكأنما ينظر صناع العمل إلى مناطق الصراع هذه ككتلة واحدة لا تفريق بينها ولا تمييز، لا فرق إن كانت سوريا أو ليبيا أو اليمن، كلها بلاد منكوبة، وفي ذلك نظرة سياسية استعلائية وقاصرة جداً.
هناك حِرَفية واضحة على مستوى تكوين الصورة، وكذلك بناء الحبكة وسرد الحكاية. خطوط الشخصيات متماسكة ومسبوكة، وبنية النص واضحة ومُقسّمة إلى عناوين وثيمات، وفي ذلك ملامح للنص الدرامي التلفزيوني المعاصر، المتطابق وصيغة مسلسلات نيتفلكس البوليسية. كذلك الحال على مستوى الأداء، فهناك تنوع بين الممثلين، من جهة أعمارهم وخبراتهم، ومن جهة جنسياتهم. ورغم وجود بعض التفاوت، لكن بقي خط التمثيل في العمل مشدوداً، على رأسه ممثلون مخضرمون مثل سلوم حداد وعبد المحسن النمر وسمر سامي، أو محترفون مثل مكسيم خليل وخالد القيش، أو وجوه شابة مثل لين غرة ورهام قصّار.
تتلاشى الحرفية حينما يتعلق الأمر بالخطاب المحكي، فالمسلسل المكتوب بلغتين (عربية وإنكليزية) ولهجتين (شامية وإماراتية)، يُشعِرُ سَامِعَهُ العربي أنه مترجم في بعض الأحيان، لما في بعض الحوارات من ركاكة ومباشرة في نقل الفكرة، وانعدام لسلاسة الحديث بالعربية ورشاقته. زِد على ذلك؛ المشاكل الخاصة بهويات الشخصيات؛ وحدها الشخصيات الإماراتية من تمتلك هوية واضحة، أما باقي الشخصيات، تحديداً السورية، فلا يعرف المشاهد ما هو موطنها، مجتمعها وسياقها الأساسي. تبقى شخصية مثل الأب مفتوحة في الهواء، لا نعرف على يد أي جهاز أمن ولا في أي دولة تم اعتقاله، ولا نعرف ما هو التنظيم الذي ينتمي إليه. أيضاً تظهر شخصية مثل سارة (لين غرة)؛ حبيبة كَرَم، كفتاة تمر بتغييرات جذرية، تحولها الثورة والهجرة من فتاة محجبة محافظة إلى وجه إعلامي منفتح، دون أن نعرف إلى أي البلاد تنتمي سارة ولا أي الثورات هي التي غيرتها.
تبدو فكرة المعلومات ومعالجتها، أَمنُها وطُرُق تداولها، من الأفكار البراقة والملفتة للانتباه في ظل الانفجار المعلوماتي الذي نعيشه، وتبقى حرية الإعلام والعمل الإعلامي المستقل من الأسئلة الأساسية في المجتمع العربي المعاصر، وربما أكثر ما نحتاجه اليوم هو العمل الاستقصائي الحقيقي لآلاف المعلومات التي انبثقت عن الانتفاضات العربية. وهذا ما يتبنى تقديمه مسلسل المنصة، لكنه يتبناه ضمن نظرة سياسية أحادية ضيقة، تدّعي أن الإمارات هي المكان الأنسب عربياً لخزان المعلومات هذا (وهي ربما في الواقع كانت الأبعد!)، وأن كل البلاد العربية الثائرة سَواء، تعجُ فيها التنظيمات الراديكالية والأصولية، وأن من يريد متابعة الحقائق والدخول في اللعبة السياسية الحقيقية عليه أن لا يكون «علقان بالماضي، بل يشوف المستقبل»؛ مستقبل بدون تلك البلاد المنفجرة، فلسطين؛ سوريا ولبنان وغيرها من البلدان التي تُعكّر شعوبُها صفوَ السلام الواهم.