ليس بإمكان التقنيات المسرحية أن تُلخِّصَ سنوات الاعتقال أو ما يعيشه المُعتقَل في زنزانته، لكن ما يستطيعه المسرح هو أن ينقل للجمهور بعضاً من مشاعر السجناء، وأن يروي قصصهم بصوتٍ عالٍ بعد سنوات طويلة من الصمت والخوف والوحدة. تروي لنا المعتقلة السابقة هند قهوجي، في بداية العرض المسرحي واي-صيدنايا، تفصيلاً يتعلق بلحظة خروج السجين من المعتقل، وهو أن الناجي من المعتقل لم يكن يتوقع زواراً أو مرحبين به بعد خروجه من السجن، وذلك بسبب خوف الزوّار المحتملين من إعلان أي شكل من أشكال التعاطف معه، أو من أن تُفسَّرَ زيارتهم على أنها تضامن مع قضية المعتقل من قبل الأمن أو المخابرات السورية.
في خضّم رحلته للبحث في الذاكرة الفردية والجمعية للسوريين عن سجون سوريا، التي صار العالم بأجمعه يسمع عن وحشيتها وقسوتها، قَدَّمَ المخرج المسرحي رمزي شقير الشهر الماضي عمله المسرحي واي صيدنايا على خشبة مسرح بيلليني في مدينة نابولي في إيطاليا، مع مجموعة من المعتقلين السابقين من سجن صيدنايا وهم : رياض أولار وهند قهوجي وشيفان رينيه فاندرلوخت، إلى جانب ممثلين محترفين وهم: آلاء منصور ورامي خلف يشاركون الناجين رواية قصص معتقلين آخرين لم تتسنَّ لهم الفرصة أن يرووا قصصهم بأنفسهم على الخشبة.
ينطلق العرض من حدث تاريخي لا يزال حياً في ذاكرة السوريين، وهو استعصاء سجن صيدنايا في تموز (يوليو) 2008؛ الحدث الذي تتقاطع عنده مجموعة من القصص الفردية للمشاركين في العرض، وتم توظيفه درامياً ليكون بمثابة الدافع، حتى يتذكر كل من المشاركين على الخشبة قصته أو قصة مُعتَقل قريب منه. يستعرض المشاركون من خلال السرد الآثار التي تركها الاعتقال عليهم، في محاولة منهم لإعادة بناء وعي جمعي عن علاقة الأفراد خارج السجن مع المعتقلين داخله، وذلك من خلال الشهادات الحية على لسان المعتقلين أنفسهم. كما تؤكد لنا قصصُ المشاركين أنه لا يمكن لتجربة الاعتقال أن تنتهي عند الخروج من السجن، كما أنها لا يمكن أن تُنسى مهما حاول الفرد ذلك، بل يمكن العيش معها والتدرب على سردها. وهذا ما حاول شقير أن يفعله خلال صيرورة إنتاج العرض كما ذكر في حوار للجمهورية معه: «بدأت القصة مع رياض منذ أن رأيته في لقاء على شاشة التلفاز، أكثر ما لفتني في رياض، ليس قصته فحسب، بل تمكنه من اللغة العربية وهو تركي الأصل. وأيضاً شيءٌ آخر هو ابتسامته التي لم تفارق وجهه حتى عند حديثه عن عذاباته وآلامه في سجن صيدنايا. وكما أفعل دائماً، حتى في التجارب السابقة، أحاول أن ألتقي شخصياً بأصحاب الشهادات والأشخاص الذي أوّد أن أعمل معهم، لذلك ذهبت إلى اسطنبول للقاء رياض أولاً، وكذلك الأمر مع المشاركين الآخرين. اللقاء الأول بيني وبين المشارك في غاية الأهمية، لأن الطرفان يتخذان القرار بالتعاون والعمل معاً خلاله. أُقسِّمُ صيرورة العمل عادةً إلى ثلاثة أو أربعة مراحل. طلبتُ بدايةً من جميع المشاركين الاجتماع في فرنسا والعمل لمدة أسبوعين، في المرحلة الأولى يتم تعارف المشتركين على بعضهم بعضاً وسماع وسرد قصصهم، ويجب أن أنوه أنه في المرحلة الأولى يمتلك جميع أعضاء الفريق الحق باتخاذ القرار إما بإكمال العمل في العرض المسرحي أو لا.
تستمر المرحلة الثانية لثلاثة أسابيع، أكون خلالها قد حضرّت “كونسبت العرض”، كما أني أخصّصُ وقتاً طويلاً لتفريغ وكتابة كل ما سجلته من قصص المشاركين أثناء البروفات، وذلك من أجل التوصّل إلى معالجة درامية و حبكة أو خيط مشترك يجمع قصص المشاركين. أما المرحلة الأخيرة فهي مرحلة التحضير للعرض، والتي استمرّت عشرة أيام هذه المرة. تمارين إعداد الممثل، وتمارين الصوت والتدرّب على إلقاء القصص وحضور الجسد على الخشبة، تظلّ مستمرة معنا من المرحلة الأولى حتى البروفا الأخيرة».
صحيحٌ أن استعصاء صيدنايا كان الخيط المشترك في هذا العرض الذي بدأ منه السرد الشخصي للقصص الفردية للاعتقال، بيد أن قصة رياض أولار، المعتقل التركي في سجون النظام السوري، كانت العمود الفقري للعرض الذي بدأت منه جميع القصص وعندها انتهت. استطاع رياض تمثيل نفسه وسرد قصته على الخشبة، وبالرغم من كل التحديات والإشكاليات التي يواجهها الناجون عند سرد قصتهم على المسرح، إلّا أن أولار يذكر في حوار مع الجمهورية عن تقييمه الشخصي لهذه التجربة: «بالطبع، لا يمكن لواحد وعشرين عاماً من الاعتقال أن تُروَى خلال عرض مسرحي مدته ساعة. المسرحية كانت بمثابة تكثيف قوي لمشاعر اختبرتُها في المعتقل على مراحل زمنية متفرقة. هناك كثير من المشاعر التي عشتها ولم أستطع أن أعبر عنها، إلى أن التقيت رمزي. على سبيل المثال، ساعدني رمزي في توصيف طبقات العتمة في الزنزانة، اختبرتُ ذلك لأعوام، لكني استطعتُ توصيفه فقط بعد الحديث مع رمزي. في كل مرة أعدتُ فيها رواية قصتي، كنتُ أعيشها مجدداً. في الوقت ذاته، كنتُ أتأثر عند سماع قصص الزملاء الآخرين، ففي كل مرة كان يروي فيها شيفان قصته كنت أدمع وأحزن لحزنه».
تُجسّد قصة شيفان المعتقل السابق في سجون النظام وحشية وبنية الاعتقال في السجون السورية، فهو تَعرَّضَ لأقسى الإهانات ليس بسبب انضمامه للثورة، بل أيضاً بسبب مثليته الجنسية. وكذلك هي قصة اعتقال فيروزة، التي تشرح الكثير عن اعتباطية الاعتقال والظلم في سوريا؛ الحبيبة السابقة لرياض، التي جاءت من تركيا إلى دمشق لرؤية حبيبها، وانتهت بها الزيارة في سجن صيدنايا لسنوات طويلة من دون أي مبرر أو تهمة توضح سبب الاعتقال.
استحضر العرض ذكرى فيروزة من خلال مستويين من الأداء المسرحي؛ المستوى الأدائي الأول هو الذي يقدمه الناجون السابقون، حيث نرى الناجي على الخشبة ممثلاً يمثل نفسه ويروي قصته الواقعية، أما المستوى الثاني من الأداء، فهو ممثلون يسردون قصصاً لمعتقلين سابقين، كما في مثال قصة فيروزة التي تُسرَدُ على لسان الممثلة اللبنانية آلاء منصور. أجابنا شقير عن التوظيف المسرحي لهذين المستويين من الأداء وآلية العمل مع معتقل سابق إلى جانب ممثل محترف: «شخصياً، عند تجسيد أي قصة حتى لو كانت واقعية، وعند تقديمها على المسرح، تصبح هذه القصة ضمن المجال اللعبي على المسرح، كما أنه لا بدّ من خلال إعادة السرد أكثر من مرة، أن يتدخل الخيال في بناء القصة، لأن حتى الحكايات الواقعية تتجدد مع الزمن والتذكر لها. لنسأل السؤال من ناحية أخرى، مالذي يؤكد لنا أن قصة رياض قصة واقعية مئة بالمئة؟
أما المستوى الثاني (المتخيل)، فقد بدأتُ العمل عليه انطلاقاً من جملة يذكرها أخي عندما يقول: “قررتُ أن أعود إلى الشام لأن كل ما أسمعه من قصص يبدو خيالاً”. قصصنا ممزوجة من الخيال والواقع، لذلك قررتُ أن أعكس ذلك من خلال مستويي الأداء. حتى رياض نفسه لم يكن يعرف ما الذي تعيشه فيروزة في زنزانتها، لكنه زَوَّدَنا بمجموعة من التفاصيل عن قصتها وعن شخصيتها، سمحت لنا بتقديم تصوّر عن قصتها في المعتقل على لسان آلاء منصور».
كرّس أولار حياته بعد خروجه من السجن لخدمة قضايا المعتقلين السوريين، وبدأ نشاطه السياسي مع رابطة معتقلي صيدنايا، ويؤكد لنا رياض أن هذا العمل المسرحي لا ينسجم مع نشاطه السياسي فحسب، بل أيضاً يخدم قضيته المعتقلين: «عندما أحكي قصتي، فأنا بذلك أحكي عن قصص آلاف المعتقلين الذين أتشارك معهم الكثير من تفاصيل المعتقل. على سبيل المثال، عندما أتطرق للصدمة التي عانيت منها بعد خروجي من المعتقل، فمعظم الناجين من المعتقل يتخيلون أن العالم في الخارج سيتكاتف معهم ويستقبلهم ويتعاطف معهم، إلا أن هذا في الواقع لا يحدث. حاولنا في الرابطة خلال السنوات السابقة توثيق وتسجيل أرقام وإحصائيات عن التعذيب والمعتقلين في سجن صيدنايا، إلّأ أن المعتقلين ليسوا أرقاماً، لذلك نحاول دائماً استخراج القصص الفردية للمعتقلين. أنا أشجع الكثير من الأشخاص على أن يخوضوا مثل هذه التجربة، فأنا داويت نفسي بنفسي على خشبة المسرح».
ولأن انكشاف التجربة الذاتية للناجين على المسرح تجربة محفوفة بالمخاطر النفسية، توجَّهنا بالسؤال لأولار فيما إذا حملت هذه التجربة أياً من الآثار السلبية عليه، لكنه أكدّ للجمهورية أن ما حدث معه كان تماماً العكس: «وجدتُ نفسي مرتاحاً، وشعرتُ بأني أمام أشخاص جاؤوا ليسمعوا قصتي، حكيتُ قصتي كما أحب. في البروفات لم يكن أدائي جيداً، فأنا لا أعرف كيف أمثل ولا أعرف أن أعبر على المسرح، لكن بوجود الجمهور قدمتُ أفضل مما كنت أقدمه في البروفات. كان رمزي يوصي دائماً بأن نتحدث على طبيعتنا، وأن نروي قصتنا ونحن مرفوعي الرأس وبكرامة لا يمكن لأي شيئ أن يهزها».
بعد عرضين ينتميان إلى مسرح الشهادات؛ الأول هو إكس- عدرا 2019 والثاني واي- صيدنايا 2020، يحاول شقير أن يكمل بحثه المسرحي في ذاكرة السوريين عن السجون السورية في أعمال قادمة، وأن ينبش في الذاكرة الفردية للناجين، وهو يقول إن هذا «لا يمكن أن يسترد العدالة المسلوبة للمعتقلين على يد النظام السوري، لكنه يخلق مساحة تشجعهم على مشاركة تجارب فردية أليمة مدفونه عميقاً في داخلهم».