كانت سوريا حتى نهاية العام 2011 واحدةً من البلدان المُنتِجة والمُصدِّرة للثروة الحيوانية إلى كثيرٍ من دول العالم، حيث تفيد التقارير أن صادرات الأغنام كانت تحتل المرتبة الرابعة بين المواد المُصدَّرَة إلى الخارج، ووصلت مساهمة هذه الصادرات في قيمة الصادرات الزراعية السورية في الفترة بين 2006 و2008 إلى حوالي 16%، إذ وصل عدد رؤوس الأغنام المُصدَِّرَة إلى مليون رأس تقريباً.

غير أنّ ذلك تغيّرَ مع بداية الثورة السورية، فقرّرت حكومة النظام حينها إيقاف عمليات تصدير الأغنام لفترةٍ مؤقتة، قبل أن تعود في العام 2012 إلى السماح بالتصدير. ومع انخفاض الثروة الحيوانية، من 22.865 مليون رأس عام 2010، إلى نحو 11.904 مليون رأس غنم، لم تُصدِّّر سوريا في عام 2015 سوى 26 ألف رأس فقط، فيما توقف التصدير تقريباً بشكلٍ كامل خلال السنوات التالية. وصرّح وزير الزراعة في حكومة النظام، قبل أيامٍ قليلة، بأن سوريا قد فقدت 50 بالمئة من ثروتها الحيوانية، مُعترِفاً بأنه لا توجد إحصائيات دقيقة لأعداد الثروة الحيوانية حالياً.

بالتوازي مع هذا الفاقد الكبير، لم يكن يخطر على بال السوريين أن تصبح «اللحمة» عملةً نادرةً على موائدهم، لكنّ واقع الحال اليوم يقول إن الشعب السوري في معظمه بات نباتياً، ليس من طوع أمره، بل رغماً عنه؛ لأن اللحم بات وجبةً صعبة المنال، بعد أن أجبرت الظروف المعيشية القاسية وارتفاع الأسعار معظم سكان العاصمة دمشق وذوي الدخل المحدود على التخلي عن سلع ومواد غذائية كانوا يعتبرونها أساسية، ولا سيما اللحوم.

تشهد الأسواق السورية ارتفاعاً كبيراً في أسعار لحوم الأغنام والأبقار والدجاج، حيث وصل سعر كيلو هبرة الغنم إلى 20 ألف ليرة سورية، وكيلو هبرة العجل إلى 17 ألف ليرة، وكيلو اللحم المسوف إلى قرابة 18 ألف ليرة سورية للحم الغنم و15500 ليرة للحم العجل. ووصل سعر كيلو شرحات لحم الغنم إلى 17500 ليرة، فيما شرحات العجل وصلت إلى 16 ألف ليرة سورية للكيلو الواحد، وكيلو اللحم بعظمه بلغ سعره 14 ألف ليرة سورية للحم الغنم و13 ألف ليرة سورية للحم العجل.

أما في ما يخصّ أسعار الدجاج، فقد وصل سعر كيلو الفروج الحي والمُنظّف إلى حوالي 4000 ليرة سورية، و سعر كيلو الجوانح 3800 ليرة، بينما تراوح سعر شرحات الدجاج بين 6 إلى 8 آلاف ليرة سورية، والكستا وصل سعرها إلى 6200 ليرة سورية، وسعر كيلو أفخاذ الدبوس وصل إلى 5300 ليرة، وأفخاذ الوردة 5800، ووصل سعر كيلو السودة إلى 5000 ليرة سورية. ويشير اللحامون الذين تحدّثنا معهم إلى أنّ الزبائن باتوا محصورين بشريحة الميسورين مادياً، وأصبح شراء اللحم الأحمر نوعاً من الترف للكثيرين.

عادةً ما كان يلجأ السوريون ذوو الدخل المحدود إلى الدجاج بدلاً من اللحم الأحمر في كثيرٍ من طعامهم اليومي، نظراً لأن أسعاره كانت إلى حدٍّ ما في المتناول، لكن بعد هذا الارتفاع في أسعار اللحمة والفروج، بات الناس مجبرين على التخلي عن الكثير من وجباتهم التي تحتاج إلى اللحم، والاستعاضة عنها بالطعام الذي يحتوي على الخضار فقط، أو تحويل بعض الطبخات كالبامية والفاصولياء والفول والبازلاء إلى وجبات تؤكل بالخبز تجنباً لاستخدام اللحم. وعند الضرورة تجري الاستعانة ببودرة مرق الفروج من أجل النكهة فقط، وفي بعض الأحيان يلجأ البعض لشراء العظم وطهيه من أجل النكهة أيضاً.

قمنا بجولةٍ في سوق «باب سريجة»، أحد أهم وأشهر الأسواق في العاصمة دمشق، صحبة رجلٍ ستيني يعمل بائعاً للحوم، وهو من أبناء هذا السوق منذ صغره. سألناه عن حال السوق، وخاصةً في ما يتعلق باللحم الأحمر والدجاج، فقال: «منذ العام 2011 انتشرت ظاهرة الغش في هذا السوق وغيره من الأسواق بشكلٍ غير مسبوق، وخاصةً لدى بائعي اللحوم والفروج، حيث لا حسيب ولا رقيب، وأبسط مثال على ذلك أن مديرية الصحة في محافظة دمشق، وهي المسؤولة عن مراقبة الأسواق، لديها طبيبٌ بيطريٌّ واحد يقوم بالجولات على كل أسواق العاصمة دمشق، فهل يستطيع طبيبٌ واحدٌ أن يراقب كل الأسواق؟».

يضيف اللّحام: «أيضاً، انتشرت ظاهرةٌ عمّت كل الأسواق، وهي اللحم المجمّد المستورد، وهو أرخص سعراً من اللحم المحلي، ما دفع بعض المحال لخلطه مع اللحم الطازج وبيعه دون علم الزبائن، ولكن تحت أعين الرقابة التي لا تحرك ساكناً، ناهيك عن اللحم المفروم الذي يباع دون أن تعلم ماذا كان قبل فرمه».

تابعنا السير في السوق والحديث معه، لنسأله إذا كان هناك غشّ يمكن أن يطال الدجاج أسوةً بما يحصل في حالة اللحم الأحمر، فأجاب: «طبعاً هناك غش، حيث يقوم أصحاب المحال بحقن الدجاج أو أجزائه التي تباع منفصلةً بالماء، ما يتسبّب بزيادة وزنه دون أن يكشف ذلك أحد». يتابع الرجل الذي يُمضي معظم نهاره في السوق حديثه قائلاً: «لقد حذّرنا طوال السنوات الماضية من التجاوزات التي كانت وما زالت تحدث، ومن أننا سنصل إلى مثل هذه الأيام الصعبة، والتي سترتفع فيها الأسعار بهذا الشكل الجنوني، حيث يقوم معظم اللحامين بذبح الأغنام والعجول خارج المسالخ المرخصة في الطرقات وأمام المحال. السيء في الأمر أن الطمع دفعهم لذبح الإناث، وهو أمرٌ خطيرٌ لأنه سيؤثّر على المدى الطويل على تكاثر الأغنام والأبقار ويقلّص أعداد الثروة الحيوانية. كما يلجأ آخرون لذبح أغنام وعجول تعاني من الأمراض أو مُفارِقة للحياة وبيعها للناس، والأكثر سوءاً أن ذلك حدث ويحدث أمام أعين حكومة النظام وجهاتها الرقابية، ولكن من دون حساب، ويعود ذلك إلى تراخي وتورط دوريات التموين والصحة عبر تلقي رشاوى من اللّحامين».

الأخبار اليومية القادمة من هنا وهناك تؤكد ما قاله الرجل، حيث يكاد لا يمر يوم إلا ونسمع فيه هنا في دمشق عن عمليات ضبط للحومٍ فاسدة في محال ومستودعات منتشرة في المدينة وريفها. قبل فترة، انتشر خبر ضبط مستودعٍ في سوق الخضار بالقزازين في شارع بغداد يحوي أكثر من 5 أطنان من لحوم الأبقار النافقة. وفي تفاصيل الخبر أن صاحب المستودع لديه 5 محلات أخرى تبيع اللحمة في دمشق، منها محلان في باب سريجة، إضافةً إلى امتلاكه سوبر ماركت مقابل المستودع المضبوط حاول تهريب جزء من اللحوم إليه. وفي خبرٍ آخر، ضبطت مديرية الشؤون الصحية في محافظة دمشق أكثر من 20 طناً من لحوم الدجاج الفاسدة بمنشأةٍ في منطقة الميدان، مكونة من ثلاثة طوابق فضلاً عن قبو ومستودعات أرضية ذات مخابئ سرية، تُستخدم لفرم وتخزين لحم الدجاج الفاسد غير الصالح للاستهلاك البشري، وأن لحم الدجاج الذي تم ضبطه كان لونه متغيراً وعفناً ورائحته فاسدة ومعبأ بأكياس خيش كبيرة، وأخرى سوداء مجهزة للبيع في السوق، والبعض منها موضوع في برادات في المستودعات الأرضية التي يصعب الوصول إليها. وفي خبرٍ مماثل، تمّ ضبط مستودع في منطقة صحنايا بريف دمشق يستخدمه بعض الأشخاص لتجميع بقايا مخلفات الفروج لعدة أيام، ثم يقومون بطحنها وإضافة التوابل إليها لبيعها للزبائن على أنها سليمة.

الخبر الأصعب والأسوأ هو ما صرح به رئيس جمعية اللّحامين في دمشق إدمون قطيش، عندما قال: «إن الأسواق السورية تحتوي على لحم عجول برازيلية منتهية الصلاحية يتم تهريبها من لبنان»، وأوضح أن هذه اللحوم يتم استيرادها من البرازيل إلى لبنان مذبوحةً ومجمّدةً ولمدة صلاحية محددة بثلاثة أو أربعة أشهر فقط. وأضاف قطيش أن اللحوم المستوردة «يتم جمعها وسحبها من الأسواق اللبنانية قبل انتهاء مدة الصلاحية بـ20 يوماً، ثم يتم تجميعها وتهريبها للأسواق السورية». وعبّر قطيش عن صعوبة تمييز اللحوم البرازيلية الفاسدة عن اللحوم السورية بعد وضعها في واجهة المحال التجارية للتشابه الكبير بينهما. وضبطت دوريات الشؤون الصحية في محافظة دمشق، في تموز 2018، 50 طناً من لحم الجاموس المستورد منتهي الصلاحية في برادات شركة ألبان دمشق، ونفت حينها الشركة مسؤوليتها عن اللحوم، وقالت إنّها تقوم بتخزين جميع أنواع المواد الغذائية في البرادات الموجودة في الشركة، والتي يتم استثمارها من خلال السماح للقطاع الخاص بوضع مواد في تلك البرادات مقابل أجرة محددة يتم الاتفاق عليها لقاء التخزين.

وفي سياق سعيها لإيجاد «حلولٍ» في مواجهة ارتفاع الأسعار، عمدت حكومة النظام إلى بيع اللحم الأحمر ولحم الدجاج في صالات «المؤسسة السورية للتجارة»، لكن هذه اللحوم جاءت مفرومةً وجاهزةً ومغلفةً ومجهولة المصدر، ويبدو أن بعضها على الأقل فاسدٌ فعلاً. وهو ما ذكره عضو في جمعية اللّحامين، الذي أكد أنه «من المستحيل أن تبيع صالات السورية للتجارة نفس نوعية اللحوم التي نشتريها نحن من المسالخ النظامية بسعرٍ أقل من التسعيرة الرسمية». وأكد على «وجود غش حتمي وبمعرفة الجهات الرقابية في صالات السورية للتجارة التي تبيع اللحوم، وما يؤكد ذلك الضبوط التي نُظمت العام الماضي بعد شكاوى من اللّحامين، ليتبين وجود لحوم مُجمَّدَة مُهرَّبة تباع فيها، ولحوم مفرومة مسبقاً غير معروفة المكونات»، على حد قوله.

من جهته، أكد مدير حماية المستهلك في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام علي الخطيب لصحيفة «الوطن» المُقربة من النظام بأن المؤسسة السورية للتجارة تُعامَل معاملة التاجر من ناحية خضوعها للرقابة التموينية، مبيناً أن المديرية نظمت عدداً لا بأس به من ضبوط مخالفات بحق صالات «السورية للتجارة». وأشار إلى وجود «تراخٍ» في عمل بعض الموظفين في المؤسسة، الأمر الذي يؤدي إلى وجود مواد منتهية الصلاحية في صلاتها.

ويرجع البعض سبب الارتفاع في أسعار اللحوم إلى عمليات التهريب التي تتم إلى دول الجوار للحصول على القطع الأجنبي، ولتعويض خسائر المربين نتيجة قلة الطلب محلياً. فيما يرى البعض الآخر أن سبب ارتفاع أسعار اللحوم يعود إلى ارتفاع تكاليف النقل والتعليف الناجم عن انخفاض قيمة الليرة السورية، إضافةً إلى تحكّم تجار معينين بأسعار اللحوم دون قدرة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك على فرض سعر مقبول للّحوم في الأسواق المحلية.

خلال حديثنا مع اللّحامين في باب سريجة، حَذَّرَ بعضهم من انخفاض عدد اللّحامين في سوريا نتيجة عدم قدرتهم على دفع إيجارات محلاتهم وفواتيرهم، والمخالفات التي تنهال عليهم يومياً بسبب محاولتهم تعويض قلّة مبيعاتهم عبر بيع الأسماك المجمدة وأقراص الهمبرغر، ومواد غيرها ممّا يُحظَرُ على اللّحامين بيعه. ويبقى أن نشير في النهاية إلى أن الأرقام المتوافرة وحدها تشير بوضوح إلى ضآلة مقدار ما تستهلكه الأسرة السورية من اللحوم، حيث أن 1200 خروفاً و60 عجلاً يذبحون يومياً في دمشق فقط، علماً أن تعداد السكان أكثر من 3 ملايين على أقل تقدير.