تدور حول السيخ. تتسعُ اتساعاً لولبياً من الأسفل إلى الأعلى، وتدور كزوبعةٍ لا تكفّ عن العصف، شادهةً مَن عبَر، وآخِذةً من أقام، وماثِلةً في خيال من سَرَى، وقاتلةً من طالها ومن لم يطُلها بالحسرات، سيّان أقدمَ أو أدبر. تتالى فيها الشرائح كالطّوب الطريّ. يمرّ الساطور المسنون برويّةٍ على أجنابها المحترقة، فتشفّ بياضاً. ترتصّ بالزّند فتقطر زيتاً على جيدها لا يني يبلغ القاع مركوماً كبركةٍ من الوقود الذي يسعر إذا أدرك النار، ويشتطّ لهباً بارقاً على الهامات والنواصي. هذا هو الإغواء، الآتي تمامَه بالخبز المحروق، بالخبز الملطّخ بالثوم، الذي يتشرقطُ حالَ انغماسه بالزيت ومروره على الموقد. تدور حول السيخ، وسيّافُها معصوب الجبين كمحارب الساموراي، بالساطور والمبرد والهندام الأبيض، يتدّرب على حرّ جهنّم في نهارات الصيف القائظ. يُلقّنك درساً في الصبر، لكنك لا تصبر: عينٌ على الصاج، وأذنٌ مُشنَّفَةٌ إلى الصوت المنادي، وكيانٌ حائرٌ لا يتجرأ على الابتعاد متراً خشية الفوات.

جغرافيا الشاورما

يندر أن يجتمع السوريّون في مغترباتهم هذه الأيام دون الرجوع إلى مدنهم عبر استرجاع ذاكرة المكان والزمان (لن نقول الزمكان، نكايةً بواضع هذا المصطلح ومستخدميه). لكنّ هذه الذاكرة مُهدَّدةٌ على الدوام بالتلاشي بسبب زحام الحياة في البلدان الجديدة، والطاقة الذهنية اللازمة لإعادة التموقع والاستقرار واستيعاب الخرائط الجديدة. كثيرون يُشيرون إلى نسيانهم أسماء بعض الشوارع والزواريب في أوطانهم التي عاشوا فيها معظم أعمارهم، ويحتاج أحدنا، مثلاً، إلى التفكير لتَذكُّر وسائل المواصلات اللازمة للذهاب من ساحة الميسات إلى الدويلعة والطرق الواصلة بين هذين المكانين أو سواهما. المدينة تبهت وتتقلّص. لكنّ الذاكرة، رغم اضطرارها لحذف بعض الصور واللحظات، لا تستطيع شطب مشاهد تحفزّت معظم الحواس في تكوينها، كالرحلة الجماعية الدوريّة بعد منتصف الليل، من ضواحي دمشق إلى الصالحية، سيراً مخموراً على درب الجلجلة، واللهفةُ تطغى على الصبر، كُرمى لسندويشة شاورما غارقة بدبس الرمّان.

تسيّدت سندويشة الشاورما الأطعمة السريعة في المطبخ السوري. ولم تستطع الأكلات التي بدأت بالظهور والانتشار مطلع التسعينات في مطبخ الشارع؛ كسندويشات السكالوب والسوبريم، أن تخطف منها الأضواء. ظلّ نشاط الشاورما احتفائياً بعد كل سهرةٍ أو حدث، ولدى كل اجتماعٍ يتخلله السير على الأقدام. وأدى وجود الشغف المقترن بهذا النشاط إلى ترسيخ محلات الشاورما نقاطَ علّامٍ جغرافيةً تثبّت ملامح الشوارع والأحياء المحيطة بها، لتصبح بمثابة الأوتاد الراكزة لصورة المدينة المتلاشية في الأذهان. فإذا أبعدَنا العالم قسراً عن مدننا وأنسانا إياها، تعيدنا إليها محلات الشاورما والسجق وسلطات الفواكه، فلا حديث في المهجر يخلو من تذكّر البلاد، ولا ذكرى عن البلاد دون المطاعم والمقاهي: البلاد الممحوّة بالمدافع والبراميل، يُعاد رسمها عبر التوابل والبهارات. واللقمة الطيبة تحرسها من الانزلاق إلى العدم.

الطعام والحقائب 

الطعام حاملٌ ثقافيٌّ هامٌّ للحضارة. وعبر طرائق التحضير والصنع الدقيقة، يظهر نوعٌ من الابتكار في نوعية المكوّنات وغناها وتنوّعها وتمازجها وطرائق تقديمها. يتّسم المشهد الثقافي والحضاري اليوم، عموماً، بصفتين رئيستين ساهمتا في انتشار المأكولات الشعبية؛ أولاهما انتشار مفهوم الثقافة الشعبية المباشرة ومزاحمتها للثقافة الرسميّة المفرطة في رصانتها، وثانيهما الانفتاح المتزايد والانتشار العابر للحدود على ثقافات الشعوب الأخرى. في كثيرٍ من بلاد الغرب، التي لم تكن قبل خمسين عاماً على سبيل المثال منفتحةً على ثقافات الأكل المختلفة عنها، سادت أصناف «أجنبية» من الطعام: ففي بريطانيا، مثلاً، بات يُعتبر طبق «الكاري» ذو الأصول الهندية اليوم طبقاً «وطنياً» بريطانياً، إلى جانب طبق الـ Fish and Chips التقليدي. والشيء ذاته يمكن معاينته في بلدانٍ أخرى ذات مطابخ عريقة، مثل فرنسا أو إيطاليا، مثلاً، اللتين تشهدان تقبّلاً متسارعاً للتأثيرات المُحدثة لمطاعم السوشي الياباني أو مطاعم الأكل التايلندي وسواها.

من الممكن تتبّع ترافق هذه التأثيرات مع موجات الهجرة وانتقال المجموعات البشرية إلى مجتمعاتها الجديدة. ففي الولايات المتحدة الأميركية من السهل تتبّع انتشار وجبة البيتزا، مثلاً، مع موجات الهجرة الإيطالية في بداية القرن العشرين، أو تتبّع انتشار الطعام الصيني إلى مرحلة قدوم العمّال الصينيين للعمل في بناء وتشييد الخطوط الحديدية عبر البلاد. وهكذا أيضاً انتشرت الأطباق وثقافة الأكل اللبنانية في أوروبا مع منتصف سبعينيات القرن الماضي، مترافقةً مع موجة هجرة اللبنانيين الواسعة التي تسبّبت بها الحرب اللبنانية (1975 وما بعد)، وازداد حضور المطبخ السوري في بلدان المهجر في السنوات الأخيرة، مُتصدّراً الميدان بنجمه الجديد، أي سيخ الشاورما السوري. يمكن القول عامةً إن الطعام بذلك هو أداةٌ لإعادة خلق الهوية المفقودة، وإثبات الوجود في بلدانٍ يشقّ على المهاجر فيها التعبير عن نفسه. في ظل حملة القصف المكثفة على مدينة حلب، قال أحد الحلبيين إنه لم يحمل سوى قليلٍ من المتاع، لأنه قرر ألا يحمل سوى الخفيف والنفيس. الحقيبة التي حملت حياته برمّتها، كان فيها بعض الملابس والصور والبهارات.

البصمة السورية

باتت الشاورما طبقاً سورياً بامتياز. فهي، وإن كانت ذات أصولٍ تركيةٍ بدلالة الاسم، إلا أنها في أسلوب صناعتها وتقديمها باتت تشكّل درّة أكل الشارع السوري، وذلك عبر إقحام لحم الدجاج على صناعة الشاورما لتقريبها من شرائح مجتمعية أقل قدرةً مادية، وحقق ذلك انتشاراً أوسع لها بين جمهور الذوّاقة في سوريا وسواها.

وتظهر البصمة السورية في الشاورما عبر التقاليد المُستحدثة لتحضيرها وإعدادها وتقديمها: من طريقة إعداد السيخ ورصف لحم الدجاج أو الغنم (القطع الفاخرة والأكثر لحماً في أعلى السيخ، نزولاً إلى القطع الأقل في أسفله)؛ إلى طريقة تقشير رقائق اللحم المستوية على السيخ بغرض إنتاج عددٍ أكبر من السندويشات لزيادة الربح؛ إلى التقديم بسندويشةٍ ملفوفةٍ «تُلدَع» على السيخ قبل تقديمها، مع ملعقةٍ من كريمة الثوم وشريحة لحمٍ مُهداةٍ على قمّتها، أو كوجبة «عربي» تُقسّم فيها السندويشة إلى أجزاء متساوية مع «سرفيس» من المخلّلات وكريم الثوم.

هوان المسافات    

تُعًدّ تجربة تناول الشاورما عند الكثيرين أكثر من مجرّد تناول وجبة، إذ باتت طقساً اجتماعياً خاصاً. ولم يكن مُستغرَباً على أحدنا أن يسافر من مدينةٍ إلى أخرى في سوريا لتذوّق محل شاورما يُوصى به. وعن ذلك يقول خالد عبد الواحد، أحد الذوّاقة السوريين، في حديثٍ للجمهورية، إنه زار جميع محلات الشاورما في مقاطعة أونتاريو (تبلغ مساحتها 10 أضعاف مساحة سوريا) بغرض «انتقاء أفضلها للاستهلاك الدوري». ويبدو أن أصدقاء خالد الموجودين في إحدى المدن الكندية البعيدة كادوا يعجزون عن إقناعه بزيارتهم، إلا حين ذكروا له، عن طريق الصدفة، وجود محلٍّ للشاورما في مدينتهم. «مسافة الطريق وبكون عندكم»، أجابهم خالد من فوره.

يبدو خالد صارماً في تقييم مذاق الشاورما وتقاليد تقديمها، على اعتبار أنها «جزءٌ من التراث السوري لا مجال للتهاون حيال التلاعب به». وقد دفع ذلك بعض أصحاب المحلات الذين يعرفونه إلى الحذر من رأيه، والحرص على رفع معاييرهم. يرى خالد أن الشاورما قد تكون الأكلة السورية الوحيدة التي لا يمكن للمطابخ السورية المختلفة الجدال عليها كما هو الحال مع باقي الأكلات، فيقول: «قد نختلف على طريقة حشو الكبّة، أو تحضير ورق العنب أو المقلوبة، وهذه الطبخات عموماً يمكن لأيٍّ منا صناعتها في المنزل بالطريقة التي يريد. إلا أن الشاورما هي أكلة شارعٍ لا يمكن صناعتها في المنزل، ولا خلافَ جوهرياً عليها في كل المدن السورية: خبز وثوم ومخلل وشرائح لحم أو دجاج. حين تأكل سندويشة شاورما معمولة على الأصول في بلدان الشتات، تشعر أنك امتلكت شيئاً ضائعاً. اللقمة، دون مبالغة، تولّد أحاسيساً خاصةً تعيدني إلى سوريا، وهو شعورٌ لا أرى بأساً في قطع مسافاتٍ هائلةٍ للوصول إليه».

بشفاعة اللقمة الطيبة 

سامر مختار، صحفي سوري مقيم في مصر، كان قد كتب مقالاً بعنوان أن تأخذ حمّاماً دافئاً في منزلٍ هجرته، تحدث فيه عن أكلة الـ«شيش برك» والأحاسيس المرتبطة بها. قال سامر في حديثٍ للجمهورية إن «شعور السخرية الطاغي في بعض الأوساط السورية من فكرة الحنين والنوستالجيا للوطن كان قد منعني في بعض الأحيان من التعبير عن بعض المواضيع، حتى قرأت كتاب ذبابة في الحساء للشاعر الأمريكي تشارلز سيميك، الذي يتحدث فيه باستفاضة عن الطفولة وعلاقة الطعام بأبيه وأمه. بدا واضحاً لي آنذاك اقتران الطعام بالشعور بالأمان وارتباطه بالمكان والذاكرة». أشار سامر في مقاله إلى الأحاسيس العميقة المتولّدة عن الطعم والرائحة وأثرها، فبعد عودته إلى منزله المهجور في حي جوبر الذي يتعرض للقصف، يكتب: «فتحت مطرباناً فيه زيتونٌ غارقٌ بزيت الزيتون. شممتُ رائحته، فشعرتُ بقليلٍ من الأمان، والأمل ربما».

وأوضح مختار أن الطعام السوري انتشر كثيراً في مصر، وكان واحداً من جملة الأسباب (معظمها سياسية وتاريخية) التي أدت إلى خلق مناخٍ من القبول المجتمعي للسوريين مقارنةً ببلدان أخرى. مضيفاً أنه «رغم معاناة كثيرٍ من السوريين من الأوضاع القانونية التي لا تخولهم الحصول على اللجوء أو الإقامة الدائمة في مصر، إلا أن هناك شعوراً مجتمعياً عاماً بالتقدير لهم بسبب طعامهم النظيف والطيب، وشاورمتهم على وجه الخصوص».

خلطات المزاج الرائق

حسام وأسامة هروش شقيقان سوريان افتتحا مطعماً صغيراً في مدينة تورنتو الكندية اسمه «شيف هروش»، يقدّمان فيه سندويشات الشاورما والسجق والفلافل. كان لافتاً أن تكون نكهة الشاورما التي يقدمانها شبيهة بالتي كنا نتذوقها في سوريا، رغم غياب كثيرٍ من المواد الأولية والأدوات اللازمة لذلك. قال الشقيقان إنهما ورثا مصلحة العمل في اللحوم أباً عن جد، ويريان أن الطعام أداةٌ لإظهار البيئة، وأن جودته مرآةٌ لنمط الحياة الذي أنتجه بكل تفاصيله. فهما يقرنان بين شجرة النانرج في البيت الدمشقي الذي يصدح فيه صوت عبد الوهاب ومزاج جدّهما المتألّق آنذاك، وانعكاس ذلك بشكلٍ مباشرٍ على التوابل التي كان يحضّرها. أرانا حسام وصفاتٍ مكتوبة بخط اليد ورثها عن جدّه للبهارات المستخدمة في كافة أنواع اللحوم، كالشاورما والسجق والشيش والكباب. يرى حسام أن الطعام هو «أحد أهم مقومات التراث لأي حضارة»، ويدفعه هذا إلى الحرص على كافة التفاصيل الضرورية للحفاظ على المذاق الأصيل، لكنه لا يبدو متحجراً إزاء المبادرة في الإضافة والتعديل إن لم يؤثر هذا على الجوهر، لأن «الثابت مصيره الموت في هذه الحياة المتغيّرة، ومن لا يتحلّى بالديناميكية سينقرض»، بحسب وصفه.

يشير حسام إلى إن الهدف الأساسي من عمله هو تأمين الدخل بالتأكيد، لكن الربح المادي ليس الغاية الوحيدة في ذلك، فهدفه الأسمى هو «صون المذاق الأصيل واستخدامه كلغةٍ للتواصل مع الآخر». ويقول إنه يرحب بأيّ نوعٍ من المنافسة، وجاهزٌ لمساعدة أي لاجئٍ يحاول بدء مشروعه الخاص، فالمنافسة، بحسب قوله «تزيد من جودة المنتج، على عكس الاحتكار الذي يؤدي إلى الإضرار به». مضيفاً أن الطعام هو وسيلة لجمع الناس في ظل سياسات التفريق والاستقطاب، فهو بالتالي «أداة مقاومةٍ في وجه الكراهية».

يتحلّى الشقيقان بحسٍّ فكاهيٍّ كبير. هما مَرِحان ومُنطلقان في الحديث من أي نقطةٍ بَدَأ. وحين يتحدث أسامة يولّد لديك شعوراً بأنه «يعطيك من الآخر». عندما سألناه عن الجدل الدائر حول هوية الفلافل، إن كانت فلسطينية أم سورية، رَدَّ بدبلوماسية حازمة لا تخلو من المزاح: «هي كلياتها سوريا الكبرى أخي».