لطالما وجدتُني أطالبُ نفسي برفع آليات المرونة لدي، كي أستطيع أن أتجاوز قدراً لا بأس به من العنف الذي أعيشه كامرأة وكمُهجَّرَة من بلادي. وكثيراً ما لمتُ نفسي لعدم قدرتي على ذلك، فالألم الذي نعايشه كنساء ومُهجَّرات يمنعنا من الاستمرار كما تطالبنا دول اللجوء ومجتمعاتنا الأبوية. نعجز عن تجاوز آلامنا ونجدنا حجرة عثرة في وجه عجلة عنيفة تستمر في طحننا. وفي أعقاب ما نراه من عنفٍ يطال النساء، يطالب المجتمع الضحايا باستجابةٍ مرنةٍ لتجاوز العنف. يُحمّلنا المجتمع مسؤولية النهوض والمتابعة فيما يستمر الضرر بالحصول، وفيما يستمر القتلة بتوحّشهم. وفي موقعٍ آخر، بعد فترة الحجر الصحي بسبب كورونا، ومع كل الضغط النفسي بسبب العزلة الاجتماعية، إضافةً للضغط المادي الناتج عن خسارة كثيرين لوظائفهم وعجزهم عن تأمين قوت يومهم، تطالب الحكومة الأفراد بتحمل العبء، وتدفعهم للاستجابة بمرونة والعمل لتجاوز الضرر الناتج عن هذه الأزمة، والذي تعجز الحكومات ذاتها عن تحمله. لذا دفعني ذلك للبحث عن مفهوم المرونة، حتى وقعتُ على كتاب بين المرونة والكآبة: موسيقى البوب، النسوية، والليبرالية الجديدة،Resilience & Melancholy: Pop Music, Feminism, Neoliberalism. للكاتبة روبين جيمسRobin James.. وقد ساهمَ هذا الكتاب في جعلي أدركُ كيفية دفعنا للاستمرار ضمن منظومة مسمومة، من خلال خطابٍ يدّعي ضرورة عملنا لتطويع ذاتنا وتعزيز مرونتنا.
من خلال دراسة موسيقا البوب ومفاهيم الموسيقى في القرن الحادي والعشرين، تُبيّنُ روبين جيمس كيفية ارتباط هذه الثقافة بتعزيز خطاب التفوق الأبيض والنظام الأبوي الرأسمالي. والكاتبة هي أستاذة في الفلسفة وعلم الموسيقى في جامعة شمال كاليفورنيا، وهي مؤلفة لعددٍ من الكتب حول موسيقا البوب والنِسوية والفلسفة الاجتماعية والسياسية.
في كتابها هذا، تُعرِّفُ روبين جيمس المرونة ضمن أخلاقيات الليبرالية الجديدة، فترى أنه، ضمن آليات الإدارة، يسعى النظام لإخضاع وتغطية الضرر، كوسيلة أكثر كفاءة للإدارة الاجتماعية والاقتصادية. فبدلاً من العمل على تركيز الموارد لتجنّب الضرر، يعمل خطاب المرونة على تدوير الضرر ليصبح مصدراً من هذه الموارد. وهي تتابع أنه ضمن منطق خطاب المرونة، فإن الضرر يقع ويصبح جلياً، وبعد ذلك يتم تجاوز هذا الضرر. تسلط السلطةُ الضوءَ على الفرد الذي يُكافَأ أو يتم تعويضه على إمكانيته التغلب على آثار الضرر عليه، لأن ذلك في النهاية يساهم في رفع مرونة المجتمع.

توضح جيمس أن خطاب المرونة هو تقنية للاستثمار في الحياة، حيث الإنسان هو رأس المال. علاوة على ذلك، تستخدم مفهوم ميشيل فوكو عن Biopolitics أو السلطة البيوسياسية، الذي يتحدث عن هيمنة السلطة من خلال الاستثمار في حق الحياة والجسد والصحة وتلبية الاحتياجات الأساسية؛ ترى السلطةُ الأفرادَ كجزءٍ من التعداد السكاني، وتكافئهم على حفاظهم على حياتهم التي تساهم في استمرار المجتمع. بحسب فوكو، لم تعد السلطة ممثلةً بالسيد تقتصر على الحق بالقتل والمصادرة والمنع، وهو يشير إلى أن الغرب قد مرّ، منذ القرن السابع عشر، بتحولٍ عميقٍ للغاية، فقد استُبدلت السلطة السيادية العنيفة، شيئاً فشيئاً، بنمط السلطة الجديد الذي يسميه ميكانيزمات السلطة. وفي حالة السلطة البيوسياسية، لم تعد المسألة عبارة عن توظيفٍ للموت في حقل السيادة، وإنما توزيع للحياة على الأحياء في نطاق القيمة والمنفعة. إن مهمة السلطة هي إدارة الحياة وتولي أمرها، وهي المهمة التي تتطلب ميكانيزماتٍ تنظيمية وتصحيحية لا منتهية. إن منطق البيوسلطة أو السلطة البيوسياسية ليس الاقتطاع وإنما الانتاج، فهي «تمارس تأثيراً موجباً على الحياة، إذ تسعى لإدارتها وتحسينها وإنمائها».
بناءً على ذلك، يُكافِئ نظام الليبرالية الجديدة مَن يختار نمط حياةٍ يساهم في تثبيت سلطة المؤسسات، كالرأسمالية والعائلة البطريركية والتفوق العرقي الأبيض. فضمن نظام الليبرالية الجديدة، بحسب جودي دين، تصبح الأسواق مسرحاً للحقيقة، حيث يُقدّر كل شيء (بما في ذلك علم النفس، الفن، المجتمع وإلى ما هنالك) بحسب قيمته في السوق، وبذلك يصبح منطق السوق هو الأداة التي تحدد، مثلاً، إن كان المجتمع صحياً أم لا. وهذه القيمة تُحَدَّد كمياً حتى يتم تبيانها إحصائياً. وكما تمتلك السلطة تقرير حق الحياة، فهي تمتلك تقرير مصير الموت، وبين الحالتين يأتي خطاب المرونة لمحاولة البقاء على قيد الحياة، كخطٍّ فاصلٍ بين هؤلاء وبين من يجب التضحية بهم لضمان استمرار المجتمع.
بالنظر لما سبق، ترى جيمس كباحثة في علم الموسيقى أن بعضاً من موسيقى البوب يستثمر في الموت كرفضٍ للمنظومة وكرفضٍ لخطاب المرونة. ولكن ماذا يحدث إن لم تمت كما أرادتْ لك السلطةُ الـتي قررت عدم فاعليتك في دفع عجلة نظام الليبرالية الجديدة؟ بهذا تتسأل جيمس: هل الكآبة هي تقنيةٌ في الاستثمار في الموت وفي تعزيزه؟
تدرس جيمس نموذج ليدي غاغا وبيونسيه في أغنية Telephone، واللتين تدركان أثر التحديق (ما يعرف بنظرية التحديق male gaze بحسب مفهوم لورا مولفي المطروح في مقالها المتعة البصرية والسينما الروائية)، الذي يجعل من المرأة موضوعاً لرغبة الرجل. عملت مولفي على تحليل السينما التي تنتجها هوليود، والتي تتلاعب بالمتع المرئية. في المشهد السينمائي، يُقدَّمُ المنظور بطريقة تحقق متعة الرجل وترضي رغباته وخيالاته من خلال تشييء النساء، وبالتالي تكريس المفاهيم الأبوية.
بالعودة إلى الأغنية، تظهر بيونسيه وغاغا محاطتين برجالٍ يعمدون إلى إخضاعهنّ لسطوتهم ورغبتهم الجنسية، وتأتي استجابتهنّ بإعلان وعيهنّ بهذا الأذى، واستمرارهنّ بالصمود أمامه. لا يُحاكِمُ الفيديو المنظومة التي تحدد مكانة المرأة موضوعاً للرغبة، بل يطالبها باستجابةٍ مرنةٍ لتجاوز الألم والعبء الناتج عنه، والذي يُلحقه بها النظام البطريركي الرأسمالي. تعطي غاغا نموذجاً للمرأة البيضاء، التي تُروِّجُ لتقنيات تعزز منظومة الليبرالية الجديدة وسيطرة النخبة التي تمتلك مرونةً لتجاوز الضرر.
تُشعِرُ المنظومة النساء بأن أجسادهنّ عبءٌ عليهنّ، وكأنّ جسد المرأة محكومٌ بالهشاشة والتصدّع. فالنساء في حملة Dove (شركة منتجات العناية بالبشرة في حملتها الإعلانية) يدركنَ الضرر الواقع عليهن بسبب أجسادهنّ التي لا تقع ضمن مقاييس المنظومة. بعدها يشهرن ما يتعرضنَ له من أذى، ليُعلِنَّ قبولهنَّ لأجسادهنّ ضمن خطاب المرونة والاستمرار رغم الألم. خطاب صورة الجسد (Body image)، الذي يدعو النساء لتقبل ذواتهنّ، يؤكد على أن هؤلاء النساء مستثنيات من معايير المنظومة، ويدعوهنّ لتقبّل الألم والاستمرار ضمن هذا الـ«system» العقيم. يوظف نظام الليبرالية الجديدة محاولات النجاة كاستثمارٍ لاستمراره، وبحسب كاثرين روتنبرغ، فإن ما بعد النسوية، وحركات مثل Me too، والحراك النِسوي الليبرالي الذي يسعى لتمكين المرأة، يركز جهده على النساء من الطبقة الوسطى والطبقات العليا، متجاهلاً شريحة كبيرة من النساء. كما أنَّ هذا الحراك يتغاضى عن أهمية التغيير الثقافي والاقتصادي. ومع صعود الحركة النِسوية النيوليبرالية، التي تشجع النساء على التركيز على أنفسهنّ وتطلعاتهنّ الخاصة، يمكن بسهولة تعميم النِسوية وبيعها في السوق، فنجد أنفسنا نشتري قميصاً طُبع عليه عبارة girls power ونحتفل بحراك LGBT عبر شراء الأكياس الملونة بقوس قزح.
تعطي جيمس مثالاً آخراً عن المرونة في حالة استجابة أنجلينا جولي تجاه مرض والدتها بسرطان الثدي، فأنجلينا حصلت على ضجة إعلامية كبيرة عندما أعلنت استئصال ثدييها في حركة استباقية لمرض السرطان الذي تعرضت له والدتها. هذه الحملة ترصد جسد المرأة في لحظة الهشاشة وكأنه واقعٌ يحكم وجودها، تجعل من استجابة أنجلينا كرمزٍ لتحدّي هذا الواقع. لكن تُسقِطُ الحملة من الحسبان قدرة جولي المالية التي تسمح لها باستجابةٍ مرنة، وتتجاهل كون التأمين في القطاع الصحي في نظام الليبرالية الجديدة غير متاحٍ لنسبةٍ كبيرة من النساء غير القادرات على تحمل تكاليف علاجهنّ.
إذاً، وفي سياق مفهوم التحديق الذي يضع الرجل كذاتٍ عليا، ويجعل من المرأة موضوعاً وأداةً للذة، تصبح أجساد النساء مصدراً للعطب، وتخضع لقوانين اللذّة الذكورية، ويصبح عليهنّ، إن أردنَ الاستمرار، أن يُعلِنَّ تعايشهنّ مع أجسادهن إن لم تكن ضمن مقاييس اللذة الذكورية؛ هذا التعايش برغم الألم والعطب هو من تقنيات خطاب المرونة.
تتابع جيمس تحليل خطاب الليبرالية الجديدة الذي يعمل على التطبيع مع البطريركية والتفوق العرقي الأبيض ضمن نظامٍ يدّعي تعدد الثقافات، حيث تُبيّنُ أنه من الأفضل ضمّ بعضٍ ممن ينتمون إلى أقلياتٍ مهمّشة للتأكيد على تفوق النخبة المسيطرة. لذا نجد مزيداً من الرجال والنساء السود ينضمون للنخبة، ويساهمون في تدمير أخواتهم وإخوتهم الضعفاء والمُهمّشين العاجزين عن النجاة في منظومة التنافس والعنف والقوة. ومن استراتيجيات الليبرالية الجديدة والمنظومة الذكورية المحكومة بالتفوق العرقي الأبيض، إقناع النخبة بأنها تقدمية ومتنوّرة مقارنةً بالرجال السود والمسلمين المُتهَمين بالتسبب بالضرر.
إنْ كانت النساء ممن يساهمنَ في إنتاج الحياة، فهل النساء الجيدات المرنات نفسياً يسهمن في إنتاج التفوق العرقي الأبيض؟ بالمقابل، هل النساء السيئات الكئيبات يستثمرنَ في الموت؟
توضح جيمس بأن النساء السود كُنَّ دائماً ضحية التنميط الذي يصفهن بصعوبة المراس وبكونهنّ ذوات صوتٍ مرتفع، وفي المقابل تأخذ الهشاشة أفضليةً تتم نسبتها للنساء البيض. حالياً تم استبدال مفهوم الهشاشة بخطاب المرونة، الذي يميز بين النساء السود والمسلمات غير القادرات على تجاوز الضرر، وأولئك اللواتي ينجحنَ في ذلك ويتمُّ ضمّهنَّ إلى المنظومة التي تستمر في إنتاج الضرر.

ترى جيمس في طريقة تعامل ريهانا حيال قضية العنف التي اختبرتها في علاقتها مع كريس براون، نموذجاً لكآبة لم تستخدم فيها الرجال السود ككبش فداء، بل صمتاً تجاه عنف منظومة تستهلك النساء والرجال في آن. لم تقم ريهانا باستغلال الضجة الإعلامية للإساءة للرجل الأسود، بل أبدت حزناً يفضح المنظومة التي تجعل من تجاوز الألم أمراً مستحيلاً. وبحسب فرويد فإن العزاء هو شكلٌ من أشكال قبول الموت لمتابعة الحياة، بينما يأتي الاكتئاب والحزن كفشلٍ في قبول الموت والانتصار للحياة. يأتي خطاب المرونة كمُعادِلٍ لمفهوم العزاء النفسي، فبدلاً من منع الضرر يتم إعادة تدويره، ويصبح الاكتئاب فشلاً في الوصول إلى حالة من المرونة تسمح بالاستمرار بالحياة أو الموت.
من المهم التأكيد على أنّ مفهوم المرونة النفسية، الذي هو آلية تساهم في مساعدة البشر على تجاوز الصدمة، ليس المقصود ضمن هذه الدراسة، بل إن التركيز هنا قائمٌ على تحليل الخطاب كأداة للسيطرة. وفقاً لرؤية جيمس، فإنّ استمرارنا في رفض قبول العنف الواقع علينا، بسبب ثقافة الاغتصاب ومقاييس الجسد ومطالبتنا بالتعامل مع ذواتنا وأجسادنا كزجاجٍ قابلٍ للكسر، هو من آليات كبح منظومة العنف، لذا يبدو الاكتئاب كصخرةٍ تمنع استمرار عجلة هذا النظام، الذي إن لم نمت يُجبرنا على احتمال الأذى.