هل ينجو السوريون من قبضة الألم وجنون الرعب عندما يعبرون هذه القارّات الواسعة؟ هل يمكن للحرب أن تتسرّب عبر كوابيس الليل والنهار لتسقي الرعب المزروع في الجسم والذهن؟ هل يمكن أن نتعافى من الماضي كما يتعافى الجلد من الحرق؟
شهم السالم مثلاً، عندما استيقظَ من غيبوبته، وجد نفسه ممدداً على فراشٍ أبيض والأطباء يتجولون حوله برداءٍ طبي. نهض من مكانه وتتبّع اللافتات المكتوبة بالألمانية ليدرك أنه في مشفى الاضطرابات النفسية. راح يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا، تشغله الأفكار وتحتل ذهنه بلا توقف متّبعةً النسق نفسه. هل يُعقل أن يحتمل جسده القصف والصواريخ ورحلة البحر ثم ينتهي به المطاف في مشفى للأمراض العقلية؟ هل خانته صلابته وقوته؟
قبل أشهر، كان شهم قد بدأ يشعر أنه ليس على ما يرام. جلساته مع نفسه صارت تطول، تستمر لساعات. تلك الرفاهية لم تتسن له طيلة المرحلة السابقة؛ رفاهية الخلوة التي أرغمته على البقاء مع ذاته وجسده، وجهًا لوجه. ليس هناك الكثير ليلقّمه لحواسه في غرفته الصغيرة في القرية المعزولة شرق ألمانيا. كانت الغرفة مجهزةً بأربعة أو خمسة أشياء صمّاء، وهو لا يكفّ عن التنقل بضجرٍ بينها. ذكرياته في الرقّة، وأيامه في تركيا، ورحلته على طريق اللجوء، تستيقظ كلها في عقله كجيوشٍ من القوارض وتدبّ فيها الحياة. عندما يفتح صنبور المياه، يشعر بالطائرات المقاتلة تحوم حول رأسه. عندما يشرب قهوته، يدوي صوت الانفجارات في أذنيه. يسدّهما بيديه، فيعلو الصوت أكثر. يهرب منه، فيُلاحقه.
يومًا بعد يوم، راح الألم يغزو جسد شهم وعقله، يجتاحهما بطريقةٍ وحشيةٍ كأنه يلتهمهما حتى يَسودَهما. كان يراقب الألم ويحاول أن يتعامل معه، إلى أن خرج الوحش عن السيطرة. بعد محاولات شفاء لم يُكتَب لها النجاح، شعر شهم بأن عليه أن يتخلص من اكتئابه ومن ذاته التي أصبحت عبئًا عليه. تأمل في المرآة قسماته شديدة الصلابة والرجولة، ثم بدأت صورة ذاته تهلّ أمامه: شبحية، معتمة، مُمتقعة. كان كلّ شيءٍ في داخله متيبّسًا متجمّدًا. إلى أيّ حدٍّ يمكن له أن يقبع داخل هذه الذات الموحشة؟ أغمض عينيه وفتنته فكرة الانطفاء رويدًا رويدًا. حَضَّرَ كميةً من مادة «السيانيد» السامّة. تناول موته بقبضة يده، واعترته رجفةٌ باردة. سيتناول «السيانيد» ويستريح. يستريح ماضيه وحاضره في نهاية الأزمنة.
قبل أن تفتك المادة بجسمه تمّ إسعافه، ثم تحويله إلى مشفى الصحة النفسية في ولاية ساكسونيا. يقول شهم:
«استيقظتُ لأجد نفسي في المشفى، لم يحتمل جسدي فكرة أني مريض نفسيًا. بدأت عصبيتي تزداد. كنتُ أضغط على زر الطوارئ الأحمر في الغرفة. ثم أقضي الوقت مع الطبيب المناوب، أفتح معه مختلف المواضيع لأثبت له أنني سليم العقل وأن رجاحتي العقلية في أحسن صورها، لا بل ولديَ اطلاعٌ في علم النفس. اكتشفت أن لغتي الألمانية أفضل مما كنت أعتقد، لكن تم تشخيصي باضطراب ما بعد الصدمة PTSD».

التراوما بالأرقام
في محاولته للتخلص من ذاته لم يكن شهم وحيدًا. إذ ينتحر العديد من اللاجئين المصابين باضطراب ما بعد الصدمة. وفقًا للغرفة الاتحادية للمعالجين النفسيين في ألمانيا، فإن نسبة 40 بالمئة منهم لديها خطط للانتحار أو حاولت الانتحار. لكن لا تتوفر حتى الآن بيانات دقيقة حول أعداد اللاجئين الذين يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة في ألمانيا، ولا بيانات تدلّ على حاجتهم إلى العلاج، وهو ما انتقدته شبكة الرعاية النفسية والاجتماعية للاجئين وضحايا التعذيب (BAfF) في تقريرها الأخير.
ومع ذلك، تتوفّر أرقامٌ عامة تدلّ على الواقع. فقد اعتمد تقريرٌ صادر في العام 2018 أرقاماً استقاها عبر الاستطلاع، تفيد بأن حوالي نصف اللاجئين إلى ألمانيا من سوريا والعراق وأفغانستان يعانون من صدماتٍ نفسية، وأن نصف هؤلاء بحاجة إلى مساعدةٍ علاجية. وأشارت دراسة أجراها باحثون من جامعة لايبتزغ أن نسبةً تقارب 50 بالمئة من اللاجئين الذين شملهم الاستطلاع تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة. وخلصت دراسةٌ أجرتها جامعة إيرلانغن، على عينة من 200 لاجئ سوري حاصل على حق الإقامة، أن واحداً من بين كل ثلاثة منهم يعاني من صدمة نفسية.

في حديثه إلى الجمهورية، يشرح الطبيب والاختصاصي النفسي مهيار الخشروم أن الحصول على أرقام دقيقة في حالات اضطراب ما بعد الصدمة هو أمرٌ شديد الصعوبة، لأن التراوما تتوارى ولو ظهرت. لذلك، يتوقع الخشروم أن الأرقام الحقيقية تتجاوز بكثير تلك التي تتوصّل إليها الدراسات والأبحاث.
ردّ فعل طبيعي على حدث غير طبيعي
تعود جذور مصطلح تراوما إلى اليونانية القديمة، وتعني: الجرح. والجرح النفسي، على عكس جروح الجسد، ليس مرئياً. لا يتمدد صاحبه على فراشٍ أبيض. لا تتوزع حوله الورود الملونة، ولا يحيط به العطف.
تؤدي الكثير من الصدمات إلى اضطرابات ما بعد الصدمة، وكثيرًا ما تكشف الصدمة عن وجهها بطريقةٍ لم تكن في الحسبان؛ ألمٌ في الأسنان، كوابيسٌ في الليل، نوبات ذعر. ويكون مقدّرًا لهذا الانكشاف أن يترك ندبةً غائرةً في روح الفرد؛ ندبةً تشتعل وتهدأ تباعاً على امتداد الوقت، تصاحبها رغبةٌ في إبقائها سرّية؛ رغبةٌ ملحّة، مستحيلة الترويض، وأحيانًا قاتلة.

بعد الأزمنة العصيبة التي قضاها غالبية السوريين تحت القصف والحصار وفي السجون، أو خلال رحلة اللجوء، كان من المتوقع لوصولهم إلى برّ النجاة أخيرًا أن يتركهم لينعموا بنجاتهم. لكنّ النجاة كانت بالنسبة إلى كثيرين نجاةً من المكان الذي شهد ويشهد تشكّل «التراومات»، لا من الألم. لم تكن النجاة كاملة. فاللاجئ يحمل معه إلى بلد اللجوء حقيبته والندبات التي راكمها قبل الوصول. اللاجئة تصل إلى برٍّ لا تعرف لغة سكانه، وعليها أن تتكيف مع جملة من التغييرات دفعة واحدة: صندوق البريد، الطقس الذي يتغير في اليوم الواحد عدّة مرات، ومعارك تأسيس حياةٍ من الصفر. يخوض اللاجئ هذه المعارك بينما قصته لا تزال تنبض في جسمه والأجسام الحبيبة، إن بقيت هناك أو أتت معه.
تُعرِّفُ رابطة الجمعيات العلمية الطبية الاختصاصية في ألمانيا اضطراب ما بعد الصدمة بأنه رد فعلٍ لاحقٍ مُحتمل على معايشة حدثٍ مؤلم. عند حدوث صدمة تفوق قدرة الجسد وآليات العقل على التعامل معها، يقوم العقل بتجاهلها ونسيانها وتأجيل التعامل معها، ليغرق الحدث في ذاكرةٍ خاصة مختلفة عن ذاكرة الحياة اليومية. بعض الصدمات تبقى عميقةً في الجسد ولا تترك أثرًا على حياة المصاب، وبعضها يخرج كل فترةٍ وأخرى، ليبعثر قطع حياة المصاب، التي ظنّ أنها مرتبة، ويقلب حياته. فاقَ الحدثُ قدرة الإنسان على التعامل معه ولم يستطع العقل أن يهضمه، فبقي حيّاً فيه يجاور حاضره ولا يذوب في الذكرى. يشرح الباحثون اضطراب ما بعد الصدمة على أنه رد فعل طبيعي على حدثٍ غير طبيعي.
رغم أنّ سبب الصدمة يتوارى في اللاوعي، تكفي أحيانًا صورة، لمسة أو رائحة، لتفعيل الصدمة كما لو أنّ الحدث يقع الآن. هنا تقفز مشاهد الماضي إلى ساحة الوعي على شكل صورٍ أو أعراضٍ جسديةٍ وحسيّة تسمى الفلاش باكس Flash-Backs، أي الومضات من الماضي، ويروح الحدث الصادم يعيد نفسه في عقل المصاب على شكل فيلمٍ شديد الحضور والقوة، حتى يبدو وكأنه يحدث مجدّدًا فعلًا.لشرح طريقة تعامل العقل مع الحدث الصادم، يستخدم المختصون تشبيه خزانة الملابس. عند حصول موقف يفوق قدرة العقل على التعامل معه، يُكدِّسُ العقل الذكريات على عجلة في الخزانة بشكل عشوائي ويقفل عليها الباب. لكن، إذا تمّ لمس الباب (المنبه)، سرعان ما ينفتح وتسقط قطعٌ من الملابس (ارتجاع) على رأس صاحبها. هنا يحاول العقل أن يغلق الخزانة بأقصى سرعةٍ وينهي المسألة، لكنّ الذكريات ما زالت تعج بالفوضى، وخطرُ أن ينفتح الباب مجددًا قائمٌ في كل لحظة.
علاج الصدمة يتمحور حول إخراج قطع الملابس من الخزانة، واحدةً تلو الأخرى وببطء، النظر إليها بعناية، والاعتراف بحجم الألم الذي تسببت به، ثم طيها بدقة وإعادة وضعها بشكلٍ مرتب. بهذه الطريقة، يُستدعى الحدث الصادم من اللاوعي، ويتم ترتيبه في الوعي. فلا يكون علاج الصدمة كالشفاء من المرض، وإنما هو تصالحٌ مع ما حدث. الذكريات لن تُمحَى من الذاكرة، لكنها ستكون مرتّبة، ولن تسقط بشكلٍ مفاجئٍ على رأس صاحبها.

الاندماج والصدمة لا يلتقيان
يشرح د. الخشروم أنّ اضطراب ما بعد الصدمة يفاجئ الفرد في فترات الراحة والاستقرار، ولا يظهر عادةً إلا مع تراخٍ في الزمن ومرور الوقت على الصدمة، ما يفسر الزيادة الكبيرة في الطلب على مراكز الدعم النفسي للاجئين بعد مرور فترةٍ على وصولهم إلى البلد المضيف.
وهو ما تؤكده يسيم إريم، رئيسة قسم العلاج النفسي في جامعة إيرلانغن، والتي قادت دراسةً حول الصحة النفسية للاجئين السوريين في ألمانيا. بالاستناد إلى بحثها، توضح إريم أن «المهاجرين، بشكلٍ عام، يركزون أولاً على الاندماج في الدولة الجديدة. المشاكل النفسية لا تبدأ بالظهور إلا بعد مرور بعض الوقت». وهو ما لاحَظتهُ أيضاً مديرة شبكة اللاجئين المصابين بصدماتٍ نفسية كارين لوس، التي لفتت النظر في مقابلةٍ لها مع «migazin» إلى أنّ اللاجئين لا يتوجهون لطلب الدعم عندما تفاجئهم أعراض الصدمة، ولا يتفاعلون معها بشكلٍ مباشر. تقول: «اللاجئ يعتقد بأنه بالتأكيد سيتحسن عندما يجد سكنًا. ثم يظن أن الحلّ في إيجاد عمل، ثم، ثم… لكن للأسف، لا الفرد يتحسن ولا هذا الانتظار والجهد يتعاملان مع المشكلة بحيث يستدعيان التحسّن». الأمر الذي توضحه الأرقام التي وفّرها التقرير السنوي للشبكة، حيث أن أعداد اللاجئين الطالبين للدعم النفسي لا تتناقص مع انخفاض أعداد طالبي اللجوء، وإنما تتضاعف. استقبلت مراكز الشبكة في العام 2018 أكثر من ضعفي عدد طالبي العلاج الذين استقبلتهم في العام 2016.
قبل أن تؤسس كارين لوس شبكة اللاجئين المصابين بالصدمات سنة 2007، كانت قد عملت في وظيفتها في مجلس ولاية ساكسونيا السفلى للاجئين على مشروع لدراسة الحالة الصحية للاجئين، وخلال عملها هذا سرعان ما أصبح واضحًا لها أن أكبر مشكلةٍ تواجه اللاجئين هي صعوبة الوصول إلى الدعم النفسي.
مقارنةً بتقدّم الأبحاث الدقيقة والمستمرة حول اندماج اللاجئين وسرعة تعلّمهم اللغة، ما زالت الدراسات والأبحاث حول صحتهم النفسية متواضعة وغير كافية لتوصيف الواقع، وبالتالي المباشرة بالتعامل معه. تسعى الحكومة جاهدةً لإنجاح الاندماج، إلا أنها تُغفل في محاولاتها هذه تأمين التربة النفسية الخصبة لذلك. من هنا، انتقد البيان الذي نشرته الأكاديمية الوطنية ليوبولدينا وأكاديمية برلين-براندنبورغ للعلوم في مطلع نيسان (أبريل) 2018 تَأخُّرَ الحكومة في تقديم المساعدة النفسية للاجئين، وأوصى بأن يتم الإسراع بتقديم الدعم بأسرع ما يمكن، كما أوصى بمنح اللاجئين معاينةً متخصصةً فور تسجيلهم في البلدية من أجل تحديد الحاجة المحتملة للعلاج والإسراع في تقديمه. فالمصابون بالصدمة يجدون صعوبةً في الوثوق بالآخرين، ويعانون مشاكل في التركيز ويميلون إلى الوحدة والانعزال. وبالتالي، فإن المقومات الرئيسية للاندماج غير متوفرة، ما يذهب بعروض الاندماج أدراج الرياح، لأنها لا تجد لها أرضًا. بالمقابل، ذَكَّرَ بيان الأكاديميتين بأن التدخلات العلاجية يمكنها أن تحدث فرقًا كبيرًا، وأن الصدمات يمكن أن تشفى.
ولعلّ أبرز ما لفت إليه بيان الأكاديميتين هو أن التركيز على الاندماج مع تجاهل العلاج النفسي ليس أمرًا غير مجد وهدراً للأموال الحكومية فحسب، بل يعتمد مقاربةً تزيد الطين بلّة: فمحاولة الناجي الاندماج والتعلّم، ثم فشله فيها، يضعانه تحت ضغوطٍ إضافية، ما يعمّق المعاناة النفسية ويجذّر الإحساس بالغربة عن الحاضر، وهو إحساسٌ تمليه الصدمة.
والصدمة إذا بقيت بلا علاج، تعبّر عن نفسها على شكل أوجاعٍ جسدية وآلامٍ مستمرة، ما يؤدي بالفرد لأن يصبح أقرب إلى ما أسماه البيان بـ «مرضى الباب الدوار» (Drehtürpatienten)، أي المرضى الدائمين. ما يثقل الكلفة على نظام الرعاية الصحية: وبالتالي، ما تقتصده الحكومة من تكاليف العلاج النفسي على المدى القصير، ستسدد فاتورته أضعافًا على المدى البعيد. إن الاندماج والصدمة لا يلتقيان.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الصدمة لا تتوقف عند الجيل الذي تعرض مباشرةً لها، بل يستمر الأثر بأشكالٍ مختلفة على الأولاد. فقد أكّدت دراساتٌ كثيرةٌ في علم النفس، كالدراسة التي أنجزها معهد ماكس بلانك، أن الصدمات يمكن أن تُورَّث جينيًا من جيلٍ إلى جيل، كونها تنطبع في خلايانا.
عوائق على درب الخروج من الصدمة
يُعاني اللاجئون من اضطراب ما بعد الصدمة بمعدلٍ يتجاوز تسعة أضعاف معدله لدى سكان البلد المُضيف (3.4 بالمئة)، لكنّ طريقهم إلى كرسي المُعالِج النفسي أطول بأضعاف. ومع أن الدولة الألمانية تكفل وصول اللاجئ إلى النظام الصحي، تبقى عوائق كثيرة أخرى ماثلةً على الطريق.
اللغة مثلاً تقف في بلد اللجوء «بوّابًا» يعيق الوصول إلى الدعم النفسي. تسدُّ الباب بدلاً من أن تفرش الطريق بين داخلنا وخارجنا. لتخطي عائق اللغة في العلاج، يتم أحياناً الاستعانة ببابٍ خلفي إلى النفس، فتحضر لغةٌ ثالثة لتبني التواصل بين المعالج والمريض، كالإنكليزية. وأحيانًا، يتم التواصل بواسطة مترجمٍ يحضر في لحظة العلاج الحميم.
وبحسب الأرقام التي استقتها غرفة الأطباء النفسيين في ولاية بادن فورتمبيرغ من الاستقصاء، فإنّ ما يزيد عن 50 بالمئة من المعالجين النفسيّين يتواصلون مع مرضاهم عبر اللغة الانكليزية. ولا يعتمد أكثر من الثلث على مترجمين مُدرّبين ومؤهلين لخوض العلاج النفسي، نظرًا لقلة وجودهم.
في معظم الأحيان، لا يغطي التأمين تكلفة المترجم بحسب د.الخشروم، كما أن هناك نقصاً شديداً في الاختصاصيين الذين يتكلمون العربية والكردية. يشرح الخشروم: «قيلَ لي إنني الأخصائي النفسي الوحيد الذي يتكلم العربية في مقاطعة شمال الراين. مواعيدي المخصصة للعرب الذين يحتاجون للعلاج النفسي محجوزة حتى شهرين ونصف من الآن».
بعد تجسير اللغة، تتّضح عقباتٌ أخرى، منها الذاتي ومنها الاجتماعي.
عهود، مثلاً، مانعت العلاج قليلاً لعارٍ تراه فيه ولم تَرضَ به لنفسها. عندما وصلت إلى ألمانيا عام 2016 بمنحة تبادلٍ دراسي مدّتها ثلاث شهور، ثم تمّ قبول لجوئها بمعجزة، بحسب تعبيرها. حينها، أحسّت بنت الثانية والعشرين وكأنها ولدت من جديد. ها هو العالم الكبير يفتح لها أبوابه التي حلمت بها وهي صغيرة. أرادت أن تكبر، أن تعوّض سنوات الحرب بأقصى سرعة، وأن تواكب دهشة العالم. عرفت أنها بحاجةٍ إلى قوةٍ جديدةٍ ولغةٍ جديدة. أكملت عهود صفوف اللغة في فترةٍ قياسية، وبدأت تقدم سيرتها المهنية إلى الجامعات. حينها، بدأ الحزن القديم يستيقظ داخلها. توترت علاقتها بصديقها، وبدأت عرائش الحزن في داخلها تنعكس مساحاتٍ سوداء تحت عينيها.
زارت عهود طبيب العائلة لتشتكي من ألمٍ في الرأس وصعوبةٍ في النوم، فحوّلها بعد عدد من الفحوصات إلى الطبيب النفسي. بمرافقة صديقها، خرجت من العيادة ونزلت الدرج. استبدَّ بها خوفٌ قاتم، شرع فجأةً يدور أمام عينيها كدوامة. جَمَّدَ تصلّبٌ فظيعٌ قدميها، واضطُرت إلى التشبث بالدرابزين حتى لا تهوي إلى الأمام: «أليس مثيرًا للسخرية أن أكون مريضةً نفسيًا؟ ما زلتُ في العشرينيات من عمري! هل سأقضي بقيته وأنا أبتلع المنومات!؟».

لم تكن تفكر في الموعد ولا العلاج، كان عقلها مشغولًا بإيجاد ملاذٍ لتُجنِّبَ نفسها عار الفضيحة؛ فضيحة المرض النفسي. تقول لـ«الجمهورية»: «أفلتُّ يدي من يد صديقي. اعتراني خوف أن يتركني هو الآخر. بذلتُ جهدًا كبيرًا في التحرك إلى الأمام، كانت خطواتي ثقيلة وكأنني أعبر في مستنقعٍ أو أغوص في الثلج حتى الركب. كبحتُ خوفي كي لا يظهر شيءٌ من ارتباكي. حاولتُ أن أفتح حديثًا عن موضوع آخر. أردتُ أن أشغل نفسي، أن أتشاغلَ حتى بأمورٍ تافهة. لم أرد التفكير في أيّ شيءٍ لكي لا أسقط في هوة الرعب».
قالت لنفسها: «لا بد أن الطبيب مخطئ»، وتجاهلت تحويلها إلى الطبيب النفسي. لكنّ الألمَ استمر، وراح يضغط عليها مؤكداً لها أنها ليست على ما يرام. أصبحت عهود شديدة النزق. كانت تُفاجئها نوباتٌ من الخوف، تليها نوباتٌ من العزلة، تتخللها نوباتٌ من الهلع أو البكاء. ثقتُها بنفسها كانت في أقل مستوياتها، وثِقَتُها بصديقها كانت تنهار أحيانًا. أوقاتٌ من انعدام الرغبة في الحياة، تليها أوقاتٌ من شراهة الرغبة، ثم الذعر الذي يتشبث بتلابيب الروح. توسّل إليها صديقها أن تذهب إلى الطبيب النفسي، وفي نهاية المطاف فعلت، فشَخَّصها الطبيب باضطراب ما بعد الصدمة: «بينما كان الطبيب يشرح لي طبيعة ما أعانيه، راحت صورٌ وذكرياتٌ ومواقفٌ تتوالى على رأسي وتلمع في عقلي. أدركتُ لحظتها الأمور بوضوحٍ هائلٍ. وفجأةً، كأن النقاط قد وضعت على حروف مشاعري وتصرفاتي غير المفهومة كلها».
لمدة شهرين، بقيت عهود تستيقظ في منتصف الليل مبتلةً بعرقها والرعب يتمسك بعمودها الفقري كشيطان. كان صديقها عبد الرحيم يمسك يدها لساعاتٍ ويداعب شعرها حتى تغفو. تفاصيل الاعتقال التي حسبت أنها أصبحت من الماضي عادت لتسحبها من حياتها المثالية إلى جحيم المعتقل، إلى الأغطية المحشوّة بالقمل والدم المتيبس والصرخات التي تجرح الأذن. لم تمكث عهود في المعتقل في سوريا أكثر من تسعة أيام، ثم أُفرِجَ عنها وسَاعدتها أمّها في إخفاء الخبر عن إخوتها. لم يكن من السهل عليها أن تبوح لعبد الرحيم بما مرّت به: «رغم محبتي العارمة له، إلا أنني لم أكن أستطيع أن أثق بأحد. بالتحديد أولئك الذين أحبهم».
أدركت عهود خيوط شبكة الآلام التي كانت تسحبها إلى الأسفل، وبدأت تفك العقد واحدةً تلو الأخرى في جلسات العلاج النفسي: «قبل عام، أوضح لي الطبيب طبيعة ما أنا فيه. لا أزال أشعر داخلي بالألم، ولكنّه ألمٌ مليءٌ بالوعود؛ مثل جرحٍ يحرق قبل أن يلتئم».
«عقدة الناجي»
إلى الاعتبارات الذاتية والاجتماعية، تحضر عوائق أخرى كالإحساس بالذنب لتبعد المريض عن العلاج، ومنها ما يجمع السوريين بسواهم من «الناجين». إذ، كسواهم من ناجي الحروب والصراعات، يلاحق السوريين في ألمانيا ما يصطلح عليه شعبيًا بتعبير «عقدة الناجي»: كيف لنا أن نتذمّر ونحن نعيش تفاصيل «النعيم» التي يحلم بها السوريون الأقل حظًا؟ وكيف لنا أن نحكي تفاصيل معاناتنا التي انقضت، بينما يعيش أهلنا ورفاقنا هذه المعاناة كواقعٍ لم ينته بعد؟
في المجموعات السورية على وسائل التواصل الاجتماعي، كثيراً ما تنزلق محاولات التعبير عن المعاناة إلى لعبة المقارنات، وهي لعبةٌ تتكرر حتى تكاد تنزع الشرعية عن معاناةٍ وآلامٍ في معرض تقدير سواها. صاحب المعاناة الأكبر هو الوحيد الذي يحق له أن يعبّر عنها. قوانين هذه اللعبة غير معروفة، ولا نهاية لها ولا يفوز بها أحد.
وشهم مثلاً، لم يكن ينكر بينه وبين نفسه أنه ليس على ما يرام، لكنه مثل كثيرين من أبناء بلده فَضَّلَ أن يعاني في سرّه. كما أنّ شهم كان يحتّم ممانعته لطلب المساعدة بأنّ «الأطباء البيض لن يفهموا ما انسكب عليَّ من رعبٍ وحصارٍ وموتٍ وبراميل».
عندما استيقظ شهم من غيبوبته ووجدَ نفسه ممدداً على فراشٍ أبيض والأطباء حوله، شعر بالعرق البارد يقطر خلف رقبته، وشعر برغبةٍ في الهرب، لكنّ تجربته بالحصول على المساعدة النفسية سمحت لخيوطٍ من نور أن تمسّ ذاكرته المعتمة وتغيّر رأيه بالعلاج النفسي. ما عاد يجد فيه عيبًا أو نقيصة، بل حقًا وواجبًا.
وكذلك عهود، عندما عرفت أنها بحاجة لطبيبٍ نفسي، أفلتت يدها من يد حبيبها وتمسّكت بالدرابزين خوفًا من أن تهوي. لكن بعد جلسات العلاج، صارت عهود تنام من دون أن تستيقظ مذعورةً ومُبللةً بالعرق. فهمت حكاياتها وبدأت تتعامل معها وتقلم أظافر خوفها.
الصدمة هي حدثٌ فاق قدرة عقلنا على التعامل معه، لذلك نحن بحاجة للمساعدة. إن كان علينا أن نتأقلم في البلد الجديد، فلنا الحق في أن نكون أسوياء. وإن كنا نتألم، فلنا الحق في الشفاء. وإن كنا نعاني، فلنا الحق على الأقل بأن نحكي عن ألمٍ يخنق الروح والذاكرة. لا الاعتراف سهلٌ ولا طريق التعافي تُظلّله أوراق الشجر، لكن بإمكاننا استعادة الحياة التي فقدناها وانتزاع حقنا في النجاة. بإمكاننا أن نُشرع صدورنا لخطواتٍ في الشمس، وأن نجتازَ العتبة والعتمة، كي لا تكون نجاتنا نجاةً مع وقف التنفيذ.
*****
هوامش:
– خريطة تَوزُّع مراكز الدعم النفسي والاجتماعي للاجئين وضحايا التعذيب (BAfF) في ألمانيا. تُقدِّمُ مراكز الدعم النفسي المشورة النفسية والاجتماعية، كما التشخيص والعلاج في حالات التراوما واضطراب ما بعد الصدمة في جميع أنحاء ألمانيا.
– قام معهد ماكس بلانك بدراساتٍ حول الصحة النفسية للاجئين، وفي سياقها أَنتجَ فيديوهاتٍ عن الصدمة النفسية وعن الدعم الذاتي للمُصابين بالصدمة بثلاث عشرة لغة، من بينها العربية.
– هنا كتبَ مهيار الخشروم دليلًا عمليًا للمساعدة الذاتية للمصابين بالصدمات.
– يقدم مركز überleben التشخيص والعلاج النفسي للاجئين مع مترجمين مُدرّبين تدريباً خاصاً بأكثر من أربعين لغة، كما يقدم العلاج الطبي العام والنفسي، والأدوية النفسية عند الحاجة.
– وتقدم منظمة ipso care استشارات نفسية الكترونية، يقدمها مستشارون مؤهلون لتقديم المساعدة باللغة الأم من متكلمي هذه اللغة لطالبيها.
– ويطور مجموعة من الباحثين في جامعة برلين الحرة من ألمانيا، وبالتعاون مع جامعة لينشوبينغ من السويد، البرنامج الإلكتروني خطوة خطوة، الذي يقدم الدعم النفسي والمشورة.