أعاني طول الوقت، خاصة لدى كتابة القصص، مع الفعل «كان».
أحاول التفكير في بدائل له، ولكن جلّ ما يفعله هذا أنه يُغيّرُ مكانه من الجملة؛ أمحوه من أولها فيظهر في وسطها. أُقرِّعُ نفسي كثيرًا على تكراره هكذا، ولا أجد حلًا للمأساة. أكرهه ولا أطيق غيابه.
رغم تمتع اللغات السامية بصيغة الجملة الاسمية التي لا فعل فيها، فلا تزال للجملة الفعلية مكانة رئيسية فيها، ولا يزال الفعل «كان» هو العمدة بين جميع أفعال العربية، على أخصّ الخصوص لدى الحكي، وهو نشاط أساسي منذ عرف العرب «ألف ليلة وليلة» وصيغة «كان يا ما كان».
افتحوا أي قصة أو رواية، وقارنوا بين عدد الجمل التي تحوي الفعل «كان»، بغض النظر عن موضعه من الجملة، وبين عدد الجمل التي تحوي أفعالًا أخرى، أو حتى الجمل الاسمية التي لا تحوي أفعالًا من الأساس، وستفهمون المكانة الرئيسية لفعل الكينونة في العربية. ستفهمون لماذا يقول الله للشيء «كن فيكون»، كما ستفهمون لماذا افتتن الصوفية بهذه الصيغة بالتحديد وأقسموا بِحرفَي الكاف والنون، وستفهمون، كذلك، لماذا هي قاعدة «كان وأخواتها»، وليست «ظلَّ وأخواتها»، ولا «ما برح وأخواتها».
في القصص، ما كان مكتوبًا منها أو شفهيًا، يخدم الفعل «كان» زمن ما قبل الحكي، الزمن البعيد الذي أدّى لأن يتشكّل عالمنا على ما هو عليه الآن. هناك فارق بين «قفز التلميذ من سور المدرسة»، وبين «فهو لم يكن يحب المعلّم». عدم حبّ الولد المعلّم هو الأصل الذي وُجِدَ من قبل أن تبدأ قصتنا، هو السبب الذي دفعه للهروب من المدرسة، هو الأساس المستقر الذي علينا أن نبني عليه حبكتنا.
***
يُسمَّى فعل «كان» في النحو العربي بـ«فعل الكينونة»، وهي التسمية التي لا أُحبُّها، وأُفضِّلُ عليها طول الوقت «فعل الكَوْن»، «كانَ كونًا» بكل بساطة، لا «كانَ كينونة».
أعرف أن للكون معنىً فلكيًا مُستقرًّا يتصل بالمجرّات، ولكن لا أتصور أن يخطئ أحدهم في فهم صيغة مثل «كونه ذهب إلى هناك»، باعتبارها «مجرّاته ذهبت إلى هناك».
ومن ناحية أخرى، فمن شأن تسميته بـ«فعل الكّوْن»، أن يجعلنا نفهم الكون، الكواكب والأقمار والشموس والأبراج، بالضبط كما فهمه الأقدمون: الوجود.
وفي الدارجة المغربية يُستعمل اسم الفاعل «كاين» بمعنى «موجود» ببساطة. هل أنت كاين في الدار؟ لا ماكاينش!
وربما من فعل «كان» أيضًا، أتت كاف المُضارَعة في الدارجة المغربية. يسهل فهم هذا إذا تصورنا النون في آخر «كاين»، تندمج، كعادتها، أو تُدغَم، في نون الجماعة في صيغة المضارع: أنا أشربُ، أنا نشربُ، أنا كاين نشربُ، أنا كَينشربُ، أنا كَنشربو.
***
في العبرية لا مقابل صوتي للفعل «كان». هناك «هاياه»، بمعنى «كان»، ومنه سُميّ الرب «يهوه»، عندما تجلّى لموسى على الجبل قائلًا له «لأهيه الذي أهيه»، أي «لأكُن الذي أكونُه».
ما أروع هذا الوصف للرب بالمناسبة: لأكُن الذي أكونُه؛ طبيعة؟ طاقة؟ يسوع؟ الله؟ أسلافُك؟ حيوانك المفضل؟ ميكانيكا الكم؟ ليكن الله من يكونه. هذا لا يهم، المهم أنه هناك.
الفعل «هاياه» نفسه غريب، حيث يندر أن تجد في العبرية جذرًا ثلاثيًا كاملًا، مثل جذر «ه ي ه»، خلوًا من أي صوامت ثقيلة. والله وحده يعرف أصله البعيد؛ قد يكون هذا الجذر، ويقابله في السريانية جذر «هوا»، راجعًا إلى ضمير المفرد الغائب «هو»، كما أنه، في افتراض آخر بعيد، ولكن مع الأخذ في الاعتبار التبادل الذي قد يحدث أحيانًا بين صوتي الحاء والهاء، قد يكون راجعًا إلى الحياة: هاياه بمعنى حيا. ويهوه بمعنى: يحيا.
ولكن الحياة أضيق من الكون، لأن الكون يتضمن الجمادات أيضًا. والله يقول للشيء، أي ليس للإنسان أو الحيوان أو النبات حصرًا، كُن فيكون.
ومن هنا، ربما، فقد أصبح هناك احتياجٌ لوجود فعلين في العبرية، لا فعل واحد: حيا وهيا، حاياه وهاياه، عاش وكان.
***
أما الجذر العربي «كان» فأحب أن أرجعه إلى فعل آخر، لا يتصل بالحياة وإنما بالاستقرار، هو فعل «كَنَّ»، أو «كنن»، بمعنى اختبأ، أو ربض بالأسفل هادئًا ومستقرًا، كما الطائر في قِنّه، بالمناسبة.
والتقارب بين جذر «فال» و«فلّ» («كان» و«كنَّ»)، شائع في العربية بلهجاتها. لنتذكر التقارب بين الفعل «شاف» والفعل «شفَّ»، أو بين الفعل «بال» والفعل «بلَّ».
youtube://v/Pi8YguZyy-o
إذا أخذنا بهذا التفسير، الذي يُرجِعُ «كان» إلى «كَنَّ»، فسنرى كيف رأى العرب قديمًا الماضي مثل عشّ، بيت مؤسَّس سابقًا، ويأتي الحاضر والمستقبل ليُضيفا إليه. شيء ما كانِن/ كاين ولا يمكن محوه، وإنما فقط يمكن البناء عليه.
على خلاف ما نتصوره اليوم، من كون الماضي يقع خلفنا، يبدو أن الأقدمين قد تصوّروه يقع بالأسفل منهم.
***
وربما من جذر الكنون هذا، وهو مشترك في العربية والعبرية، أتت صيغة الإيجاب في العبرية، «كِين»، بمعنى نعم، تمام، الأمر مستقر، وكسرة الكاف مُمَالة فيها كما في كلمة «بيت» بالمصرية. هناك في العربية «لا» و«نعم»، وفي العبرية «لُو» و«كِين».
«لو» و«كين» يشكّلان بالمناسبة، ولو صوتيًا فقط، مفردة الاستدراك العربية: لكن، والتي بمقتضاها يتفق الشخص ويختلف مع محدثه في الوقت نفسه. يقول له نعم ولا، كان ولم يكن.
بالمناسبة، ففي الكثير من مفردات الاستدراك الأخرى في العربية، مثل «إلّا» و«إمّا» و«إنما»، يتجاور الإثبات والنفي؛ «إن» تليها «لا» أو «ما».
كما أن هناك بالتأكيد المثال الأقرب لموضوعنا: يقول الشوام «لكان» بمعنى قريب من «لكن»: «لكان شو؟»، بمعنى «لكن ماذا؟».
هذا الانتقال من معنى «كان» إلى معنى «نعم» ليس شديد الغرابة، لو تأملنا في العامية المصرية في السنوات الأخيرة، وكيف تحول فيها الفعل «حصل» (وأحد معانيه هو «صار»، وهي من أخوات «كان»)، هو الآخر إلى معنى نعم، حاضر، أوافقك الرأي، صح جدًا، لا مشكلة في هذا.
يبدو أنه مثلما هناك مكانة شديدة الخصوصية للـ«ڤِرب تو بي» في الإنجليزية وسائر اللغات الأوروبية، فإن العربية وسائر اللغات السامية قد احتفظت كذلك للفعل «كان» بمكان يقف فيه وحده.