من دون أية إضافاتٍ كلامية، يمكن لبعض الصور القادمة من مناطق سيطرة النظام أن تُلخِّصَ حال أهلنا الذين يعيشون هناك. هذه الصور، بكلّ ما فيها من قسوة، تقول إنّ السوريين يحتاجون إلى وقتٍ طويلٍ للشفاء من عطبٍ يأكل من أرواحهم وأعمارهم. هنا أربع صورٍ من يوميات الناس، قد نجدها صادمةً، غير أنها كذلك للمشاهدين فقط، أما بالنسبة لسكان البلاد المعايشين لها، فقد صارت من عاديات أيامهم:
الصورة الأولى
عشرون ألف سوريٍّ وسوريّة، هم من المصابين بإعاقاتٍ دائمة ومن ذوي القتلى، تجمّعوا في الملعب البلدي (الباسل) بحي بابا عمرو الحمصي، حتى توزِّعَ عليهم مؤسسة العرين، حديثة التأسيس، بعض المساعدات. نصبت المؤسسة صورتين عملاقتين متماثلتين في الحجم لأسماء الأسد وزوجها في صدر الملعب، في حين امتلأ الملعب ومحيطه بكثيرٍ من صور أسماء الأسد وقليلٍ من صور زوجها، وذلك في فعاليةٍ نظّمتها المؤسسة، تقول من خلالها إنها باتت بديلةً عن مؤسسة البستان التي أنشأها رامي مخلوف، ويُقال إن أسماء الأسد هي التي حلّتها. ولأنّ أسماء الأسد ليست أقلّ حرصاً على الشهداء وذويهم من خصمها رامي، فلا بدّ أن يكون على رأس اهتماماتها رعاية أُسر أولئك الذين ضحّوا بأنفسهم من أجل بقاء زوجها ونظامه.

أُشيعَ قبل التجمّع بأنّ أسماء، وربما زوجها، سيحضرون إلى الملعب ليُعاينوا حال الأسر الفقيرة عن قرب، تماماً كما فعلت السيدة الأولى قبل ذلك بأيامٍ حين اتّجهت إلى الساحل السوري لتعاين أثر الحرائق، ولتقف «شخصياً» على حجم الخسائر. في النهاية، لم تحضر أسماء الأسد، بل حضرت عبوات مياهٍ بلاستيكية وصناديق بسكويت عوضاً عنها، ووزِّعَت على الألوف المتجمهرين في الملعب. في هذا الحي نفسه، وقبل ثماني سنوات، كانت أجهزة الأمن والإعلام الأسدي تتهم المتظاهرين بالتجمّع للتظاهر لقاء ألف ليرة سورية وسندويشة. هذه قيمة السوريين بالنسبة للأسدية كما خبرنا طوال السنوات الماضية، ولكن لا بدّ هنا أن نتذكّر أيضاً رجل الأعمال والبرلماني محمد قبنض، الذي قايض صيحات الهتاف لبشار الأسد ببضع سندويشاتٍ ألقى بها في وجوه مهجّرين من ريف دمشق. كانت هذه هي الدراما الحقيقية التي يموّلها محمّد قبنض، وليس تلك المعروضة في المسلسلات التي يتاجر بها.
الصورة الثانية
حصدت نيران الحرائق عشرات ألوف الأشجار المعمّرة في الساحل السوري، كما حصدت عشرات ألوف أشجار الزيتون ومعها محاصيل وبيوت بلاستيكية ينتظر المزارعون عوائد بيع ثمارها طوال العام. لم يجنِ كثيرٌ من المزارعين هذا العام سوى الخيبة والألم ومزيداً من فقر الحال. قَدَّرَت وزارة زراعة النظام عدد الأشجار المحترقة بالملايين، وذهب البعض إلى أنها ضخّمت الرقم قليلاً لتسخير ذلك إنسانياً وسياسيّاً وأخلاقياً ضد دول «التكبّر والاستعمار» التي تحاصر شعباً تحاصره الحرائق.

ليس بوسع المزارعين تعويض خسائرهم، كما أنّ أشجار زيتونهم لن تنمو قبل أعوام، وهم لا يدرون من أين سيأكلون في هذا الشتاء، ولا في السنوات القادمة. الحكومة وعدت بتعويضاتٍ بعد أن زار بشار الأسد بعض الأراضي التي طالتها الحرائق، على أن تُوزَّعَ المساعدات على ثلاثة أعوام: 50% لهذا العام، و25% في كلٍّ من العامين القادمين. يأمل المزارعون أن تفي الحكومة بوعودها بخصوص التعويضات، ويأملون أن تفي بالتزامها منحَ القروض والتسهيلات والغراس كما وعدت، لكنّ مثالاً قريب العهد يقفز إلى البال فيدفعهم للتشاؤم. بعد الحرائق التي شهدتها البلاد في العام 2019، وعدت الحكومة بالوقوف على الأضرار وتعويض المتضررين، لكنها لم تفعل شيئاً، فما الذي سيتغير بين العام الفائت وهذا العام؟ من الضروري الإشارة هنا إلى أنّ مزارعاً واحداً لم يُعوَّض بشيءٍ حتى الآن.
الصورة الثالثة
بينما تزداد وطأة الفقر أكثر فأكثر على السوريين، باتت مؤسسات السورية للتجارة خياراً لا بديل عنه للحصول على بعض المخصصات الغذائية بموجب البطاقات الذكية. الانتظار وحده ليس كافياً للحصول على المُخصصات، فثمّة بعده وقبله مزاجية الموظفين الذين يتوقفون عن العمل متى أرادوا، وبحججٍ ليس بوسع جموع المنتظرين سوى تصديقها. اثنان من المنتظرين على أبواب إحدى نقاط التوزيع في دمشق رفضوا الانصراف دون الحصول على مخصصاتهم، وبعد جدالٍ مع الموظف المسؤول تدخّلت المدام فاتن لتضع حداً للسيدين المواطنين اللذين أساءا التقدير، وظنّا نفسيهما طلاب حق. تبيّنَ للمدام فاتن بعد أن فردت عضلاتها أنّ أحد الشخصين عسكري، فطلبت منه الوقوف جانباً حتى تنتهي من إهانة وتقريع المدني ثم تفرغ لتأدية طلبه.
تعوّدت المدام فاتن وأضرابها إهانة المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة، أما العسكريون فلا، ربما نتيجة قناعةٍ بدور هؤلاء في صدّ الإرهاب، وربّما خوفاً من شكاوى يقدّمونها إلى الضباط المسؤولين عنهم. هناك تراتبية تشبيحٍ في سوريا الأسد، وكل شبيحٍ يخشى الشبيح الآخر نتيجة جهله بمن يقف وراءه ويدعمه. عموماً، المدام فاتن وأشباهها يقفون قدماً بقدم مع الجيش والقوات المسلحة فوق رقاب المدنيين والعزل.
الصورة الرابعة
في أقفاصٍ حديديةٍ تشبه تلك الموجودة في عشرات السجون التي خبرها السوريون جيداً طوال العقود الماضية، يتكدّس العشرات قبالة أحد أفران دمشق في انتظار الحصول على رغيف الخبز. هذا المنظر البائس شديد الشبه بسوريا التي يعيش فيها هؤلاء الناس: سجنٌ كبيرٌ يمتد على مساحة البلاد، فيه صنوف العذاب جميعها، وباتت أقصى أحلام المودعين فيه أن يحصلوا على متطلبات حياتهم الأساسية من غذاءٍ وماءٍ وكهرباء. أُزيلت لاحقاً هذه الأقفاص بعد ردود الفعل الغاضبة، وبقيت الطوابير على حالها في الهواء الطلق.

في مكانٍ آخر، يتجمّع العشرات أملاً في الحصول على أحدث إصدارات هواتف شركة آبل الأميركية، التي استوردتها شركةٌ قيل إنها مملوكةٌ لأسماء الأسد. تمنع العقوبات الدولة الأسدية من استيراد القمح بحسب ما يدعيه النظام، وتَعَدم الحكومة وتجارها وشركات واجهتها سُبُل تأمينه، لكنّ كبار التجار المرتبطين بالعائلة الحاكمة قادرون على الالتفاف على العقوبات نفسها ليستوردوا الهواتف المحمولة بغية بيعها بأضعاف ثمنها الحقيقي.

لم يكن القمح، مع نهاية موسم الحصاد الفائت، صَعبَ التأمين من مصادر محلية لتغطية احتياجات سكان مناطق سيطرة النظام، وذلك عبر شرائه بأثمانٍ عادلةٍ من المزارعين في الجزيرة السورية، ولا عقوبات تطاله فعلياً لو أن النظام قرّر استيراده من الخارج، ولكنه ليس استثماراً رابحاً مثل السيارات الفاخرة وأحدث القطع الإلكترونية، ولذا لا بأس في جعل الطوابير مشهداً يومياً يذكّر السوريين في كل يومٍ أنهم كانوا بخير، ولكنهم ثاروا فخرّبوا على أنفسهم بعد أن كانوا يعيشون هناءً لا ينقصهم فيه شيء!