لأنّ ما يحدث، يحدث في النفس أيضاً، قُتل شطرٌ من أنفسنا العميقة في سوريا منذ استولى حزب البعث على السلطة. والحال أنّ القتل ما زال مستمراً، لكنه على مرّ العقود أخذ يطوّر من أساليبه ويزداد بطشاً. إنّه جزءٌ أساسي من آلية الحكم البعثي، يعزّز العجز والقهر، ويترك الناس لليأس ورثاء النفس.
يأس كبير يخيّم على حياة السوريين، بعد التدخل/ الاحتلال الروسي عام 2015، وإنقاذ النظام ومساعدته على حسم المعركة العسكرية. صار العيش في سوريا معجوناً بالقهر والعجز، أكثر من أي وقتٍ مضى ربما. إنه امتحانٌ وامتهانٌ للكرامة الإنسانية، الدولة الأسدية تحدد للناس حتى كيفية رثائهم لأنفسهم، فهي لا تقبل إلا برثاءٍ أداتيّ مسيّس، لا غرابة إذن من يأس السوريين في «الداخل» ولا غرابة من يأسهم في «الخارج» أيضاً. حلم الحرية والمواطنة تَأجَّلَ إلى موعدٍ مجهول، والقتلة الذين حكموا سوريا لعقودٍ ما زالوا يمارسون أفعالهم نفسها دون رادع.
لكن الصراع مع النظام بطبيعة الحال لا يتوقف على الجانب العسكري فقط. إحدى المعارك القائمة هي معركةٌ لغوية بامتياز، فنحن نخوض منذ انطلاق الثورة صراعاً لغوياً مع النظام، يمكننا أن نعتبر كل استسهال به تعميقاً لانتصار النظام العسكري أكثر فأكثر. ليست الكلمات، أو المفاهيم، أو المصطلحات مشكلاً هامشياً إلا عند أصحاب العقول الكسولة ربّما. قد تكون اللغة هي المشكل والحلّ، إنها في اعتبار الفيلسوف مارتن هايدغر بيت أو مسكن الوجود أو الكينونة. نحن كائناتٌ لغوية دائماً وأبداً، لذلك علينا أن ندقّق أقوالنا ونراجع خطاباتنا باستمرار. علينا أن نفكّر في المفاعيل اللغوية، ونَحذَرَ من الاستسهال فيها. نحن باختصار في حربٍ تأويلية طويلة مع النظام. حرب لها جوانب عديدة، لكن للجانب التأريخي منها خطورة وأهمية بالغة. فالنظام يحاول القبض على سياسة الذاكرة لدينا، لذلك نحن مطالبون بتفكيك معجم النظام السياسي إذا أردنا أن نؤرخ لأنفسنا ولثورتنا بشكل حر.
ثمة تأريخ لا يعدو أن يكون سوى محاولة لتغييب إرادة الحقيقة، وتزييف التاريخ. تأريخ سلطوي تربّى عليه كل من درس في مدارس البعث. لكن لزمن الثورة على وجه التخصيص مفرداته، لذلك اخترنا من معجم النظام السياسي مفهومين أساسيين من زمن الثورة للكلام عنهما، يلعبان دوراً كبيراً في الفهم الذي يسعى النظام لترسيخه، هما: الحرب والفتنة.
الحرب: هي نزاع أو صراع بين جهتين على أقل تقدير، وكل حرب هي «حرب على وضد وبين ومع وفي ولأجل… إلخ»، لكن النظام يسعى لترسيخ استخدامٍ مخصوص لكلمة حرب، فهو أول من استخدم هذه الكلمة في خطابه السياسي لتوصيف ما يجري في سوريا منذ العام 2011. منذ بداية الثورة وهو يشدد على أن ما يجري ليس ثورة بل هو «حرب على سوريا»، كي يُجيّشَ الناس ويبرّر استخدامه للعنف، وهذا يساهم في تفسير ظهور اللجان الشعبية المسلحة والقوات الرديفة للنظام. فـ«الحرب على سوريا» تحتاج من أبناء سوريا التسلّح ومساعدة الجيش والأمن في ضرب «المندسين/ الإرهابيين» حسب تعبير النظام.
بعد هذه «الحرب على سوريا»، وخصوصاً بعد تفشي السرطان الداعشي، ظهرت عند طيفٍ واسع من السوريين صيغةٌ جديدة هي «الحرب في سوريا»، لكننا نراها بشكلٍ خاص عند الفنانين الذين يريدون أن يكونوا أصدقاءَ للجميع، والذين يظنون أنّ بإمكانهم أن يكونوا بمنأىً عن السياسة. المشكل الكبير أنّ هذه الصيغة تبدو غير مسيّسة أو لا يمكن تسييسها في نظر البعض. والحال أنها صيغة مخاتلة، تعفي المتكلم من التوصيف التاريخي الدقيق. تعفيه من اتّخاذ موقف سياسي واضح من النظام (أي من المسؤول الأول والأخير عن كل القتل والدمار). استخدام هذه الصيغة يبين عن نظرةٍ لا تاريخية للأمور، وهو في أحسن الأحوال تأريخٌ سيء، وفي أسوأ الأحوال قد يكون تواطؤاً مع النظام وتدعيماً لرؤيته.
النظام يستخدم هذه الصيغ أثناء محاولته لإلغاء الفوارق بين النظام والدولة والوطن. كل صراع مع النظام من منظوره هو صراع ضد سوريا. فالنظام يرى أنه سوريا، وكل من يقاومه «غير وطني». هو يستخدم كلمة حرب ليبرئ نفسه من القتل والدمار، ما يحدث بالنسبة له «حرب كونية» فُرِضَت عليه فرضاً، فبشار الأسد أعلن منذ خطابه الأول بعد انطلاق الثورة أنه «إذا فُرضت علينا المعركة اليوم فأهلاً وسهلاً بها»، أي أنه يعلن حرباً لكنه في الوقت نفسه يحمّل مسؤوليتها للآخرين.
لا يعرف النظام غير لغة العنف، لذلك استخدم الرصاص في وجه الجموع الحرة المتكثّرة. فهو في حرب مستمرة على الشعب منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة. إذا قبلنا توصيف ما بدأ في عام 2011 بالحرب، فهي حربٌ شنّها الشعب السوري ضد النظام الطائفي، لا تحمل أي «نزعة هوويّة» جاهزة. حربٌ ضد الأحكام المسبقة والرؤية الشمولية، ضد قانون الطوارئ، ضد «الحاكم الهوويّ». حرب بين الدولة الأمنية والشعب، لكننا نعلم أنّ مَن رفع شعار «الأسد أو نحرق البلد» شنّ حرباً على الشعب، وقام حقيقةً بإحراق البلد.
علينا إذن أن نحدّد بدقّة عن أي حربٍ نتكلم، وأن نحترس من صيغ «الحرب» وأن ندقق في استخداماتها، وأن نحترس خصوصاً من تغييب كلمة «ثورة» وإحلال كلمة «حرب» مكانها أثناء تأريخنا لما بدأ في عام 2011. إذا كان المقصود بـ«الحرب في سوريا» هو الحرب ضد النظام الشمولي الطائفي التي شنّها الشعب، فنعمَ الحرب هي. وإذا كان القصد أنّ ما جرى تتساوى فيه جميع الأطراف، وأنّ ما بدأ في عام 2011 ليس ثورةً بل مجرد حربٍ لا طائل من ورائها، فبئس القصد هذا.

الفتنة: هي كلمة راسخة في المعجم السياسي لفقهاء الملّة، تعني الامتحان أو المحنة أو الابتلاء أو الخلاف. درج استخدامها عبر التاريخ في الثقافة العربية الإسلامية لتوصيف الثورات والانشقاقات الدينية والسياسية، ولتوصيف الصراعات على السلطة بشكل عام. التاريخ الإسلامي تاريخ فتن. والفتنة تحمل معاني معيارية سلبية. التمرد أو الثورة كانت تُقرأ بوصفها خروجاً على الحاكم أو النظام، والخروج كان فتنة.
مفهوم الثورة لم يكن موجوداً، فقد تمت استعارته أو ترجمته في القرن العشرين من الخطاب السياسي الفرنسي على وجه التحديد، وهو مفهوم نشأ في البلدان المقاومة لكل أشكال الاستعمار الأجنبي، وكان للثورة البلشفية أيضاً تأثير كبير ساهم بانتشار هذا المفهوم، وأصبحنا نقرأ حديثاً عن الثورة العربية والسورية والجزائرية… وإلخ.
في حالتنا السورية، حافظ النظام على كلمة «فتنة» كي يفسّر ما يجري بوصفه سلباً وشقاقاً وخروجاً ومحنة وابتلاء، فمنذ خطابه الأول بعد انطلاق الثورة، استخدم بشار الأسد كلمة «فتنة» لتوصيف ما بدأ في درعا، بل شدَّدَ عليها أكثر من مرة. لكن الخطورة ليست في مجرد محافظته على هذا الاستخدام، بل في استشهاده بالآية القرآنية التي تقول «الفتنة أشد من القتل» في الخطاب نفسه. لذلك علينا أن نسأل هنا: ألا يستنبط بشار الأسد من هذه الآية تبريراً أو تسويغاً أو حكماً بالقتل الذي ينتهجه نظامه؟ ألا يشترك هو وداعش في استخدام القرآن لغايات سياسية؟ ألسنا بحاجة حتى لتحرير القرآن من استخدام النظام له بالقدر الذي نحتاج إلى تحريره من الاستخدام الداعشي؟ الحال أن النظام وداعش أبعد ما يكونان عن التفكر في القيم الوجدانية القرآنية (من قبيل الرحمة والعفو والمغفرة… إلخ) وأقرب ما يكونان إلى التفسير الضيّق الأداتي للقرآن، الذي عوضاً عن التفكر في قيَمه، يستنبط الأحكام منه كي يعزز أو يمدّ سلطته على الناس.
إذا كان ثمة فتنة في سوريا فهي ابتلاء السوريين بالدولة الأمنية. ولعل في استخدام النظام لمفهوم الفتنة بحد ذاته خلق للفتنة. الثورة لم تفشل وبسبب فشلها تدمرت المدن السورية، بل الثورة هُزمت عسكرياً، وهذا فرق دقيق وجوهري. لقد اجتمع الحرس الثوري الإيراني وحزب الله والجيش الروسي وكل أطراف النظام، استغلّوا الصمت الدولي فوصلوا في العنف إلى حدوده القصوى. استفادوا من ظهور داعش وأخواتها أيضاً كي يقولوا إن هذه هي الحرية التي خرج «المندسون» لأجلها (علماً أن النظام هو شرط إمكانية داعش)، بينما الثورة في حقيقة الأمر بريئةٌ من داعش. بل إن الأخيرة جزءٌ من المشكل الذي قامت الثورة للتخلص منه في البدء.
قد يصيب هذا الكلام البعض بالملل، لكننا بحاجةٍ ربما للتذكير بأنّ ثورات الربيع العربي، في أوضح معانيها وأبسطها، هي تمردٌ وحربٌ على النظام من خارج النظام. هي في لغة الفيلسوف فتحي المسكيني: «تغيير في أفق أنفسنا، وَقَعَ لأن الشعب قد نجح في فك الارتباط الهووي مع جهاز الحكم»، هي «استرجاع واسع النطاق لحق الأهلية التاريخية للفعل الكبير، وللتشريع الروحي للأجيال دون وصاية أمنية على شعورهم بالحرية»، هي «تغيير مفتوح لنموذج حياةٍ لم يعد يُحتمل السكوت عنه»، هي «نهاية حادة لفترة انتظارٍ طويلة»، هي «استعادة حادة وكثيفة لحقوق الإنسان الكونية وليس الهوويّة»، هي «رفضٌ للدولة الأمنية»، وهي أخيراً وليس آخراً «ثورة كرامة ذات منطق حيوي».
لأنّ ما حدث في الثورة، حدث في النفس أيضاً، خُلقنا ومتنا من الداخل آلاف المرات. لكن ذاكرتنا لا تموت، ما فعله وحش الدولة/ الأمة الذي نصّب نفسه سيداً على أنفسنا المعاصرة بعد الاستقلال، غير قابل للنسيان. الحرب على هذا الوحش مفخرةٌ ونبلٌ علينا أن نكون جديرين بهما. والثورة رغم هزيمتها العسكرية فتحت أبواب الحرية ووضعتنا وجهاً لوجه أمام هذا الوحش دون رجعة، بل إنها أعلنت نهايته. في العصور القديمة، كان الملوك يستمدون سلطتهم من الآلهة، كلُّ شيءٍ كان يجري بمشيئةٍ منهم، لكن أليست الدولة/ الأمة عندنا هي السيد، وهي شرط إمكان الحروب؟