التحدي الأكبر للاجئين السوريين في لبنان يتمثل حالياً، ببساطة، في البقاء على قيد الحياة.

– دلال حرب، من وكالة إغاثة اللاجئين في بيروت.

يقف سليم الأحمد (لاجئ سوري من إدلب) أمام البنك اللبناني الفرنسي في النبطية (جنوب لبنان). يُقلّب بطاقة البنك حمراء اللون بين يديه، منتظراً في طابور طويل من النساء والرجال. يشد ظهره تارة وينحني أحياناً أخرى ليريح فقرات ظهره المتعبة، ويخفف قلق عدم وجود اسمه بين المشمولين بالمساعدات لهذا الشهر بعد أن وصلت إليه، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، «شائعة» عن عودة أسماء قسم من المفصولين إلى قوائم المشمولين.

يتنازل سليم عن دوره لسيدتين تقفان خلفه ليمنحهما أولوية الوصول قبله إلى الكوة، فقد اعتاد الوقوف في مختلف الظروف المناخية، كما يقول، إذ يجهز نفسه للاحتمالات كافة معتمراً قبعته التي لا تفارق رأسه. فعل ذلك بدافع المروءة، إذ تصطحب إحدى السيدتين طفلها الرضيع وتنقّله بين يديها المتعبتين. ويحاول سليم أيضاً، كما أخبرنا، تأجيل شعوره بالخيبة إن لم تدفع له الكوة النقود.

لا توجد طريقة موحدة لنيل هذه المساعدات. هناك أشخاص يحصلون عليها، وآخرون في ظروف مشابهة لم يتم منحهم مثل هذه البطاقة مطلقاً، وهناك من تم فصله بموجب رسالة نصية. يتهيب جميع من يملك هذه البطاقة النظر إليها وهم ينتظرونها بداية كل شهر خوفاً من إبعادهم. ويحصل كل فرد من اللاجئين بموجب هذه البطاقة على 27 دولاراً تساعده على أعباء الحياة القاسية في لبنان. يقول من تحدثنا معهم في الطابور الطويل إن هذه المساعدات «لا تعترف بسعر الصرف»، إذ يتم تسلمها بالليرة اللبنانية وفق سعر الصرف الرسمي المحدد بـ 1507 ليرة مقابل كل دولار، علماً أن سعر الصرف المحدد من قبل الدولة للبنوك والصرافين يزيد عن ضعف هذا المبلغ، أما في السوق السوداء فيتجاوز أربعة أضعاف السعر الرسمي.

يتناقص عدد الحاصلين على المساعدات الأممية عاماً بعد عام، ومع انتشار فيروس كورونا وتفجير بيروت ازداد هذا العدد مع تراجع فرص العمل وغلاء الأسعار إثر انهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار، والتي فقدت نحو خمسة أضعاف قيمتها.

رمى سليم الورقة التي منحتها كوة الصراف الآلي له على الأرض. أخبرنا أنه لم يجد رصيداً في بطاقته، كل ما يملكه داخلها يساوي ثمن ثلاث ربطات من الخبز، تحتفظ به ماكينة الصرف كحد أدنى من النقود المصرح إخراجها. يقول إنه حلم أن تَصدُقَ الشائعات، ليتمكن من دفع أجرة طبيب المفاصل التي ترتفع طرداً مع الدولار.

أسندَ ظهره بيديه ليتمكن من متابعة سيره. الألم أسفل الظهر لا يفارقه، ويقول إنه حصل عليه من مهنته الجديدة في «تلطيش الحجارة»، والتي فقدها هي الأخرى منذ أشهر بعد أن فقد وظيفته الأساسية في مطعم للوجبات الشرقية في بلدة الصرفند. حاول البحث عن عمل طوال العام الماضي يتناسب مع وضعه الصحي، دون جدوى، فيما تَظهرُ شقوقٌ عميقة على يديه وسحنةٌ سمراء غامقة على وجهه من أشعة الشمس، تؤكدان كلامه.

في الأشهر الأخيرة أصبح وضع السوريين في لبنان أكثر هشاشة، «إذ يواجه لبنان واحدة من أخطر الأزمات الاقتصادية والمالية في تاريخه الحديث» بحسب وكالة فرانس برس. تزامن ذلك مع شحّ الدولار وفقدان العملة المحلية لقيمتها. رافق هذه الأزمة شلل اقتصادي في معظم القطاعات الصناعية والزراعية وأعمال البناء، وتم تسريح آلاف العمال الذين كانوا يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية. وفاقمت جائحة كورونا وتفجير بيروت أزمة العمال في لبنان، بعد توقف قسم كبير من المعامل والورش والمقاهي التي كانت تستقطب السوريين للعمل فيها.

زراعة.. نظافة.. بناء

الاتهامات الشعبوية التي تدّعي أن المهاجرين يسرقون وظائف اللبنانيين تغفل عن حقيقة أن أرباب العمل اللبنانيين يوظفون بمنتهى السرور العمال الأجانب، لأنهم يدفعون لهم أجوراً أقل بكثير من التي سيدفعونها للعمال اللبنانيين، ولأنّهم لا يسددون اشتراكات الضمان الاجتماعي الخاصة بهم.

 – الأستاذة والمحاضرة الجامعية سوسن عبد الرحيم.

يعمل معظم اللاجئين السوريين في لبنان داخل سوق العمل غير الرسمي، حيث ينتشر الاستغلال والأجور المنخفضة. إذ يسمح قانون العمل اللبناني للسوريين بالعمل بشكل قانوني في ثلاث قطاعات فقط: الزراعة والبناء والتنظيف. أما الحصول على تصاريح عمل في قطاعات أخرى فيكاد يكون مستحيلاً، ويشكل التنافس على العمل المصدر الرئيسي للتوتر بين السوريين ومضيفيهم اللبنانيين.

توضح دراسة للجامعة الأميركية في بيروت بعنوان «اللاجئون صانعو المدينة»، أنه ومنذ اعتماد ورقة سياسة النزوح السوري إلى لبنان عام 2014 أصبح الإطار القانوني اللبناني، يُحرِّمُ وجود وعمل السوريين في لبنان، بشكل مقصود، عبر جعل العمل والعيش في البلاد بشكل شرعي مستحيلاً لهم.

وتقول الدراسة إن اللاجئين السوريين أكثر هشاشة في لبنان اليوم، وأكثر عرضة لأشكال متعددة من الإساءة من قبل رب العمل والجيران وصاحب المنزل والشرطة، وذلك عبر الدمج بين فكرتين «تجريم اللاجئين ودفعهم خارج صفة اللجوء».

أبو خليل لاجئ سوري كان يعمل بصفة أمين مستودع في شركة تختص بصب البيتون وبيع أدوات البناء، وهو ما ساعده على إخراج تصريح قانوني بالعمل، إذ تم تسجيله كعامل بناء، في حين يمنعه القانون اللبناني من العمل كأمين مستودع.

يقول أبو خليل، ذو الخمسين عاماً: «كنت أتقاضى نصف أجرة الموظف اللبناني الذي كان قبلي، لكن انهيار قطاع الإنشاءات وتراجع مشاريع البناء أديا إلى تسريحي من العمل، وخفض رواتب باقي العمال السوريين. بقيتُ أشهراً أبحث عن عمل، لكن دون جدوى».

لم يكن أبو خليل يعلم أن شراءه لعربة الخضار، بفضل ما جادت به جيوب أقربائه في الخارج، وبيعها في أحد شوارع مدينة النبطيّة سيجعلانه خارج نطاق الأعمال المخصصة للسوريين. يخبرنا أن الوشاية وعدم امتلاكه الواسطة «الثقيلة» على حد قوله تكفّلا بمصادرة العربة وتوبيخه من قبل شرطة البلدية: «بس أخدوا العرباية شلعولي قلبي، ما معي خبر أني ممنوع اشتغل بياع خضرة».

تحدد الدراسة أن 92 بالمئة من السوريين الناشطين اقتصادياً في لبنان يعملون بشكل رئيسي في أعمال لا تتطلب مهارات مرتفعة، وبشكل غير نظامي، ومن دون عقود قانونية، في قطاع الزراعة والخدمات الفردية المنزلية، وعلى نطاق أضيق في قطاع البناء.

ليس لدينا خيار آخر

القوانين متغيرة وغير واضحة، ما يجعل المسار القانوني غامضاً لأغلبية اللاجئين».

 – من الدراسة التي أجرتها الجامعة الأميركية في بيروت.

خلصت الدراسة السابقة إلى أن «المسار القانوني يحبس اللاجئين في طريق لا يمكن الحيد عنها»، إذ يتعين على اللاجئين السوريين الفاقدين لأعمالهم العيش في لبنان دون إقامة نظامية. فبمجرد التوقف عن العمل لدى الكفيل لن يستطيع أحد أن يكفل اللاجئ بعدها. وإن حصل على عمل، فقانون الكفالة المعقد يستوجب مغادرة العامل السوري خارج لبنان في حال نقل كفالته إلى اسم كفيل آخر. وهو شرط «شبه مستحيل» نظراً لعدم قدرة أغلب السوريين الحصول على تأشيرات سفر خارج لبنان أو العودة إلى سوريا. ويخسر المواطن السوري بمجرد تأمين الكفالة صفة اللجوء، ولا يمكنه استعادتها حتى بعد انتهاء الكفالة أو الإقامة لمدة عام.

حرمان السوريين من الإقامة النظامية يضعهم في موضع هشاشة، ويفتح المجال أمام تعنيفهم واستغلالهم من قبل أصحاب النفوذ، وفرض شروط قاسية على العمل والمسكن، مما يضعهم أمام تحديات قاسية في الحياة اليومية. أبرز هذه التحديات هي الحد من إمكانية التنقل نتيجة الخوف من التوقيف، وما لذلك من آثار على إمكانية تأمين المعيشة وتعليم الأطفال.

بسام العمر هو لاجئ سوري كان يعمل في بستان للحمضيات في مدينة صور براتب شهري، ويعيش مع زوجته وأولاده الثلاثة في غرفة داخل البستان. مع اشتداد الأزمة المالية وانسداد أفق الحل قرّر صاحب البستان بيعه واللحاق بأولاده إلى كندا. اشترط المالك الجديد على العمر أن يعمل مقابل السكن والسماح له بالعمل خارج الحقل «يومين في الأسبوع» ليؤمن لقمة عيشه.

يقول بسام إن ارتفاع أجور السكن وانعدام فرص العمل دفعاه للقبول بعرض المالك الجديد الذي يراه «استغلالاً له»، خاصة بعد أن بلغت كلفة أجار المنزل وما يرافقها من فواتير الكهرباء والمياه واشتراك المولّد ما يعادل الحد الأدنى من الأجور في لبنان (675 ألف ليرة لبنانية). ويضيف أن أصدقاءه كانوا يصفونه بـ«المحظوظ»، فجيوبه في غنى عن دفع تلك الفواتير: «أمسكني من اليد التي تؤلمني. وضعني أمام الاختيار بين أمرين أحلاهما مرّ. اخترت أن أبقى وأعمل عشرين يوماً مقابل السكن في هذه الغرفة»، يقول بسام.

ويقول صقر العلي، وهو لاجئ في لبنان منذ سبع سنوات، إنه يعيش دون أوراق نظامية. «إقامتي كاسرة، ويتوجب عليَّ للحصول عليها دفع مبالغ مالية ليست باستطاعتي، هذا إن استطعت تأمين من يكفلني وبلد تمنحني تأشيرة مرور».

يخبرنا صقر أنه يتجنب المرور في الشوارع الرئيسية، وغالباً ما يلجأ إلى طرق فرعية يمر بها خوفاً من ترحيله إلى سوريا، حيث سيواجه الاعتقال أو أقلّه «الخدمة الإلزامية».

كان رب العمل، صاحب ورشة خياطة في بيروت، قد تخلّى عن صقر وسبعة سوريين آخرين منذ بداية جائحة كورونا. ويقول صقر إنه يعيش اليوم «عالة» على أخيه الذي يقيم في ألمانيا، وأن ما يرسله له يسمح بدفع أجرة المنزل وبعض الطعام، ويساعده في ذلك ارتفاع سعر الصرف.

من جهته، اتجه أبو أحمد للبحث عن عمل موسمي في قطاف الزيتون بعد أن تخلى عنه صاحب عمله في ورشة الأحذية بعد تفجير بيروت. يقول إنه كان يتقاضى نحو 800 دولار، أما اليوم فلا يزيد دخله عن مئة وخمسين دولاراً من عمله الجديد.

الجوع أشد قسوة من كورونا

نسبة اللاجئين المجبرين على العيش في فقر مدقع تصل إلى أكثر من 75 بالمئة».

– دلال حرب، من وكالة إغاثة اللاجئين في بيروت.

قدّرت ميراي جيرار، ممثلة المفوضية السامية لحقوق اللاجئين في لبنان، عدد المسجلين لدى المفوضية من اللاجئين السوريين بـ 880,414 لاجئاً. تزيد هذه التقديرات بحسب الحكومة اللبنانية لتصل إلى مليون ونصف مليون لاجئ في عموم البلاد.

وتقول جيرار في تقرير نشره موقع الجزيرة: «إن عدداً أكبر من اللاجئين يرددون أنهم يخشون الموت جوعاً أكثر من خوفهم من فيروس كورونا. إذ كشف مسح أجرته المفوضيّة في نيسان الفائت أن الجوع نال من 70 بالمئة من اللاجئين. وأن الكثيرين عاجزون عن شراء حتى الصابون».

يعتمد القسم الأكبر من اللاجئين على أعمال مياومة «غير دائمة» وموسمية، تأثرت مباشرة بالإقفال العام وفرض الحجر الصحي في البلاد. فضلاً عن أن هذه الأعمال لا توفر مردوداً مادياً جيداً، كونها غير مستقرّة، كما أنها لا تحمي اللاجئ من الطرد التعسفي أو الاستغناء عنه في أي لحظة، مما يضعه أمام مشكلة حقيقية تبدأ بالبحث عن عمل جديد.

«أولادي ماتوا من الجوع. عددهم أربعة. لا أستطيع إطعامهم. فقط ساعدوني لإطعام أولادي ولا أريد شيئاً آخر»، قالها اللاجئ رياض ديبو (43 عاماً) بعد أن قام بسكب مادة البنزين على جسده وإحراق نفسه أمام مكتب مساعدات الأمم المتّحدة في منطقة المعرض بطرابلس، وإنهاء حياته.

رياض كان قد فقد عمله في قطاع البناء بسبب الأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا، وبالتالي فقد المردود المادي الأساسي الذي يخوله دفع إيجار المنزل وشراء الطعام لعائلته، إذ وجد نفسه محاصراً بالبطالة والفقر والجوع، قبل أن يفكر بخطر الإصابة بفيروس كورونا.

من جهتها، انتقدت منظمة هيومن رايتس ووتش عبر موقعها الإلكتروني إجراءات حظر التجول المفروضة على السوريين في عدد من البلديات اللبنانية لا يقل عددها عن 330. ووصفت هذه الإجراءات بالتمييزيّة لاعتبارها مخالفة للالتزامات الحقوقية  لدولة لبنان. ووفقاً للأمم المتحدة فإن نسبة الفقر بعد جائحة كورونا ارتفعت من 55 بالمئة إلى 75 بالمئة.

ويتحدث التقرير عن مسح أجراه المجلس النرويجي للاجئين في آذار الفائت، بيّنَ أن 81 بالمئة من اللاجئين لا يعملون. وذكرت سماح حديد من المجلس أن التداعيات الاقتصادية لكورونا أدّت لزيادة تعرُّضِ العائلات لخطر طردهم من منازلهم بسبب عدم قدرتهم على دفع الإيجارات. وهذا ما أكده كثيرون ممّن تحدثنا إليهم، ومنهم سمير الحازم، الذي لم يعد يستطيع تدبير نفقات الحليب والحفاضات لطفله المولود حديثاً، مع محاولاته الدائمة للتغيير في سلم أولويات المعيشة منذ بداية الأزمة، فضلاً عن خسارته لعمله في ورشة للحدادة.

يرى الحازم أن سياسة التقشف التي ابتكرها بمساعدة زوجته لم تعد تجدي أمام الغلاء المرعب للسلع الأساسية والفواتير القاصمة للظهر، حسب وصفه. وما زاد الطين بلّة سياسة الإقفال العام وحظر التجول الذي تنفذه البلديات.

تورد إحصائية للجامعة الأميركية في بيروت أن السوريين يدفعون نحو 378 مليون دولار سنوياً كإيجارات لمنازلهم، واستطاعوا تأمين نحو 12 ألف وظيفة خلال العام ذاته.

ويقول علي خطاب، وهو عامل في ورشة بناء في الجنوب اللبناني، إن معظم من يعرفهم من أصدقائه لم يعد بإمكانهم دفع إيجار منازلهم: «أغلبهم عليه كسر لشهرين أو أكثر، وقسم منهم تخلوا عن منازلهم واتجهوا للعيش في أماكن أخرى، كالبيوت غير المكسوة والخرابات، وداخل البساتين التي تمنح العاملين فيها غرفة للسكن مقابل أجر أقلّ أو بمقايضتها بساعات العمل».

كان أصحاب العقارات، مع الأزمة المالية التي عصفت بلبنان، قد رفعوا إيجارات المنازل، بحسب خطاب، الذي يرى أن هذا الارتفاع «محق» لكنه يأتي في ظروف غير طبيعية، وضمن قرارات منع العمل وتوقف معظم الورش والمطاعم التي يعمل بها السوريون.

يدفع علي نحو 300 ألف ليرة لبنانية كبدل إيجار لمنزله. يخبرنا أن هذا المبلغ كان يساوي نحو مئتي دولار سابقاً، أما اليوم فهو لا يساوي خمسين دولاراً بسعر الصرف، لكن أرباب العمل ما زالوا يدفعون «أجرة العامل» بالليرة اللبنانية دون زيادة، وهو ما خلق هذا الفارق بين ما يحصل عليه اللاجئ وما يدفعه.

حالة التعبئة العامة وحظر التجوّل تفقر اللاجئين

21 بلدية على الأقل فرضت شروطاً تمييزية بحق اللاجئين السوريين لا تنطبق على السكان اللبنانيين.

– هيومن رايتس ووتش في نيسان 2020.

يقول خالد، وهو رب أسرة مكوّنة من ستة أفراد، إنه اختار العمل بشكل مياومة. يخرج صباحاً إلى ساحة بلدة حارة صيدا، حيث يجتمع العمال وينتظرون قدوم أي شخص بحاجة لعامل أو أكثر، إذ يجدون في هذه الأعمال المسمّاة بالعاميّة «حرتقة»، رغم مشقتها، فرصة للحصول على المال فور الانتهاء، زيادة على أنها لا تحتاج إلى تصاريح مزاولة مهنة.

ويبدي خالد امتعاضه من سياسة الإقفال العام التي لا تنتهي: «تقريباً كل شهر ونصف الشهر هناك إقفال لمدة خمسة عشر يوماً. ومؤخراً لم تعد تسمح لنا البلدية بالدخول إلى الساحة، مبرزة حججاً منها فرض حظر التجول، وعدم تجمع العمال، وتطبيق الإجراءات الوقائية الخاصة بكورونا».

ويقول سمير، وهو من عمال الساحة أيضاً: «إذا ما متنا بكورونا بدنا نموت من القهر والجوع. تراكمت علينا ديون بمئات الدولارات، والحصة الأكبر فيها لإيجار المنزل. قبل يومين أنذرني صاحبه بأنه سيطردني إن لم أسدد ما علَيّ. الغصة التي في جوفي تكبر مع عدم  تقدير أصحاب البيوت وأرباب العمل لوضعنا، وكأنهم يعيشون في كوكب آخر».

يتابع سمير: «ثلاثة أشهر وشركة التنظيف التي أعمل فيها لم تعطني ليرة واحدة، كانوا كل مرة يقول لنا بعد اتّصالنا بهم: بس يصير شغل منتواصل معكم». بقى سمير عاملاً بهذه الشركة بالاسم وبدون أي راتب أو تعويض، مما اضطره للنزول والبحث عن عمل الساحات لنفس الأسباب التي تحدث عنها خالد.

الأسعار بالنار ولا نقبض بالدولار

إن أوضاع اللاجئين السوريين من أسوأ ما حدث في أعقاب الانفجار، فقد أصبحوا بلا مأوى للمرة الثانية. بعد الانفجار ركزت الكثير من وسائل الإعلام على أرواح اللبنانيين التي فقدوها، لكن السوريين تأثروا بشدة أيضاً.

– جيهان قيسي، المديرة التنفيذية لاتحاد الجمعيات الإغاثية والتنموية، في موقع نون بوست.

 حالة الفقر والتخبط والبحث عن أساليب البقاء تأثّرت بشكل كبير بانهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار، فبعد أن كان الدولار الواحد يساوي ألف وخمسمئة ليرة يتراوح اليوم بين سبعة إلى تسعة آلاف ليرة.

أثّر كل من فيروس كورونا وما سببه من شلل اقتصادي، والانفجار الهائل والمحزن في مرفأ بيروت وتداعياته، في استقرار سعر الصرف وأدى ذلك إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وضياع آلاف فرص العمل.

يقول معظم من تحدثنا إليهم إن كل شيء في لبنان ارتفع ثمنه لأضعاف. لكن أجرة العمال  بقيت على حالها وبالليرة اللبنانية. وتتراوح أجرة العامل اليومي بين 25 ألف و30 ألف ليرة لبنانية، ما يساوي الآن أقل من أربعة دولارات حسب سعر السوق السوداء. يشكو كثير من اللاجئين من عدم قدرتهم على تأمين متطلبات الحياة اليومية.

يخبرنا أبو علي أنه قام الشهر الفائت ببيع التلفاز والدراجة الهوائية التي اشتراها لابنه السنة الفائتة، لدفع الفواتير المترتبة عليه وشراء بعض الحاجيات الأساسية للمنزل، كقارورة الغاز، في حين خفض كمية المواد الغذائية لكي تكفيه نقوده. ولا يعلم أبو علي ما قد يبيعه في الأيام القادمة من أجل البقاء.

سنستعرض أسعار بعض المواد الغذائية التي تحتاجها كل عائلة مع تبيان السعر قبل الأزمة وبعدها بالليرة اللبنانية (كيلو الشاي 11000 – 70000. كيلو السكر 1000 – 3500. كيلو الأرز 1250 – 3750. صحن البيض 5000 – 20000. لتر زيت دوار الشمس 1500 -8000. علبة حليب الأطفال 8500 – 46000. كيلو البرغل 1500- 7000. كيلو السمن 5000 – 25000).

حوالات اللاجئين شبه معدومة من لبنان

 نحن الآن ننتظر أي مساعدات. لم يعد بمقدورنا مساعدة أهلنا في الداخل

– محمد السمير، لاجئ في لبنان من إدلب.

تتشابه الأحوال الاقتصادية للاجئين السوريين في لبنان مع النازحين داخلياً في مخيمات وقرى الشمال السوري، بعد تَحوّل معظمهم إلى عاطلين عن العمل وتضاعف أسعار المواد الاستهلاكية والمرافق الحياتية. بات همّ الجميع البحث عن طريقة للعيش لتمضية أيامه دون القدرة على مساعدة من يلوذ بهم من عائلات وأقرباء.

يقول السمير إنه، وللمرة الأولى منذ تسع سنوات قضاها في لبنان لاجئاً، يطلب من إخوته ثمن محصول أرضه في إدلب. كان دائماً يتركه لهم ليساعدهم على تحمل أعباء الحياة، إضافة لما يرسله لهم من نقود شهرية.

يضيف: «كان طلبي يشبه طلوع الروح». فموسمه الذي بيع بمبلغ لا يتجاوز 400 دولار، أي أقل من نصف راتبه حين كان يعمل في مكبس للقرميد، أصبح يشكل فارقاً اليوم، خاصة وأن عليه دفع مستحقات الإيجار المتراكمة عليه منذ أشهر.

ويقول مجد الفارس إنه كان يرسل لأهله في إدلب 150 دولاراً شهرياً، تمكنهم من تدبّر أنفسهم وتأمين احتياجاتهم وقوت يومهم. كان يعمل مدة تسع ساعات تحت الشمس في صب قوالب « البوردير». لكن لبنان لم يعد كالسابق، بحسب مجد، فحالة الشلل الاقتصادي جعلته يجني ما يشتري به طعامه وإيجار غرفته والفواتير المترتّبة عليه.

يقول مجد: «كنت أتقاضى شهرياً نحو 500 دولار. أما الآن فراتبي لا يساوي أكثر من 75 دولاراً، أيام العمل تقلصت للنصف، ونحن في الصيف، ولا نعرف ما يخبئ لنا هذا الشتاء».

يقدر فادي السكّاف، الذي يعمل في تحويل الأموال، انخفاض نسبة التحويلات المالية بنحو 90 بالمئة عمّا كانت عليه سابقاً، ويخبرنا أن طريقة جديدة للتحويل وهي «التضامن العوزي» حلت كبديل للتحويلات الاعتيادية. ويشرح السكاف هذا المصطلح باشتراك عدة أشخاص لإرسال حوالة مالية قدرها مئة دولار، فمن يملك اليوم مئة دولار بات بحوزته «غنيمة»، على حد وصفه. أما في السابق فكانت تمثل أقل الحوالات المرسلة.

بقيت أجور الحوالات المالية على حالها، بالرغم من غلاء كل شيء، إذ تتقاضى المكاتب نحو 6 دولارات عن كل 100 دولار، وتتناقص بحسب حجم المبلغ لتبلغ 25 دولاراً عن كل ألف دولار.

العودة أو المغادرة سيناريوهات لا تقل رعباً

يقف لبنان عند مفترق طرق. الأحداث الأخيرة تهدد بالانجراف المتزايد نحو زيادة الزعزعة في استقرار البلد وتقويض وضع جميع المقيمين في لبنان بمن فيهم السوريون. وقد حجبت الأزمة الحالية الاهتمام بقضية اللاجئين السوريين والضغوط من أجل عودتهم، إلا أنه من شبه المؤكد أن موضوع عودة اللاجئين سيكون أولوية بالنسبة للحكومة الجديدة.

ويعيش في لبنان 1.5 مليون لاجئ سوري بحسب مفوضية الأمم المتحدة. وتعاني البلاد من بنية تحتية متداعية وتفتقر إلى الخدمات العامة الكافية، بما فيها الكهرباء والمياه والنقل والصرف الصحي. هؤلاء اللاجئون يعيشون في مدن وبلدات أو مخيمات أقيمت عشوائياً وبشكل تلقائي. ويعيش أكثر من 63 بالمئة منهم في شمال لبنان ووادي البقاع في الشرق، وهما من أكثر المناطق تهميشاً في البلاد، وفق المفوضية.

ما يثير قلق اللاجئين هو تحميلهم المسؤولية عن كثير من مشاكل البلد، إذ عانوا من حملات إعلاميّة عنصرية، بالإضافة إلى هدم الملاجئ والترحيل والانتهاكات.

يرغب جميع من تحدّثنا معهم بمغادرة لبنان. ويرون أنفسهم عالقين دون حقوق في العمل والتعليم المناسب، وحتى التنقل بسبب نظام الكفالة وحظر التجوّل في وجود كورونا. لقد أتوا إلى لبنان بإراداتهم هرباً من الموت والجوع، لكنهم لا يستطيعون أن يعودوا بأمان حتى وإن كانوا على استعداد لذلك.