ولد المسرح السوري مرتين: الأولى على يد الرائد أبي خليل القباني ورفاقه، في القرن التاسع عشر، والثانية على يد المُجدِّد سعد الله ونوس، ونخبة من الكتاب والمخرجين والنقاد والممثلين، في القرن العشرين. لكنه، في كلتا الحالتين، سرعان ما أُجهِضَ وتلاشت إنجازاته عبر السنين. ومع أن ظروفاً كثيرة ومتنوعة لعبت دوراً في ذلك، غير أن الاستبداد بأشكاله المختلفة، كان السبب الرئيس في هذا الموات والتلاشي.
عرف السوريون المسرح منذ منتصف القرن التاسع عشر، على يد الرواد الأوائل أمثال: مارون النقاش، سليم النقاش، أديب إسحاق، يوسف خياط، جورج دخول، جورج أبيض سليمان القرداحي، إسكندر فرح، وغيرهم كثيرون من رواد عصر النهضة العربية. ويعتبر أحمد أبو خليل القباني أحمد أبو خليل بن محمد آغا بن حسين آغا آقبيق، الملقب بالقباني، لأن أجداده كانوا يملكون قبّاناً في باب الجابية. ولد في دمشق عام 1842، وتوفي في 1903. أحد أعمدة تلك النهضة، والمؤسِّسَ الفعلي لفن المسرح في بلاد الشام، حيث كان من أهم تعبيراتها الثقافية، وذلك عام 1871، تاريخ عرض أول مسرحية له بمدينة دمشق الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح، التي اعتُبرت أول مسرحية سورية وعربية تتوفر فيها شروط وعناصر العرض المتكامل. كما قدم بعد ذلك مسرحيات وتمثيليات ناجحة «نالت إعجاب الجمهور الشامي».من صفحة المسرح السوري على ويكيبيديا.
وكان القباني أيضاً أول من أسس فرقة مسرحية في مدينة دمشق (من 1879 إلى 1880)، وأول من وضع الأُسس الأولى للمسرح العربي والدرامي الغنائي، وحوت فرقته مجموعة كبيرة من الفنانين بلغ عددها ما يقارب الخمسين فناناً وفنانة.
وكما كان مسرحه مثالاً رائداً في الفن، كان كذلك مثالاً للمواجهة مع السلطتين: السياسية (متمثلة بالسلطة العثمانية وولاتها)؛ والدينية (متمثلة برجال الدين وأتباعهم). تلك السلطة المزدوجة التي أحرقت مسرح القباني ومنعت مسرحه في بلاد الشام، وأجبرته على الهجرة إلى مصر. وهذه السلطة ذاتها هي التي لم تجد، بعد سنوات قليلة، أفضل من القباني للمشاركة في «معرض شيكاغو الكولومبي» في الولايات المتحدة الأميركية! فما إن وصلت دعوة من قبل الرئاسة الأميركية إلى الباب العالي (السلطان عبد الحميد الذي كان حريصاً على إظهار السلطنة كقوة عظمى)، حتى سارع إلى إصدار فرمان بتكليف لجنة خاصة بالمشروع، وتم استدعاء القباني إلى بيروت، وتكليفه بتشكيل فرقة مسرحية تمثل السلطنة في هذا النشاط العالمي، وهذا ما كتب عنه بالتفصيل الروائي والباحث الأركيولوجي تيسير خلف في كتابه من دمشق إلى شيكاغو. «من دمشق إلى شيكاغو/ رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893»، صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2018، وحاز على جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات.
يتناول تيسير خلف في هذا الكتاب النادر رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893، ويحتوي على معلومات جديدة ووثائق وصور نادرة، حصل عليها المؤلف من أرشيف بلدان عدة (عثمانية وأميركية وعربية)، ومن مكتبات ومخطوطات مختلفة، عمل على ترجمتها وتحقيقها وتدقيقها والتعليق عليها، طارحاً/ ومجيباً على أسئلة، كانت الإجابة عليها ملتبسة ومشوشة، ما جعل هذا الكتاب -حسب ظني- واحداً من أهم المراجع التي كُتبت عن حياة القباني، رائد ومؤسس المسرح الغنائي العربي، إن لم نقل التركي أيضاً.
ليست دقّةُ الوثائق والمعلومات الجديدة ما يثير الاهتمام فحسب، ولا محاولات المؤلف الحثيثة التي نجحت في إقناعنا بصحتها؛ بل التركيز على تفاصيل حياتية وفنية، لم يكن أحد لينتبه إليها سابقاً، ولم نكن نعرف عنها إلا القليل؛ بدءاً من الدعوة الموجهة من قبل الرئاسة الأميركية، إلى تفاصيل الرحلة التي انطلقت من بيروت، وتعقُّبِ مسارها، وطبيعة فرقة (مرسح ظلت تستخدم كلمة «مرسح» في بلاد الشام إلى أن استبدل المصريون «نجيب الريحاني» كلمة «ثياترو» الغربية بكلمة مسرح، وذلك في النصف الثاني من القرن العشرين. العادات الشرقية)، والباخرة (إس إس ويّرا) التي أقلتها من مدينة جنوا الإيطالية حتى وصولها إلى نيويورك، ووصف المعرض الكولومبي العالمي و«المسرح التركي» الذي تم بناؤه في «ميدواي بليزانس» في شيكاغو، إلى الحديث عن شبّاك التذاكر وبطاقات الدخول، ودور المرأة وأعضاء الفرقة وجنسياتهم وأعمارهم، مروراً بالتوصيف المسهب لتقنيات وعناصر العرض المسرحي (أزياء، ديكور، نص، إدارة، إنتاج، إضاءة، أداء مسرحي، رقص)، ووصولاً إلى الأفكار الكبيرة التي يطرحها الكِتاب -وهي الأهم-، حول الحرية وعلاقة الثقافة بالسلطة، ودور المسرح ووظيفته، وأحلام النهضة العربية، والعلاقات الثقافية والفنية بين أميركا ومنطقتنا العربية، في نهاية القرن التاسع عشر.
وما يثير الإعجاب أكثر هو غوص الباحث في روح هذه الوثائق والصور والملابسات، وقدرته على استنطاقها وتحليلها وجعلها تنبض وتتحول أمامنا إلى ما يشبه الفيلم الوثائقي المفعم بالحياة والدراما الإنسانية؛ ما مَكَّننا من الدخول إلى عمق الأحداث والأشخاص، وبخاصة شخصية القباني، وما كان يختلج في صدره، من هموم وإحباطات ودسائس، كان يتعرض لها، من قبل السلطتين المستبدتين: السياسية والدينية، وما كان يملكه من طموحات وأحلام يصبو إليها ويعمل من أجلها، بتصميم المؤمن بدور المسرح ووظيفته، ليتبين لنا أن القباني ليس محض «يافطة» أو اسم نتغنى به، أو أيقونة تُعلَّق على جدار في صدر (مسرح القباني) بدمشق، بل هو عمرٌ امتدَّ أكثر من ستين عاماً، وحياة مريرة تمور بالتفاصيل والمكابدة والكفاح، وشخصية فريدة متعددة القدرات والمواهب، جعلته تحت المراقبة بشكل دائم من قبل (جهاز «الخفية» جهاز الخفية: هو جهاز المباحث، أو الأمن بالمعنى المعاصر. من دمشق إلى شيكاغو/ رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893.) ورجاله الذين رافقوه حتى إلى أميركا، وكتبوا (التقارير) الأمنية لأسيادهم، عن كل شاردة وواردة حدثت هناك.
مع ذلك، كان القباني يؤلف «الروايات» ويشكّل الفرق المسرحية و«الجوق» الموسيقي، يلحّن ويغني ويرقّص، ويمارس التمثيل (التشخيص) والإخراج (إدارة الممثلين). وقد تمكن من تقديم أعمال مسرحية غنائية «متكاملة»، علماً أن جل هذه الفنون – وبخاصة الإخراج – لم تكن معروفة في عصره، ولم يدرسها القباني في مدرسة أو معهد! حتى إن المسرح العثماني كان وليداً حينئذ وكان الفرنسيون والإيطاليون هم من يقدم العروض المسرحية في قصور اسطنبول وغيرها من المدن، وباللغة الفرنسية لا التركية! إلى أن جاء أحمد توفيق باشاجلال سلمي، تاريخ المسرح التركي. الذي قام بتحويل المسرحيات الأجنبية إلى صيغة تركية، «وتشهد الوثائق التاريخية بأن أول مسرح تركي تم نسجه من قبل الفنان العثماني التركي أحمد توفيق باشا الذي قام بتحويل أكثر من 6 مسرحيات فرنسية إلى صيغة عثمانية تركية، وقام بإنشاء أول مسرح تركي في مدينة بورصة عام 1879».- المصدر السابق. كما يُعتبر أول كاتب مسرحي في التاريخ التركي، وذلك بعد أكثر من ثمان سنوات من تاريخ عرض أول مسرحية بمدينة دمشق (من تأليف القباني) وهي الشيخ وضاح. فَعَلَ القباني المستحيل بعدها ﻹقناع الولاة على سوريا بإقامة مسرح في دمشق، ونجح في ذلك أكثر من مرة (صبحي باشا 1872، ثم مدحت باشا 1878، وغيرهما) لكن مشكلته الحقيقة لم تكن مع السلطة السياسية فحسب، بل الدينية أيضاً، فقد تَمكَّنَ أخيراً المتعصبون النافذون من مشايخ دمشق، من استصدار فرمان «همايوني» بإغلاق مسرحه ومنعه من ممارسة مهنة «التشخيص» في بلاد الشام، بحجة أنه يثير الفتنة ويفسد أخلاق اﻷمة، فغادر إلى حلب ثم بيروت التي رفضته بدورها، لأن المنع لا يشمل مدينة دمشق وحدها، بل ولاية سوريا كلها، فشدَّ الرحال إلى مصر عام 1884.
توالى ظهور الفرق المسرحية بين الحربين العالميتين، وكانت حاضنتها الأساسية –بعد المدارس التبشيرية والحركات الكشفية- المقاهي والأندية الرياضية والجمعيات التي تأسست في دمشق وبيروت وحمص وحلب واللاذقية والقامشلي، وغيرها من المحافظات السورية، وكل منها يمتلك تاريخاً عريقاً حافلاً بالطموح والكفاح الفكري والفني. كما نشطت معها حركة التأليف المسرحي التي اتخذت طابعاً قومياً ضد الأتراك، ثم وطنياً ضد المستعمر الفرنسي.
وقد كان هذا التاريخ الثقافي الغني في مواجهة دائمة مع السلطتين السياسية والدينية، والاجتماعية كذلك. وكانت المقاهي والأندية الرياضية (حيث يجتمع الناس) أول شكل من أشكال العمل المدني، الثقافي والشعبي.
كان القبّاني في البداية متابعاً ومعجباً بـ«العروض» المنتشرة حينها في مقاهي دمشق، مثل الحكواتي ورقص السماح و«المولوية» و«كركوز وعواظ» و«خيال الظل»، وكان أغلبها يقدم في تلك النوادي والمقاهي، وبعضها في الأماكن العامة بالمدينة. واللافت أن المثقفين والناشطين الاجتماعيين هم من كان خلف تأسيس أغلب تلك الأندية والمقاهي. فقد أسس عبد الوهاب أبو السعودعبد الوهاب أبو السعود: (1897 ـ 1951) كاتب ومخرج مسرحي وممثل ومصور، وأحد رواد ونشطاء المسرح السوري. وإلى جانبه برز اسم معروف الأرناؤوط كاتباً ومقتبساً ومترجماً، وبخاصة مسرحيته الشهيرة «جمال باشا السفاح» 1919 التي رفعت أبا السعود إلى مصاف الشهرة. وحده -وهو كاتب ومسرحي معروف- عدداً كبيراً من النوادي، مثل: نادي الاتحاد والترقي 1918، الذي تحول إلى «النادي العربي» بعد دخول الملك فيصل إلى دمشق، ونادي الكشاف الرياضي 1928، ثم أسس نادي التمثيل والألحان عام 1933، على الرغم من ملاحقة السلطات الفرنسية له، من مكان إلى آخر.
وكما في عهد التأسيس الأول للمسرح (قبل قرون طويلة)، كان الكاتب هو رئيس الفرقة وهو المخرج والممثل في العروض التي قدمت، وكان لها جمهور كبير من المعجبين.
لُقّب أبو خليل آقبيق (وهذه كنيته الحقيقية) بـ«القباني»، لأن أجداده اشتغلوا بالقبان، كما لقب كذلك بالنشواتي لأن والده اشتغل بالنشاء. ويُقال إن الصبيان كانوا يلحقون به وهم يرددون «قرادياتهم» هازئين معيرين: «أبو خليل القباني/ يا مشغل النسوانِ»، و«أبو خليل النشواتي/ يا مرقص البناتِ»: وذلك بتحريض من رجال الدين الذين اعتبروا عمله بدعة وفتنة، وسلوكاً مشيناً، لأنه «يرقّص البنات ويشغل النسوان».
كم يشبه الأمسُ اليومَ! وكم تشبه تجربة القباني تجربةَ المبدعين السوريين المعاصرة، على الرغم من الفارق الكبير جداً في التطور الحضاري والتكنولوجي ووسائل الاتصال الاجتماعي، وفي طريقة تعامل الاستبداد مع الإبداع الفني والثقافي. لكن الاستبداد الحديث، لم يعد بحاجة لحرق المسارح، لأنها صارت ملكه (وزارة الثقافة، مديرية المسارح والموسيقى، المؤسسة العامة للسينما، اتحاد الكتاب…)، ولم يعد المشايخ بحاجة لصبيان يلحقون بالمبدع ويعيّرونه بترقيص البنات، فقد حل محلهم العسس والإعلام المنحاز، وصار منع المبدع سهلاً، وبات تهميشه أو حبسه أو إعدامه، بتهمة الخيانة والعمالة، أمراً مشروعاً. وكان لهم في هتلر وستالين وموسوليني أمثلة يُقتدى بها، فالنازية جرّمت برتولد بريخت ومنعت مسرحه وأحرقت كتبه، فهرب إلى أميركا، وفي الاتحاد السوفييتي ألقت أجهزة الأمن القبض على المخرج العبقري فسيفولد ميرخولد، بسبب توجهاته الفنية (الشكلانية) ووجهت إليه تهمة «عدو الشعب» ثم أعدم في شباط/ فبراير 1940، بعد محاكمة صورية، كما قُتلت زوجته بوحشية، في ظروف غامضة.
وميرخولد واحد من كبار المبدعين في عموم أوروبا، وصاحب نظرية «البيوميكانيك» Biomécanique أو تقنية الجسد في التمثيل والإخراج، التي فتحت الآفاق واسعة أمام حركة الممثل، وبالتالي، أمام الحداثة في المسرح العالمي. وهو أحد أبرز تلاميذ ستانسلافسكي (الذي يُعتبر أول من وضع الأسس الأكاديمية لفني التمثيل والإخراج في العالم). فهل سمع أحد منكم بمبدع أعدم بتهمة (الشكلانية) في المسرح، ومعاداة الواقعية الاشتراكية! وهل توجد مثل هذه الخطيئة العجيبة في تاريخ القضاء وسجلات العدالة، أو قواميسها!؟
فعلوا ذلك أيضاً بسقراط وابن المقفع ومهيار الدمشقي والسهروردي وغرامشي ولوركا وناظم حكمت ويلماز غوني وبازوليني، وغيرهم الكثير من رموز الثقافة والفن. أما في سورية الحديثة، فالإعدام كان معنوياً، لكنه جماعي.
مات القباني عام 1903 بمرض الطاعون، لكن المسرح لم يمت من بعده، على الرغم من ازدهار أوبئة وأمراض أخرى سارية، رافقت مسيرته عبر العصور، كالتخلف والتعصب والقمع والتدجين والعبودية!
ظهرت في سوريا، بداية القرن العشرين، فرق مسرحية كثيرة مثل فرقة «نادى الاتحاد» وفرقة «جورج دخول»، وكانت تقدم عروضها على مسرح «القوتلي» في «السنجقدار»، وفرقة «عبد اللطيف فتحي» و«أنور مرابط» و«سعد الدين بقدونس» و«محمود جبر»، وكذلك فرقة «ناديا» المسرحية (لصاحبتها ناديا العريس) التي كانت أكبر فرق التمثيل في ثلاثينات القرن العشرين، وضمت أكثر من 120 فناناً وفنانة، وكانت تقدم عروضها على مسرح «الكاريون» بدمشق.من صفحة المسرح السوري على ويكيبيديا.
وفي عام 1959، وبدعوة من (مديرية الفنون) التابعة لوزارة الثقافة آنذاك؛ تم تأسيس أول فرقة رسمية للمسرح، سميت المسرح القومي، شاركت فيها أغلب تلك الأندية وفرق الهواة التي كانت موجودة حينها، وكان نهاد قلعي أول مدير لها نهاد قلعي الخربوطلي (1928- 1993) ممثل وكاتب سوري، اشتهر خلال مسيرته الفنية الطويلة بلقب (حسني البورظان). هو فنان سوري مؤسس عمل في السينما والمسرح والتلفزيون. ألف مسلسلات عديدة: صح النوم، حمام الهنا، مقالب غوار، مغامرات كارلو، والعديد من التمثيليات مثل: مسرح الشوك، سهرة مع أبي خليل القباني.. وفي عام «النكسة» 1967 صدر قرار من وزارة الثقافة بإنشاء مسرح حلب القومي، وتم إقفال الأندية ومنع تشكيل الفرق من دون موافقة السلطات. وهكذا، تمت مأسسة الفن المسرحي، واحتكار الدولة له وتوجيهه والسيطرة عليه. ومع ذلك، أُطلق على هذه الفترة (الستينات والسبعينات) العصر الذهبي للمسرح السوري، والتي توجت بإنشاء أول معهد عالٍ للفنون المسرحية في دمشق عام 1977.
إن التجمعات البشرية –كما هو معروف- وبخاصة الأندية والجمعيات المدنية لا تتشكل وتنشط وتلعب دوراً إبداعياً، إلا في المدن والحواضر الكبيرة والمجتمعات المدنية، وفي جو من الحرية والتنافس، والسماح للرأي المستقل بالتعبير عن نفسه. لذلك، يُعتبر إقفال الأندية واحتكار الفن ومنع تشكيل الفرق المسرحية المستقلة جزءاً من توجهات الحزب الواحد في احتكار الحياة السياسية والفكرية، وهو المسؤول عملياً عن إحباط ووقف اندفاعة المسرح السوري الواعد، الذي تألق في عصره الذهبي، ثم راح يخبو بالتدريج في عصر سوريا الأسد. فقد أقفلت الأندية والجمعيات والتجمعات الثقافية كلها تقريباً، واستُبدلت بالمنظمات الرديفة لحزب البعث (الطلائع والشبيبة وغيرها)، وتبعها وضع اليد على النقابات المهنية (1980) بما في ذلك طبعاً نقابة الفنانين واتحاد الكتاب العرب وغيرها من النقابات الفنية والمهنية.للتذكير فقط: في زمن المستعمر الفرنسي، سمحوا للناس بالتجمع وتشكيل الأندية الرياضية والثقافية وإصدار الصحف المتنوعة.
في هذه الأجواء الصعبة والمعقدة، ولدت ظاهرة جديدة، وهي ولادة وتبلور لمسرح حديث، يمكن أن نطلق عليه الولادة الثانية للمسرح السوري (بعد ولادته الأولى على يد أبي خليل القباني). ففي منتصف الستينات برزت أسماء عدد من الكتاب الشباب الذين يحملون في قلوبهم وعقولهم بذور الحداثة والتجديد المسرحي، وكان أبرزهم ممدوح عدوان الذي صدر له أكثر من ثمانين كتاباً في الشعر والرواية والترجمة والمسرح.ممدوح عدوان (اسمه في السجلات الرسمية مدحت صبري عدوان)، هو كاتب وشاعر ومترجم سوري، وُلد في تشرين الثاني/ نوفمبر 1941، في قرية (قيرون) التابعة لمدينة مصياف/ حماة، وتوفي عام 2004؛ تاركاً 17 ديواناً شعرياً وأكثر من 20 مسرحية، بالإضافة إلى الكتب النثرية الناقدة، وعدد كبير من الترجمات العالمية الهامة (نحو 30 كتاباً، نقلها عن اللغة الإنكليزية). من أعماله المسرحية: محاكمة الرجل الذي لم يحارب، كيف تركت السيف، ليل العبيد، هملت يستيقظ متأخراً، الوحوش لا تغني، سفر برلك، القناع، وغيرها. كما اعتمد في مرحلة من مسرحه على «المونودراما» ذات الشخصية الواحدة، فكتب أعمالاً هامة مثل القيامة، الزبال، حال الدنيا، الخدامة. وكذلك برز في دمشق الكاتب الفلسطيني مصطفى الحلاج وعلى عقلة عرسان والأب الياس الزحلاوي ورياض عصمت، وفي حلب وحمص وليد إخلاصي وفرحان بلبل، والكثير من الكتاب المسرحيين المحليين في إدلب وحماة والحسكة واللاذقية وطرطوس، وغيرها من المحافظات السورية. وقد برز بينهم الكاتب والمسرحي الشاب سعد الله ونوس سعد الله ونوس: 1941-1997. ولد في قرية حصين البحر. حصل على منحة لدراسة الصحافة بجامعة القاهرة عام 1959. عمل محرراً للصفحات الثقافية في السفير اللبنانية والثورة السورية. كما عمل مديراً للهيئة العامة للمسرح والموسيقى في سوريا، وفي عام 1966 حصل على منحة دراسية من وزارة الثقافة وسافر إلى باريس ليدرس المسرح الأوروبي. ألف العديد من المسرحيات والكتب النظرية في المسرح والثقافة. أسس ورأس تحرير مجلة الحياة المسرحية عام 1978، وكُلف بتنظيم مهرجان دمشق المسرحي الأول 1969، كما شارك في تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية والمسرح التجريبي.، الذي سرعان ما تحول إلى قامة وقيمة فنية وثقافية معاصرة، تركت بصمة كبيرة ومؤثرة في المشهد الثقافي الفني والفكري، المحلي والعربي، فأصبح بجدارة رائد هذه الولادة الثانية ورمزها.
وقد مرّ مسرح ونوس بمراحل عدة؛ بدءاً من دراسته للصحافة في القاهرة عام 1959 (أيام الوحدة)، وسفره بعد ذلك إلى فرنسا لدراسة المسرح الأوروبي عام 1966، مروراً بالانقلاب الكبير الذي حدث في حياته وأدبه، بعد هزيمة 1967، والذي تجسد في مسرحيته الدعائية حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران. هذه المسرحية المباشرة الغاضبة الصاخبة المتمردة المتحدية للهزيمة، الناقدة للثقافة السائدة وللحُكّام والمحكومين، والتي تضعنا (للوهلة الأولى) أمام مشروع مسرحي جديد، ناضج ومختلف، ويحتوي على عناصر مسرحية غير مسبوقة، في الشكل وفي المضمون: (هدم الجدار الرابع، وجود الممثلين في الصالة، مشاركة الجمهور في العرض…إلخ)، ويشي بتوجهات فكرية وجمالية، تكللت عام 1970 بإصداره بيانات لمسرح عربي جديد والدعوة إلى ما سمي بمسرح «التسييس».
مُنِعَت مسرحية حفلة سمر من العرض سنة 1969، لكن النظام الجديد سمحَ بعرضها عام 1971، بعد انقلاب (التصحيح 1970)، ولم تُمنع بعد ذلك مسرحية واحدة لونوس! بل نُشرت في الدوريات السورية المختلفة (المعرفة، ملحق الثورة الثقافي، جريدة البعث، الطليعة السورية، وغيرها)، وعُرضت على خشبات أغلب المحافظات السورية؛ ليس لأن النظام يرحب بهذا الكاتب الجديد وعروضه، بل لأن هذا النوع من المسرح (المباشر) كان يناسبها ولا يضيرها. والسؤال: هل يرحب المستبد بالمسرح الإيديولوجي المباشر؟ وهل كان مسرح ونوس كذلك؟ سيكون الجواب صعباً، علماً أن المباشرة كما نعلم معادية للديمقراطية، وهي كذلك معادية للإبداع.
الحديث عن مسرح ونوس قد يطول، وهو موضوع متشعب وحساس ولا نستطيع الآن أن نتناول جوانبه كلها، لكن لا بد من وجهة نظر نقدية لجوهر هذه التجربة، بعيداً عن المديح والتقديس والإعجاب المفرط أحياناً، والإحجام، غالباً، عن النقد، باعتبار ونوس صار رمزاً من رموز المسرح السوري والعربي، وربما النقطة الوحيدة المضيئة في ليل المسرح السوري الطويل!
كلنا نعرف قيمة الرجل، ولا أحد يريد أن يسيء لهذه القامة الوطنية المنفتحة أصلاً على الحوار والنقد والديمقراطية. فالديمقراطية والنقد «مترابطان أو صنوان، ينموان معاً ويتراجعان معاً؛ فنمو التفكير النقدي مؤشر على ازدهار الديمقراطية، وموته دلالة على سيادة الاستبداد بألوانه وصنوفه كافة»في حاجتنا إلى النقد، حازم نهار.، وما حدث ويحدث اليوم لسوريا والسوريين يدفعنا بقوة إلى إعادة النظر بأنفسنا وبالقيم جميعها؛ الجمالية والثقافية والفكرية والوطنية التي عرفناها في زمن الاستبداد.
لو تأملنا مسرحيات ونوس الأولى «فترة الستينات» التي صدرت في كتاب حكايا جوقة التماثيل أول مجموعة من المسرحيات القصيرة صدرت له عام 1965عن وزارة الثقافة، ضمت ست مسرحيات: فصد الدم، لعبة الدبابيس، جثة على الرصيف، الجراد، المقهى الزجاجية، الرسول المجهول في مأتم انتيجونا.، وهي مسرحيات قصيرة سريعة، ذات مشهد واحد، تشبه إلى حد كبير التمارين المسرحية؛ لوجدنا أنها تنتمي – حسب ظني – إلى المسرح التعبيري الرومانسي أو الوجودي الرمزي، المتأثر بالمسرح الفرنسي (حيث كان يدرس حينها).
بعد هذه المسرحيات التي شكلت ظاهرة جديدة في تاريخ المسرح والتأليف المسرحي السوري (ومثله مثل بقية الكتاب العرب) بدأ ونوس يبحث جاهداً، عن شكل لـ«فرجة مسرحية» تناسب بيئتنا وثقافتنا وواقعنا، بعيداً عن العلبة الإيطالية. كان يبحث عن هوية مسرحية (وهذا واجبه وحقه طبعاً)، لكننا نجده يتوجه بقوة نحو مسرح بريخت «التغريبي» أو ما يطلق عليه المسرح التعليمي أو الملحمي أو الديالكتيكي الذي كان حينها يجتاح العالمين الشرقي والغربي، تحت راية المعسكر الاشتراكي والحرب الباردة؛ متبنياً (أي ونوس) رؤية بريخت وأسلوبه! وذلك انطلاقاً من إصراره على أن للمسرح وظيفة تحريضية، أو تعليمية! حسب منهج «الواقعية الاشتراكية»؛ فنراه في بياناته لمسرح عربي جديدنشر في مجلة المعرفة العدد 104. يقترح نظرية مسرح التسييس التي تحدد وظيفة عليا للمسرح؛ هي المشاركة والالتزام بقضايا المجتمع، وحمل هموم الناس والتعبير عنها، وعن أحلامهم وتطلعاتهم. كما تطمح إلى أن يكون المسرح مكاناً للحوار بين الخشبة والصالة. لذلك، قام بهدم الجدار الرابع، وجعل الصالة امتداداً للخشبة، وشجع الجمهور على المشاركة في العرض. كما اتكأ على التراث، علّه يجد فيه المقولة أو الموضوع أو الشكل المناسب لمسرحه! وقد وجدها في الفيل يا ملك الزمان، ومغامرة رأس المملوك جابر، ومنمنمات تاريخية، وسهرة مع أبي خليل القباني، وغيرها من مسرحياته الناجحة (وهذا كله جيد)، لكن، هل نجح في إيجاد الشكل المسرحي المنشود! والجواب هو: لا، لأنه ابتعد عن العلبة الإيطالية (المستوردة) من الغرب، والتي تُعنى بالتطهير الأرسطي نظرية في المسرح التراجيدي وهي (إثارة الخوف والشفقة لدى المشاهد). catharsis، ليتبنى التغريب (المستورد) بدوره من الغرب! متأثراً -في الشكل وفي المضمون- بتجربة بريخت ومسرحه التعليمي (وقد وقعنا جميعاً تحت تأثيره يومها)، نتيجة الانقسام الإيديولوجي والجمالي والفلسفي بين الشرق والغرب، والاستقطاب الحاد الذي فرضته الحرب الباردة التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود.
في هذا الوقت، كانت قد تخرجت مجموعة كبيرة من الشبان الذين درسوا الإخراج المسرحي وغيره من فنون المسرح في الاتحاد السوفيتي ودول عربية وأوروبية أخرى، أمثال رفيق الصبان، وعلاء الدين كوكش، وخضر الشعار، وأسعد فضة، ويوسف حرب، وعلي عقلة عرسان، ومحمد الطيب، وحسين إدلبي، وفردوس أتاسي، واسكندر كيني، ثم فواز الساجر، وتوفيق المؤذن، وحسن عـويتي، ومحمود خضور، وفـؤاد الراشد ، ورياض عصمت، ووليد قوتلي، ونائلة الأطرش، وشريف شاكر، وطلال الحجلي، ومانويل جيجي. ومصمم الديكور المميز نعمان جود، وعلي الحامض، وعدد من النقاد الذين كتبوا وترجموا الكثير من الأعمال الهامة أمثال نديم محمد معلا، ونبيل حفار، وماري الياس، والمخرجة والمترجمة حنان قصاب حسن، وغيرهم من الخريجين المتقدين حماساً، الذين لعبوا دوراً مفصلياً في هذه الولادة الثانية للمسرح السوري، وبخاصة في مجال اختيار النصوص الإنسانية والإخراج والتمثيل والتنظير المسرحي.
وقد لعبت الشراكة التي ربطت فواز الساجر بسعد الله ونوس في فترة السبعينات من القرن المنصرم دوراً بارزاً في ظهور مشهدية جديدة خلّاقة، تكللت بتأسيس المسرح التجريبي، وفي ولادة المعهد العالي للفنون المسرحية 1977؛ ما أفسح المجال في تقديم أعمال لم تشهدها الساحة المسرحية من قبل. كما كان لمصممي الديكور نعمان جود وعلي الحامض وغيرهما، تأثير قوي في خلق وتطوير سينوغرافيا جديدة اعتمدت الأكاديمية الرصينة، مضافة إلى، ومعتمدة على الشرطية المعبرة، في رسم الفضاء المسرحي.
هذه الأسماء البارزة في تاريخ المسرح السوري الحديث، وأسماء أخرى كثيرة (لا يتسع المجال لذكرها كلها الآن) تحتاج بالتأكيد إلى دراسة منفردة ومستفيضة؛ فقد ترك كل واحد منها بصمته وأسلوبه الخاص به في الأعمال التي قدمها، وبخاصة الأعمال المتمردة ذات النزعة التجديدية لوليد قوتلي ونائلة الأطرش ومانويل جيجي؛ وكذلك أعمال المخرج شريف شاكر الأكاديمية الرصينة، وتصاميم نعمان جود التي أضافت نكهة جديدة إلى المشهد المسرحي، ناهيك عن الكتب النقدية القيمة التي كتبها وترجمها نديم محمد معلا ونبيل الحفّار، إضافة إلى المعجم المسرحي الأكاديمي الذي أنجزته ماري الياس وحنان قصاب حسن المعجم المسرحي/ مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، مكتبة لبنان ناشرون 1997….إلخ، والتي صدرت وعُرضت كلها تحت راية الاستبداد وشعاراته التافهة وقبضته الأمنية المهيمنة.
أما مسرح فواز الساجرولد الساجر في إحدى قرى منبج 1948. أوفدته وزارة الثقافة لدراسة الإخراج المسرحي في موسكو عام 1966. وكان أستاذه يوري زافانسكي (أحد تلاميذ ستانسلافسكي). تخرج من معهد «غيتس» للفنون المسرحية 1972 وعمل في المسرح الجامعي بدمشق وقدم مسرحية «نكون أو لا نكون» عام 1975. أوفدته وزارة الثقافة إلى اليابان لمدة ستة أشهر (للاطلاع على المسرح الياباني)، وأنجز عرض «توراندوت» 1978، كما ساهم مع سعد الله ونوس، في تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية، وعمل مدرساً فيه. عاد إلى موسكو لدراسة الدكتوراه بين عامي 1982- 1986، وكانت الأستاذة المشرفة عليه «سونيا مور» الخبيرة الشهيرة في المسرح الروسي، صاحبة كتاب «منطق الكلام على المسرح، وإعداد الممثل، ودليل الممثل الكامل للعفوية على الخشبة”. عاد الساجر إلى المسرح التجريبي وقدم مسرحية «رحلة حنظله من الغفلة إلى اليقظة» وهي من اقتباس سعد الله ونوس. وقدم في العام 1980 «ثلاث حكايات» عن ثلاثية الكاتب أوزوالد دراكون. كما قدم عرض التخرج لطلبة الدفعة الأولى من قسم التمثيل، وهو (سهرة مع أبي خليل القباني) لسعد الله ونوس أيضاً. عام 1988 قدم فواز الساجر مسرحية «سكان الكهف» المميزة، عن مسرحية ويليام سارويان، وكانت آخر أعماله؛ حيث توفي فجأة في 16 أيار/ مايو من العام نفسه. فقد كان مدرسة متميزة في الإخراج، لم تتبلور تماماً، لأن الموت للأسف الشديد حرمنا منها في وقت مبكر؛ حيث اعتمد بشكل أساسي على فن الممثل، وسبر أغواره النفسية والجسدية، فاعتبره سيد الخشبة وأساسها، وكان نموذجاً مميزاً للمخرج المثقف والإنساني العميق. أسس عام 1977، مع سعد الله ونوس المسرح التجريبي، وقدم يوميات مجنون عن نص نيكولاي غوغول. وفي حوار معه عن المسرح التجريبي قال الساجر: «منذ بداية نشاطي المسرحي -رغم قصر التجربة- كان هاجسي الأساس هو الوصول إلى المتفرج، مستفيداً من طبيعة تكوينه وخصوصيته الشرقية، ولذلك بدأت اختبر معلوماتي وقناعاتي المسرحية، وقد اضطررت للتخلي عن الكثير من هذه القناعات، بسبب بعدها عن متفرجنا، رغم أكاديميتها وثبات صحتها».
«الجدانوفية» باقية وتتمدد
قد تظنون أنني خرجت عن الموضوع في هذا العنوان الصادم، وقد تتساءلون: ما علاقة المسرح السوري بالجدانوفية!؟ لكنني قصدت ذلك متعمداً، لأن الجدانوفية لصيقة تماماً بمسرحنا! فقد وجدتها السلطة السورية (الاشتراكية المناوئة للإمبريالية) مناسِبة تماماً لحكمها الشمولي. كما أن الكتلة الأساسية من الخريجين درست في المدرسة السوفييتية، وتأثرت بشكل أو بآخر بالواقعية الاشتراكية التي أسسها أندريه جدانوف أندريه جدانوف (1896 ـ 1948) كان وزير الدعاية والثقافة والمستشار الثقافي لستالين، وقد لقب بـ «سفاح الثقافة» لأنه ساهم في التشدد الإيديولوجي في العهد الستاليني في الفترة: 1934 ـ 1953.، المفكر الشيوعي، والمنظر الثقافي السوفييتي الأبرز، الذي كان وزيراً للدعاية ومستشاراً ثقافياً لجوزيف ستالين (تماماً كما كان باول جوزف غوبلز وزيرَ الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر)، وهو من قسّم العالم إلى كتلتين: شرقية وغربية، إبان الحقبة الستالينية، هو من طرح مبدأ من ليس معنا فهو ضدنا: «الدول التي ليست من المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي، هي بالضرورة من المعسكر الرأسمالي الإمبريالي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية»، ناسفاً بذلك الحياد، سواء كان إيجابياً أو سلبياً، ومختصراً ألوان قوس قزح إلى أبيض وأسود! وهو صاحب «مبدأ جدانوف» الذي يدعو إلى تسخير الإمكانات الروحية كلها، الفكرية والفنية والإبداعية، للشيوعيين، في مواجهة الثقافة البرجوازية المعادية. وبالتالي، هو من كان وراء ملاحقة وسجن واختفاء ونزوح ومقتل الآلاف من المبدعين والمفكرين الكبار، وعلى رأسهم المخرج المسرحي الفذ فسيفولد ميرخولد! وهو من كان وراء إنشاء «اتحاد الكتاب السوفييت»، ومذهب الواقعية الاشتراكية الذي أسسه مع مكسيم غوركي، «فقد تم الإعلان عن قيام الواقعية الاشتراكية مذهباً أدبياً رسمياً للإبداع الاشتراكي، سنة 1934، في مؤتمر الأدباء الشيوعيين، في الاتحاد السوفييتي، وتولى صياغة مبادئها الأساسية في هذا المؤتمر، كلّ من مكسيم غوركي صاحب رواية (الأم)، وأندريه جدانوف».
كان الرجل يمتلك ثقافة موسوعية، لا شك في ذلك! حتى أن أفكاره اعتُبرت «مدرسة»، وسميت بـ «الجدانوفية». وقد توفي عام 1948 في «مؤامرة خسيسة»، عُرفت بـ «مؤامرة الأطباء اليهود، الذين تعمدوا إهمال صحة القياديين في الحزب الشيوعي، وكان جدانوف واحداً من أبرز ضحاياها».
ليس جدانوف ولا سيرة حياته ما يهمنا هنا؛ فقد ماتت الجدانوفية بعد موت ستالين 1953، وزالت مع زوال الاتحاد السوفيتي، لكننا نجد حتى الآن من يعمل على هديها ويقتدي بأنوارها الخابية، في كثير من الأحزاب الشيوعية واليسارية والأنظمة العربية المستبدة! فقد وصلتهم مبادئ جدانوف متأخرة في ستينات القرن المنصرم (بعد موت ستالين بسنوات)، لكنهم لم يسمعوا –ولو متأخرين- بموتها! وكان أول من تبناها وهلل لها محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس (مع تقديري للرجلين)، وذلك من خلال كتابهما في الثقافة المصرية الذي هاجم الثقافة المصرية عملياً، والأشكال الواقعية القديمة كلها، متخذاً موقفاً سلبياً من نجيب محفوظ، بوصفه ممثلاً للبرجوازية الصغيرة، بينما مدح ومجّد رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي، لأنه كان في ذلك الوقت محسوباً فقط على الشيوعيين واليسار المصري.
لكننا ما زلنا حتى اليوم نجد من يعتقد بأن الجدانوفية باقية وتتمدد، حسب ظنهم، وأنها سوف تبقى إلى الأبد، وربما أكثر! علماً أن الجدانوفية سادت بين عامي 1934- 1953، واندثرت في بلد المنشأ وفي أغلب بلدان العالم المتحضر!
أما الواقعية الاشتراكية – التي يسميها بعضهم اليوم تخفيفاً «الواقعية الاجتماعية» – فهي مصابة بالعمى الإيديولوجي؛ فلا ترى تنوع الألوان وجدلها، على الرغم من أنها تنتمي إلى المذهب الأدبي الملازم للفلسفة الماركسية والمادية الجدلية والتاريخية. وهي -في الجوهر- ليست واقعية ولا اشتراكية ولا اجتماعية أبداً، لأن الواقعية بلا ضفاف، على رأي روجيه غارودي. أما الواقعية الاشتراكية فهي محدودة ولا ترى إلا النصف المليء من الكأس، إذا كان الكأس موالياً، والنصفَ الفارغ منه، إذا كان مغايراً! وهذا مناف للواقع والحقيقة! وهي كذلك لا تعترف إلا بالبطل الإيجابي الذي لا وجود له أصلاً في الواقع، فكل منا نحن البشر «يحمل في الداخل ضده»مظفر النواب.، وكل منا مزيج عجيب من الإيجابيات والسلبيات، وجديلة غليظة من القلق والأمل والإحباط والحماسة والخوف والتردد والمتناقضات الإنسانية المتنوعة والمشروعة! فكيف يمكن أن يكون العامل جيداً، فقط لأنه ينتمي إلى الطبقة الكادحة، والبرجوازي سيئاً فقط لأنه ينتمي للطبقة البورجوازية! وكيف يمكن بعد ذلك أن نعتبرها مدرسة إنسانية – كما يدعون – إذا كانت تقسم الناس حسب طبقاتهم أو معتقداتهم أو انتماءاتهم المذهبية! ألا يشبه هذا إلى حد كبير تصنيف الناس حسب دياناتهم وطوائفهم وأعراقهم!؟ ثم إن الواقعية الجدانوفية لا تعترف بالتنوع ولا بالنقد! ويسهل عليها تخوين الآخر والحكم عليه بالموت، دون محاكمة ودون تردد. والواقعي الاشتراكي ملزمٌ باستخدام قوالب جاهزة، وعليه أن يعكس بالضرورة رؤية متفائلة ومستقبلاً وردياً غير قابل للشك! وهذه في الحقيقة ليست مدرسة ولا فلسفة، بل محض سفسطة شخصية وسياسية، في مجال الفكر والأدب والفن، مرتبطة بشخصية ستالين الجلفة، وبإيديولوجيا سلطوية متعصبة إرهابية، سرعان ما تبيّنَ انحرافُها وضيق أفقها وسقوطها. لذلك، أُطلق على جدانوف –المنظّر والمنفّذ الوفي لهذه السياسة- لقب «سفاح الثقافة»؛ لما ارتكبه من جرائم بحق المفكرين والأدباء والفنانين.
لا أحد يستطيع وصف مسرح ونوس بـالجدانوفي، لكن لا شك أنه مسرح ملتزم، يتورط في الشأن السياسي بشكل مباشر. وقد أشار ونوس في لقاءاته أكثر من مرة إلى أن الفرق كبير بين مسرح التسييس والمسرح السياسي، لكنه لم يخبرنا مرة واحدة ما هو هذا الفرق. فمفهوم مسرح التسييس يوحي بما هو أدهى من المسرح السياسي، وهو تحريض الآخر (المشاهد) على ممارستها، وفق رؤية المبدع وغاياته. لذلك أظن أن مسرح التسييس أسوأ من المسرح السياسي (من حيث شكل العبارة على الأقل). أما من حيث الجوهر، فلا أظن أن للفن وللثقافة بعامة وظيفة تبشيرية أو تعليمية أو «تسييسية». لأن وظيفته موجودة فيه؛ تماماً كما توجد الأنوثة في المرأة. موجودة في جوهره، في البحث الدائب عن الجمال الكامن في الإنسان والمجتمع والطبيعة. والفن -بالضرورة- حارس للقيم العليا للإنسانية وملتزم بالدفاع عن حقوقها: حق الحياة والحرية والكرامة والعدالة والحب والمساواة والتعبير والمشاركة، وكل القيم الأخلاقية التي ناضلت البشرية من أجل تكريسها عبر مسيرتها الطويلة، محوّلة ذلك الوحش البدائي (ساكن الكهوف) إلى إنسان متحضر، والتي تعتبر اليوم قيماً وحقوقاً من حقوقه الأساسية والمكتسبة. وكما أن الفن، والمسرح بخاصة، لا يستطيع أن يتخلى عن هذه الحقوق والقيم، ويقدم مسرحاً بلا قضية أو ضمير أو معنى؛ فهو لا يستطيع أيضاً أن يتحول إلى محض داعية أو مبشر بعقيدة محددة، تؤمن بها فئة أو سلطة ما. وهو إن فعل، فلن يقوده ذلك إلا إلى السطحية (في الحالة الأولى)، أو إلى «التبويق» (في الحالة الثانية) فيصبح بوقاً بيد هذه السلطة أو تلك؛ سواء كانت سلطة دولة أو مجتمعاً أو حزباً أو ديانة أو قومية، أو حتى سلطة رأس المال.. والمسرح لا يمكن أن يكون كذا ولا كذلك.
لذلك، لا بد من طرح سؤال واضح، قد يبدو ساذجاً، لكن الإجابة عليه ضرورية: ما هو الفرق بين المسرح العقائدي التبشيري، وفن المسرح الحقيقي؟ والجواب يمكن تلخيصه في أن المسرح العقائدي يدعو إلى، ويبشر بـ، ويناضل من أجل فكرة أو قيمة واحدة، تهم طبقة أو جماعة محددة من الناس؛ وهذا وحده كفيل أن يقيد ويحد من أفق الفن، ويجعل سقفه منخفضاً، بينما يكافح الفن الحقيقي الحر من أجل القيم الإنسانية العليا التي تعني البشر جميعاً، في المجتمع الإنساني الواحد والوطن الواحد. هذا من حيث المضمون. أما من حيث الشكل، فالمسرح العقائدي غير معني بالشكل الفني، وإن فعل، فسوف ينزلق الشكل معه لصبح عقائدياً بدوره، لأن المضمون هو هدفه الأساس. ألا يصبح شعار المنجل والمطرقة أنسب شكل للتعبير عن عقيدة الشيوعية؟ ويصبح الصليب أو الهلال أو الشمعدان اليهودي، أو الراية الداعشية، أنسب شكل للعقيدة الدينية؟ والصليب المعقوف ألا يصبح مناسباً أكثر للنازيين والراية الخضراء أو السوداء للطائفيين وصورة غيفارا للثوريين الأمميين وخريطة الوطن العربي وصورة الزعيم للقوميين العرب وغيرهم؟ ألا تصبح هذه الرموز مقدسة، ويصبح كل ما يتنافى معها ممنوعاً ومحرماً؟؟
المسرح الحقيقي يدعونا إلى أن نترك العقائد نائمة وآمنة في صدورنا، ونأتي إليه للحوار بعقول منفتحة، بعيداً عن التعصب الفئوي، بأشكاله المختلفة. أليس الأحرى بنا أن نَفصِل الإيديولوجيا عن الفن، كما نفصل الدين عن الدولة والسياسة.
قد يختلف معي كثيرون، لكني من خلال تجربتي (وقد تبنيت شخصياً الواقعية الاشتراكية ذات يوم، ودافعت عنها)، تبين لي أن الفن لا يمكن أن يكون معلماً! فالتعليم يعني طرح مقولات وأفكاراً جاهزة (معان ومعايير علمية وقيم ثابتة وعقائد مقدسة)، لا يجوز تبديلها أو تغييرها أو حتى المساس بها. لذلك، أرى أن التعليم مكانه البيت والمدرسة والأحزاب السياسية والدورات التدريبية، والكرازة أو التبشير أو الوعظ مكانه الكنائس والمنابر والجوامع والكتاتيب والمؤتمرات، حيث تنعدم مقولة الحوار – التي دعا إليها ونوس نفسه – لتحل محلها مقولة السمع والطاعة، وحيث يُسمح للصوت الواحد والرأي الواحد وحده أن يعلو الأصوات والآراء جميعها!
حدث ذلك في الفترة «الجدانوفية» والدكتاتورية التي مارسها ستالين على الثقافة والمجتمع (كما بينا سابقاً) وفي فترة الفاشية والنازية التي مارسها موسوليني وهتلر، وفي الثورة الثقافية في الصين التي دعا إليها ماو تسي تونغ، والتجربة الناصرية في مصر عبد الناصر وثروت عكاشة (الذي رفض أن تتحول وزارة الثقافة إلى وزارة إعلام)، وثورة الفاتح وكتاب معمر القذافي (الأخضر) وما فعله الهاشميون والسعوديون والأشراف العلويون في المغرب، وما شاكلهم من ممالك وإمارات وسلطنات مستبدة في الوطن العربي، وعلى رأسهم حكم البعث و«جبهته الوطنية التقدمية» الذي أذاقنا الأمرين، في سوريا والعراق، وحولّنا كلنا إلى خدم وأبواق لشعارات الحزب الحاكم؛ سواء كانت تمجيداً للثورة أو للقائد أو للمنجزات والشعارات الملفقة، عن الوحدة والحرية والاشتراكية والمقاومة والممانعة ومعاداة الاستعمار والإمبريالية والصهيونية… إلخ.
كل هذه الشعارات العقائدية شعارات سياسية دعائية عابرة؛ يظنون أنها أبدية وهي آنية، لا تفيد إلا الحكام المستبدين العابرين، ولا يجوز للمسرح أن يتبناها، لأنه راسخ وثابت وأصيل وأبدي. غاية المسرح هي التجمع والنقاش، ثم التساؤل والتأمل في أعماق النفس البشرية، والوقوف مع الإنسان في صراعه مع الطبيعة ومع السلطات التي تظلمه وتقيد حريته وحياته وأحلامه، وفي صراعه مع محيطه، ومع نفسه، ومع أخيه الإنسان. والهدف هو تفجير الطاقات الإبداعية والجمالية ونبش أجمل ما فينا من قيم إنسانية وتكريسها، من خلال التجربة المسرحية. أما الاستبداد فهدفه تحويل الجماهير إلى قطيع لا يتقن إلا السمع والطاعة.
لقد أخفق بريخت عندما أراد من المسرح أن يكون مُعلِّماً، ولم يبقَ من مسرحياته التبشيرية وكتبه، غير كتاب صغير اسمه الأركانون الصغير تأليف برتولد بريخت، يشرح فيه نظريته في المسرح.، يشرح فيه نظريته في شكل المسرح «التغريب»، وليس في وظيفته فحسب. حتى أرسطو الذي طرح نظرية التطهير، كانت فكرته مبنية على الإنسانية، وليس على فئة اجتماعية، أو عقيدة محددة. وهذا لا يعني طبعاً رفض المسرح المدرسي الذي يُقدم للتلاميذ في مدارسهم، لغاية تعليمية، ولا المسرح التفاعلي الذي يقَّدم للفلاحين والعمال في قراهم وأماكن عملهم، ويناقش معهم همومهم وطموحاتهم. إنما هي دعوة لتحرر الفن من قبضة السلطة، أياً كانت، وتحويله إلى أداة سياسية للسيطرة على المجتمع.
إن فكرة «المضمون» المقدس، والشكل التابع له – وهي فكرة الواقعية العقائدية – شكلت خطراً كبيراً على الفن. فالمسرح – أقدر الفنون على إعادة إنتاج الواقع – هو في نهاية المطاف سينوغرافيا وتشكيل وظلال وإضاءة ومصائر وأرواح تتحرك على الخشبة، والوظيفة الأساس فيه هي الحوار والتأمل والقدرة على الإقناع، وبناء الشخصية، وسبر أعماق النفس البشرية، والارتقاء بها. وليس غريباً أن يهرب بعض المبدعين من هذا التحدي (الفن الحقيقي)، إلى الشعارات (السهلة والمبتذلة)، فنحن لا نجد لدى الكتاب المسرحيين العرب، إلا ما ندر، شخصيةً واحدة حقيقية، تخوض صراعاً حقيقياً، شخصية مصنوعة من لحم ودم وعواطف وظروف ذاتية وعامة محيطة بها! بل هي شخصيات مجردة (أفكار) تمشي على قدمين!
كتب ونوس الفيل يا ملك الزمان عام 1969، وأخرجها لأول مرة علاء الدين كوكش، ليتم عرضها في مهرجان دمشق المسرحي الأول من العام ذاته. وهي من المسرحيات القصيرة وتطرح فكرة «كما تكونوا يولى عليكم». وتحكي المسرحية قصة ملك ظالم لديه فيل ضخم يؤذي الناس ويقتل أطفالهم ويقتلع أشجارهم ويهدم بيوتهم، وهو يرمز للقوة والبطش والجبروت، ولا يتجرأ أحد من الرعية على ردعه أو الشكوى منه. يقنعهم زكريا (البطل) بتقديم شكوى للملك، ويدربهم على ما سيقومون به، لكنهم ما أن يقفوا بين يدي الملك حتى يجبنوا ويتلعثموا ولا يجرؤ أحد منهم على النطق، إلا بعبارة واحدة: «الفيل يا ملك الزمان»، وعندما يسألهم: «ما شأن الفيل؟»، لا يجرؤون على إكمال الشرح، فيغضب الملك ويكاد يأمر بقتل زكريا، لو لم يتقدم وينحني حتى يكاد جبينه يصل إلى الأرض، ويقول: «إن رعيتك تحب الفيل يا مولاي، وجاءت تطالب بتزويجه، كي ينجب أكبر عدد ممكن من الفيلة يا مولاي!» فيقهقه الملك مستغرباً هذا الطلب، ويصدر فرماناً بتزويج الفيل، ويأمر بمكافأة زكريا وتعيينه مرافقاً دائماً للفيل.
فمن هو زكريا هذا، أليس فكرة تمشي على قدمين؟ هل هو شخصية من لحم ودم ومشاعر وتاريخ وظروف محيطة به؟ وكذلك المملوك جابر (الانتهازي) الذي قبل أن يحمل للغزاة رسالة خيانة فوق جلدة رأسه، مذيلة بعبارة «اقطعوا رأس حامل هذه الرسالة»، فما هي الظروف التي جعلته يُقدم على ذلك، وهل كان هذا الظرف المُعطى مقنعاً؟
من حق المسرح الذهني الذي تنتمي إليه مثل هذه الشخصيات (الأفكار) أن يكون موجوداً عندنا (وقد وجد وتبلور في الغرب، وشكل تياراً جارفاً في ستينات القرن العشرين، على يد صموئيل بيكيت، ويونيسكو، وألبير كامو وغيرهم من رواد مسرح العبث والفلسفة الوجودية)، لكن ذلك جاء عبر مسار طبيعي، تاريخي تراكمي فلسفي وجمالي، حدث في الغرب، بعد الحرب العالمية الثانية، فهل يحق لمبدعينا (الثوريين) أن يقفزوا إلى «آخر موضة» في المسرح الغربي، ويتبنوا أخطر أداة من أدوات مسرح العبث وهي «الشخصية الفكرة»، ثم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها ضد مدرسة العبث ومدرسة الفن للفن (الذاتية، البورجوازية) ويحتجون على ذلك بمقولة «الفن من أجل القضية!». علماً أن مدرسة العبث هذه كانت آخر ما أنتجه الفكر المسرحي في حينه، أما مدرسة الفن للفن، فهي أقدم من البورجوازية والإمبريالية بمئات آلاف السنين! وقد مارسها الإنسان البدائي عندما رسم الحيوانات على جدران الكهوف، قبل الحضارة واللغة والعقائد وربما قبل الفن ذاته، كما رقص حول النار، وغنى قبل الآلة والنوتة الموسيقية! فهل يعرف أحد منا لماذا رسم ونحت، ومن أجل أي مقولة رقص الإنسان البدائي وغنى!؟
إذا كانت المقولة هي الأساس، فلماذا نصمم الديكورات والملابس ونجري التدريبات المضنية وننفق هذه الأموال وهذا الوقت والجهد كله!؟ لماذا لا نكتفي بقطعة خام نكتب عليها بخط جميل شعاراً مثل: «أمة عربية واحدة» أو «الإسلام هو الحل» أو «يا عمال العالم اتحدوا». إنها محض شعارات لا تقنع ولا تصلح حتى للتلاميذ الصغار، أو الأغبياء الكبار! إذا كنتَ ضد المحتل، فحرق أعلامه لن يعيد أرضك! وإذا كنتَ ضد الحرب فعليك أن تجترح قيماً جمالية ترتقي وتوازي مآسي الحرب، لا أن تطلق الشعارات وتسب مثيري الحرب وتحرق أعلام العدو. مهمة الفن، الذي يمجد القيم العليا، أن يقدم إبداعاً يحاكي هذه القيم، ويعبر عنها، لا يبدأ وينتهي بالصراخ؛ بل يبدأ من النص ولا ينتهي حتى بعد انتهاء العرض.
إن القدرات كلها تُبذل من أجل الفن الموجود في هذه المسافة بين النص والعرض. هذه القدرات لا يمكن أن تكرس من أجل شعار يسهل تناوله وإلقاؤه من على منبر خطابة! ثم إن المباشرة والدعاية ممجوجة في الشعر والقصة والرواية والتشكيل والسينما، وحتى في الخطابة، تأنفها النفس! وهي بعيدة أصلاً عن الفن، لأن هدفها هو الفكرة (المقولة). هل يمكن أن يكون الإنسان محض فكرة؟ وكيف نقنع الممثل بأن يتحول جسده إلى فكرة تتحرك فوق الخشبة!؟ وهل يمكن أن نقدم فكرة عظيمة بوسائل متهافتة!؟ يتوجب علينا ألا ننسى بإن هذه الوسائل والأدوات هي صلة الوصل بين الخشبة والصالة. إنها أدوات العرض، فكيف نقنع الجمهور بها!؟
هنا يكمن جوهر الفن؛ في الإقناع. لأنك عندما تتحدث عن الحب أو السلام أو الحرية مثلاً بشكل مبتذل وسيء، تصبح هذه القيم سيئة ومبتذلة بدورها.
إن التعبير عن الأفكار العظيمة لا يتم إلاّ بما يوازيها من الجمال والعظمة والسحر. لذلك أرى أن ونوس سرعان ما تأمل في هذه الأفكار، وانتقل في المرحلة الأخيرة من حياته إلى الجوهر؛ إلى النفس البشرية وقيمها العليا. والذي يقرأ أعماله الأخيرة يكتشف الفارق بين مسرحيات مثل حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران، والفيل يا ملك الزمان، ومغامرة رأس المملوك جابر، والملك هو الملك؛ ومسرحيات مثل بلاد أضيق من الحب، وطقوس الإشارات، ورحلة في مجاهل موت عابر، والأيام المخمورة؛ حيث تخلى عن المباشرة والتسييس، واتجه إلى التأمل في الروح الإنسانية. لكن موته المبكر عام 1997 حرمه وحرمنا من إكمال هذه المتعة، كما حرمنا قبل ذلك من صديقه ورفيق دربه فواز الساجر الذي كان يرفض أن يقدم المسرحُ قيماً ثابتة من منظور تبريري، وكان يقول: «المسرح المطلوب في وطننا هو ذلك المسرح الذي يؤكد قيماً اجتماعية وأفكاراً جديدة من شأنها أن تدفع وعي الناس إلى الأمام.. إن المسرح يغيّر ولا يتغيّر».
لا شك أن الحديث عن هذا التحول الكبير في مسرح ونوس، يحتاج إلى دراسة مفصلة أو كتاب مختص، لكن المقام لا يسمح بها هنا. ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن هذا التحول بدأ بعد انقطاع عن الكتابة دام أكثر من عقدبين عامي 1978- 1990 ومسرحيتي: رحلة حنظلة والاغتصاب.، ليعود ونوس ويفاجئنا بمسرحيتين تحملان إرهاصات أولية لهذا التحول، وهما: الاغتصاب 1990، التي تناول فيها بموضوعية الانتفاضة الفلسطينية والتعذيب الجسدي والنفسي والعلاقة بين العرب واليهود، ومنمنمات تاريخية 1994، التي يناقش فيها التاريخ مستحضراً حصار التتار لدمشق، في عهد تيمورلنك، وردود أفعال الأهالي ودعوة الشيخ برهان الدين التاذلي للقتال حتى الموت، وعلاقة ابن خلدون (صاحب العمران) بالجهاد، ومحنة العلم أمام الحرب، وصولا إلى مقولة «التاريخ يكتبه المنتصرون».
لكنه بعدها -وفي العام نفسه 1994- يفاجئنا بمسرحية طقوس الإشارات والتحولات حيث تكتمل رؤيته الجديدة للمسرح ووظيفته بشكل واضح، وتختلف -من حيث المبنى والمعنى- عن مسرحياته السابقة كلها. فهي مسرحية اجتماعية أخذها عن قصة وردت في مذكراته فخري البارودي مسرحية طقوس الإشارات والتحولات، دار الآداب للنشر والتوزيع. الطبعة الثالثة 2005، ملاحظة صفحة 5.، تتحدّث عن تحوّلات فردية لشخصيات دمشقيّة أرستقراطية عاشت في القرن التاسع عشر. وهذا ليس بجديد على ونوس، لكن اللافت أن النص مبني -لأول مرة في مسرحه- على قراءة الفرد/الجسد، وعلى تحولاته النفسية في ظلّ «التابوهات» الدينيّة والأخلاقية السائدة. وقد قال ونوس في مقدمة المسرحيّة: «إن أبطال هذا العمل هم ذوات فرديّة تعصف بها الأهواء والنوازع وترهقها الخيارات، وسيكون سوء فهم كبير إذا لم تُقرَأ هذه الشخصيّات من خلال تفرّدها وكثافة عوالمها الداخلية»المصدر السابق..
المرأة، الجسد، الدين، النزوات، السلطة والمكائد، هي موضوعات طقوس الإشارات والتحولات. أبطالها أفراد حقيقيون، من لحم ودم، يبحثون عن ذواتهم ونزواتهم. ولهذا، نجد ونوس يؤكد على أنه لا يقصد بمسرحيته شخصيات عامة أو مؤسسات (رموز أو أفكار) بل شدَّدَ على أن «الشخصيات التي تعيش في هذا العمل تمثّل أهواء بشرية وإنسانية قد تعصف بأي إنسان».المصدر السابق. هنا تنتفي حاجة ونوس لهدم الجدار الرابع والتأثير المباشر على الجمهور، ويستغني عن التسييس والخطابة، ليحل محلهما الهمس. ويكتفي بالغوص في أعماق النفس البشرية وسبر أغوار شخصياته اللائبة بين الرغبة الجسدية والمحرم الديني والاجتماعي. وهذا ما عبّر عنه أحد النقاد في مراجعته لهذه المسرحية قائلاً: «ليثبت أنّ النفس البشرية حينما تتصالح مع جسدها ورغباته وسط مجتمع يحتقر الأجساد ومتعها تتحول إلى حالة من إعصار مدمّر لا يقود إلّا إلى الجنون أو الموت. إنه الموت واستحالة الحبّ مع الجنس الملطّخ بقهر الجّسد ونفيه وتطويعه». وهذا ما يفسر ربما الإقبال الكبير على إخراج هذه المسرحية في أكثر من عاصمة، فقد عُرضت في بيروت والقاهرة في مسرح الهناجر عام 1997، وفي دمشق 2009، وفي باريس في مسرح الكوميدي فرانسيز عام 2013.
فهل نجد مثل هذه الرؤية الجديدة للمسرح في أعماله السابقة؟ والجواب طبعاً لا. إنما تجذرت في مسرحياته الأخيرة التي كتبها تباعاً خلال أقل من ثلاث سنوات، كما لو أنه ينازل الموت: أحلام شقية 1995، يوم من زماننا 1995، ملحمة السراب 1996، بلاد أضيق من الحب 1996، رحلة في مجاهل موت عابر 1996، ليختمها أخيراً بمسرحيته: الأيام المخمورة 1997 التي صدرت قبل أشهر من وفاته.
ثم إن سعد الله ونوس هو من تمنى، في رسالة إلى المسرح العالمي كتبها عام 1996، لو كان عنوان رسالته «الجوع إلى الحوار»، وهو من أكد أن «هذا الحوار يقتضي تعميم الديمقراطية، واحترام التعددية، وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم»، وهو من اعتقد أن «المسرح، ورغم كل الثورات التكنولوجية، سيظل ذلك المكان النموذجي، الذي يتأمل فيه الإنسان شرطه التاريخي والوجودي معاً».
والآن، وقد دُمِّرَت سوريا من قبل طغاتها في سابقة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وتفككت بنيتها العمرانية والديموغرافية والجغرافية والثقافية، وبات المواطن بلا وطن (بل كفر بهذا الوطن) وصار المسرحي بلا مسرح وبلا مشاهدين؛ فهل نستطيع الحديث عن ولادة ثالثة للمسرح السوري يمكن أن تنمو في رحم هذه المأساة؟ وما الذي بقي لنا كي نعتمد عليه في النهوض؟ هل من نافذة ضوء، أو أمل ما؟ والجواب: نعم، بالتأكيد، ليس لأننا «محكومون بالأمل» فحسب؛ بل لأن هذه المأساة كشفت عوراتنا وغيّرتنا، وجعلتنا -شئنا ذلك أم أبينا- نعيد النظر في حياتنا المعاشية والإبداعية والأخلاقية والفكرية، تماماً كما فعلت الحرب العالمية بالأوروبيين، والحروب الأهلية بالأمريكيين والروس والصينيين وغيرهم من شعوب الأرض الذين جعلتهم المأساة أكثر قوة وصلابة، فدفعتهم إلى النقد والحداثة. وعلينا ألا ننسى بأن الحرب العالمية والدمار الشامل الذي لحق بأوروبا هو من أنتج الفكر النقدي، وفسح المجال واسعاً أمام الحداثة في الفكر والفن والفلسفة الأوروبية.
كثيرون يشكّون في ذلك، ويستكثرون على الشعب السوري -بعدمية تتناقض مع العلم والمنطق- قدرته على النهوض من جديد، متناسين أن التاريخ لا يمكن أن يتحول بهذه السهولة إلى رماد قذيفة، أو ركام مدينة مدمرة. وأن الشعب السوري، بأجياله المتلاحقة، سيولد ثانية، ويبني وطناً جديداً ومسرحاً يليق بتاريخه.
نعرف أن ذلك لن يكون سهلاً أو قريباً، لكن من يراقب حركة المسرح السوري المهاجر، في لبنان وتركيا والأردن وغيرها من الدول العربية والغربية، وهو بالمناسبة أول مسرح في تاريخ البشرية يهاجر مع جمهوره، ولا يشبه هجرة أبي خليل القباني أو إبسن هنريك يوهان إبسن: 1828- 1906، كاتب مسرحي نرويجي كبير، كان من أهم العاملين على ظهور الدراما الواقعية المعاصرة. يعرف بـ «أبو المسرح الحديث» هاجر من وطنه بسبب أعماله الإشكالية. أو بريختهاجر إلى الولايات المتحدة هرباً من النازية، وقد حرقت كتبه في بلده ألمانيا. أو هجرة أندريه تركوفسكي من أشهر السينمائيين الروس. ولد عام 1932. هاجر عام 1979، وتوفي في باريس عام 1986. في السينما وفاسيلي أكسينوفكان فاسيلي أكسيونوف في الخامسة من عمره عندما ألقي القبض على والديه. في السبعينات منع من إصدار أعماله. هاجر إلى أميركا في الثمانينات بعد أن جردته السلطات من جنسيته السوفيتية. مؤسس الأدب الروسي الحديث، أو حتى هجرة ابن خلدون أو ابن رشد، في الفكر والفلسفة.
لقد تمكن الإبداع السوري من الاستمرار في بلدان النزوح، وهذه مواجهة ليست بالسهلة. وشكّل في بعضها ظاهرة لافتة، ليس في فنون المسرح وحسب، بل في السينما بخاصة، وفي التشكيل والأدب والموسيقى والرقص…إلخ.
فهل يعجز هذا الإبداع عن الولادة من جديد؟