لم تكن غيرَ حائطٍ عملاق تَدَاعى فوق رأسي، تلك هي بلادي. بهذه العبارة نِصف الواقعية، المكتوبة بخط الرقعة، يتزيّن بيت جابر في منفاه الفرنسي. زوّار هذا البيت قلائل، ومعظمهم عابرو طريقٍ يقصدون باريس لليلةٍ أو اثنتين لقضاء حاجاتٍ ملحّة، ويشتركون جميعاً في أنهم سوريون مثل جابر. هذا المسكن المزيّن بلوحةٍ واحدةٍ ليس منزلاً بالمعنى الدقيق، بل غرفة في الطابق السابع والأخير من مبنىً باريسيٍّ قديم في الحي السابع، ويُضطر ضيف جابر، أو هو نفسه، إلى مغادرة الغرفة حين يحتاج أحدهما التعرّي للاستحمام في الكابينة الزجاجية المنصوبة في زاوية الغرفة. أما المرحاض، الواقع في منتصف البهو الخارجي للطابق السابع، فيتشاركه جابر مع القاطنين في الغرف الثلاث المجاورة، ويكاد يكون الوحيد المهتم من بينهم بتنظيف هذا المكان.
لم يستطع جابر توطيد علاقته بجيرانه، فهو يَسيرُ الكلامِ مع الناس، وينتظر من الآخرين المبادرةَ إلى توطيد العلاقة، وذلك ما لم يفعله الجيران. قد نستثني من صمت جابر الطويل مع الغرباء ساعاتٍ يقضيها برفقة بعض الصبايا الجميلات، اللواتي يجعلن منه حسوناً كثير الثرثرة. في الحقيقة، لا دخل للصبايا بذلك، ولكنّه كثير الكلام حين يكون بمزاجٍ رائق، وقد صادف كثيراً أن يكون الطرف الآخر امرأةً أدهشه حضورها، فأقنع نفسه، حنيناً إلى الأيام التي ودّ فيها أن يصبح شاعراً، بأنّ جمال المرأة ذو أثرٍ على دفق الكلام من لسانه. يرغب جابر، منذ دخل غرفته لأول مرّة، أن يتحسّن دخله بأسرع ما يمكن ليحقق حلم الانتقال إلى منزلٍ أوسع، بحمامٍ يداري محاشم داخِله وبمرحاضٍ يختصّ به لوحده.
لقد صارت جميع أحلام جابر بهذا القدر من البساطة منذ أن وصل الحدود السورية التركية فارّاً من التجنيد الإجباري وحتى الآن، رغم أنه يخفي في قرارته إنساناً شديد الاعتداد بِطاقاته وطموحاته، ويؤمن أنّه قادرٌ على قطف أعناق النجوم لو شاء. جابر مزيجٌ من أشياء كثيرة قد تجتمع في كل البشر، وقد يختصّ بها فردٌ واحدٌ يعاني من اضطراباتٍ نفسية: هو رقيقٌ وحادّ الطبع، جسورٌ وحذرٌ حدّ الخور، يخفي خلف تهذيبه صفاقةً نادرة، وخلف نزقه وحاجبيه المقطبين ليناً معجوناً بالظُرف والدماثة. لكنّ مشكلته الحقة هي أنه لا يستطيع السيطرة على هذه الطباع والموازنة بينها لإنزال كل واحدةٍ في موضعها اللائق. ولوعيه بذلك، يفضل الاختباء خلف وجهٍ متّزنٍ زَوَّره في خلواته إلى نفسه؛ وجهٍ ينبع اتزانه من كونه بلا تفاصيل واضحة، ويخرج من فتحة فمه صوتٌ ذو درجةٍ ثابتةٍ لا تتغير، وكأنما قد درّب رئتيه على إخراج القدر نفسه من الهواء في كل مرةٍ يريد فيها تحريك أحباله الصوتية.
ليس هذا فقط، جابر يعاني من مشاكل نفسية حقيقية، لكنّ هذا ليس التفصيل الأهم في حياته على الإطلاق. قال لجابر أكثرُ من معالجٍ نفسي إنها اضطرابات ما بعد الصدمة. يرى جابر كوابيس متطابقة، كأن يمرّ بنقطة تفتيشٍ في دمشق، فيكتشف الجندي أن وثيقة تأجيله عن الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية قد انتهى أمدها منذ عشرة أيام، ليقرر بعدها تحويله إلى فرع الشرطة العسكرية. في هذا الكابوس تحديداً تنتهي الأحداث عند هذه النقطة دون تطوراتٍ أخرى، فدوماً ما كان جابر، بالتزامن معها، يصحو مذعوراً غير قادرٍ على مواصلة النوم. يحدث أن يعاود جابر النوم ليواجه الكابوس نفسه بدءاً من بدايته الأولى ووصولاً إلى لحظة قرار ترحيله إلى الشرطة العسكرية، ثم يصحو خرعاً من جديد. قرر ذات مرّةٍ إكمال الكابوس بعقلٍ واعٍ، فكتب السيناريو التالي على الورق الموضوع أمامه بتفاصيل مملة: موقوفاً فَحليق الرأس متورّم الجسد، ثم جندياً فَمنشقاً فَفارّاً، واكتفى عند هذا الحد من تطوير سيرته حين أدرك أنه ربما يكون في طور تحريض عقله الباطن على توليد كوابيس جديدةٍ قد تزوره في ليالي الأيام اللاحقة. لهذا الكابوس عظيمُ الأثر في نفس جابر، فقد كان يخشى الحواجز بشكلٍ مرضي، حتى أنه تعوّد يومياً الذهاب مشياً إلى جامعته البعيدة عن بيته في دمشق 7 كيلومتراتٍ تقريباً رجاءَ تجنّب المرور بالحواجز، عبر سلوك الطرقات الفرعية. أخبره كثيرٌ من أصدقائه الفارّين مثله من البلاد بأنهم يتشاركونه الكابوس ذاته، وأخبره أحد المعالجين النفسيين بأنّ الحواجز العسكرية في سوريا قد ثقبت جَنَان جميع الشبان والشابات السوريين الذين زاروا عيادته.

ما هذا الكابوس وحده الذي يجعل من جابر مضطرباً نفسياً، ولا كوابيس أخرى يرى نفسه فيها معتقلاً أو متلقياً نبأ مقتل عائلته أو واحدٍ من أكثر أصدقائه حميميةً، فثمة أيضاً خوفٌ قارٌّ لا يعافه؛ خوفٌ من كل الأشياء مجتمعةً، ومن لا شيء منها على سبيل الخصوص. يُحيل جابر خوفه إلى جملة أشياء معقدةٍ يقول إنها يصعب تفسيرها، وذلك لئلا ينزف جميع طاقته النفسية التي يداريها لتعينه على تحمّل ما أنصبته قسوة أعوامه الخمسة والعشرين، والتي عاين فيها ثورةً وحرباً وهزيمةً وفقداً، ويعاين فيها الآن غربةً ووحدةً وفقراً ورُهاباً وجسداً يشتدّ على بعضه بعنف وأسناناً تصطكّ لتَبرُدَ بعضها بعضاً. جابر هو الذي يقول محدّثاً نفسه إنها عاينت كل ذلك ولم تعشه، حتى يتيح لها إلقاء نظرةٍ عجماء وحيادية إلى ماضيها وحاضرها. أجل، قد نقول إنّ هذا كثيرٌ على أيام عمره القليلات، لكنّ هذا ما حدث، ولاحظوا أن السبب هي بلاده التي تداعت فوق رأسه كجدارٍ ضخم، فنجا ولم ينجُ.
ظلّ جابر منذ مجيئه إلى فرنسا في العام 2016 يشتكي من ألمٍ في أحشائه، يحسّ به متحركاً من أعلى البطن إلى يمينها فأسفلها ويسارها، إنه ألمٌ لا تصبر عليه الجمال، ولكنّ جابر ظلّ يصبر. يتطوّر الألم أحياناً يصير فيها التنفّس مَشقةً مُضافةً على الألم الأول، ويضيق قفصه الصدري كما لو أنّ الأضلاع المكوّنة له قد التحمت لتحترب، غير أنّ الجمل جابر يظلّ يحتمل. ذهب جابر إلى طبيبٍ ثلاث مرات، وأجرى مجموعةً من التحاليل ثلاث مرات، وصوّر المنطقة الممتدة من أسفل عنقه إلى أسفل بطنه بواسطة الأشعة ثلاث مرات، ولكنه كان سليماً رغم كل آلامه المبرحة. اتفق أطباءٌ ثلاثةٌ على أنّ مبعث آلامه نفسيٌّ بالدرجة الأولى والأخيرة، وأنّ الحلّ لهذه الآلام رحلةُ علاجٍ نفسيٍّ تبدأ من عند جابر نفسه، ويرافقه فيها طبيبٌ نفسيٌّ بلا شك، فلعله القولون العصبي، ولعلها أشياء أخرى للدماغ تأثيرٌ مباشرٌ على عملها.
لم يقتنع جابر بكلام الأطباء، وأصرّ على أن شيئاً ما في جسده ليس على ما يرام، ولا دخل لذلك بحالته النفسية، فهو قد درّب روحه على تحمّل قلقها وخوفها واضطرابها واكتئابها من دون أن يرتدّ ذلك بسوءٍ بالغٍ على أعضاء جسده، وصار يعرف جيداً ترويض المشاكل النفسية جميعها ليواصل عمله وتفاصيل حياته اليومية كإنسانٍ يشبه أولئك الذين يحيطون به في البلد الغريب. ولأنها لم تعد فكرةً حسنةً أن يُعلِمَ الأطباءَ بذلك، فلم يفاتحهم جابر بالتقنيات الذاتية التي طوّرها لضبط مشاعره وأحاسيسه، والتي تجعله واثقاً من وجود خللٍ فيزيولوجي يبعث على الألم، وهو ما لن يوافق عليه الأطباء. فكّر جابر في اللجوء إلى أحد المختصين بالطب العربي عبر الإنترنت، لكنه لم يفعل ذلك بسبب نزقه من التواصل مع غرباء جدد، لا سيما أولئك المحشوة رؤوسهم بنصوصٍ دينيةٍ يزينون بها كلامهم من غير مبررات. عوض ذلك، قام بمجهودٍ شخصيٍّ للبحث عما يعاني منه فلم يفلح، وجرّب منقوع البابونج والنعناع الأخضر واليانسون والزعتر البري، ولكن دون جدوى.
أخبر جابر معالجَه النفسي بأنه لم يعد واثقاً بكلام الأطباء، ولا يرى في نصائحه النفسية ما يخفف من الآلام التي تمنعه من ممارسة أبسط تفاصيل حياته، كما لا يجد علاقةً بين أزماته النفسية وقولونه أو حركة أمعائه وقدرة جهازه الهضمي على التعامل مع كمية الطعام القليلة التي يتناولها. أراد المعالج النفسي أن يكون واضحاً وحازماً وجلفاً مع جابر هذه المرة، على عكس مرونته وودّه المعهودَين، فقال له إنّ عليك أن تكفّ عن إقناع نفسك بهذا الهذر، فبداية علاجك من آلامك تكمن في اقتناعك بأنك معتلّ النفس ودائم القلق ومشغول الدماغ بصورٍ وتفاصيلَ مؤلمةٍ لا تنكفّ تطاردك، وهذا الدماغ مرتبطٌ بجهازك الهضمي بشكلٍ مباشر. عليك أن تفهم ذلك جيداً، وعليك التجاوب معي. لقد كانت هذه آخر مرةٍ يرى فيها جابر المعالجَ النفسي، فقد قرّر مجدداً علاج نفسه بنفسه، عبر البحث الذاتي والمتأنّي عن مسبّبٍ عضويٍّ لا نفسي لآلامه، ولكن لا علاج متاحاً الآن أمامه غير الصبر، فعلّق لوحةً ثانيةً في غرفته الصغيرة فيها صورة جمل.
كانت المشكلة الحقيقية في تعامل الأطباء مع جابر في نظره هو انطلاقهم من فكرة أنه سوريٌّ معذّبٌ ومنهكٌ نفسياً نظراً لمعاناته من مجموعة اضطرابات ما بعد الصدمة، وقد سمع من سوريين آخرين أنّ ذهابهم إلى الأطباء بات من غير قيمة، فهم لا يزيدون في قولهم شيئاً عمّا سمعه جابر من أطبائه، وذلك رغم اختلاف مَواضع وأشكال الألم، وكثيراً ما كرّر الأطباء أمامهم أنهم استقبلوا مراراً سوريين قد انعكست آلامهم النفسية على أبدانهم فتمكن منهم السقم. بالمختصر هي اضطراباتٌ نفسيةٌ يعاني منها كثيرٌ من السوريين وتتسبّب لهم بآلامٍ فيزيولوجية.
مرّ عامٌ كاملٌ على آخر مرةٍ زار فيها جابر عيادة طبيب، ولكنّ الألم تفاقم كثيراً خلال هذا العام الذي طوّر فيه الجمل جابر طاقاتٍ على التّحمل فاقت ما يحتمله الجمل الحقيقي، وأدمن المسكنات المتنوعة التي يزوّده بها أصدقاؤه. في أحد المساءات تحدّث مصادفةً إلى صيدليٍّ من أصدقائه، يعاني ما يعانيه جابر من كونه سورياً مهشّم النفس. أخبره جابر بما يقاسيه، فقال الصيدلي إن أمرك قد يكون سهل الحل، فلعلك ابتُليت بجرثومةٍ في المعدة كنت حملتها معك تذكاراً من مياه بلادك المخلوطة بفضلات ساكنيها. ما عليك لتشفى سوى أن تقضي على هذه الجرثومة بجرعاتٍ مضاعفةٍ من المضادات الحيوية، واذهب لإجراء تنظيرٍ قبل ذلك، فعندها سيتأكد الطبيب واصفاً لك هذه المضادات على الفور، ثم سترتاح بعدها لتعود سورياً عادياً يعيش في عالمين متوازيين؛ عالم للعمل ومطلق الطبيعية، وآخر لنفسك المتعبة وحطامها.
وبالفعل، هذا ما جرى تماماً. لا أدري إلى أيّ درجةٍ يبدو مهماً أن أنقل لكم مقطعاً صغيراً يصف حياة جابر في المنفى ومعاناته مع الأطباء وعلله اللامحدودة، رغم أن مجريات وأحداث سنين حياته الأخرى أكثر أهميةً، بما لا يقارن، من كل الكلام الذي أوردته. ولست متيقناً من ضرورة أن أخبركم أنّ جابر ليس شخصاً واحداً قد نراه مُصادفةً في باريس، وليس بإمكاننا اليوم مراقبة كيف يعيش مع آلامه النفسية بشكلٍ عاديٍّ بعد أن قتل الجرثومة اللعينة. لست متيقناً من شيء، ولكني واثقٌ من أنّ جابر مزيجٌ من سوريين كُثُر، ولربما هو شخصٌ لم يُخلَق أصلاً! ولربما مات قبل أن يصل إلى باريس أو تنال منه الجرثومة اللعينة، ربما مات حين تداعى فوق رأسه الجدار الكبير.