«ليس المهم ماذا تكتب، المهم كيف تكتبه».
يعرف الكثير من المنشغلين بكتابة الأدب، وبغيره أيضًا، هذه النصيحة. هذا لأن «ماذا تكتب» هو الواجب، هو ما عليك فعله، عملك الذي تتقاضى عليه أجرًا أو شهرة، أما «كيف تكتبه»، فهذا يعني أنه ليس مجرد واجب، هذا يعني أنك كنت سعيدًا وأنت تكتب الرواية، أنك لم تكن تنتظر بفارغ الصبر انتهاءَك منها لتتفرّغ للأشياء التي تحبها، بل إن كتابة روايتك تلك هي عينها الأشياء التي تحبها.
كأنَّ الإنسان بعد أن فرغ من التعرُّف على الموجودات، مُمثلًا في سؤال «ماذا»، وبعد أن فرغ من عدِّها على أصابعه، مُمثلًا في سؤال «كم»، بدأ رأسه يصفو لسؤال النوع والجودة، سؤال الكيف، الذي تحتفظ له اللغة العربية، كما الكثير من اللغات، بهالة ذهبية، هالة النضج والتمهّل والتلذُّذ بعمل الأشياء.
«لا تعطني سمكة وإنما علّمني كيف أصطاد»، من هذه الحكمة بدأتُ منذ سنوات التفكيرَ في مهنة التدريس باعتبارها أقدسَ المهن، وفي تعليم الممارسة باعتبارها أهم ما يمكن لإنسان أن يُعلّمه لإنسان؛ ليس تلقين الآخرين المعلومات أو الحقائق، وإنما تعليمهم كيفية الوصول إلى المعلومات والحقائق.
***
يعرف النُحاة العرب سؤال «كيف» بوصفه سؤالًا عن الحال، ونعرفه نحن، بالإضافة لهذا، بوصفه سؤالًا عن الطريق والطريقة، عن الآلة والآلية، التكنيكات والميكانيزمات.
عندما يسألك الصحفي مثلًا «كيف تكتب» يكون لهذا السؤال معنيان، أولهما عن وضعك أو حالتك أثناء الكتابة، وثانيهما عن الحِيَل المختلفة التي تستخدمها في كتابة نَصِّك.
للكثير من مفردات الاستفهام، في الكثير من اللغات، وجهان؛ واحد استفهامي وآخر يمثّل أداة ربط، فـ«أين» مثلًا هو سؤال عن المكان، ولكنه قد يصلح أيضًا لأن يكون أداة ربط تخص المكان، وكذلك «ما» و«من» و«متى».
بالمنطق نفسه، فإن «كيف» كثيرًا ما تعني أيضًا «هكذا»، كما أنها كثيرًا ما تعني أيضًا المعنى الأبسط من «هكذا»، وهو معنى «مثل». يحدث هذا بوضوح في الألمانية وبقدر ما في الإسبانية والفرنسية، كما يحدث في بعض اللهجات العربية؛ يقول الجزائريون «كيف كيف»، بمعنى متساوون أو الشيء نفسه، مثل هذا مثل ذاك، ويقول المصري الجنوبي محمد منير: «عينيكي تحت القمر، كيف الكلام والخوف»، ويلعب اللبناني زياد رحباني على «كيف» بمعنييها فيقول: «ماشي أنا والحال، كيف الحال، كيفني أنا».
هل يمكن أن يكون سؤال «كيف» في العربية قد نجم عن لعبة تبديل مع كلمة «كفو» بمعنى «مثل»، كما في «ولم يكن له كفوًا أحد»، أي لم يكن له أحد مثيلًا؟
تلعب اللهجة القاهرية، وغيرها، اللعبة نفسها، ولكن مع استخدام جذر مختلف، جذر «زَيّْ»/ مثل، وقد يكون أُضيفَ له في مرحلة لاحقة مقطع «أي»، ليصبح «أي زي»، بمعنى «مثل ماذا»، لتتحول هذه لاحقًا إلى «إيه زي»، أو «إزاي».
ومن «إزاي»، بالطبع، يقول المصريون والسودانيون: إزيك، أي كيفك؟
youtube://v/Z8wG1BOumjM
***
في العامية الإسرائيلية، وبعد أن أخذ اليهود كلمة «كيف» من الفلسطينيين، أصبحت الكلمة عندهم بمعنى «ممتع»: قضيت وقتًا رائعًا هناك. كان الأمر كيفًا.
ومن الكلمة نفسها يُقال هناك أيضًا في معرض مدح الشيء: هذا السندوتش على كيفك، أي رائع، ورغم إمكانية أن تُكتب بالعبرية كأنها «على كيفك»، إلا أنها تُكتب كأنها «علا كيفاق»، ما يعني أنهم أخذوا الكلمة كما هي، دون القدرة على تصريفها وإدماجها بمنطقهم اللغوي، ما يعني بدوره أنهم لم يفهموها جيدًا.
أحد معاني الكيف في المصرية هو «المزاج»، و«المزاج» كلمة لو ذُكرت وحدها، دون وصف يرافقها، لصارت تعني حصرًا المزاج الجيد المعتدل.
كل من الكيف والمزاج يدلّان على السعادة، وكثيرًا ما يَعنيان أيضًا الشاي والقهوة والسجائر والخمر والمخدرات، أي المشروبات والمشمومات غير النافعة بالضرورة وإنما لا تفعل سوى أن تبعث على السعادة، ويُقال «راس بلا كيف يستحق ضرب السيف»، في صيحة تمجيد عنيفة للإنسان المُتطلِّع إلى اللذة، في مقابل سائر الكائنات المكتفية بالرغبة في البقاء، كأن سؤال «الكيف» قد عبّر عن انتباه البشر لأهمية التمتّع بالحياة، هجمة مرتدة ذات نزوع أرستقراطي يُسيّدُ الجودة على الضرورة: كبرنا وعرفنا أنه ليس المهم أن نعيش، المهم كيف نعيش.
عندما تسألني ابنتي الصغيرة مثلًا عن سبب تدخيني السجائر رغمًا عن ضررها وعن عدم ضرورتها، أَردُّ عليها باستخدام كلمة واحدة: مزاج. أقولها مُتشجِّعًا بعدم معرفتها لمعنى الكلمة، وبإحجامها عن السؤال عن معناها.
ولكني أتوقع أنها، بعد سنة أو أقل، ستمتلك الجرأة للسؤال عن معنى «المزاج»، والآن، بينما أنا أكتب هذه الكلمات، أفهم معنى الكلمة أكثر، فأتجّهز إما للرد عليها وقتها، أو للإقلاع عن التدخين.
تعني كل من الكلمتين، الكيف والمزاج، كذلك، الرغبات غير المبررة بدوافع عقلانية.
«كيفي كدا»، يقولها المرء عندما لا يتمكّن من شرح مبررات أمر ما يريده، سوى لأنه يرضيه داخليًا، وكثيرًا ما يكون بإمكانها أيضًا أن تُستعمَل بمعنى شديد العنف والسلطوية: هذا ما سيحدث ولا أرغب في التبرير ولا المناقشة.
كأنَّ الكيف أيضًا، وبعد أن انتهى من ثورته على الـ«ماذا» وعلى الـ«كم»، قد شرع في ثورة جديدة على المنطق وعلى الضرورة، على الأسباب والمبررات، أي على الـ«لماذا».
***
إزَّي مزاجك؟ هكذا يحيي المثقفون، من كبار السن بالخصوص، بعضهم في شوارع وسط البلد بالقاهرة، تحية أرق، وأكثر عتاقة وودًا بكثير من «إزيك» المعتادة: لا تخبرني بأخبارك «المهمة»، لا العمل ولا الأولاد ولا الأموال، فقط أخبرني بحال مزاجك فهذا ما يهمني.
كما لا يَخفى على فطنة القُرَّاء، فقد حاولنا هنا الاستدلال على معنى «الكيف»، بمعنى «المزاج»، والتي أتت فيما يبدو أصلًا من مزج السوائل مع بعضها في خليط واحد متجانس.
وهناك أيضًا، في العامية القاهرية القديمة، كلمة ثالثة، وكاشفة، طالما عبّرت سابقًا عن «المزاج»، وهي كلمة «انسجام»، فكان يقال «منسجم»، بمعنى «مِتمزّج» و«مِتكيّف» في المصرية، أو «مكيّف» في الشامية.
youtube://v/xwHr8FEgl5c
تَصِفُ «الانسجام» عملية تأخذ فيها العناصر قوام بعضها، ليتمخّضَ الأمر عن سائل يختلط فيه الفرع بالأصل، السبب بالمسبّب، وبالتالي لو تتبعنا المنهج نفسه، فسيبدو منطقيًا أن يأتي التَكيُّف، بل وجهاز التكييف، بل وربما عملية «تقييف» الملابس أيضًا، كلها من «كيف»: موائمة الجو والملابس للإنسان، تعديل القياسات لتتجانس مع بعضها، لتصبح «مثل» بعضها.
في النهاية تصف كلمات مثل «الانسجام» و«التمزّج»، و«التكيّف»، بكل معانيها، عملية تتماهى فيها الروح -أو بالأحرى الرأس، لأن الكيف موضعه الرأس لا الروح – مع محيطها، تصبح جزءًا منه ويصبح هو بدوره جزءًا منها.