مزجٌ أول
3 1 آذار 2020
على عجل تبدأ مظاهر الحياة في المدينة التي أسكنها بالتلاشي. ورغم إيقاعها البطيء والهادئ، إلا أنها فجأة تتحول إلى مدينة سريعة، فالكل تقريباً، إلا من هم مثلي، يسرعون لحجز أول وأقرب رحلة إلى بلادهم ومنازلهم للهرب من مواجهة كورونا وحدهم.
أما أنا فكنت الأكثر هدوءاً، فلا رحلة طيران تنتظرني، واليوم هو نهاية الفصل في سنتي الثانية. أقضي وقتاً أطول في الجامعة، حول البحيرة تحديداً، وألتقط الكثير من الصور كعادتي التي تَولَّدَت كهوس يحميني من ضياع الذاكرة بعد أن تلاشت صوري مع صديقاتي وجامعتي في سوريا. عشرون صورة متلاحقة لشاب وفتاة ألمانية على جسر بحيرة الجامعة، نتبادل الابتسامات ثم أشاركهم إطعام البط والكثير من الأحاديث، ثم يخبرنا واحد من إيميلات الجامعة التي لا تنتهي أن الفصل القادم سيكون عن بعد عبر تطبيق زووم الذي تضاهي شهرته الآن سرعة انتشار الكورونا.
يبدأ الشاب الألماني بإقناع صديقته بضرورة العودة إلى أسرهم ومنازلهم لقضاء فترة الحجر الصحي، وبأن لا جدوى من بقائها هنا في السكن الجامعي. تمتعض هي من الفوضى و خراب جدولها ونظامها اليومي، وتقتنع بضرورة حجز أول طائرة، ثم يحتضنها صديقها محاولاً مواساتها عن هذا الخراب وإقناعها بأنها قوية وتستطيع بناء روتين وجدول جديَدين.
أبتسمُ لهما وأخبرها أنه على صواب، وأضع هذه الكلمات التي بدأت تصبح لازمة في معظم أحاديث الدعم النفسي والمعنوي بين الأقرباء والغرباء والأصدقاء وحتى العابرين على صفحات التواصل الاجتماعي: «كل شيء على ما يرام». يأتي دوري ليسألني عن خططي للعودة إلى أهلي وعن سكني، وغيرها من هذه التفاصيل، والتي جوابها، بالضرورة، أننا لا نملك بلاداً للعودة ولا رحلات ولا خططاً حتى، وهو جوابٌ سوريٌ عام لا خصوصية لي فيه. تنتهي رحلة تعارفنا القصيرة بالكثير من المجاملات والأمنيات بقضاء عطلة كورونية ممتعة، وتبادل الأرقام حتى أرسل لهم صورهم التي تخلد لحظاتهم الأخيرة في جامعة يورك قبل مغادرتها إلى أجل غير مسمى.
مزجٌ ثانٍ
مساء هذا اليوم لم يكن متوقعاً ولا قريباً حتى من كوابيسي، ولم ينته كما كان مخططاً له بالمزيد من الهدوء. ثلاثة أيام مضت على عيد ميلادي الذي، بالضرورة، بات معظم أصدقائي يعرفون أنه أيضاً، وبالصدفة البحتة، يوم خروجي من المعتقل. ولأنه كان مليئاً بالحب والدفء والحلويات، استجمعتُ كل قواي الإيجابية وقررت تنظيف البيت بعدما أهملته لأيام كي أسلم واجبات الجامعة. يبدو تنظيف البيت عندي كبداية جديدة وأنا أحاول التفكير بشكل الحياة الجديدة، التي لن تختلف غالباً عن حياتي السابقة. تمر حياتي الجامعية دون رؤية الكثير من الأصدقاء. أسافر إلى المدن الكبيرة والمزدحمة التي يسكن فيها معظم أو كل أصدقائي في العطل، وأقضي بقية السنة بين مكتبة الجامعة وقاعات المحاضرات والتجول في مدينة يورك الساحرة وحدي.
الطقس بارد جداً، ولا جديد في مدن الشمال الإنجليزية، ولا السورية. لا أشك في أن برد هذه المدن يصاحب الذاكرة الجسدية لسنوات. أفتح اليوتيوب على مسلسل الفصول الأربعة كجزء من روتيني اليومي للإحساس بالألفة، وبأن حياةً مشبعة بالتفاصيل، تشبه حياة سابقة، تدور في مكان ما في بيتي. أبدأُ بتنظيف المطبخ وأنا أغرق بكل تلك الأفكار القلقة ومحاولات فهمها والسيطرة عليها: الخوف من الإصابة بالكورونا، والخوف من المرض لوحدي، والرعب من وصول فيروس كورونا إلى سوريا مع وجود أهلي هناك، فانتشاره في سوريا سيكون كارثة جديدة على الشعب المُنهك أن يتعامل معها ويخوض معركة نجاة إضافية.
أنتهي من التنظيف تقريباً، أحمل بعض الأكياس لرميها خارجاً.

أخرج في ملابس رقيقة جداً ورقبة مكشوفة وقدمين مكشوفتين بحذاء صيفي مكشوف، وفي لحظة يُغلق الهواء باب العمارة كاملاً. وطبعاً لا أكترث، فهذه ليست المرة الأولى التي أنسى فيها مفاتيحي أو يُغلق الباب ومفاتيحي في الداخل، وأبدأ بقرع كل الأجراس مرة ومرتين وعشر مرات، ولكن دون جدوى، لأن كل من في العمارة عاد إلى أهله وبلاده، وهذا ما عرفته لاحقاً. يبدأ التوتر والقلق بالنزاع مع محاولاتي للثبات وإقناع نفسي بأنني سأجد حلاً ما، وأستمر بقرع الأجراس التي بات من الواضح أنها تقرع في الصمت. أمشي إلى البناء القريب من بيتي وأرى من النافذة فتاة بشعر قصير ونظارات طبية تجلس على طاولة دراسية بمصباح خافت، فأقرر أن أستنجد بها لأن البرد بدأ يأكلني. أشرح لها ما حصل وجسدي وفمي يرتجفان، تحاول هذه الفتاة الاتصال بالمكتب للحصول على مفتاح، لكن المكتب مغلق. ولأننا في جائحة فأنا لن أستطيع البقاء في منزلها حتماً.
أعود لقرع الأجراس مرة ومرتين وألف، رغم أنني تيقّنت من عدم وجود أحد، لكنها بيولوجيا جسمي الذي يكاد يتجمد ودفاعات عقلي التي تصارع للنجاة، ولا أريد أن أقول «الأمل» عمداً. تمضي ثلاث ساعات على وقوفي خارج المنزل المطل على الشارع. ثلاث ساعات لم أر فيها أحداً إلا سيارات عابرة؛ كل سيارة منها تحصل على كامل انتباهي لعلها تكون لأحد ساكني البناء الذي أسكنه. يبدأ جسمي وعيناي بالخدر، فأنا أبكي كثيراً وربما أنهار بعد الصدمات لأنني لا أبكي خلالها. لا أبكي أبداً ولا أتكلم حتى تنتهي. الوقت الشتوي قصير، والمدينة مظلمة وفارغة ووحيدة، وأنا أيضاً فارغة جداً وساهمة. خلال هذه الساعات الثلاث أتفقد المحلات القريبة من بيتي، لكنها مغلقة باكراً. المدينة كلها مغلقة، كبيتي تماماً.
مزجٌ ثالث
أفكر بألف احتمال، وتفشل جميعها. حتى احتمال ذهابي إلى أحد أصدقائي في المدينة يعني أنني ربما أفقد وعيي في الطريق الطويل والبرد والمطر الذي أتى ليكمل المشهد. أقرر الذهاب إلى مكتبة الجامعة فهي أقرب مكان، وأضع احتمالية أن تكون مغلقة رغم أنها لا تغلق أبداً طيلة العام.
الطريق من بيتي إلى الجامعة يبتعد عشر دقائق مشياً، ولكن لشدة الخَدَر في أطرافي أخذ مني وقتاً مضاعفاً، إذ كنت أتوقف كلما رأيت ضوء سيارة لعلها تنعطف ناحية بيتي. أخذ مني هذا الطريق ذاكرة ست سنوات، كانت عيناي متجمدتين تماماً، وفي ذاكرتي صورتان: واحدة لرضيعة سورية تجمدت وماتت من البرد بعد أن مشى والدها لمسافات طويلة في برد الشمال السوري لإنقاذها، وواحدة لي قبل ست سنوات متجمدة من البرد في حر الصيف في سوريا على مقعد دراسي في مُعتقل وأسناني تصطك ببعضها. مر الوقت زمنياً كدقائق وساعات، ومر في عقلي دهر كامل من محاولات النجاة. دهر كامل من السقوط والنهوض المستمر. تمنيت في هذه اللحظات أن أقف، فقط أن أقف وألا أكمل أي خطوة. أن أتوقف لمرة واحدة عن محاولاتي للنجاة، لكنني موشومة ببدائية الإنسان الأول، تعودت ألا أكف عن القتال والمقاومة. تُشعرني هذه الرغبة بالاستمرار والنجاة بالثقل أحياناً، وأود لو أنتزعُني منها، ثم لا ألبث أتشبث بها وأصقلها وأعيد بناءها كلّما هدمَهتا الحياة.
يعبث البرد بجسمي أكثر، وتتبلل ملابسي وتلتصق على جسدي. أصل إلى المكتبة وتشتد رغبتي بالبكاء عندما أجدها مفتوحة وأجد مكاناً للبقاء حتى اليوم التالي. أرى موظفة الاستقبال التي تعرفني جيداً لكثرة بقائي في هذا المكان. بدون بطاقة جامعية ولا هاتف ولا حقيبة ولا معطف ولا حذاء شتوي، ولا أية كلمة معها، أحمل «بطانية» من الأغطية المتوفرة للطلاب. أضعها على كتفي وأدخل غرفة مخصصة للطلاب. أضع رأسي على الطاولة بثياب مبللة، و تصطك أسناني. المشهد ذاته: مغطاة ببطانية جيش على المقعد، تصطك أسناني من الخوف والصدمة، ولا يستطيع عقلي الخلاص حينها من تلك المقارنة.
بعد أن يهدأ البرد والعواصف في جسدي، أستطيع الوصول بعد ألف محاولة إلى حسابي الإلكتروني. أرسل رسالة إلى صديقتي وأخبرها باختصار بما حصل. تحاول مساعدتي بكل السبل. تخبرني أنها ستطلب من إحدى صديقاتي أن تأخدني إلى بيتها في حال وجدتها. أخبرها بقسوة حينها أنني لا أريد رؤية أي أحد، أنني غير قادرة أبداً وغارقة جداً في ارتجاف جسدي، لا من البرد هذه المرة، بل من استعادة الذكرى كأنها الآن. من تلك اللحظة الواجمة الواقفة في التاريخ، الصامتة بلا صوت، مع الكثير من الصراخ، وشيء من الشبه ربما، لكن مع وجوه السجانين الميتة وأصوات المعتقلين الحية. أغلقتُ عينَيّ ووضعت رأسي مرة أخرى على الطاولة. أخبرت نفسي ألف مرة أنه «لا بأس»، وأنني أستطيع رفع رأسي متى أردت وحتى التحرك وفتح عينيّ. لن أُعاقَب هذه المرة أبداً على احتياجاتي، فلن يضربني أحدٌ إذا التفتّ. حاولت تذكير نفسي مراراً بأنني هنا بعيدة أكثر من ألف ميل وألفي يوم عن ذاك المكان. ترسل لي صديقتي طعاماً إلى المكتبة. أقرر التحرك عدة مرات إلى الحمام للتحقق من أنني بكامل حريتي ولا حاجة لي لطلب إذن قد يُرفض. ثم أنام مثل ذلك اليوم على الكرسي ورأسي على الطاولة، بعد أن تأكدت أيضاً من أنه لا وجود لصور الأب والابن الأسد معلقة على كل جدار. كل شيء هنا عادي وطبيعي إلا ذكرياتي.
مزجٌ رابع
لم أحمل مفاتيح بيتنا في سوريا إلا سنة واحدة. كنت أنساه في الغالب أو أتركه في البيت، دون أن يشكل نسيانه أي هاجس أو قلق بأنني سأبقى أو أتجمد وحيدة في الشارع. عشتُ حياتي كلها في بلدة ريفية بين ريف دمشق والقنيطرة. بيت جدي الذي أُجبرتُ على حمل مفاتيحه بعد وفاة جدي لا يترك لي احتمالات أن أكون عالقة في البرد أو الحر. دالية عنب تغطي كل المساحة أمامه، وتحتها «صوفا» كان يجلس عليها جدي صيفاً وشتاءً، خاصة بعد انتهائه من سقاية أشجار الزيتون وتوسيع الحفر حولها وقطف ما يحمله الموسم من الأشجار التي زرعها بيديه. أن أنسى المفتاح يعني أن أتمدد مثلاً على هذه الصوفا، وعلى يميني خابية الماء «جرة الفخار»، وكأس الستانلس ستيل المعلق في أذن الجرة. هذا كله لو تخيلت أن بيت جدي معزول عما حوله، أو ربما هنا في مدينة يورك. لكن كل هذه التفاصيل كانت في سوريا، حيث أستطيع طرق أي باب من أبواب الجيران الذين أعرفهم ويعرفونني جميعاً. أراهم بشكل يومي في الأراضي المحيطة بمنازلهم، أو في الشوارع أو الباصات الذاهبة إلى دمشق، أو حين يأتون صباحاً لشرب القهوة المرة التي يحمّصها جدي ويطحنها ويغليها كل صباح.
لم يكن من الصعب البقاء في بيوتهم حتى أحصل على المفتاح. ولا يشكل لي نسيان هاتفي المحمول في المنزل أي كارثة بأنني لن أستطيع الوصول إلى أي شخص في العائلة. أعرف أن كل واحد منهم سيصل إلى البيت في وقت محدد، وأن المشكلة لن تستمر إلى اليوم التالي. عودة أخي من مدرسته تعني أنه سيجد طريقة ليقفز من النافذة أو يحاول فتح الباب بأي طريقة ربما يُعاقَب عليها لاحقاً.
أن أنسى المفتاح داخل المنزل في الصيف يعني أن أجلس تحت شجرة التوت الأبيض الضخمة، والتي حاول والدي طيلة حياة جدي تطعيمها لتصبح «شجرة توت شامي». هذه الشجرة التي أكل منها كل الطلاب والمعلمين في مدرستي، وكل الجيران والعابرين والمارّين صدفة.
مزج أخير
ينتهي هذا الكابوس عملياً في اليوم التالي حين أصل إلى المكتب للحصول على مفتاح بعدما طلبت لي صديقتي سيارة أجرة. البطانية ما زالت على كتفي ورأسي، وصوتي يرتجف. يطلب مني صاحب المكتب أن يأخذني إلى المشفى، فأصرّ على العودة إلى البيت. أَصِل، وأنام يومين وأصمت أياماً بعدها، ثم أبكي كثيراً. أُصاب بالحمى التي حسبتها كورونا حينها. أبكي من يوم وليلة عاديين بالمنظور البشري للحياة، لكنهما من المنظور السوري يحملان ألف ذاكرة بين الحنين والحزن والخوف. موقف عادي كان من الممكن أن أتذكره كل مرة مع أصدقائي للضحك والسخرية، لكن وجوده ضمن السياق السوري جعله أقرب ما يكون إلى صدمة (تروما) جديدة، أو (trigger) كما قالت لي المعالجة بعد أيام.
بكيت بعدها بأيام وابتلعت صوتي. وبكيت الآن لأنني أعدت له الروح مرة ثانية بكتابته، رغم أنني بدأت هذا النص لأكتب عن إدوارد سعيد وأمل دنقل وحلقة «قضامة على سكر» أو «قطة شامية» من الفصول الأربعة. بدأت النص بـ«مزج أول» وكأنني أسمعه بصوت أمل دنقل في قصيدة كلمات سبارتاكوس الأخيرة، لكن الذاكرة تغلبني، ويغلبني ذلك الكابوس الحقيقي، وذلك اليوم، ليظهر على الورق وعلى وجهي وصوتي. أفكر لدقائق إن كنت سأعود إلى النوم، أم سأحضر للمرة الألف حلقة قطة شامية. أقرر أخيراً أن أسمع أغنية عراقية، وأن أكمل تأملات إدوارد سعيد عن المنفى، وأن أفكر في منفانا، وفي تغلّب الذاكرة علينا حين تتكرر، بثقلها وكثافتها الذين لا يعرفان الخفة ولا النقصان. هذه الذاكرة التي كلما تسربت مني، تذكرتُ حلمي بالتخصص في دراسة ذاكرة المفجوعين والمصدومين مثلنا.