هذا نصٌّ مرتبك
وهذا مدخلٌ إلى قراءة هذا النص المرتبك
وصلتني الدعوة للمشاركة في عدد ثيمي عن فلسطينيي سوريا هنا في مجلة الجمهورية الإلكترونية منذ قرابة الثلاثة شهور، ومنذ ذلك الحين وحتى اللحظة وأنا أقدّم وأؤخّر، وألوكُ بعض التفاصيل والمقتطفات في رأسي من حياتي القصيرة/ السابقة/ المُؤسِّسة في سوريا.
لا بدّ وأنني بين الحين والآخر أنسى علاقتي بسوريا، أو أنني أُهمّشها، لكنها أيضًا تطفح من جلدي، من كلامي، من تعريفي عن نفسي المركبّة هنا وهناك، ثم أنسى ذلك أيضًا.
عليَّ الاعتراف بأنني لست واثقةً من أنّ لصوتي أو لِما سأرويه مشروعيّة التواجد وسط الملف. وقد قلتُ هذا للمحرِّر بصراحة. ثم نَمَت لدي بقعةٌ أخرى تقول بأنها فرصةٌ لأحكي شيئًا ما، أو بالأحرى لأفهم شيئًا ما عن ذلك الوجود الذي أتناساه أحيًانًا، في سوريا.
كيف أربأ الصدوع المتكرّرة في ذاكرتي وقصّتي؟
ربما تكون فرصةً لأتحدّث مع ماما عن ما لا نتحدّث عنه بسخاءٍ في البُعد والغربة التي تزداد زمنًا ومسافةً بيننا كلّ سنة. قلتُ للمحرِّر إنني سأتحدّث إلى أمي لأمسك أطراف الموضوع. هي عاشت أكثر مني هناك. كانت في التاسعة والعشرين حين انتقلت للعيش في سوريا، وخرجت منها في الثانية والأربعين. أما أنا، فحضرتُ من رحمها هناك مباشرةً، ثم رحلتُ معها إلى غزّة سنة 1995.
يستند هذا النص إلى محاورةٍ دامت لثلاث ساعات – بدأت في الرابعة عصرًا بتوقيت برلين، وانتهت في الثامنة مساءً بتوقيت غزّة – عبر الزووم بيني وبين ماما، زينب الغنيمي، أو في مقولة أخرى، الأستاذة إم فرح.
محطّة رقم (1): كيف وصلنا هناك؟
وُلِدَت أمي سنة 1953 في مدينة رفح لعائلةٍ تهجّرت من يافا في 1948. تَرعرعَت في غزّة، ثم دَرَست الحقوق في جامعة القاهرة. حين انتهت من دراستها الجامعية في 1977 لم تتمكن من العودة لغزّة على خلفية اعتقالها سابقًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ولم تتمكّن من البقاء في مصر بسبب ملاحقة الطلبة الفلسطينيين إبّان مبادرة السادات للسلام، وكانت بيروت الوجهة المنطقية لها على كل الأصعدة، حيث نشطت سياسيًا، وانخرطت في العمل مع مؤسسة الإعلام الموحّد التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتحديدًا في كلٍّ من “فلسطين الثورة” و”وكالة وفا”، وارتبطت أيضًا بمن سيصبح لاحقًا أبي.
بعد العدوان الإسرائيلي على بيروت سنة 1982 انقلبت الطاولة على قواعد الثورة الفلسطينية، وكان وقت الرحيل/الترحيل وفقًا لاتفاقية وقف إطلاق النار لكّل من لم يحمل أو تحمل وثيقة لجوء للفلسطينيين من الدولة اللبنانية، ما تَسبَّبَ في خروج الكثيرين من قواعد الثورة الفلسطينية من حملة الجوازات العربية الأخرى، ووثائق سفر اللاجئين الصادرة في بلادٍ أخرى، كما هو الحال مع ماما التي كانت تحمل وثيقة سفر مصرية للاجئين الفلسطينيين.
الخروج كان على دفعات، وإلى بلدانٍ شتّى. تبعثرت كوادر الثورة الفلسطينية على شطآن المتوسط وأبعد من ذلك.
– وبالتالي أُخرجنا من بيروت، كلّنا، على دفعات. ناس طلعت على اليمن والجزائر، بالذات المقاتلين العسكريين وعائلاتهم، وناس طلعت على تونس مرافقة لأبو عمّار وقيادة الثورة لإنه ما كان في مكان يستقبلهم غير تونس. وفي ناس راحت على قبرص وغيرها. بس بالنسبة إلي أنا وأبوكي قرّرنا نروح على سوريا.
– ليش؟
– السبب إنه إحنا مَكُنّاش شايفين إنه صح نروح على تونس وهي ما فيها جالية فلسطينية أو شعب فلسطيني أو مخيّمات. وحسّيناها بعيدة، يعني إحنا دايمًا كنا خايفين على حرارة الانتماء. كانت دائمًا حرارة الانتماء الوطني مرتبطة في إنك تكوني في بلد من بلدان الطوق المحيطة بفلسطين. يعني مصر، الأردن، سوريا، لبنان، واللي كان فيها زخم الحراك الثوري والوطني المرتبط بفلسطين. وبعد خروج الثورة من الأردن ولبنان، ضلّت سوريا هي اللي فينا نروح عليها لنكون وسط الناس، خاصّة إنه كنّا بننتمي لحزب العمّال الشيوعي، وكنا بنفكّر بأهمية تواجدنا مع الشعب.
ثم تنفعل ماما قليلًا وهي تقيّم خيار تونس مقابل خيار سوريا، غير متفقةٍ مع من ذهبوا إلى تونس «البعيدة»، ومستدركةً في الوقت ذاته عدم ترحيب النظام السوري بانتقال الثورة الفلسطينية إلى سوريا، بل والتعاون في الاتفاقية التي بعثرتهم هنا وهناك. «الاتفاق المخزي»؛ تقولها بِغلّ وكأنه حدث البارحة، يتبعه كلامٌ عن الموقف المُعلن مقابل الموقف الفعلي للنظام السوري من القضية الفلسطينية والفلسطينيين، وعن ملاحقته لبواقي المقاتلين في لبنان، وحتى تواطؤ بعض المجموعات الفلسطينية معه آنذاك، وتفاصيلَ أخرى.
– بس ماما، الكلام اللي بتقوليه بيعاكس بعضه. إنه سوريا ما كانت مكان ملائم أو مرحّب باستمرارية الثورة ولكنّكم شفتوها مكان…
– آه، ليش اخترناها…!
– آه يعني كل اللي بتقوليه هو عكس اختيارها
– آه لإنه إحنا ما كان عنّا بديل كمان تنسيش. إنه إحنا ما فينا. وين بدنا نروح؟ يعني في سوريا على الأقل كان في شعب فلسطيني.
أضحكُ على زهو أمي في بدء الحديث واختيارها لتعبير «اخترنا سوريا»، وهو لم يكن اختيارًا… عالأغلب؟
– إحنا ما كنّا رايحين نحمل سلاح، كنّا حزب سياسي، فكان أضعف الإيمان إنّه نقوم بأنشطة ثقافية وسياسية وتوعوية وسط الناس اللي مننا وفينا. والنظام السوري في نفس الوقت ما كان بيكشف وجهه بقباحة. كان طبعًا بيدّعي إنه حامي حمى القضية الفلسطينية، وكان في تنظيمات فلسطينية متوافقة معاه، وبعد حرب 1982، اكتملت اللوحة في التوافق الفلسطيني السوري بالذات في أوساط اليسار. الوحيدين اللي كانوا ملاحقين وممنوعين من النشاط السياسي في سوريا هم حركة فتح بقيادة أبوعمّار.
– يعني كنتوا حالمين أو متأملين خيرًا؟
– لا مكنّاش متأملين خيرًا أبدًا. إحنا كنا بنتوخّى الحذر خاصةً إنه ما كان إلنا وجود رسمي في سوريا ولا مُعترف بنا كحزب سياسي هناك من الأصل. لم نكن جزءًا من تركيبة الفصائل الفلسطينية التي تتعامل معها سوريا، أو ما شكّل لاحقًا «تحالف الفصائل العشرة»، كوننا حزب شيوعي وتعاوننا كان مع المجموعات الشيوعية في سوريا، وتحديدًا منظمة العمل الشيوعي، وهي نفسها لم تكن مقبولة هناك.
توخّي الحذر كان يقتضي عدم المجاهرة بالعمل السياسي في سوريا، أو التعامل بصيغة المواطنين الصالحين. كما أن أعضاء الحزب (الذي حُلّ مطلع التسعينيات) تفرقّوا كما تفرقّت كوادر الثورة، وظلّوا في وظائفهم القديمة.
– بعد فترة لم يكن من الممكن المحافظة على سريّة عملنا السياسي، واضطر البعض لمغادرة سوريا، ومنهم أبوكِ. بس أنا ضلّيت.
إذن هيَ سوريا، حيُّ ركن الدين لسنةٍ ونيّف، الحي الذي كان يسمّى بحي الأكراد سابقًا واحتضن الكثير من الثوار الفلسطينيين في زمنٍ مضى، ثم مخيّم اليرموك لإحدى عشرة سنة وبضعة شهور.
بين البعد وصعوبة اللقاء والانشغال والخلافات الشخصية، انفصل أهلي قبل ميلادي بقليل.
*****
محطّة رقم (2): كيف نبني عشًّا في الرمال المتحرّكة؟
في السنوات التالية على عدوان 1982 والانتقال من لبنان إلى سوريا تغيّرت خارطة الكثير من العلاقات، أو أنها، كما تصفها أمّي «تهشّمت مع تهشيم العلاقات والروح الثورية لدينا في لبنان»، سواء على مستوى الحب أو الرفاقيّة. بالرغم من استمرار العمل السياسي بشكلٍ أو بآخر، إلا أن شيئًا ما قد فُقد من أرواحهم السابقة.
البعض كان أصلًا من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا فعادوا نسبيًا إلى حياتهم ومجتمعهم السابق. والبعض انتقلوا سويًا كعائلةٍ ممتدة، فالكثير من الأقارب كانوا ينتمون لهذا الحزب أو ذلك، وبالتالي كان هناك بعض العِشرة في الترحال الجديد. أما من صنعوا أُسرًا وعلاقاتٍ أُسرية في لبنان، فمنهم من تفرّقوا ومنهم من ازداد تشبثهم ببعضهم وبمجموعاتهم أو فُقاعاتهم الضيّقة.
الأحزاب أيضًا والخلافات فيما بينها انتقلت معها، بل ربما تضخّمت، ما أدّى إلى تشرذم المزيد والمزيد من العلاقات. كما أنه «تنسيش! ليس كلّ الرفاق أصدقاء»، وهناك علاقاتٌ تنافسية داخل التنظيم الواحد.
أمّي كانت من الخارجين أكثر وأكثر عن هذا السرب. خارجةٌ عن السرب لأنها من حزبٍ خارج السرب. وخارجةٌ عن السرب لأنها لم تعش داخل إطارٍ أُسَريّ تقليدي، ولطالما كانت صاحبة صوتٍ مرتفع. وخارجةٌ عن السرب أيضًا لأن أوراقها الثبوتية كانت مزيجًا من وثيقة مصرية منتهية وجوازٍ يَمني من الجوازات التي مُنِحَت للبعض من صفوف الثورة الفلسطينية.
استراتيجيتها الأساسية كانت «إذا أنا قاعدة هون، يبقى لازم أعيش، لازم أوطّن حالي بحالي حتى لو ما حدا بيعاملني كمواطنة ولا معي أوراق مواطنة». أفكّر بالجملة وأنا أكتبها الآن، وأعتقد بأنّي قد ورثتُ هذا عنها.
واصلَت سريعًا عملها النسوي كعضوة في المجلس الإداري لاتحاد المرأة الفلسطينية، وكانت منخرطةً بشكلٍ مستقل «كزينب ولست ممثلةً لحزبٍ ما»، كما أن العمل بالصحافة والكتابة ووجودها في ضمن اتحاد الكتّاب فتح لها نافذةً حلّقت منها داخل الوسط الثقافي والفنّي السوري، ولاحقًا أيضًا البحريني والعراقي واليمني، ولم تتقيّد فقط بالأجواء الفلسطينية الفلسطينية وعوالم اللجوء.
محاولات أمّي هذه في الابتعاد عن الغرق في الانشقاقات السياسية التي أصابت منظمة التحرير الفلسطينية بعد 1982، والابتعاد بالعمل النسوي وأيضًا أنشطة اتحاد الكتّاب عنها، خلقت لها حياةً مختلفة، أو حياتين متوازيتين أحيانًا ومتقاطعتين أحيانًا. وكذلك جئتُ أنا إلى هاتين الحياتين سنة 1985، وعِشتهما معها، داخل المخيم وخارجه، بين مدارس الأونروا ودروس البيانو في المركز الثقافي الروسي، بين مكتبة الرشيد وزهور الحسن ومحل البروستد على رأس شارع المنصورة، وبين النادي العمّالي وأبو كمال والقنديل الذهبي على أعتاب الصالحية، وبين الأنشطة الثقافية داخل مركز الخالصة وافتتاحات المعارض الفنية ومعرض الكتاب السنوي.
المضحك أننا كنّا نجمع المناديل والتذكارات من تلك الأماكن كل مرّة، وكأننا سنزورها لآخر مرّة، ندوّن عليها التاريخ والصحبة. واحدةٌ من العادات الجميلة السيئة، التي راكَمت لدينا صندوقًا أو أكثر من تذكارات مليئة بعلب المناديل الورقية التي حملناها لاحقًا مع كلّ صناديقنا وحقائبنا إلى بلاد خاليةٍ من المرح وأسباب التذكار.
«البيت صار ملتقى ثقافي، خاصّةً إنه ما في عائلة كبيرة أو أطفال مشاغبين، وإنتي كنتي طفلة هادئة جدًا جدًا، ما بتعملي مشاكل، وهذا النشاط خلق زخم في الحياة. داخل المخيّم مع المجتمع الفلسطيني وخارجه مع المجتمع السوري، انخلق عالم فيه مستوى جيد من الشعور بالاستقرار، سوريا فعلًا كانت بتشكّل في ذلك الوقت بيتي، أو بلدي. طبعًا اللي ساعد كل هالشي كان مستوى الحذر الشديد من الاصطدام بالنظام، وأنا في ذلك الوقت لم أكن مضطرة للاصطدام».
كنّا في كلّ مكان، لا من هناك ولا من هناك، ومن كلّ مكانٍ أيضًا. استقرارٌ وسط رمالٍ متحرّكة.
محطّة رقم (3): كنّا ضيوفًا عليهم
أعود إلى التساؤل الأول؛ فلسطينية سورية؟
– ماما… بنضل نحكي عن اتفاقية أوسلو كهزيمة، بس من الحكي ومن اللي صار، يبدو لي إنه الهزيمة بدأت في سنة 1982.
– آه طبعًا، هي الحقيقة هيك، الهزيمة بدأت في 1982 مع الهزيمة العسكرية لمنظمة التحرير.
– طيب إذا هيك يبقى قبل محادثات مدريد واتفاقية أوسلو، كيف كنتِ بتتخيّلي المستقبل؟ هل كنتي حاسّة الوضع مؤقت أو إنك فكرتِ تظلك في سوريا بما إنك خلقتِ حياة اجتماعية وبعض الاستقرار؟ أو بالأحرى إنك رح تصيري جزء من مجتمع اللاجئين الفلسطينيين هناك.
– أنا كان وقتها عندي شعور بأنه رح يجي حتمًا يوم وسنحقق الانتصار، ننتصر للقضية الفلسطينية ونهزم الاحتلال الإسرائيلي، أننا سنجد الحلول ونعود لفلسطين.
– لكن مش كان هاد حلم الجميع بما فيهم اللاجئين؟
– كان طبعًا موجود عند اللاجئين من 1948، لكن بيختلف عننا لإنه أحلامهم كانت بدأت تتكسّر على أرض الواقع مع طول مدّة اللجوء، وكمان مع إدماجهم إلى حد كبير في المجتمع السوري، وتحوّلوا إلى شبه مواطنين، وبدأت أجيال تموت وأجيال تنولد وتستقر، وصارت سوريا مثل بلدهم مع الوقت.
لطالما ارتحل البشر رغبةً أو اضطرارًا أو عنوةً، هجرةً أو تهجيرًا، دراسةً أو عملاً. كما لطالما كانت لعبة الامتيازات حاضرةً وإن اختلفت درجاتها وتسمياتها، على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو الخلفية الاقتصادية والاجتماعية أو الجنسية والقوة السياسية لوثيقة سفرك. لكن ما حصل للفلسطينيين في تهجيرهم المستمر وارتحالهم كان أن خلق طبقاتٍ جديدة من الامتيازات، مرتبطةً بزمن تهجيرك، وسياسات البلد الذي استضافك أو منحك أوراقه (حقيقيةً كانت أم زائفة في حال كنت منخرطةً في العمل السياسي السري). والكثير الكثير من الظروف والاختيارات الأخرى التي خلقت لبعض الفلسطينيات والفلسطينيين قصصهم المختلفة.
في سوريا وقبل 1982، كان أغلب الوجود الفلسطيني مرتبطًا باللجوء. اسمك في سوريا «فلسطيني» والباقي معروف، وليس «لاجئ فلسطيني سوري»، الاسم الذي تحمله فقط عندما تغادر سوريا. وقد مُنح هذا الفوج من اللاجئين إلى سوريا، تحديدًا من لجأوا في 1948 والسنوات اللاحقة لها، حقوقًا أفضل من أولئك الذين هاجروا إلى لبنان أو مصر، وتحديدًا الحق في العمل والتعليم الجامعي المجاني وفُرَص العمل في وظائف حكومية أيضًا.
هذا لم يكن حال من حضروا لاحقًا ومن حملوا وثائق السفر الأخرى سواء كانت المصرية أو اليمنية أو حملة الجوازات الأردنية. كانوا أجانب بالنسبة للنظام السوري، ولو أنهم من البلد الأصلي نفسه ويعيش بعضهم وسط المخيّمات. وبرغم عدم سهولة العمل الرسمي أو الحصول على التعليم المجاني، فقد كان هناك أحيانًا متنفسٌ أكبر للحركة والتواصل مع العالم الخارجي.
– ماما يعني مثلًا أنا لما تلقيت دعوة الكتابة، وفكرت بوصف فلسطينية سوريا حسيّت إنه…
– … مش طابقة عليكي.
– آه…
– وأنا نفس الشي، ولسبب بسيط، لإنه لم نتمتع بنفس حقوق وشروط فلسطينية سوريا. هم كانوا يشتغلوا، وكانوا يتملّكوا ويبنوا، وكانوا يقدروا يروحوا عالجامعة مجانًا. أنا مثلًا مُنعت من إني أسجّل بجامعة دمشق كفلسطينية وأكمّل الماجستير اللي بدأته في الجامعة اللبنانية قبل ما نرحل. وكان لازم قرار جمهوري استثنائي.
– طيب والمدارس، ما أنا كنت بمدرسة أنروا!
– لما صارت حرب 1982، كان في قرار في سوريا إنه كل الفلسطينيين اللي إجوا من لبنان يلتحقوا بالمدارس لحد الثانوية.
– كمان إنتي لولا القوافل ما كنتي رح تقدري تفوتي حتى على سوريا بالورق اللي معك مش هيك؟
– آه أنا لولا الاتفاقية، حتى على سوريا ما كنت رح أقدر أدخل. وعمري ما كنت بعرف أدخل على سوريا لما كنت في لبنان وأحمل وثيقة سفر مصرية للاجئين. لما سافرت من مطار دمشق سنة 1980 على كوبنهاجن لحضور مؤتمر النساء العالمي، كان هناك تنسيق رسمي من خلال مكتب منظمة التحرير لأقدر أدخل للمطار. ولاحقًا اللي ساعدني في الحركة كان الجواز اليمني من جمهورية اليمن الجنوبية، وبعدين وثيقة سفر يمنية أعطوني إياها لما توحّدت اليمن، حتى حصلت في بداية التسعينيات على الجواز الأردني بعد إسقاط الأردن للعقوبات على من ارتبطوا بالثورة الفلسطينية. فقط عندها أيضًا حصلت على تصريح رسمي بالعمل في الصحافة مع وكالات أخرى غير تلك التابعة لمنظمة التحرير.
بتعرفي مين حَسّوا أكثر إنهم جزء من مجتمع اللجوء عنجد، وحتى إجو وسكنوا بالمخيّم مع إنهم سوريين؟ جارتنا إم وسام مثلًا، اللي كانت نازحة أو لاجئة هي الأخرى من القنيطرة. مرّة رحنا معهم رحلة على تلّ الصيحات وصرخنا نحو الجهة الثانية. بتتذكري؟
صورة حال الثوّار اليساريين المرتحلين من لبنان إلى سوريا في 1982 لم تكن معتمةً ولا وردية، كما لم تكن صورةً واحدة لأنّ ظروفهم وأوراقهم لم تكن واحدة، لكنها كانت صورةً مهتزةً بالفعل، ليست تماهيًا كاملًا مع مجتمع اللاجئين الفلسطينيين ولا غربةً تامّةً. كانت ربما بمثابة زيارةٍ طويلةٍ جدًا لنسخةٍ ما عن فلسطين. نسخةٍ حميمية وحقيقيةٍ، ولكن سابقة وبعيدة مثلًا؟
– مش بس إحنا ما كنا حاسّين إنه من فلسطينية سوريا، ولا هم في الحقيقة عمرهم تعاملوا معنا على أننا كذلك. كانوا بيتعاملوا معنا إننا ضيوف عليهم. وكانت نظرتهم لنا مختلفة.
– كيف يعني؟
– للأسف كان هناك بعض الرفاق الذين تعاملوا بنظرة فوقية مع الناس. وصار نفس الشيء قبلها في لبنان. على أساس أنهم حاملي لواء الثورة والتحرّر والنضال.
– هل بتحسّي إنك ساهمتي أيضًا بهذا الأداء؟
– من غير ما تشعري أو تتقصّدي ممكن تكوني مشاركة طبعًا، حتى لو نيّتك سليمة. ليش؟ لإنه في شعور كان إنه نحن من نملك الحكمة السياسية والرصيد النضالي، وإنه نحن اللي رح نساعد بتعليم الناس معنى الانتماء والعلاقة بالوطن.
– غرور ثوري يعني…
– لما يتملّك أي حدا في أي وقت هذا الشعور، بيكونوا تحصيل حاصل مشاركين ولو بشكل غير مباشر في تعزيز التفرقة أو النظرة المختلفة.
– طيب ومجتمع المخيم أو اللاجئين كيف تعامل معكم؟
– بعض الناس الذين قبلونا وتعايشوا معنا كان من باب التقوّي والقرب من الثوريين من ناحية محاولة الحصول على فرص وأشغال، وأيضًا مكانة اجتماعية مرتبطة بهذا النوع من النضال، وهناك من انتعشت آمالهم بالفعل بأن العودة باتت قريبة وكانوا بحاجة لتجديد هذا الأمل من خلال دعم وجودنا ونضالنا. على فكرة، هناك كثيرين عادوا بالفعل، أو حقّقوا حُلم العودة، ولكن مع اتفاقية أوسلو، إما من تزوجوا من شخص تمكّن من العودة أو كانوا على القوائم الاستثنائية التي أعدّتها الأحزاب المختلفة لأعضائها.

تعتقد ماما أنّ الإحساس بالاختلاف والقبول في آنٍ واحدٍ كان أوضح في حالتها/حالتنا ربما، وذلك بسبب قدومها وبدءها الحياة وسط المخيّم بالفعل كامرأة مستقلّة ومتعلّمة، على عكس الكثير من النساء الأقل حظًا في التعليم والعمل والاستقلال. لكنها جاءت «جاهزة» هكذا، ولم تأخذ فرص الأخريات أو تنافسهنّ في حيواتهنّ، ما أدّى أيضًا إلى قبولها واستقبالها بلطف ودون عدائية أو تنافسية، بل بالعكس، بحضنٍ وثير.
محطّة رقم (4): في معنى التضامن، عائلةٌ بديلة
في الثالث من أكتوبر سنة 1992 كان عمري 7 سنوات. كنّا نقطع الشارع نحو منزل جارتنا في البيت المواجه لبنايتنا في شارع المنصورة في المخيّم. ماما لم ترسم على جفنها بمخطّط العيون كما عادتها، ولم تضع أحمر الشفاه، ولم ترتدي أحد حلقانها الملوّنة. أذكر أنا – أو أذكر من روايتها المتكرّرة للموقف – أنني سألتها ما الخطب، فردّت بأن أمّها – جدتي إم فوزي – قد توفيت في اليوم السابق. هكذا قالتها بعبارة مختصرة. لم أكن أفهم الموت بعد، ولا أعرف من هي جدتي أو كيف تكون الجدّة، لكنني واسيتها: «معلش حبيبتي، كل الأمّهات رح تموت!».
كنا قد وصلنا إلى باب خالتو إم حسام التي كنت أقضي عندها ومع بناتها الكثير من الوقت. فتحت لنا الباب، وتعجّبت لمنظر أمي فكرّرت عليها السؤال نفسه الذي سألته أنال قبلها بدقيقتين، وكرّرت أمي إجابتها. هذه المرة فتحت إم حسام ذراعيها، صرخت وانهالت دموعها، وأخذت ماما بالحضن الوثير والصدر العريض، لتنهار دفاعات ماما «الصلبة» وتنهال بالبكاء. كانت ماما لم ترَ جدّتي قبلها بحوالي 12 سنة.
*****
إم حسام كانت هناك منذ البداية، مسافة قَطع الشارع الضيق. حين انتقلت ماما للمخيم كانت شبه وحيدة، وكانت أوّل من يسكن في بنايتنا قبل أن تُشغَلَ شققها واحدةً تلو الأخرى. تفصلهما سنةٌ واحدة في العمر وعوالم كثيرة والكثير من الأطفال الذين أنجبتهم، وجمعتهما أختيّة حميمة وآمنة تفتقدها ماما حتى الآن. وإن كانت لماما حياتها السياسية والثقافية المعقّدة، يمكننا أن نقول إن علاقتنا بإم حسام وبيتها تختصر حياتنا داخل مخيّم اليرموك، بكل تناقضاتها ومخاطرها.
أسأل ماما التي تفضّل الأسماء الأولى، هل نادتها دائمًا بأم حسام لأن هذا الاسم هو ما تردد على مسمعي منذ الطفولة، لتجيبني بأن لا. كانتا تتناديان بالأسماء الأولى، حتى ولدتني أمّي في المخيّم فأخذت بُعدًا آخر في الحارة، وأصبحت إم حسام تناديها بأم فرح، ككل الأمّهات هناك.
ومن بعدها تحوّل بيت إم حسام إلى بيتي وأنا رضيعة وأمي مشغولةٌ في اجتماعاتها ولقاءاتها الطويلة. كنتُ محظوظةً لأنه في السنة نفسها وقبلي بأربعة أشهرٍ فقط كانت قد ولدت هي ابنتها السادسة؛ أماني، ما جعل هناك حليبًا حاضرًا ودافئًا لي حين أبكي. وضعتني إم حسام على صدرها بتلقائية أم، وصارت منذ تلك اللحظة أمًا لي، وأماني صارت أختي. على عكس مناداتي ماما وبابا، كنت أناديها وأنادي عمو أبو حسام: اليمّا واليابا.
*** انقطعت الكهرباء في غزة أثناء المحاورة مع ماما ***
– لحظة أرفع القلّاب… متذكرة القلّاب في سوريا؟
متذكّرة. كان هناك محوّل كهربائي بيننا وبين بيت خالتو إم حسام لأننا على خطّي كهرباء مختلفين، ولربما تردّدت جملة «إجت الكهرباء، نزلي الهاوس» أكثر من صباح الخير بين البيوت وبعضها في المخيّم. حين كنتُ أعيش في غزّة لم تكن الأوضاع متردّيةً كاليوم، بالعكس، كان كل شيء يظهر جديدًا ولامعًا وحضاريًا بالنسبة لي بعد العيش في دمشق المُغلقة على العالم حينها. لكن السنوات الأخيرة حَمَلَت غزّة إلى عصرٍ آخر، ودخل القلّاب حياة ماما من جديد، بينها وبين جيران آخرين.
أسأل ماما كيف استطاعت أن تكون بهذه الحميمية مع إم حسام برغم الاختلافات الثقافية والاجتماعية الكبيرة. وهل اضطرت للعيش من وراء قناع داخل المخيّم؟ أو هل كانت هناك أقنعة في علاقتها بسكّانه ومن بينهم إم حسام وباقي الجارات.
– إم حسام بطبيعتها تلقائية وبتحب تتعرّف عالناس وعالجيران. وبصراحة هي كانت إلها الفضل إنه نشأت بيننا هذه العلاقة، لإني مش من النوع اللي سهل يعمل صداقات بالذات كمان مع وجود تفاوت…
– ثقافي؟
– آه ثقافي. مش سهل. وأنا بصراحة ممنونة إلها، ولهلأ بقول، لإنّي تدربت من خلالها كيف أقدر أكسر الحواجز. لإنه يمكن حتى اختلاطي بالمجتمع السوري لو بدّك تحفري أعمق كيف صار، يمكن كان بسببها.
– كيف؟
– هي اللي كسّرت عندي الحاجز أو المسطرة الخاصة بكيف وليش ومع مين بنخلق علاقاتنا أو بنعمل صداقات، أو كيف لا تنحازي يمين ولا شمال أو تبقي محشورة في شريحة معيّنة على نفس الخط الثوري والثقافة والخلفية. وصار عندي أصحاب قراب خارج الإطار السياسي، كثير أثّروا في حياتي وحياتك كمان.
إم حسام، ومن بعدها إم وسام جارتنا على الطابق نفسه، لم توفّرا فقط الألفة الاجتماعية لنا، أو الحضن لي في أوقات عمل أمي الطويلة، بل كانتا بمثابة خط الدفاع الأساسي لأمي في حارة المخيّم التقليدية كونهما تعرفانها جيدًا وتثقان بها، ما ساعد أمي على الاستمرار في العمل السياسي والثقافي، لا بل واستضافة الكثير من الاجتماعات في المنزل ودون إثارة بلبلات كان قد تُثار لولا دعمهما كون أمي تعيش وحدها دون عائلة أكبر أو شريك.
– أنا كنت صريحة مع إم حسام. هي كانت بتعرف إنه عندي مكانة سياسية في حزب، وإني منخرطة في العمل الصحفي وعندي شبكة علاقات. وبالتالي لما بيجوا عندي ضيوف كانت أوقات تساعدني في تحضير الأكل.
– وما استغربتيش لما بدأت ترضّعني؟
– لا أبدًا، كان حل منطقي. كانت بتعوّض عني مثل أختي.
أما الأخت الأخرى، الأصغر سنًا، والتي كانت وما تزال بمثابة خالتي الشقيّة فقد كانت صديقة ماما وصديقتي أيضًا: مي. عاشت مي مع ماما لعدّة سنوات بدءًا من 1984 وشهدت على مولدي وساهمت في تشكيل شخصيتي إلى حد كبير حتى عاد شريكها من المعتقل، وسكنا سويًا في بيت منفصل بالمخيّم ثم انتقلا إلى الأردن بعدها.
كان هذا التضامن، هذه الأُختية وهذه الأحضان، وقودًا جعل حيواتنا أنا وماما ممكنةً حقًا على الرغم من الغربة المستمرّة.
محطّة رقم (5): كيف نعود؟ وإلامَ؟
في سنتينا الأخيرتين في المخيّم وسوريا، ومع تجفيف أموال منظمة التحرير وتعطّل العمل في الإعلام، كان لا بدّ لنا أن نعيش. وضعت ماما كل ما لديها وأنشأت مكتبة وقرطاسية في أول شارع بيتنا، بالإضافة إلى استغلال مهارتها في تعليم استخدام الآلة الكاتبة قبل دخول الكمبيوتر إلى سوريا. وجودنا في المخيّم ساعد على نشأة هذا المشروع بعيدًا عن أشكال التجارة الرسمية، لكن القلق المادي والسياسي المستمر اضطر أمي إلى أخذ القرار بالاستفادة من فرصة العودة إلى غزّة بعد اتفاقية أوسلو.
– كثير بسأل لو فعلًا كنّا مضطرات نرجع، وكيف كانت رح تكون حياتنا لو ما رجعنا.
– يمكن لو كنت عملت عائلة مستقرة وعندي أولاد أكثر وأكبر في سوريا ما كنت أختار أرجع. لكن بتخيّلش كنّا رح نبقى بالوضع اللي كنا عليها.
– لكن كمان «العودة» كانت مخيّبة، مش هيك؟
– أنا بتذكر كنتِ غاضبة جدًا علينا أنا وأبوكي، وتقولي لنا ظلمتوني ورجعتوني.
– وإنتي ماما؟
– وأنا بعيدة طبعًا كنت بحن للوطن، وللبحر، ولأهلي. كان في شيء حالم. ومكنتش عارفة وين رح أروح. كان حلمي إنه بس أرجع على غزّة بدي أشتري قطعة أرض صغيرة وأعمّر بيت أشوف منه البحر.
– وبعدين؟
– الغريب إني بس رجعت على غزّة راحت هاي الرغبة. لقيت البلد كانت مختلفة، ما بتشبهني ولا بشبهها، وما في مساحة للحرية الشخصية. راح هداك الحلم.
– ندمانة إنه رجعنا؟
– مش ندمانة لإنه مكنش في بديل ولإنه صنعنا حياة هون كمان، ولكن رغم إنه رجعنا من 25 سنة ما تزال السنوات الـ13 في سوريا هي الأفضل بحياتي، بمعنى التمتّع ببعض الحرية والاستقرار وحتى الشعور بالانتماء. ما بعرف. كمان بالآخر هاي العودة كانت مخيّبة سياسيًا سنة بعد سنة.
– بتعتقدي في كثير ناس هيك؟
– بعتقد في آه. واللي منهم قدر يرجع يسافر عمل هيك أو الأجيال الأصغر رحلت (تقصد مثلي أنا). بس كمان في ناس اللي ساعدهم يستقرّوا يمكن إنهم عيلة كبيرة وتزوج الأبناء والبنات وصار في أحفاد وخلص الحياة تدفقت وأخذت طابع اعتيادي من جديد. مثل بيت خالتك مثلًا بعد ما رجعوا من مصر، لكن وضع الناس بمصر كان غير، وكمان أنا لحالي وبقيت وحيدة.
مخرجٌ مرتبك يليق بهذا النص المرتبك:
تعبت ماما من بعض الأسئلة، وتعبتُ أنا. تستغرب كيف لا أذكر بعض الأشياء وأسماء المحلّات والأصدقاء. أمي تعتقد بأنّ هذه ذاكرتي، بينما هي ذاكرتها حتمًا. ذاكرتها كشابّة، ذاكرتها كحبيبة، ذاكرتها كمناضلة، ومن ثمّ ذاكرتها كأم. أما أنا كأيّ بنتٍ أو ولدٍ صغير في ظروفٍ شبه طبيعية، كنتُ ابنة أمي، جئتُ إلى الدنيا منها، وعشتُ معها، وحين قرّرَت هي الرحيل، أو أُجبرَت عليه بشكلٍ أو بآخر، رحلتُ معها.
*****
لستُ فلسطينية سورية، ولا أعلم كيف يظنّني البعض كذلك. لا بدّ وأنها لهجتي المركبّة، وأيضًا اهتماماتي وتعبيراتي السياسية المركّبة. أنا فلسطينية أغلب الوقت (وكما أحبّ أن أقدّم نفسي)، وأردنية (كما تقول أوراقي وحين ينفعني أن أقدّم نفسي كذلك)، لكنني ولدت في مكانٍ واحدٍ لا يتغيّر في أيٍ من الأوراق أو الأقوال: دمشق، سوريا.
مكان الميلاد هذا يلاحقني في كلّ مكان. على الحدود أُسأل دومًا إن كنت أحمل جواز السفر السوري وأرى عدم التصديق في عيون الضابط، وفي المعاملات الرسمية حيث يقع عليَّ أحيانًا ما يقع على السوريين من تمييز أو عقوبات كرفض الكثير من البنوك فتح حسابٍ بنكيٍ لي، كون بعض الدول – كألمانيا مثلًا – تعتبر مكان الميلاد أهم من الجنسية، أو ما تزال البيروقراطية فيها عاصيةً على استيعاب تعقيدات حياة المرتحلين أمثالنا، وأننا لا نولد ونموت في المكان نفسه، وعلى الأغلب لا نحمل جنسية موطننا الأصلي.
*****
بعد الخروج من المخيم بـ 25 سنة، ها أنا ذا في برلين. أفكّر في غرابة الأقدار التي تجمعني هنا بصبايا وشباب تهجّروا من سوريا ومن مخيّم اليرموك بعد الثورة السورية في 2011 والحرب التي اندلعت بعدها لإحباطها. هل كنتُ سأكون هنا أيضًا لو لم نعد إلى غزّة؟ هل كان من الممكن أن أبقى في سوريا كبيرةً وأنا لا أحمل وثيقة اللاجئين منها؟ هل كنت سأظلّ في البيت نفسه حتى لحظة حصار المخيّم وتهجير سكّانه ومن ثمّ تدميره؟ أسأل ماما إن كان بإمكانها تَخيُّلُ ذلك، ولا أجدها قادرةً على تخيّل إمكانية وجودنا في سوريا من الأصل. لا بد وأنا حياتنا أخذت المسار الوحيد الذي كان من الممكن لها أن تأخذه.
كنا ضيفتين عليهم، لكننا كنا أيضًا ضيفتين في غزّة. كنا من العائدين اللاتي لم يعدنَ إلامَ نَشدنه/ننشده في الغربة والترحال والوحدة.