في ربيع عام 1983، تم إبلاغنا أن «الأخ القائد العام» سيلتقي بنا، نحن الكوادر في حركة فتح، في مكتبه في شارع الباكستان وسط دمشق في ساعة محددة، وذلك قبل بضع ساعات فقط من موعد اللقاء، مع التأكيد على عدم إبلاغ أي أحد بالأمر، لأن عدد المدعوين محدد ولا يمكن تجاوزه، كما أن المكان نفسه، الذي هو شقة سكنية تقع مباشرة فوق فرن بعيرة المعروف وسط الشارع، أضيق من أن يتسع لأعداد كبيرة.
خلال الساعات القليلة التي أتيحت لي لأستجمعَ ما يمكنني قوله لـ«الأخ القائد العام»، وجدت أن قائمة الموضوعات أطول من أن يتسع لها لقاء واحد، ولو أنها جميعها كانت تتمحور، في ذلك الوقت، حول موضوع محدد: الانشقاق الذي بدأ يعصف بالحركة، والذي كان من الواضح، رغم كل مبرراته المحقة فعلاً، أنه مدعوم مباشرة وبشكل علني من قبل مخابرات النظام السوري، كخطوة، قد تكون أخيرة، على طريق تصفية وجود الحركة في سوريا ومن ثم لبنان نفسها، تمهيداً لإتمام ما بدأه الإسرائيليون خلال غزوهم للبنان في صيف العام الذي سبقه، 1982. وهو في نهاية المطاف ما حصل فعلاً، بعد بضعة أشهر فقط من ذلك اللقاء.
لم يكن الأمر يخفى على أحد في ذلك الوقت. النظام السوري، ورأس النظام بشكل شخصي، لا يكنّ أي مشاعر ود تجاه أي شكل من أشكال العمل الوطني الفلسطيني الخارج عن السيطرة المباشرة لدمشق ونظامها. ولم تكن المشكلة مشكلة ود غائب فقط، بل كان النظام السوري قد شرع منذ سنوات، منذ دخول القوات السورية إلى لبنان العام 1976، في خوض مواجهات مع المقاومة الفلسطينية، وتنظيم فتح بشكل رئيسي، لم تقف عند حدود أن تكون مواجهات سياسية أو أيديولوجية تختلف على السبيل الأكثر نجاعة لتحرير فلسطين، بل صارت مواجهات عسكرية تخللتها عدة حروب، وصلت إلى درجة ارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق من يفترض أنهم الضحايا المباشرون لمأساة فلسطين، دشّنتها مذبحة مخيم تل الزعتر. أي أن النظام الحاكم في دمشق لم يكتف بأن يعلن كراهيته للعمل الوطني الفلسطيني المستقل عنه فحسب، بل كان قد شرع في محاولة تصفيته، حتى وجودياً، بكل السبل المتاحة بين يديه، إلى أن تم له الأمر، على الأقل ضمن مناطق نفوذه، سوريا ولبنان في ذلك الوقت، في خريف عام 1983 إثر الحصار المنهك والدموي لمدينة طرابلس شمال لبنان.
لم تكن حال الكراهية المعلنة تلك تخفى على أحد، ولم يكن أصحابها ليترددوا لحظة واحدة في القيام بأي ارتكاب يمكن تخيله للوصول إلى هدف التصفية وفي أسرع وقت. بل إنها حتى لم تكن تثير استغراب أحد، فالمعادلة كانت واضحة للجميع في ذلك الوقت: هناك نظام استبدادي يريد احتكار السلطة فوق أراضيه، وفوق أية أرض يمكن أن يمتد إليها نفوذه، له وحده دون أي شريك. وهناك في المقابل حركة وطنية لها امتدادات داخل مناطق نفوذ هذا النظام، وحتى ضمن ما يفترض أنها «بلاده»، وخارجها؛ وفوق هذا لدى تلك الحركة قدرة تعبوية هائلة مع قوة عسكرية لا يمكن الاستهانة بها، خاضت عدة مواجهات مع من يُفترض، وحسب البروبوغاندا الرئيسية لهذا النظام الاستبدادي بالذات، أنه العدو الرئيسي للأمة، الكيان الصهيوني، وأثبتت جدارة تُحسَب لها ضمن ميزان القوى في ذلك الوقت؛ بالإضافة إلى أنها اكتسبت شعبية كبيرة لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال، حتى ضمن البيئات التي يُفترض أنها من «أعمال إمبراطورية» النظام الاستبدادي نفسه. هذا دون أدنى ريب تهديدٌ مباشرٌ لهذا النظام وشرعيته نفسها، التي بناها على فكرة وحيدة: مواجهة المشروع الصهيوني في المنطقة. كيف يمكن لهاتين «الحالتين» أن تتعايشا في الحيز الجغرافي والسياسي نفسه دون أي تصادم، وكلاهما يعلن أنه صاحب الحق الشرعي في الكلام باسم تلك القضية «المركزية»؟!
كنت، عند هذه النقطة من التداعي الذي غمرني كشلال وأنا أستعد لمقابلة «الأخ القائد العام»، قد وصلت إلى سؤال رئيسي، بعد كل ما رأيناه إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت مطرودة إلى تونس، ومن ثم عودة أبي عمّار إلى لبنان عبر بوابة دمشق نفسها؛ سؤال بات حاضراً بوضوح في ذهني لكنني كنت أخجل من طرحه: حسناً، ما دام النظام السوري عدواً فعلياً، وهو أشد خطراً وحقداً من أعداء معلنين نحاربهم منذ عقود، لمَ لَمْ نفكر حتى في طريقة لدرء خطره عنا؟! ذلك الخطر الحقيقي والداهم والأشد وطأة من بقية الأخطار. أليست مخابرات هذا النظام هي الداعم والراعي المباشر لحركة الانشقاق التي تعصف بالحركة الآن؟!
كنت في الحادية والعشرين من عمري، ينبغي تَذكُّرُ هذا، وهو عمرٌ يكون فيه المرء أقرب ما يكون إلى الصدق والمباشرة ورؤية الأمور كما هي تماماً دون لف ودوران وتبرير فائض؛ أو مجمل الحالة التي يتم التعبير عنها بكلمة واحدة: السذاجة. في ذاك العمر بالذات، وقبل سنة واحدة فقط من ذاك اللقاء، وقبل بضعة أشهر فقط من الغزو الإسرائيلي للبنان، الذي أطاح بجزء كبير من قوة وحضور ونمط حياة كامل أنشأته تلك الحركة الوطنية الفلسطينية، التي كانت أكبر من مجرد حركة سياسية، وأصغر، وبكثير للأسف، من ثورة، كُنّا جميعاً، أنا وكل أقراني ممن شاركوني التجربة نفسها، في مواجهة السؤال نفسه أعلاه، فيما مدينة كاملة في وسط سوريا، هي حماة، تُذبح وتُباد على مرأى ومسمع الجميع، والكل قد أدار وجهه إلى جهة أخرى مُدّعياً أن الأمر لا يعنيه.
ما كان لي، وأنا الفلسطيني السوري، وما كان لغيري من بقية أقراني من فلسطينيي سوريا، ترفُ القدرة على إدارة وجوهنا نحو الجهة الأخرى ونحن نعلم يقيناً، وبالتفاصيل المرعبة، وعبر غريزتنا قبل أي شيء آخر، ما معنى أن تعيش في ظل نظام يحكمه مريض وحقود ومجرم مثل حافظ الأسد. كان بعضنا قد بدأ يسأل لحظتها، ودون أن ندري بما هو مخبأ لنا جميعاً بعد بضعة أشهر فقط: أليس من الأولى أن نجد طريقة لمساعدة أولئك الذين يُذبحون الآن، كما ذُبحنا في تل الزعتر، قبل أن يأتي دورنا مرة أخرى لنُذبح على يد الجلّاد نفسه؟!
هذا بالضبط، وحرفياً، وبكل صدق وتجرد، ما كنا نتداوله في جلساتنا الخاصة. وهناك ممن قد سيقرؤون هذه السطور الآن، سيتذكر تماماً تلك الأيام وتلك الأسئلة التي كنا نتداولها بأصوات هامسة، ليس فقط خشية أن تسمعنا آذان مخبريّ حافظ الأسد ونظامه الوحشيّ المبثوثين في كل مكان في سوريا، بل وأيضاً خشية أن يسمعنا «مثقفو» حركة المقاومة الفلسطينية (كنا نسميها ثورة في ذلك الوقت، وهنا كانت السذاجة فعلاً) ويحولونا جميعاً إلى أضحوكة سهراتهم.
عند هذه النقطة بالذات، أتذكّرُ نكتة تداولها الجميع عنا في ذلك الوقت، نحن «الكوادر» المدنية في حركة فتح (المقابِلة، وحسب «الرطانة» التي درجت بعد ثورة السوريين في 2011، لعبارة «النشطاء» المدنيين)؛ كان يُقال، وعلى لسان ياسر عرفات بالذات، أنه في حالة «الكوادر» يجوز استبدال الواو بالنون، وتكون الكلمة قد اكتسبت معناها الحقيقي!
كان الأمر مزعجاً لا شك؛ لا يمكن لـ «الأخ القائد العام» أن يفكر بهذه الطريقة، وإلا كيف يمكن له أن يكلف نفسه عناء لقائنا وتفريغ بضع ساعات من وقته لنا؟! الحقيقة أنني كنت أحاول الهروب من تلك «الحقيقة المزعجة» التي عشتها في كل مكان «حقيقي» ذهبتُ إليه وعشتُ فيه تجربة ما، ولو من باب «التعايش»، ضمن أطر عمل حركة فتح في ذلك الوقت. و«الحقيقي» بالنسبة لكل الفلسطينيين في ذلك الوقت كان العمل العسكري، الذي كنا نطلق عليه اسم «العمل الفدائي»، أي في المواقع العسكرية للحركة في الجنوب والبقاع اللبنانيين.
كنا كـ«كوادر» مدنية عبئاً ثقيلاً على الجميع ما أن نحلّ بينهم، وكانت هناك، في أحسن الأحول، حيرة حول قدرة أولئك الطلبة على فعل شيء، هو بحاجة في كل الأحوال إلى احتراف ومقدرة وتفرّغ. مع أن ما حصل إثر الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف 1982، هو أن أكثر نقطة صمدت في وجه الاجتياح الإسرائيلي، قُبيل إطباقه على بيروت وحصارها بالكامل، وكبدته خسائر اضطرته في النهاية إلى استحضار وحدة الكوماندوس في لواء النخبة «غولاني» إليها لتصفيتها، كانت في قلعة شقيف حيث تمركزت كتيبة الجرمق، الكتيبة الطلابية في حركة فتح!
كنا في أحسن الأحوال عبئاً، يخجل البعض من التبرم في وجهه علانية، وفي أسوئها كُنّا مادة للتندر بين أولئك الذين «ختموا العلم» في السياسة ودهاليزها وخباياها على أيدي أعتى العتاة في هذا «الكار»: الأبوات، جمع أبو… أي أبو فلان وأبو علّان. كُنّا من جهتنا نسميهم «المخاتير». ولكن بعيداً عن السخرية والسخرية المضادة، كان هناك «سياق» مبنيٌ بالكامل بحيث لا يأخذ بعين الاعتبار، ولا يرحّبُ أصلاً، بأي دور لعمل سياسي شعبي قادر على إيصال صوته، أو أصواته، إلى مركز اتخاذ القرار في هذا السياق، أو فرض إرادته بموجب آليات الشفافية والديمقراطية التي كان يفترض أنها السائدة في ذاك السياق أو المنظومة. كان المكان التنظيمي ضيقاً، بُنيَ بحيث يتسع لشخص واحد مع مجموعة من الأشخاص المحيطين به بشكل مباشر، تماماً كضيق مساحة الشقة التي قابلنا فيها «الأخ القائد العام».

عند تلك المرحلة من التداعيات، كنتُ قد أدركتُ، وبأسف، أنني لن أتمكن من طرح أي سؤال. لا صغر سني، ولا حتى الدور الذي كان متاحاً لي في «التنظيم»، كان يمكن أن يسمح بأي دور حاسم في أي شيء يتعلق بمصير الحركة السياسية التي يُفترض أننا كوادرها. بل وربما لو أنني تجرأتُ وسألت، فإن من سيدفع الثمن هو شخص آخر غيري، «طارق»، الشخص الذي قام بضمي أساساً إلى التنظيم، والذي اكتفى بإبلاغي وحدي من بين كوادر التنظيم، ضمن حدود مسؤوليته، بأن أكون معه في الاجتماع. أي أن الرجل، كان قد غامر بدعوة «غرّ» قد يسبب إرباكاً لو تجرأ وأشار إلى شيء كان الحديث فيه من «المحرمات»، وأمام القائد العام بالذات. ثم إن هناك كثيراً من المواضيع التي يجب أن تُحكى بطرق يمكن أن تكون أقل سذاجة وأكثر عمقاً في الطرح من قبل من هم أكبر سناً وأكثر نضجاً، ولهذا أبقيت لنفسي أملاً بأنَّ هناك من سيلمح، ولو عبر سؤال بسيط يطرح نفسه في مواجهة التهديد المباشر الذي يطرحه الانشقاق: وما العمل أيها «الأخ القائد العام»؟!
ما حدث لاحقاً خلال الاجتماع كان بعيداً كل البعد عن كل ما تخيلته أو فكرتُ فيه.
بدأ الاجتماع بعرض سياسي عام من قبل «الأخ القائد العام»، تركَّزَ في مجمله على نقطة واحدة: خلافه المرير، وقتها، مع الأخ العقيد القذافي! حول ماذا؟! لم أعد أذكر. ما أذكره وأنا معلّق بين السماء والأرض، واقفٌ على كرسي في آخر الردهة الضيقة التي اجتمع فيها بضع عشرات من الأشخاص، زحموا المكان بطريقة ما عاد يمكن معها رؤية أبو عمار وهو يتحدث على الطرف المقابل من تلك الردهة واقفاً خلف طاولة صغيرة. ما أذكره أن طريقة عرض عرفات للخلاف، بتفاصيله، وما قاله للأخ العقيد القذافي، وما قاله له الأخ العقيد القذافي، يشبه، بطريقة تدعو إلى الضحك، ولو غيظاً، طريقة الدردشة السائدة خلال وقت فراغ ممل، التي يُطلَق عليها «دق النميمة»، عندما يجتمع مجموعة من الأصدقاء ويبدؤون بالنميمة على أحدهم، يكون هو الغائب عن الجلسة، وذلك فقط لتمضية الوقت بتسلية لا يملكون سواها!
بعد ساعة تقريباً، ومع التململ الذي بدا واضحاً على الجميع، تَدخَّل أحد الأشخاص، داعياً «الأخ القائد العام» للحديث في النقطة التي كُنّا جميعاً متلهفين لسماع ما عنده حولها؛ الانشقاق الذي يعصف بوجود الحركة بأكملها.
تحدث الرجل بهدوء واتزان، جعلاني أستعيد بعض ثقة بأن الحديث قد بدأ الآن، وأننا قد نصل في النهاية إلى طرح ذلك السؤال، أو الأسئلة، التي كانت تحوم فوق رؤوسنا جميعاً: ما العمل؟! ولماذا وصلنا إلى هنا؟!
قال الرجل إننا نريد إيضاحاً حول كثيرٍ من النقاط التي أوردها المنشقّون، والتي هي حق يراد به باطل دون شك، ولكنها في النهاية تبقى حقاً لا مجال إلا لمراجعتها، وبكل الشفافية الضرورية، حتى نصل إلى نتيجة. عندها وُوجه الرجل بسؤال: «ما هي تلك النقاط من فضلك؟!»، فأجاب: «مثلاً قرار ترشيح الحاج إسماعيل لمنصب أعلى في الحركة». كان هذا القرار بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير في كل ما حدث من أحداث عاصفة في ذلك الوقت، فالرجل كان يفترض أن يكون قائداً عسكرياً عاماً للقوات في جنوب لبنان، ولكن ما حدث خلال الأيام الأولى للاجتياح أن الرجل فرَّ من مقر قيادته، متنكراً في زيّ امرأة حسبما ما انتشر في رواية عامة للحدث خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982. النتيجة، وبعد الخروج من بيروت والعودة إلى دمشق، وعوضَ أن يوضع الرجل تحت المساءلة أقلّه، أو يُعفى من منصبه، كوفئ من قبل «الأخ القائد العام» بترشيحه إلى منصب أعلى!
ردّ «الأخ القائد العام» على ذلك السؤال بجملة واحدة فقط: أنا أعطيت الحاج إسماعيل أمراً بالانسحاب!
كان قد مضى أكثر من ثمانية أشهر بين الخروج من بيروت وبين ما حدث في تلك الجلسة، وكانت الدنيا بأكملها، دنيا الفلسطينيين، تتحدث بفضيحة الحاج إسماعيل، وجاء بعدها قرار ترشيحه لمنصب أعلى، الأمر الذي كان الذريعة الرئيسية لحركة الانشقاق، بينما لم يكلّف «الأخ القائد العام» نفسه عناء قول حرف واحد عن الحدث، اللهم إلا قرار ترقية «الهارب»، الذي كان أشبه بفرمان من الباب العالي. ثمانية أشهر كاملة، حتى كلف «الأخ القائد العام» نفسه عناء الرد بجملة واحدة مقتضبة، كانت عبارة عن بصقة في وجوهنا جميعاً!
هذا ما شعره الشاب العشريني المعلّق فوق كرسي في آخر الردهة بانتظار إجابات على أسئلة أكثر أهمية بكثير، تتعلق بمصيرنا ووجودنا نفسه كحركة سياسية، وبالنظام الحاكم للأرض التي نقف عليها، والذي يريد تصفيتنا، ليس سياسياً فحسب بل وحتى جسدياً حتى آخر واحد منا، لو استطاع.
سيدةٌ من الحضور امتلكت ما يكفي من الجرأة لتقول لـ«الأخ القائد العام»: «أنت ديكتاتور»، وتغادر المكان مصحوبة بابتسامات «الديكتاتور»، وهذا كان بالمناسبة أقصى ما كان يستطيعه الرجل من ديمقراطية وتسامح.
أمام المكتب، وفي وسط شارع الباكستان، تجمع الذين كانوا حاضرين في الاجتماع، واتخذوا شكل حلقات تتحدث حول ما دار. جميعنا، بدون استثناء، خرجنا ونحن أكثر حيرة وبكثير مما كنا عليه لحظة الدخول. أظن، وهذا غالباً ما كان ظاهراً من أحاديث الجميع، أن التداعي الذي كنت قد عشته أنا خلال بضع ساعات قبل اللقاء، كان هو نفسه ما عاشه أغلب من حضروا الاجتماع. ولكن، إذا كان الحاج إسماعيل قد فرّ من مقر قيادته بأمر من «الأخ القائد العام»، فما علينا إلا الذهاب إلى منازلنا سائلين العلي القدير الرحمة.
على الطرف المقابل من الشارع، كان «طارق» ينتظرني وحيداً. كانت ملامح وجهه توحي بضيق شديد، فوق الشحوب الذي اكتسبته بسبب المرض المزمن الذي كان يعاني منه منذ خروجه من المعتقل في أحد أفرع مخابرات النظام السوري. «طارق» كان واحداً من فلسطينيي سوريا الذين تجرؤوا على كتابة العبارة الشهيرة على الجدران في أحياء دمشق، إثر مذبحة تل الزعتر، «أسد أسد في لبنان، فأر فأر في الجولان». قضى الرجل نتيجة ذلك، وكان وقتها في أوائل العشرينيات من عمره، عامين في المعتقل، وخرج بعدها، وبسبب التعذيب الهائل، مصاباً بقصور في القلب.
لم نكن في وارد الحديث عما دار خلال الاجتماع. لم يَدُر أي شيء ذي قيمة أصلاً، وكان الشعور بالخيبة طاغياً فعلاً إلى درجة آثرتُ معها تغيير الموضوع، لأجد نفسي في صلبه تماماً. كنا نمر لحظتها، وعلى الطرف المقابل من الشارع لمكتب أبو عمار، من أمام المنزل السابق لوزير الدفاع السوري، الذي صار لاحقاً جلاد سوريا، حافظ الأسد. أشرتُ إلى المفارقة، ليعقّب «طارق» بمرارة: نعم… كانا جارين!
كنتُ قد حسبتُ أن زيارتي تلك إلى مكتب «الأخ القائد العام» ستكون الأولى والأخيرة، ولكن بعد أقل من شهرين كنتُ هناك مرة أخرى في محاولة لإيجاد طريقة لتأمين مبلغ مالي شهري إعانةً لأسرة طارق، الذي كان قد توفي قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره، بسبب مرضه.
الرجل الذي قابلني هناك قال إن الحل الممكن هو إحالة الملف كاملاً إلى مكتب أسر الشهداء، وهناك سيدرسون الملف ويقررون. قلتُ إن هذا كلّ ما نريده فعلاً، ليس لأن الموضوع بهذه الطريقة سيُحَلُّ بشكل أكثر سرعة، بل أيضاً لأن الرجل شهيدٌ فعلاً. لحظتُ فوراً طيف الابتسامة الذي ارتسم على طرف فم الرجل، ولم أطق صبراً، قلت: ليست إسرائيل وحدها هي العدو. عندها لحظتُ، وبرضى كبير، كيف انمحى ذلك الطيف بسرعة ليحل محله ترقب في العينين، لحديث قد يصل إلى ما لا تحمد عقباه، والحيطان في سوريا كلّها لها آذان.
كان ذلك الترقّب، المختلط ببعض رعب وارتباك، كافياً جداً ليمنحني ثقة لمغادرة المكان والتوجه إلى مكتب أسر الشهداء، في موقع قريب من مكتب «الأخ القائد العام» باحثاً عن تثبيت، ولو شكلي، ولو غير مباشر، لحقيقةٍ كان الجميع يعرفها ويهرب منها: أن تقف في وجه هذا النظام الوحشي لهو شرف يعادل، إن لم يَفُق، شرف الوقوف في وجه الاحتلال الإسرائيلي بكل الأشكال الممكنة. شرفٌ دفع كثرٌ ثمنه باهظاً، وفي وقت مبكر جداً، دون ذكر أو تكريم لائقين ببطولتهم تلك.