لا ألحظُ حبَّ باريس عادةً. تحتاج أحياناً إلى إشعال نفسها وسياراتها وموتوراتها وتكسير واجهاتها وأبواب بنوكها دوناً عن أبواب مخابزها الملاصقةِ المطمئنةِ إلى أنّ التكسير يأتي فقط على البنوك، لأنتبه أني أحبها الآن، هنا، وليس قبل 100 عامٍ أو 200 عام كما قرأتُها في الكتب والأدب. أحياناً تأتي مسابير من جغرافية وزمانٍ آخرين يغرزون في الدماغ هتاف «باريس لينا وماهي للالمان»، ولالمان هو رئيس شرطة باريس، لألحظ هذا الحب. كان هذا في المظاهرة العملاقة الأخيرة التي انطلقت آخر الشهر الماضي من ساحة الجمهورية إلى ساحة الباستيل مناهضةً لمشروع قانون الأمن الشامل.
انتبهتُ قبل يومين، وأنا أقطع شارع التوتات وشارع الخوخات وأمرُّ بشارع اللوزات بمحاذاة مقبرة بير لاشيز، جارتي، أن مارتين التي أغلقت مجبنتها السنة الماضية بعد أن قضت فيها 77 عاماً، منذ سنّ الثالثة عشرة حين بدأت العمل، قد أحسنت دوزان وتوقيت تقاعدها تماماً قبل الكورونا. لا أعرف أين هي الآن: هل تعيش في مأوى عجزةٍ في عمر الثانية والتسعين بعد أن كانت تسكن في خلفية متجرها؟ مع أنها ظلت قادرةً على قطع القوالب الكبيرة وحملِها من الرفوف إلى دفّة العرض والتقطيع، وكان زبائنها يصبرون على بطء مشيتها دقائق إضافية رغم استعجالهم في الطريق قبل دخول محلها. كان صبرهم نوعاً من الفرجة على متحفٍ للدائرة الأخيرة من باريس تحمله مارتين على أكتافها، ونوعاً من الغبطة لها، وهي التي لم تذُب مثلهم في سيلان الزمن. زمنها فيه قديمٌ وجديدٌ وبين بين، مثل الدرجات الثلاث لاختمار الجبن غير السائل، الذي تتذوّقه مع كلّ تقطيعةٍ غير آبهةٍ بالكوليسترول. أعلنت قبل أن تنسحب من مسرح دفّات الجبن أنها ستتقاعد، وترك لها أهل الحارة «كلماتٍ صغيرة» على الغَلَق المعدني لتوديعها.
شارع المرغوبة
لم أنتبه أنّ هذا الباب الذي أخرجُ منه كل صباح يقع عند زاوية شارع المرغوبة وشارع المغادرين. كان شارع المغادرين هذا، قبل قرنٍ ونصف، شارعاً طويلاً يقطع كل الدائرة العشرين من جنوبها إلى شمالها عند باب ليلا. تغيّر تماماً، دُمِّرت عماراتُه القديمة وبُنيت عماراتٌ ومساكنُ شعبية جديدة. لماذا سُمّي شارع المغادرين؟ ربما لأن ليون غامبيتا، وزير الداخلية عام 1870، غادر باريس المحاصرة باتجاه مدينة تور على متن منطادٍ من هنا لإنقاذ الجمهورية الثالثة؟ كل الحي يتكنى به: مدرسة غامبيتا، ساحة غامبيتا حيث بلدية الدائرة العشرين التي يعرفها السوريون اللاجئون في المنطقة الباريسية لأنها تستقبل في مقرها جمعيةً تُعنى ببعض شؤونهم الإدارية، مخبز غامبيتا والمناطيد التي تذكّر به تعبِّئ كل آرمات المحال التجارية. خطأ، غامبيتا غادر باريس على متن منطاده من تلة مونمارت، وكان فيكتور هيغو شاهد عيانٍ على تلك المغامرة العجيبة. ربما كان من المنطقي أن ينطلق من هنا، من عند نقطة التلغراف، حيث أعلى تلّةٍ في باريس وليس عند المونمارت. يغادر عمالُ البناء والدهان «البنتيرة» المصريون سقالاتِهم الحديدية كل يومٍ في شارع المغادرين وينحرفون غرباً باتجاه حي الموزة، المُطلّ على شارع اللوزات؛ تجمّعُ السكن الاجتماعي الذي أنتج رابرز لا تهمهم القضايا الكبرى كأسلافهم من الرابرز بقدر المال الكفيل بتجنبيهم حيوات أهاليهم الشقية. تلعلعُ في طريق العمال عند شارع اللوزات أغاني موحا القرش و«فريستايلاته». موحا ابن الحي وابن شارع دوريس، المسموع جداً قبل أن يُتّهم بقضية حبس واغتصاب فتاةٍ من فترةٍ ليست ببعيدة:
«ما كان حزين، كان الستريت، كان القرش بشارع دوريس، كان القرش بشارع دوريس، أهلا وسهلا بحارة الموزة، هون بينطق فشك، هون منطرش مخاخ، هون منبيع المعلوم، هون من أنا وصغير مسلّح، كان في كبار بيضربوني، هون مو أخبار الساعة تمانة، هون الحقيقة على المشرمحي، هون الدائرة العشرين، هون الكره، أنا القرش تاع الموزة……..القاضية الشرموطة عملت حالها طرشة، سلختني منشان شوية بودرة، بتبعصك منيح….. بس القرش لطيزو، شو بدها؟ بدنا نسترزق والقصة فيها فلوس….»
على بعد أمتارٍ يقع معهد الحي الموسيقي، جورج بيزيه، يلعب في حديقته أطفالٌ مهاجرون سوريون، لم أفكر قبل هل سيصبحون رابرز حي الموزة الجدد؛ سيُشبهون موحا القرش أم ليديه ماركسون الأرقى بقليل؟ بعيداً قليلاً من شارع اللوزات باتجاه المينيلمونتان تصدح ماريا كالاس من مدرسةٍ ابتدائيةٍ ألحان كارمن وكأنها تحيّي روح جورج بيزيه شفيع الحي الموسيقي. يبدو أن هدى بركات، الكاتبة اللبنانية تعيش في الشارع ذاته، بين ألحان بيزيه وفريستايلات الرابرز.
وأنا أتسلق هذه الدائرة المتعرجة المتدلية فوق باريس كما تتدلى بطون سكان البيت الصغير في فيلم عجلة بيلفيل الثلاثية على الميترو الهوائي الذي اجتاح قرى شمال باريس بعد أن ضُمّت إلى عاصمته، فاتني أنّ كنيسة سيدة الرهائن الواقعة في شارع هاكسو الطرفي تقعُ أمام مستوصف الصليب الأحمر، حيث يمكن أن ينتظر المريض فيه لساعتين قبل أن يُحصّل وصفةً بدون مضاداتٍ حيوية. النمط الأساسي للمرضى هم ممن يريدون «حب الخمسمية» كما كنا نقول في سوريا؛ مضاداتٌ حيويةٌ سريعةٌ تقضي على المرض للعودة إلى العمل سريعاً، يجاورهم بعض المسنين الفرنسيين الذين لا تسمح لهم تقاعداتهم الصغيرة بمعايناتٍ مسبقة الدفع. كلما مررت أمام كنيسة سيدة الرهائن أشعر براحةٍ غريبة. مرةً أخبرتني سيدةٌ قابلتها عند أصدقاء أنها تؤمن بالأرواح المُعذَّبة، وأنها غيّرت بيتها في الدائرة الثانية عشرة لأنها اعتقدت أن أرقها الليلي هو بسبب الأرواح المُعذّبة للضحايا الذين قضوا في مذابح كومونة باريس قرب ساحة دومينيل. أنا على العكس، كنتُ أشعر براحةٍ فظيعةٍ عند مروري بهذا المكان الذي شهد احتجاز رهائن وإعدامهم، والذين شُيّدت كنيسةٌ لذكراهم. لا أعرف، هل هي ذائقةُ المذابح والحصار التي تريحنا أم أنّ بمعرفتي بالقصة صرت جزءاً من المكان؛ امتلكته أكثر. معرفةُ مستوصف الصليب الأحمر لم توثّق الصلات أكثر من تلك الأشباح الهائمة مع الدائرة العشرين.
تأملتُ عاملات الجنس الآسيويات عند دوّار بيلفيل الفاصل بين الدائرة الحادية عشرة والدائرة العشرين، عند سفح شارع بيلفيل الذي أصبح بسرعةٍ ودون صخب خلال عقدين «تشاينا تاون» شمالية. تذكرتُ أن جدة إيديت بياف ابنةُ هذا الحي ومولودةُ هذا الشارع، كانت عاملة جنس، وباترونة دار بغاءٍ كذلك. لم يكونوا يقولون عاملة جنس طبعاً، كانوا أكثر تخففاً من صوابياتنا السياسية المنافقة. أتساءل عن تعابير العاملات الآسيويات: جديةٌ مطلقةٌ وكأنهنّ ينتظرن ورشة عمّالٍ تأخرت، روح إيديت بياف تمسك الدائرة الباريسية الأخيرة كشفيعة، بثلاث أصابع وثلاثة خيوطٍ مثل مخايل العرائس، حيث ولدت في بيلفيل وحيث دُفنت في بيرلاشيز، وحيث نُصب لها تمثالٌ صغيرٌ في ساحةٍ صغيرةٍ سميّت باسمها: «بنوتة» الحارة، بالقرب من مشفى تنون، على حدود الدائرة الشرقية، حيث أُقيمت قبل قرنٍ مساكنُ عمالية رخيصة أصبحت الآن مساكن برجوازية لا يُقوى على استئجارها أو امتلاكها. في التشاينا تاون، في بيلفيل، التي أصريت فيها يوماً وحلفت أيامين لأدعو صديقتنا شناي، وأكتشف لاحقاً أني لا أحمل النقود، لتدعوني هي إلى أحد المحال الصغيرة الرخيصة الذي تُعلّق فيه آذان الخنازير المصطفة. تكثر السوبرماركات الصينية؛ الأخوة تانغ وغيرها من المتاجر التي مازالت تبعث في مخيلة المشترين غير الصينين الكثير من الخيالات عن صفقاتٍ ممكنةٍ ورخيصةٍ لتسوق كبير، ولكن الوهم يتبدد مع أول تسكعٍ في جناح الأكلات الموضّبة في البرادات، ماعدا النيم والسبرينغ رول مجهولي المكونات، غالباً لن تعرف كنه كل الاكلات. وفي جناح النودلز لن يستطيع المتسوق التمييز بين كل تلك الكتابات الصينية التي تفرِق مكونات العجين ودرجة سويها. يمكن فقط أن يُفهم أن حرف E للدلالة على المواد الحافظة يتعاقب على المقلب الآخر للعلبة. الباريسيون بذواكر السمك الأحمر قاطعوا لأيام المطاعمَ الصينية والمخازن مع أول انتشارٍ لمرض الكوفيد، ثم نسوا بعد أسبوعٍ أو أسبوعين أو تناسوا، ليحاولوا إنجاز صفقاتٍ في المخازن الصينية واهمين رخصها.
على بعد أمتارٍ من السوبرماركات الصينية، هناك الكثير من المهاجرين الذين يخافون من حرف E على المنتجات ومن آذان الخنازير المعلقة؛ مغاربةٌ عربٌ معظمهم تونسيون تنبعثُ من محالّهم باستمرار رائحةُ الفليفلة المشوية التي تفتح كلّ شعب الصدر برائحة حياة. قلّتْ المحلاتُ اليهودية التونسية المتخصصة بأكلاتٍ مثل المدفونة، وتكثر محلات الأطباق اليومية الشعبية كالكفتجي واللبلابي والآرمات العربية. لا يتخلى التونسيون طبعاً عن إضافة التونة والبيض إلى كل طبق. مرتادو جامع ابن الخطاب القريب من أصحاب القمصان الأفغانية واللحى الكثّة والشوارب المحلوقة يرتادون كذلك سلسلة مطاعمٍ لم أفهم يوماً سبب تسميتها: «الأخوَان، الأخوة الثلاثة، الأخوة الأربعة»، يمكن أن تأكل فيها طنجرةً كاملةً من الكسكسي لوحدك وبسعرٍ معقول، وتضيف إليها أسياخاً صغيرةً غريبة لم أرَ مثلها من قبل من مؤخرات الدجاج. على طول هذا الشارع المفروش في الزمن الكوروني بالكمامات الطبية والبصاق، والذي تقوم فيه مكتبات كتب الصلاة والحجابات والبخور، يمكن للكثير ممن يكسبون أقل من 1000 يورو في الشهر أن يتدبّروا طعامهم يومي الجمعة والثلاثاء من السوق الشعبي الذي يبيع خضاراً وفواكه فقدت طعومها بفعل التخزين وإعادة التدوير الطويل، بدءاً من سوق رينجيس، المصدر الأول. هي طبعاً ليست عضويةً، وتفقد نضارتها ما أن تصل إلى البيت، ولكنّ هذه الأسواق تُحمّل المتسوق البائس، الذي يشتري 2 كيلو تفاح بيورو، أعشاباً عطريةً لا يحويها أي سوقٍ آخر في باريس، مثل الطرخون أو الرشاد. وبائعو الأعشاب العطرية هم الباعة غير النظاميين، الذين لا يدفعون إلى البلدية ثمن نصبتهم. نصباتُهم جوالة سرّاقة سريعة تقفز من مكانٍ لآخر هرباً من الشرطة، في اتساقٍ تامٍّ مع الإضافات التكتيكية الهاربة للأعشاب العطرية في ولائم الأمهات الإفريقيات المنهكات بأولادهن، مشدودي الأوراك فوق ظهورهن، وبجرّ العربّات المُثقلة بما رخص ثمنه. في أحياء أخرى لن ترى هذه العربات، سترى سلالاً من القش الملون، حيث لا تكتيك مع الحياة، فقط استراتيجياتٌ طويلة الأمد. طبعاً طبعاً لم أنتبه يوماً إلى مروّجي الحشيش على طول الطريق من بيلفيل إلى مينيلمونتان رغم إصرار كل الأصدقاء، حتى من خارج فرنسا، أنهم هناك تحت أعين الجميع! تحرس حركة المهاجرين هناك آرمات مسارح شعبية وكباريهات مهجورة ملونة مغبّرة، أُقفلت من عقود.
لم أنتبه أنه إلى جانب قبر جيم موريسون الأكثر زيارةً في مقبرة بيرلاشيز، جارتي سامقة الأشجار، يقع قبر يلماز كوناي، المخرج الكردي. قبرٌ أصغر بكثير من قبر جيم موريسون وأكثر خفراً وأقل تنميقاً، ولكنه ما زال يُزار ومازالت توضع عليه أحواض الورود. نقرأ عليه أن المُخرج توفي بعمر 47 عاماً، بعمري الآن تماماً، وبنفس عمر إيديت بياف حين توفيت. هل دُفن فعلاً أم أنه أحرق وهذا نصبٌ لذكراه؟ في أعلى التلة هناك دروجٌ صغيرةٌ للرماد، ربما كان رماده هناك. تحضُرُ صورةُ الرجل الذي يحمل زوجته على ظهره في فيلمه، يول (الطريق)، والطريق الثلجية المضنية. أحاول تخيل الموت في الجبال المثلجة.
لوحة لفنان الستريت ارت نيمو، اللوحة تتضمن البلون الأحمر في إشارة إلى الفيلم الذي صُور في الحيّ
في زحمة فنون الشارع التي تتكاثر في شرق باريس غابت عني تماماً صورةُ البالون الأحمر الكبيرة المنفلتة من إطار البناية، حيث رُسمت عند تقاطع شارع أوبركانف مع شارع مينيلمونتان، من بيلفيل باتجاه بيرلاشيز. يبدو أن فناناً يُدعى نيمو رسمها استعادةً وتحيةً لفيلم بالون أحمر، فيلم ألبير لاموريس عام 1956، الفيلم الذي ركض فيه الطفل الصغير ذو السنوات الخمسة، باسكال، معظم شوارع محيط مونيلمونتان محاولاً أحياناً كثيرةً الإمساك بالبالون الأحمر العصيّ على يديه والمتعقّب له في آن. يُفَسّرُ البالون عادةً على أنه الصداقة والحرية والرغبة الحمراء المضادة لباريس الرمادية؛ الرغبةُ المُلازمة للإنسان والمنفلتةُ منه لا يمكن الإطباقُ عليها. لم يتحدث كثيرون عن أن البالون الأحمر العصي هو باريس المطلة من حديقة بيلفيل المُعلّقة على نفسها، تلاحقُ أشباحُها السكانَ المتعبين، الذين لا يكادون يمسكون بتلابيب أي شيءٍ فيها، ولكنها، باريس، هنا.