ليس لكلمة «محترم» وقعٌ مميزٌ على أذن السوري. بل يمكن القول بأنها كلمة جوفاء، قليلة الهيبة ولا تخلو من رائحة السخرية والبعاد. الكلمة تبدو أقرب للعربية الفصيحة منها للعامية السورية. لا نستخدمها في حياتنا اليومية كثيراً. قد يستخدمها من تَدخُلُ العربية الفصيحة في تفاصيل حياتهم، المثقفون أو بالأحرى العاملون في الحقل الثقافي. أغلب هؤلاء يظهرون، أو على الأقل كانوا كذلك حتى العام 2011، في حياة السوري العادية ككاريكاتورات هزيلة فاقدة للحياة. منتفعون، مهنتهم العلاك، لغتهم خشبية ومفرداتها مثار سخرية ومادة للتندر. هم وحدهم من يستخدم هكذا مفردات. قد يستخدم السوري العادي كلمة محترم لوصف شيء ما. يحدث أن يستخدمها السوري لوصف أناس خاصّين، بعاد، فرضوا حضورهم عبر تلك الحواجز التي بنوها مع الآخرين ومع الحياة عموماً. لا أذكر استخدامنا لهذه الكلمة إلا لوصف بعض المعتقلين أو المعارضين السياسيين، بعض أساتذة المدرسة أو الكتاب والفنانين، ممن امتازوا بثقافتهم وكلماتهم الموزونة مع بعض التعالي والعزلة.
نصّياً، تَرِدُ كلمة احترام في سياقات متقاربة، فتأتي في صلب مقولات كبيرة كاحترام الرأي الآخر، احترام الكرامة الإنسانية، احترام السيادة الوطنية، وغيرها من المقولات التي تندرج في إطار رؤية ليبرالية حداثية للذات والتاريخ. بكلمات أخرى، يقتضي مفهوم الاحترام وجود ذوات مستقلة، ذات حدود واضحة، وهويات غير ملتبسة. يتطلب حضوراً صلباً لا يشبه بأي حال من الأحوال حيواتنا السائلة وهوياتنا الملتبسة وذواتنا المقهورة. الاحترام يتطلب وجود مواطنين أنداد، مُتكافئي الفرص، يتطلب بالتالي سيادة روح المواطنة قانوناً وثقافة. وهو ما يتطلب وجود جمهورية بسلطات متعددة، مستقلة ومنفصلة ومجتمع مدني حر وفعّال. إنه يتطلب أن يراهن الناس على ثورات وأن يبذلوا تضحيات، قد تكون هائلة، لبناء كل ما سبق، وقد يفشلون في كسب رهانهم فيضطرون للهجرة والاغتراب للحصول على بعض الاحترام في أراضي الآخرين.
يصعب الحصول على الاحترام في بُنانا الاجتماعية الحالية، شديدة الهرمية. هرمية تنظمها شرعة الغاب. نستبدل الاحترام بالخوف، فيكون الأقوى هو الأجدر بالخوف أو التقية. الأب لن يكون مجبراً على احترام رغبة ابنه في دراسة الفرع الفلاني عوضاً عن الفرع الأعلى الذي تسمح به محصلة علاماته في الباكالوريا، فهو الأقوى في تلك البنية الهرمية المسماة بالعائلة. الأعلى وظيفياً لن يقبل أن يحترم رغبة من هو أدنى منه في عدم قبول الرشوة، فاستقامةُ الأخير ستقف في وجه سيرورة عمل الهرمية الوظيفية التي تمنحه راتبه. لن يحبّذ أحد أن نتكلم في السياسة، لأن المخابرات التي تعلونا جميعاً لن تكون سعيدة بهذه الهواية الخطرة التي قد نرغب بممارستها. في هذا المجتمع، أو بالأحرى البناء الاجتماعي، الهرمي والقدري، والذي يحول حياتنا إلى مسارات شديدة الحتمية، في مجتمع وبلد يقف فيهما الجميع كالبنيان المرصوص ليقولوا لك «نشالله ريتني ما بحترمك»، لا نحظى بالاحترام إلا لحظة الموت.

كأغلب السوريين، حزنتُ كثيراً لخبر وفاة المخرج السوري حاتم علي. أحببته كثيراً. ولكن وباعتباري شخصاً يعتز بقدراته النقدية، أردتُ أن أنقب أكثر في سبب حبي الكبير لهذا الفنان وتأثري بخبر وفاته. الأسباب المباشرة حاضرة وغير قليلة. تأثّرتُ كثيراً بعُمَر، باسل خياط في مسلسل أحلام كبيرة، وأردت دراسة الفيزياء، مثله. سجّلتُ في السنة الأولى، رغم علاماتي التي تسمح لي بدراسة بعض الهندسات، ولكنني سرعان ما أحسستُ أن دخولي هذا الفرع أشبه بمقامرة غير محسوبة، فعدتُ إلى بلدتي لأعيد الباكالوريا وأدخل فرعاً أكثر لياقة بموقعي في الهرم الاجتماعي السوري. عندما أعدتُ مشاهدة مسلسل التغريبة الفلسطينية منذ فترة قريبة، وقعتُ في غرام هذا العمل من جديد، واكتشفتُ مدى حساسية هذا العمل وقدرته على التقاط تفاصيلَ بتنا أقدر بكثير على فهمها بعد مشاهدتنا تغريبتنا الخاصة. من جهة أخرى، أشاهد مع زوجتي الكثير من حلقات مسلسل الفصول الأربعة لتمضية الوقت وسقاية شتلة الحنين التي لا تتوقف عن النمو في فراغات غربتنا. هي أسباب غير قليلة إذن، ولكنها لم تكن كافية لإقناعي. لا بد من التنقيب في سيرته.
وضعتُ اسمه على غوغل وبدأتُ باستذكار ما شاهدتُه من أعماله. شعرتُ بالخيبة قليلاً، حيث أني لم أتمكن من إيجاد خيط واضح يمكن أن يجمع مجمل أعماله. الرجل غزير الإنتاج متعدد المواهب. نزح مع أهله من الجولان ليستقر في محيط العاصمة السورية، قريباً من مخيم اليرموك. شارك في عدد من الأعمال المسرحية قبل تخرجه مع الدفعة الأولى من المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1986، بل وكتب القصة القصيرة أثناء دراسته. استأنف نشاطه المسرحي وعمله كممثل بعد تخرجه، فشارك في عدد من أعمال زيناتي قدسية وهيثم حقي وغيرهما. بدأ في الإخراج منتصف التسعينات، ويبدو أن نجاحه في تقديم نقلة نوعية على الصعيد الإخراجي للسلسلة الكوميدية الساخرة مرايا، عامي 98 و 99، هو ما كرّسه كواحد من أهم المخرجين السوريين الواعدين. توالت النجاحات الإخراجية وتعاظمت مع مسلسلات الفصول الأربعة والزير سالم، ليصبح واحداً من أهم المخرجين السوريين ويبدو أحد أبرز من واكبوا صعود الدراما السورية المتلفزة. بدأ بعدها شراكة خلّاقة مع المؤلف والسيناريست الدكتور وليد سيف، لينتجا عدداً من أنجح أعمال الدراما التاريخية كالتغريبة الفلسطينية وثلاثية الأندلس، كما قَدَّمَ عدداً من أعمال الدراما الاجتماعية مثل أحلام كبيرة، عصي الدمع، على طول الأيام، وغيرها. لمعَ نجمه في الساحة المصرية عام 2007، بعد أن قام بإخراج مسلسل الملك فاروق الذي جسَّدَ فيه السوري تيم حسن دور آخر ملوك مصر. يبدو أن المال الخليجي، والإمكانيات الإنتاجية الكبرى التي يمكن أن يقدمها، قد أغراه بعد تلك المرحلة فقام بإخراج المسلسل البدوي الذي يحتفي بأشعار حاكم دبي محمد بن راشد آل مكتوم. كان مسلسل الغفران آخر مسلسلاته السورية قبل اندلاع الانتفاضة السورية. فيما بعد تفرَّغَ لإخراج عدد من الإنتاجات الخليجية والمصرية التي لقيت نجاحات جماهيرية كبيرة، دون أن يمنعه ذلك من أن يخص سوريا بمسلسلي قلم حمرة والعرّاب بجزأيه، واللذين لا يخلوان من الدلالة على موقفه النقدي والرافض لنظام الأسد، الذي فصله من نقابة الفنانين السوريين. كذلك لم يمنعه عمله كمخرج تلفزيوني من العمل على عدد من المشاريع السينمائية الصغيرة.
لم تسمح لي هذه السيرة باكتشاف ذلك السبب الذي جعلني أحزن، كأغلب السوريين، بهذه الشدة على رحيله. بل وشعرتُ بالخيبة قليلاً، فبعض أعماله الاجتماعية مثل عائلتي وأنا، بل والفصول الأربعة، مغرقة في تلفزيونيتها، من حيث بساطة الطرح وبيداغوجيته ورغبته الواضحة في الحرص على «راحة» المتلقي المطلقة خلال جلوسه على كنبته، بل وخوفه من أصبع المتلقي القابضة على زناد الريموت كونترول. يمكن القول أيضاً إن الدراما التاريخية التي قدمها في ثلاثية الأندلس، هي أقرب للتاريخ المدرسي بالغ الكلاسيكية، الذي لا يقارب التاريخ إلا من عيون الحكام والسلاطين والتاريخ الرسمي. عدا عن أعمالٍ أخرى تقول لي من خلال عناوينها ونبذاتها بألا أشاهدها. فلا يستحق وقتي، غير الثمين على الإطلاق، أن أهدر منه ثلاثين ساعة لمشاهدة مسلسل جرت صناعته ليحوي أشعار محمد بن راشد آل مكتوم، أو مسلسل لا يمكن إلا أن يكون مفرطاً في التوفيقية في مقاربته للعديد من فصول الإسلام بالغة التعقيد.
ولكن هل يعقل أن محبتي لحاتم علي قائمة على هذا الرصيد الذي تفاوت في ألمعيته وفي حدوده؟
لا أعتقد ذلك. فهذه المقاربة الاسترجاعية لسيرته لم تكن منصفة على الإطلاق. لا زلت أذكر أنني لم أبدأ بالاهتمام باسم مخرج المسلسل إلا مع مسلسلات حاتم علي. بل وفي العديد من مسلسلاته، لم يكن اسمه وحده ما يظهر في نهاية الشارة، بل كان اسمه يقترن مع اسم المؤلف والسيناريست بوصفهما، كليهما، أصحاب العمل. لقد كانت أعماله رائدة دائماً في رفع سقف الصنعة التلفزيونية جمالياً وفي تطعيمها بعناصر تجديدية. من يشاهد تلك المسلسلات بتسلسلها الزمني، ويقارنها مع السائد في عصرها، لا يمكنه ألا يلاحظ تلك الخطى الصغيرة التي خطّتها الدراما التلفزيونية بصحبته. تمكَّنَ حاتم علي من ترويض الانفعالية التي وسمت أداء العديد من الممثلين السوريين، ومن فرض إيقاع هادئ، بعيد عن الزركشة والبهلوانيات، في بناء مشاهده ومسلسلاته، ومن تطعيم التصوير التلفزيوني الكسول بتقنيات ومهارات سينمائية، ومن منح الكثير من الفرص الكبيرة للعديد من الوجوه الجديدة. لم يكن لدى حاتم علي أوهام كبيرة، كان مدركاً ضيق هوامش المناورة ومحدودية عالم الصناعة التلفزيونية، ولكنه كان دائم الإصرار على رفع سقف عالمه هذا، وعلى النهوض بجماليات الإنتاج التلفزيوني، حتى تَمكَّنَ من تأسيس تقاليد إخراجية راسخة، ومن النهوض بقواعد اللعبة في هذا العالم. لقد كان حاتم علي الاسمَ الأمثل لتلخيص قصة الدراما السورية وخروجها من قوقعة المديرية العامة للتلفزيون، وشخوصها البيروقراطية الكسولة، إلى عالم المبادرة والعمل الدؤوب والتجديد المستمر الذي حَوَّلَها إلى منتج وطني يفتخر به السوريون. لو أردتُ تلخيص لحظات الفخر والهناء القليلة التي عشتها في سوريا ما قبل 2011، لا يمكنني إلا أن أتخيل نفسي وأنا أشاهد إحدى المسلسلات السورية وفي يدي إحدى بسكويتات شركة كتاكيت. لقد كانت هاتان الظاهرتان هما أكثر ما يثبت لي جدارة السوري وقدرته على المعاصرة والمنافسة إن أتيحت له الفرصةقامت شركة كتاكيت بواحدة من أنجح الحملات الإعلامية التي عرفها التاريخ السوري لبسكويتها غوفريه، وقد كان سر نجاحها هو اعتمادها على الممثلين باسم ياخور وأيمن رضا، واستثمارها في نجاحاتهما حينها في عالم الدراما السورية. .
أعتقد أن الميزة الأساسية في شخص حاتم علي، وأَحَدَ أسباب حبي الكبير له، هي الاحترام. احترامه لذاته، احترامه لعمله، واحترامه الكبير لمتلقّيه. لقد كانت الدراما التي كان أحد أبرز روادها واحدة من المساحات القليلة التي كنا نحس فيها بأننا محترمون. بأننا ذوات ذكية ومستقلة، صاحبة رأي ذي هيبة، لا يمكن تلقيمنا ما نحب ولا بد من العمل والاجتهاد والتجديد لإرضائنا، كأي مواطن غربي، كأي مواطن. مقابلاته القليلة وشهادات الممثلين التي تكاثرت في الأيام القليلة الماضية تؤكد ذلك القلق الإبداعي المحموم الذي سكنه، وذلك الشغف بالتفاصيل، بالخلق والكمال. صفات لا تذكرني إلا بشخص أحد معجبيه، الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
بعد أن تكرَّسَ مخرجاً، أصبح ظهوره ممثلاً شديد الندرة. لم يشارك إلا في عدد قليل من الأدوار وأعتقد أن ذلك الظهور لا يخلو من الدلالة، وأنه ينطوي على رسالة يودّ أن يستكشفها من يهتم بسيرته. لذلك، عندما أذكر حاتم علي اليوم، لا يسعني إلا أن أتذكّر دوره في التغريبة الفلسطينية، رشدي، ذو الشعر الأحمر، والواقع المأساوي، الذي لا يبدأ عند نشأته في ظل زوج أم قاس ولا ينتهي بانفصاله عن أمه بعد تهجيره من داره، والذي لا يجد سبيلاً لخلاصه إلا بالعمل الدؤوب، بالكثير من الصمت، بالصفاء الذهني وبالكثير من القرف من الخطابات الخشبية.

كان ذلك الإجماع على رثاء حاتم علي والاحتفاء بذكراه سبباً حقيقياً لسعادتي. لقد أثبت بشكل من الأشكال ذلك الرأي الذي كنت أخجل من الدفاع عنه. فقد كنتُ أتحفّظُ عن الدفاع عن الدراما التلفزيونية عموماً، والسورية خصوصاً، عندما يواجهني ذلك الرأي السائد في أوساط الانتلجنسيا، والذي يحتقر المسلسلات التلفزيونية. لطالما شعرت أن النكران وحده ما يمكن أن يجرني إلى الموافقة على هذا الرأي دون تحفظ. كان لدي تعلّقٌ كبيرٌ بالدراما التلفزيونية السورية، بل وبشكل من الأشكال، اعتزاز بجودة هذا المنتج الوطني الوحيد. لم تكن تقنعني تلك الحجج المتهافتة عن حتمية الحشو في الأعمال التلفزيونية، عن اندراجها الحتمي في منظومة سلطوية تلقينية تحتقر الناس وما إلى ذلك. فالكثير من المسلسلات السورية التي شاهدتها كانت قادرة على خلق شخصيات حيوية وعوالم نابضة، بل وعلى مساءلة البديهيات والحض على التفكير وتحويل عادي أيامنا إلى أسئلة تستحق الحضور. كيف يمكن أن أنسى نجيب، بسام كوسا في مسلسل الفصول الأربعة، وهو إحدى احتمالات كهولتي!
قد لا يكون ارتباطي بالدراما التلفزيونية السورية مقتصراً على أعمال حاتم علي، ولكنه يعود بشكل كبير إلى تلك الدراما الاجتماعية التي كان مهندس جمالياتها وأهم روادها. فأعماله المؤسسة كالفصول الأربعة، أحلام كبيرة وغيرها، والأعمال الاجتماعية الأخرى التي أخرجها عددٌ من الأسماء الشابة كالليث حجو، المثنى صبح، رشا شربتجي وغيرهم، والتي لم تَعدُ عن أن تكون، بشكل أو بآخر، استمرارية لخط حاتم علي في الدراما الاجتماعية، كانت أحد أهم ينابيع تغذية المخيال الوطني السوري. لقد سمحت لنا هذه الأعمال بجودتها الفنية واحترامها لمتلقيها، وأسئلتها التي تتطرق إلى يومياتنا وهمومنا، نحن الناس العاديون، بأن ندرك كم هي مشتركة وكبيرة تلك الأحلام التي تغفو في ظل أسئلتنا وانكساراتنا اليومية بالغة العادية.