انتشر منذ سنوات، على وسائل التواصل الاجتماعي، تسجيل لمكالمة تليفونية، يتكلّم فيها شخص يحاول التعبير عن خوفه، فيقول إنه «متوخّف جيصة، متخوّف جيصة، إيه، متوخّف، أحا، متوّخف جيصة، اسمها إيه؟».
يفشل المسكين في الوصول إلى الـ«متوجّس خيفة» التي طمحَ للوصول إليها، تبدو له هذه مثل نجم بعيد، يجرّب كل ما يسعفه عقله به من صياغات، ولا يصل إليها.
غالبًا ما أراد الرجل استخدام تعبير فصيح وذكي عن الخوف، فبدأ بـ«التخوّف»، غير أن هذا، للمفارقة، كان المدخل الخاطئ لما يصبو إليه؛ ما إن انطلقت «جيصة» على لسانه حتى أدرك أن ثمة خطأ، حاول الرجوع لأخذ المدخل السابق، ولكنه وجد كل المداخل تختلط عليه، غابة من الكلمات التي تبدو متشابهة ومختلفة في الوقت نفسه، وأي مقاومة تؤدي للمزيد من الغرق.
في الواقع، لقد بدأ الرجل بكلمة غير موجودة، كلمة «متوخّف»، والتي تحمل داخلها ظلالًا من الـ«توجّس» والـ«تخوّف» في الوقت نفسه.
,
والمفارقة أني، منذ سماعي للفيديو، إذا أردتُ التعبير عن خوفي باستخدام «التوجس خيفة»، فإن أول كلمة ستقفز لذهني هي الـ«تخوّف». فقط ما إن أكاد أنطقُ «الجيصة»، بجرسِها الفج والزاعق، حتى يدق جرس الإنذار في عقلي، منبهًا إياي أني سلكت الطريق الخطأ.
بعد كل هذا، قد يخطر الـ«توجّس خيفة» على بالي، وقد لا يخطر.
«نأخذ من كل رجل قبيلة»، هكذا قال محمد سعد (اللمبي) في فيلم عوكل، في محاكاة ساخرة لمشهد اجتماع سادة قريش في الندوة لكي يخطّطوا لقتل النبي محمد، وكانت حيلتهم في هذا، كما نعرف، أن يأخذوا «من كل قبيلة رجلًا، فيتفرّق دمه في القبائل».
«نأخذ من كل رجل قبيلاااة»، جعرَ بها محمد سعد عاكسًا الترتيب، وكان خطأه هذا، بسبب شهرته، وبسبب زعيقه المضحك، وبسبب الابتداء بكلمة «رجل» الجافة القصيرة، والانتهاء بـ«القبيلة» الطويلة الريّانة، أعلْقَ بالذهن وأكثر جاذبية بمراحل من الصواب.
اكتبوا فقط كلمة «نأخذ» على محركات البحث لديكم، وانظروا إلى أول نتيجة ستظهر على الشاشة.
,https://www.youtube.com/watch?v=aoQJt_haBlg
*****
منذ عقدين من الزمان تقريبًا، بدأ بعض من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة المصرية يستخدمون فعل «تلاشى»، ولكن بمعنى مختلف عما أَلِفناه، فأصبح يقال: «تلاشيتُ فلانًا اليوم»، أو «أنا سأتلاشاك اليوم»، أي سأتجنبك ولن أحتكّ بك.
أراد الواحد منهم ربما أن يقول «تحاشيت»، ولما لم يسعفه عقله بها، أمسك ملهوفًا بأقرب كلمة التمعت في ذهنه: تلاشيت.
في الأصل الفصيح المُعتمد، يعني «التلاشي» أن يختفي المرء. هي حالة ناجحة، فيما يبدو لي، من نحت كلمتي «لا شيء» سويًا في كلمة واحدة، أما في الاستخدام محل الحديث، فإن المعنى يتغيّر قليلًا. بدلًا من «التحول إلى اللا شيء»، يأتي معنى «رؤية الآخر كأنه لا شيء». كل ما فعلته هذه الغلطة، هذه الرمية من غير رام، أنها حوّلت الفعل من لازم إلى متعدٍ.
أثار هذا الاستخدام، ولا يزال، موجات من السخرية، وربما من جانبي أنا نفسي لو لم تَخُنّي الذاكرة، غير أن هذا لم يمنع الفعل، بمعناه هذا، من التوسع والانتشار على ألسن كل المتفاصحين والمتعلمين تعليمًا سيئًا، ففي كل من معنيي الكلمة، اللازم والمتعدي، ثمة مدخل مفتوح على المعنى الأصلي والأقدم؛ اللا شيء. ومن هنا، وبأثر رجعي، اكتسبَ الخطأ وجاهته.
*****
هل فعل «استحوذ»، أي «احتكر»، هو فقط صيغة «استفعل» من الفعل «حاذ»، بمعنى «أحاط بالأمر وحافظ عليه»، أم يرنُّ فيه أيضًا معنى الفعل «حاز»، بمعنى «حصل على»؟
ولو كانت «إستبرق»، الكلمة القرآنية الشهيرة، هي مجرد تحريف لـ«إستبرَه» الفارسية، فما ضرورة القاف هنا، إلا لو كان ناطقها الأول، من دون وعي كامل، قد أراد لها أن تظهر وكأنها من «البريق»، فوضع لمسة لم تكلّفه شيئًا، ولا غيّرت وزن الكلمة، حاز بها معنى جديدًا هائلًا؟
تدّعي هذه الزاوية عدم الاهتمام بما هو خطأ وما هو صواب، غير أن هذه الخاطرة بالتحديد تهتم بنوع محدد من الأخطاء في لفظ الكلمات، أخطاء قُدِّرَ لها أن تلبّي معاني غير متوقعة لم تكن لتُلبَّى لولاها؛ كيف ينشأ هذا النوع من الخلط اللغوي، وكيف يحيا أو يموت لأسباب تتعلق بمزيج معقد من الصدفة والكفاءة.
لطالما اعتقدتُ أن كلمة «لخبطة» المصرية، وتقابلها «الخربطة» في لهجات الشام، وعلى عادة الجذور الرباعية، تعود للعب على الجذر الثلاثي لـ«الخلط»، أو «الخطأ».
غير أن تغييرًا مثيرًا للاهتمام حدث في العقد الأخير، مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، حيث بدأ بعض المصريين، من الشباب خصوصًا، في كتابة «اللخبطة» باعتبارها «لغبطة»، فيكتبون مثلًا: «أنا اتلغبطت»، أو «كلامك لغبطني».
مع الوقت، بدأت أتعوّدُ على الكلمة بِهجائها الجديد، حتى بدا لي كأني كنتُ أنطقها طول الوقت بحرف الغين، ما فتح لي بابًا آخر لتفسير منشأ الكلمة العامية، إذ ربما أنها، هكذا صرتُ أسأل نفسي، لم تكن قط «لخبطة»، وإنما كانت طول عمرها «لغبطة»، من «اللغط» و«الغلط»؟
لا أحد يختلف، فيما أظن، على أن اللغة بدأت منطوقة، ثم دُوِّنَت بعد ذلك. وعليه فيمكننا تصور أن واضع الكلمة، هو نفسه، لم يعرف قط إن كانت تُكتب بالغين أم بالخاء. فقط حَدَسَ الرجل، الذي قد يكون أميًا، أنها قد تكون مناسبة للمعنى الذي يريد نقله.
يعني هذا أن الكلمة قد تكون الاثنين معًا، لخبطة ولغبطة، يمتزج فيها حرفا الغين والخاء، وتدوي فيها، بالتزامن، أصداء مجمعة من الخلط والغلط والخطأ واللغط.
*****
كما صاغها القاص والمترجم أحمد سمير سعد، فإن الكفاءة الهائلة للطبيعة قد ترجع إلى غزارتها، قدرتها على اجتراح عدد لا نهائي من الاحتمالات بلا خوف من الخطأ. نحن لا نرى الآن سوى قمة جبل الجليد، الشكل الأمثل للخلية مثلًا، ولكننا لا نرى كل ما سبقه من محاولات فاشلة، وهي مهولة بطبيعة الحال.
شيء شبيه بهذا يحدث في اللغة.
يبلغ عدد سكان الدول العربية اليوم ما يزيد الـ430 مليون إنسان، أي ما يقرب النصف مليار، وإذا افترضنا، بحسب المعلومة الشائعة، إن الإنسان ينطق ما لا يقل عن سبعة آلاف كلمة في اليوم، فسيعني هذا أن هناك ثلاثة آلاف مليار كلمة عربية تُنطق في اليوم الواحد.
كم هو ساحر تعقّب مسار كلمة نُطقت لأول مرة في قرية عربية صغيرة، لتشق طريقها لاحقًا إلى الصحافة ونشرات الأخبار، وكم هو مُقبِضٌ، من الناحية الأخرى، التفكير في مليارات الاحتمالات لتراكيب عبقرية فكّرَ فيها ناس يجلسون وحدهم، ولكن نسوها ما إن فكّروا فيها، فأُجهِضَت للأبد؛ أجنة ماتت في بطون أمهاتها.
كم لُعبة لغوية تُمارس على مدار اليوم؟ كم خطأ نُطق، وبعد أن نُطق تبيّن أنه يصلح لأن يكون صوابًا؟ كم إمكانية تظهر كل ساعة لتركيب جديد وعبقري يلبي معنى لم ينتبه إليه واضعو المعاجم؟
يُقال إنك لو أجلست قردًا أمام بيانو للأبد، فلابد أن يعزف ذات مرة، وبالصدفة، سوناتا لبيتهوفن، فما بالنا ونحن بشر ولسنا قرودًا، بشر قد يفتقد أغلبهم القدرة على التنظير في الكلمات، ولكنهم لا يفتقدون أبدًا القدرة على اختراعها وتحريفها حتى تولد كل مرة ميلادًا جديدًا.