«ربنا إني أسكنتُ من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم».
يضع سامر أبو فخري في صندوق شاحنته أنواعاً مختلفة من البضائع، تتآلفُ فيما بينها من حيث الجودة والسعر المنخفض والبعد عن الماركات العالمية، وتختلف في ألوانها، طريقة تفصيلها، ونوع الأقمشة.
لصندوق الشاحنة ثلاثة أبواب تُسهّل على سامر عملية البيع، يقول إن لكل من أبوابها اختصاصاً بحسب طبيعة المكان الذي يزوره لبيع منتجاته، ومع اكتسابه معرفة سكان كل منطقة يفتح الباب المخصص لها، ذلك أن تغير المكان لم يفلح، بدرجة كبيرة، في تغيير عادات السكان وطريقة حياتهم ولباسهم.
يُطعّم سامر، القادم من مدينة حلب مهجراً، كلماته بمفردات جديدة تعلَّمها خلال سنوات عمله كبائع جوال، يقول إنها تزيد من ثقة الزبائن بمنتجه من جهة، وتحقق حالة من العاطفة التي يرتبط بها السكان بمدنهم القديمة التي هُجِّروا منها: «يكفي أن تنطق بمفردة من لهجتهم لترى ابتسامة تعلو وجوههم، قبل أن تصبح واحداً منهم. هي المفردات مفاتيح البيوت القديمة وقلوبها أيضاً» يقول.
«سوريا صغيرة إدلب اليوم»؛ يقول سامر وهو يفتح الأبواب الثلاثة لشاحنته، هي تشبه ذلك الصندوق، إمكانية خلق تجانس يصهر الجميع هنا مستحيلة، لا بد إذن من حدود غير مرسومة لا تحددها الجغرافيا بقدر ما ترسمها العادات واللهجات، أيضاً الذاكرة ورفاق الدرب وصِلة القرابة ومذاق الطعام.
في تلك «السوريا المُصغّرة» يعيش اليوم نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون شخص، خمسة أضعاف سكان إدلب قبل الثورة في العام 2011، أكثرهم نزحوا إليها خلال السنوات الخمس الأخيرة. هي إدلب، «منفى داخل الوطن»، «خريطة ضمن الخريطة»، يصعب شرح تفاصيل هذا الكلام دون صورة عامة تظهر لك مئات الآلاف من الخيام. البيوت الجديدة، المدن الجديدة التي اتسعت فضاقت بسكانها. شوادر الأمم المتحدة الزرقاء. خزانات المياه الحمراء والبيضاء. مساكب زراعية. أوتاد متداخلة من الخيام. مساطب تقي دخول مياه المطر إلى فراش النوم، وتحدد في الوقت ذاته «طابو» المكان الذي تمتلكه دون تسجيل في السجلات العقارية. كرفانات. جبال جرداء من الأشجار الحراجية. أراض مشاع نافس ساكنوها العقارب والقوارض على أمتار من الأرض. مخيمات عشوائية وأخرى منظمة. جمعيات سكنية. بيوت بملامح واحدة باتت حلاً بديلاً عن خيمة مهترئة. أشخاص يبحثون عن أراض جديدة يسكنونها علّ أفئدة منظمات تهوي إليهم وتريحهم من إيجارات المنازل الباهظة. أسواق طارئة وأخرى جوالة «بازارات». دكاكين من خيام…
مدن من خيام
«نحاول جاهدين البحث عن استقرار… أي استقرار من شأنه مَنحُنا بعض الخصوصية واستعادة ما يشبهنا لنعيد ترتيب حياتنا. لغتنا. عاداتنا. وأشياء أخرى يصعب شرحها ولكن تفرضها طبيعة الأمكنة».
محمود زيدان (أحد المهجرين قسرياً من مدينة حلب)
ليس في عُرف تطبيق تحديد المواقع أن تبحث عن مكان يضم تنويعات من ديموغرافيا السوريين، هل سمعت بمحل «كل شيء»، يسألنا محمود قبل أن يجيب، ويكمل: «هنا ليس عليك البحث في خرائط داريا وسقبا وبابا عمرو ودوما وحلب بمناطقها وحماة وريف إدلب الجنوبي، تلك توصلك إلى مكان بعيد لا يمكن الوصول إليه، هنا عليك أن تسألني وسأجيبك، أنا الذي أحدد التطبيق اليوم وطرق الوصول، فكل خيمة من مكان، تتصل فيما بينها لتبني صيغة جديدة للتعايش الجديد، ومع الزمن تحولت إلى أحياء متداخلة، يجمعها المكان ويفرقها في آن معاً».
تضم إدلب وحدها نحو ألف وثلاثمائة مخيم، منها نحو أربعمائة مخيم عشوائي، بحسب منسقو استجابة سوريا. أكثر هذه المخيمات يتخذ من الشمال، على الشريط الحدودي أو بالقرب منه، مكاناً له. يسكنها ما يزيد عن مليون ومئتي ألف شخص، حيث لا أبنية شاقولية تحتويهم، يفترشون أمتاراً يصنعون فيها عالمهم، خيمة أو كرفانة واحدة تلم شتاتهم، غرف نومهم ومطبخ ربات المنازل وغرفة الأطفال والضيوف.
هناك استحالة في تحديد الأماكن، ذاكرة السوريين وحدها تسعفهم في الوصول إلى أمكنتهم دون اللجوء إلى تطبيقات الانترنت الغائب، لا لافتات أو أسماء للشوارع، تسمى الأشياء هنا بمسمياتها، خيمة «أبو فلان»، وبطريقة أعم: «خيام الحماصنة، الدومانية، المعراوية، الحلبية..»، إضافة لأسماء مبتكرة غالباً ما تكون للدلالة أو للتنفيس عن حالة من الحنين والغضب «مخيم الكرامة. نور الشهداء. الساروت. الخطيب. صابرون. والقائمة تطول..».
أسماء أخرى تحاكي المدن والقرى القديمة، يقول من تحدثنا معهم إنهم لا يريدون لذاكرتهم أن تموت، أقلّه في نفوس صغارهم، وإن كانت لن تشبه بحال من الأحوال ما تركوه خلفهم من أمكنة.
على دكاكينهم الصغيرة وفوق براكات الإكسبريس والورشات الصغيرة التي أوجدوها، يهملون أسماءهم ليضعوا مكانها لافتات تشير إلى أمكنتهم القديمة التي هجروا منها، «حمص لحلاوة الجبن، إكسبريس خان شيخون، شعيبيات أريحا، حلويات حلب، ورشة طريق الباب..».
لا يمكن فصل الذاكرة عن محيطها.
يقول درغام حمادي، وهو صحفي وناشط في العمل المدني والإغاثي من مدينة حلب، هُجِّرَ قسرياً نهاية العام 2016، إن الخريطة ستبدو معقدة ومتشابكة، ولن يفلح الصوت القادم في نظام تحديد المواقع بحل المشكلة، رغم رخامته، سيخبرك الصوت: «إلى اليمين. انتظر. إلى اليسار. ربما إلى الأعلى. بعد الخيمة 36. قبل بيت أم محمد. بعد بائع الخضار سعيد. بالقرب من الغيمة التي أغرقت 11 خيمة بداية الشتاء الحالي. عند الخيام المحترقة. سيسمي إحدى المناطق بالحلزون، تلك تسميتها فعلياً إلا أن تلك الدوائر التي امتلأت بالسكان بدت كبقع الوحل على الخريطة. لن تصل إلى وجهتك، عليك الاعتماد على دليل من لحم ودم».
ليست ملامح الوجوه من سيحدد المكان، هناك شراكة بدأت بالتسرب إلى هذه الوجوه المتعبة، اللحى تخفي لون بشرة الرجال التي تكيفت مع جغرافيا المكان، الحر الشديد في الصيف، حيث يصبح قالب البوظ حلماً عليك أن تتعارك للحصول عليه بآلاف كثيرة من الليرات، والدفء شتاء يحتاج إلى تقسيمات جديدة أيضاً.
يمكن التصنيف اليوم بناء على أشياء كثيرة، مثلاً، كأن نقول: المخيم الذي يعتمد على (البيرين) في الدفء، وهو بقايا تفل الزيتون المستخدم في المدافئ. مخيمات الحطب. مخيمات المازوت. مخيمات ما يشبه الفحم الحجري. مخيمات الفحم التركي بأكياسه الزرقاء. مخيمات الكرتون والشوك. مخيمات من برد.
في تلك الشراكة المعقدة لا يمكن حلّ مشكلة التعارف، عليك أن تسأل كل شخص يمر أمامك، أين أنت، ومن أي المناطق؟ سؤال وحيد عليك أن تتجاهله، كيف وصلت إلى هنا؟ «ليس لأن القصص متشابهة، ولكن لتجنّب نفسك سماعها مراراً منذ سنوات مضت؟»؛ يقول حمادي.
الحق في المدينة
تبحث في ويكيبيديا عن الأمكنة، ضمن تصنيفات (مدينة -بلدة- قرية -منطقة)، لم يتم تحديث خارطة المعلومات تلك بخصوص إدلب منذ سنوات قبل الثورة، تبدلت تلك التسميات، وما تزال تتبدل في كل مناسبة، المناسبة هنا ليست تطوراً تدريجياً بفعل طبيعي، ب يحددها عنوانا التهجير والنزوح، ويرسمها مفهوم واحد هو البقاء.
تجمعات سكنية صغيرة لم يكن سكانها يتوقعون تلك التغيرات، ضَمّنوا ما يعرفونه في جغرافيا أمكنتهم حدوداً رسموها بأنفسهم، ساحة في المنتصف، وأربع جهات مقسمة (عائلياً)، تزيد غرفة واحدة مع زواج أحد الأبناء أو استقلاله عن بيته الكبير في بيت يبدأه بغرفتين ومنافع قبل أن يزيد غرفة تلو أخرى.
لا ينفع هنا التشبث بالمكان، تقول أم محمد من ريف حماة، وهي التي تنقلت في السنوات الخمس الماضية بين ثمان قرى وبلدات: «يصبح البحث عن مأوى شغلَ آلاف السكان في لحظة واحدة، هجرة جماعية كان آخرها نزوح مليون شخص خلال شهرين من أرياف إدلب وحلب وحماه بداية العام الماضي. تَخيّل أن يبحث مليون شخص عن مكان للعيش في مكان لا يصلح للعيش أساساً».
تروي أم محمد أن كل الثقوب امتلأت، لم يعد هناك «مغز إبرة» لتضع قدمك فيه، بيوت دون إكساء. جبال تستعصي على الماعز. بجانب أنهار الصرف الصحي. في البيوت الطينية. تحت شجر الزيتون. في كل مكان.
يترافق كل ذلك مع الفقر وغياب الدعم. استجابات طارئة من بطانيات وعلب بسكويت. وحمامات في الهواء الطلق تجبرك على انتهاك الخصوصية؛ تقول السيدة إن نساء كثر كن ينتظرن «ستر المساء» لقضاء حوائجهنّ، يحملنَ أباريق زرقاء اللون ويطرقن برؤوسهن للبحث عن خصوصية، قبل أن يعدن مرتعدات بوجوه محمرة.
«لنا الحق في المدينة»؛ تقول أم محمد وهي تحاول البحث عن منزل في واحدة من المدن القديمة، أو تلك التي تحولت مع الزمن، والزمن هناك قد يكون أياماً أو ساعات. «ما تعريف المدينة؟» نسألها، فتجيب: «بيت من جدران وفيه مرحاض خاص».
حين تُسلَب منا ذاكرة البيوت
«المدن لأهلها»
شاب من مدينة حمص
هناك انزياح في الذاكرة لصالح الفقدان، يقول مُحدِّثُنا، وهو يحاول استعادة ملامح بيته القديم. حارته. نقاط العلام والدلالة. عدد النوافذ والأبواب. واتجاهات المكان.
حدث أن وضع أحد أبناء مخيم اليرموك في دمشق، والمهجر منه منذ سنوات، نقطة حمراء بأرقام على الخريطة، نشرها على الفيس بوك، وقال إنه سيخبر أطفاله أن بيته كان هنا. كل ما بقي من البيت هو تلك النقطة للحفاظ على ذاكرته.
تروي سوسن من حماة أنها تذكر أحواض الورد في بيتها، كل ما تستطيع أن تحلم به اليوم، هو هذه الأحواض لصالح تفاصيل أخرى بدت مشوهة في ذاكرتها.
تخبرني زوجتي أنها ما زالت تذكر غرفة نومها التي دُهِنَت جدرانها باللون الزهري، بينما تفلّتت من بين أصابعها تفاصيل أكثر أهمية. «مثل؟»؛ أسألها فتجيبني: «الوقت الذي أمضيته في المنزل على سبيل المثال». في «البرجية»، وسميت كذلك لعدد الشقق السكنية الكبير التي تضمها في حلب، والتي سميت فيما بعد بـ «بناية الحماصنة» بعد تهجير المئات في العام 2013 وسكنهم فيها، يقع بيت زوجتي. تقول إنها تذكر تفصيلين آخرين؛ جارتها التي تضمّ أول الحروف في لهجتها، وشادر الشرفة الذي سقط بعد صاروخ اخترق المبنى، ورأته على وسائل الإعلام يستخدمه الأهالي لجمع أشلاء جثث مجهولة الهوية.
اختلف منظور البيت في ذاكرة ربات المنازل اللواتي تحدّثتُ إليهنّ، يحاولنَ اليوم بكل ما استطعنَ من صبر أن يصنعنه دون جدوى. «دون ماكينات الخياطة لا يمكن إصلاح الفتق الذي يتسع في كل يوم». الترتيب وتجميل هو ما يحدث. أحواض الورد أمام الخيام. الأوتاد التي تحولت إلى حبال غسيل. الشقوق المربعة التي تحولت إلى نوافذ. كلها محاولات لاستعادة ذاكرتنا عن بيوتنا، لكن دون جدوى.
مدن جديدة من فيسبوك
«وحدها مجموعات فيسبوك وغرف الواتس آب من تلم شملنا، تُصنّفنا هي، وشروط الانتساب هي مكان التهجير».
سيدة في الخامسة والثلاثين من العمر من مدينة حلب
اكتب اسم مدينتك على فيسبوك، تطالعك عشرات المجموعات وبفترات زمنية مختلفة، بعضها مغلقة وأخرى مفتوحة للعموم. أرسِل طلب انتساب، يكفي أن تقول إنك تنتمي لهذه المدينة لتعود إليها، تقول السيدة.
يطلقون عليها أسماء كثيرة، منتدى. تجمّع. صوت. ذاكرة. يضاف إليها اسم المكان لتغدو مكاناً افتراضياً نتناقل فيه تفاصيل قديمة، أسماء الوفيات للترحّم، دعاء بالعودة والشفاء. توزيع للإغاثة. وبعض الحكايات القديمة.
من الافتراض إلى الواقع
«محاكاة الأماكن القديمة باتت ضرورة يحكمها اليأس»
عبد الوهاب أبو المجد، مهجر من مدينة حمص
يقول أحمد، الذي يفضل أن نكنيه بـ «الحمصي»، إن لهذه المسألة جزئيات، المسألة هنا «تكتلات سكنية جديدة تجمعها المناطقية، وتحولت إلى أحياء أو مخيمات».
أحد الأبنية الجديدة في شارع الحماصنة في عقربات بريف إدلب
يروي أحمد أن اليأسَ من العودة دفع السكان للبحث عن الاستقرار، طول المدة والظروف العسكرية والسياسية أجبرت السكان إلى اللجوء لمفهوم «التقاوي»، يشرحه بأن تمتلك «شيئاً من القوة لتتصالح مع يأسك. الأمن. الحفاظ على الهوية».
التفاف أبناء كل منطقة على بعضهم، جاء مؤخراً، لم يعد هناك سبيل للعيش الانفرادي، «نحتاج إلى ذلك الالتفاف للتعاضد. لمساعدة أنفسنا. تلك حالة طبيعية غريزية، وعليه ظهرت مؤخراً دعوات بدأَ كثر من أبناء المناطق بتنفيذها؛ أن نكون سوياً».
يخبرنا أحمد أن المناطقية، رغم وصفه لها بـ «إرث قاتل»، قد باتت حلاً؛ تبدأ من صلة قرابة وتنتهي عند حدود الجغرافيا الضيقة، «لا نقصد سوريا بالكامل، بل القرية أو الحي الذي أتيت منه».
لا يمكن «الاندماج» في المجتمع، رغم كون الاندماج بمعنى تجاوز التعصب المناطقي كان «حالة مثالية في مفهوم الثورة التي عشناها وسعينا لها»، يقول أحمد، «ما زلنا بعيدين جداً عن هذا الأمر، ويرجع السبب في ذلك إلى التأثيرات السابقة من مناطقية وطائفية تتعزز، وحالة المظلومية؛ الظلم من المجتمعات المضيفة ومحاولة فرض شكل حياتها على المجتمعات المُضافة».
لا ينكر أحمد وجود «صور إيجابية من التعايش»، لكنه ما يزال قاصراً ولن يفلح في ظروف الحرب التي نعيشها، ساهم في ذلك الجميع، والجميع هنا: «النازحون. المجتمع المضيف. المهجرون. قادة الفصائل. حكومة النظام. المنظمات. دول العالم» يقول أحمد.
«على الناس أن يتفوقوا على أنفسهم، هم تُرِكوا وحدهم وكان على كل منهم أن يسعى لتأمين نفسه بنفسه»، يقول أحمد وهو يخبرنا عن الأسباب التي دعت النازحين لإيجاد تجمعات سكنية تخصهم وحدهم، وكلٌّ ضمن منطقته، دون أن يُسمَح لأحد بالسكن داخل هذه المجمعات. جواز سفر هذه الحدود المكشوفة هو قيد النفوس، وهو باختصار يلخص دفتر الشروط.
يضيف عبد الوهاب أبو المجد، من حمص أيضاً، شروطاً أخرى لتوسيع الدائرة عن حدود المناطقية: «للحماصنة، لمن تقاسمنا معهم الحياة، لرفاق الدرب والوجع، لمن يملكون الذاكرة وحدها، لأبناء حيي والأحياء المجاورة».
تبدأ القصة بشراء قطعة أرض مشاع في إدلب، بعد اجتماع عدد من أبناء الأحياء، يتقاسمونها فيما بينهم، ويبنون عليها بيوتاً من حجر هذه المرة، يحاولون خلال ذلك استحضار ما يزال عالقاً في أذهانهم من بيوتهم القديمة.
يقول أبو المجد: «بات هذا التجمع كل شيء، وصرنا نشعر بالأمان بشكل أكبر. في هذا المخيم أملك اليوم شراكة حقيقية مع الجميع، في الفرح والحزن والمرض والغياب، في العادات والتقاليد واللهجات والأطعمة. على أبنائنا أن يحتفظوا بتلك الذاكرة».
ليس الأمر «حمصياً»، هو يخصّ الجميع، يقول المهندس محمد عيد من مدينة حلب، وهو يروي لنا حكاية مشروع «ضاحية حلب الشهباء» بالقرب من مدينة سرمدا شمال إدلب.
من مشروع إنشاء ضاحية حلب الشهباء قرب سرمدا في ريف إدلب
«الفكرة جاءت لإنشاء بقعة صغيرة لأهالي حلب المشتتين، بدأت بشراء قطعة أرض لإنشاء 312 شقة عليها». الشروط هنا تشبه ما تَحدَّثَ به أهالي حمص، والأسباب واحدة، يضيف إليها محمد عيد: «نحتاج لإعادة شيء من عاداتنا الحلبية، القعدات والسهرات، وخصوصية المدينة».
علي مروح من مجلس مدينة حلب قبل التهجير 2016، تحدث عن «التشتت، عدم الاستقرار» وما رافقه من آثار ولَّدَت أفكاراً لإعادة إحياء المجتمع الحلبي خارج أسوار مدينته، والحفاظ على الصبغة الحلبية (الأطعمة -الأثاث – المصالح والمهن – الورش الصغيرة)، تلك «مدن مصغرة» ستكون ما يشبه حلب حتى نعود إليها.
من مشروع إنشاء ضاحية حلب الشهباء قرب سرمدا في ريف إدلب
يتم اختيار أسماء هذه المدن والبلدات المستحدثة بعناية، ودون جهد، هي نفسها تلك القديمة بمجسمات مصغرة، دون أن ينسى ساكنوها أن يحتفظوا بمفاتيح البيوت القديمة، حتى بعد معرفتهم بدمارها أو الاستيلاء عليها. يقول درغام حمادي إن «تلك حالة تشبه ما كان يحدث في مخيمات حندرات والنيرب التي يسكنها الفلسطينيون في حلب، هم قسموا أحياءهم التي لم تكن خياماً يوماً إلى أسماء مناطقهم، حافظوا فيها على قضيتهم واستمراريتها، انتماءاتهم ولهجاتهم المختلفة، الطُرَف والحكايات التي تروى عن كل منطقة، السمات المميزة، لكنهم أبداً لم يفلحوا في إزالة كلمة مخيم عن أبنيتهم التي غصّ بها المكان».