قبل عام من اليوم، لم تكن شركة زووم معروفة عالمياً خارج دوائر ضيقة، أقلّه مقارنةً بعمالقة تكنولوجيا آخرين، قبل أن تقفز إلى مراتب مهيمنة في قطاع الاتصال عبر الفيديو اعتباراً من نيسان (أبريل) الماضي، مستفيدةً من ازدياد الطلب على هذا النوع من الخدمات مع إجراءات العزل والإغلاق والتباعد الاجتماعي خلال الموجة الأولى من جائحة كوفيد. قبل عام أيضاً، لم يكن كثير منا، نحن العاملين في المجال الصحفي والثقافي والبحثي، قد حضر أيّ «ويبنار»، محاضرات افتراضية حول شتى المسائل، قبل أن تتحوّل حياتنا – لو لم نتهرب، كما أعترفُ أنني كثيراً ما أفعل – لمنهاج جامعة افتراضية. اليوم، مع أواسط الشهر الثالث عشر من عام 2020، وبدء معالم الموجة الثالثة (في أوروبا على الأقل) أجد نفسي مدعواً لأربع ويبنارات خلال الأيام الثلاثة المقبلة. بات زووم وكأنه وسيلة التواصل الوحيدة، وضابط الإيقاع الأهم، للعاملين عن بُعد، مشكّلاً عدداً وازناً من ساعات العمل اليومي. باتت هناك «نشاطات اجتماعية» زوومانية، تتعدى التواصل الشخصي مع أقرباء وأصدقاء، نحو «فنجان قهوة افتراضي» – وهو نشاط حقيقي دعتني إليه يوم كتابة هذه السطور إدارة المبنى الذي يحوي مكتب الجمهورية – أو «حفلة موسيقية افتراضية»، أو «كاتش أب» افتراضي بين أناس قد يكونون في نفس المدينة، لكن إجراءات الاحتراز تمنعهم من اللقاء الشخصي. كلّ هذا يجري بين أشخاص غالباً ما يشتكون من «زووم فاتيغ»، الإعياء الزووماني الذي ظهر كمفهوم بعد أسابيع قليلة من توسّع استخدام زووم عالمياً.
السطور اللاحقة هي انطباعات وأفكار عن غمامات من الالتباسات، المترابطة فيما بينها والمغذّية لبعضها البعض، والمنبعثة ممّا أعتبره تغوّلَ وسائل التواصل الإلكتروني المتسارع خلال فترة جائحة كورونا، خصوصاً في حياة من يشكّل التواصل الإلكتروني جزءاً من حياتهم المهنية. وفي حين ستأخذ هذه الانطباعات زووم وويبناراته كأمثلة، إلا أنها تنطبق على طيف واسع من وسائل التواصل الإلكتروني الشخصي-المهني، و«تذكيراتها» و«إشعاراتها»، وعلى المنطق الذي تكرسّه في سلوكيات ونفسيات مستخدميها.
تأتي هذه الانطباعات، الذاتية والمحكومة بنمط حياة وهواجس صاحبها، من شخص يصنّف نفسه كـ«متوجس إيجابي» تجاه التكنولوجيا: أستخدم الأدوات التكنولوجية بكثافة في حياتي المهنية والشخصية، ولكن دون أن أجبر نفسي على استبدال وسائط ذهنية أو يدوية لعمليات ما بـ«بدائلها» التقنية من تطبيقات هاتف أو أدوات غوغل تحت ضغط أنها «موجودة» فحسب؛ أعي أهمية وقيمة وجود وسائل تواصل اجتماعي وتطبيقات اتصال صوت وصورة متاحة للعموم، خاصةً في وضعنا السوري المُذرَّر، لكن أرى في الوقت ذاته أن السماح للتقانة بالتمدد في حيواتنا قدر ما تريد – وهي ستحاول دوماً، لأسباب تجارية، التمدد أكثر فأكثر – ودون ضبط مُتعاقَد عليه اجتماعياً، ستكون له آثار سيئة أنثروبولوجياً، من حيث أنها تتغلغل في أعماق ما هو أساسي في التواصل الإنساني: استيعاب القُرب والبُعد، والمُتاح والمُحال، والحضور والغياب، وتغيّر فيها دون منطق مؤسِّس عدا منطقها هي، غير المنطقي إنسانياً بحد ذاته.
التباس الوقت
دون مقاومة كافية، بات من المُسلَّم به في علاقات العمل الافتراضية أن مكالمة أو اجتماع زووم «أسرع»، وبالتالي «أكثر عملية» من تبادل إيميلات مكتوبة، مثلاً، فالشيء العملي هو عدم توظيف وقت كثير في أمر ما، إذ علينا أن نفعل أشياء كثيرة خلال يوم العمل كي نخزّن معنىً لشكوانا من أن يومنا هو 24 ساعة فقط. حتى حركة أجرام الكون وتتابع الليل والنهار متواطئة ضد «إنتاجيتنا».
لم تُقاوَم هذه المُسلَّمة لأن الوقت لم يُتَح لاستيعاب ضرورة مقاومتها، وهذه بحد ذاتها مفارقة طريفة. السرعة هي الإدارة الأمثل للوقت في زمن العمل الإلكتروني، ومُهَل الاستبصار والتفكير و«الصفن» والتردّد – التي (كانت) توفّرها وسائط تواصل وعمل أبطأ بنيوياً – عوملت كعيوب لوجستية تستوجب المعالجة. كُتب الكثير عن الإعياء الزووماني، وبعض ما كُتب غاص في تفاصيل زوايا النظر إلى الشاشة، ومدى الانشغال بمظهر الشخص نفسه خلال محادثة/اجتماع الفيديو، ونسبة التركيز المطلوبة للإنصات، وهوامش الشرود بالمقارنة مع الاجتماع الحضوري. لكن قلّما جرى التطرّق للزعم الفادح بأن «إنجاز» الكثير وبسرعة ليس إلأ مسألة تقنيات ووسائط، وأن الطبيعة البشرية تكاد تكون ثِقَلاً يجب التخلص منه؛ وقلّما جرى التطرق للوقود الذي سكبه منطق الزووم على هذا الزعم الفادح – الزمن النيوليبرالي كمرحلة تسارع لنزعة الإنسان للتخلص من جسده وتجاوزه، حسب سانتياغو آلبا-. هذه الفداحة لم تبدأ بزووم، ولا مع كورونا، ولا حتى مع الإنترنت، لكن مع كورونا وتسيّد منطق العمل الزووماني، بات الجسد «علّة» أكثر من أي وقت مضى.
أزعم أن نسبة وازنة من الذين يشكّل التواصل الإلكتروني جزءاً من حياتهم العملية انتبهوا لمعاناتهم من هذه المعضلة. لكن انتباه أفراد، مهما كثروا، لن يُجدي إن لم يتحوّل لنمط من التعاقد الاجتماعي على ذَمّ السرعة الزوومانية. فدون اصطلاح عام ومكرّس، يتم الخلط بشكل مؤذٍ وغير سليم بين أخلاقيات العمل والنزاهة المهنية والمسؤولية، من جهة، وبين تلبية توقعات السرعة – غير المنطقية إنسانياً في كثير من الأحيان، كما قلنا- من جهة أخرى.
يقع عبء تبرير عدم التجاوب مع توقعات السرعة عند الآخرين على الفرد، الذي سيضطر لإدارة استعجالات عديدة وتصنيفها تبعاً لعلاقات القوّة بينه وبين مقترفي هذه الاستعجالات، ثم حمل عبء «الفعل العدواني» الذي سيَعنيه تأجيله لبعض المهام على حساب البعض. وحين يصل إلى مرحلة عدم القدرة على الاستجابة ذهنياً، فعليه أن يُعلن أنه «متعب»، وإعلان التعب الزووماني – وبالتالي طلب مهلة للراحة – قد يجد الكثير من التعاطف من الزملاء والصحب، خصوصاً في زمن الكورونا: كلنا متأثرون بالصعوبات، تعالوا نتضامن. لكن إعلان التعب هذا، في العمق، أشبه بإشهار الإفلاس أمام الدائنين: طيب، أنت متعب فاذهب وارتح قليلاً، لكن ارجع بسرعة لأنه «ورانا شغل».
خلال الأشهر الماضية، مارستُ «بوح التعب» وشجّعتُ عليه. لكن مع مرور الوقت أجد هذا الموضوع إشكالياً أكثر فأكثر، وهذا التطبيع مع «التعب» عبر ممارسة البوح والتشجيع عليه هو تصنيم للمشكلة وليس حلاً لها.
صرنا نكتشف «التعب» بالبلاهة نفسها التي اكتشفنا فيها غسل اليدين في آذار (مارس) الماضي.
إذا كنا جميعاً «متعبين»، نعاني «إعياءً زوومانياً»، فلماذا نمارس هبوطات اضطرارية متواصلة على بعضنا بعضاً؟ ليس لأننا جزّارون أو قُساة بالجوهر، ولو أن التواصل الإلكتروني البحت – وخصوصاً إن تمفصل مع علاقات سلطة وقوة أو رأسمال رمزي ومعنوي – قد يضخّم هذا البُعد فينا بشكل متوحش حتى على أنفسنا؛ بل لأننا «متحمسون». الحماس هو عنوان كتاب للأكاديمية الإسبانية ريميديوس ثافرا، الحماس: الهشاشة والعمل الإبداعي في الزمن الرقمي،El Entusiasmo: precariedad y trabajo creativo en la era digital, Remedios Zafra; Anagrama (2017). والذي تُحلل فيه أُسُس العمل الثقافي والإبداعي والأكاديمي في مجال الإنسانيات في الزمن الحاضر. تشرح ثافرا «الحماس» بوصفه غلافاً لمجموعة المكابرات التي يحتاج لتقديمها العاملون (والعاملات بشكل مضاف وأكثر فداحة، كالعادة) في هذه المجالات لمجرد الاستمرار: الغرق في العمل الإداري واستجلاب التمويل لمشاريعهم أو مؤسساتهم أو أقسامهم الأكاديمية؛ تجاوز مظالم مادية ومعنوية عديدة – بما في ذلك العمل بالمجّان – في سبيل «ممارسة ما يحبونه»؛ والأدوار التي يجب أن يلعبوها لـ«الترويج لأنفسهم» و«تنمية العلامة التجارية الشخصية» على وسائل التواصل، والتعبير المفرط عن الاستعداد المستمر لفعل المزيد، في دائرة يصبح فيها التمسك بدورة حياة طبيعية من ساعات عمل وراحة عبارة عن «رفس للنعمة».
التباس المكان
إذا كان كلّ وقت صالحاً للعمل، و24 ساعة باليوم لا تكفينا، والإدارة الحكيمة للوقت تعني ملأه بأكبر قدر ممكن من المهمات والمشاريع، وإذا كانت «الفاعلية» في هذا المجال تتحقق بأدوات رقمية أكثر و/أو أفضل فحسب، فكل مكان في فلسفة الزووم هو مكان عمل. كان هناك أناس يعملون في منازلهم قبل الجائحة، لكنهم كانوا يفعلون ذلك إما بسبب رغبتهم بذلك، أو بسبب طبيعة عملهم، أو نتيجة ظروف معينة قد لا تكون مواتية لهم، وربما كانوا لا يُطيقونها ويفضّلون تغييرها، لكنها كانت مختلفة عن «الحكم العرفي» الزووماني الحالي في أغلب بقاع العالم.
شرط العمل الزووماني هو اقتحام المجال الخاص؛ استعماره؛ إجبار كثيرين على مداراة جرح غير كريم بالسخرية أو التندّر، كالحاجة لترتيب ما ستكشفه كاميرا اجتماع الزووم في منزل متواضع، أو تقليص مساحة وجود وحركة أفراد آخرين من الأسرة في بيوت كثيراً ما تكون صغيرة بالأصل. قرأنا كثيراً خلال فترة الجائحة عن توجهات لإعادة النظر بمفهوم أماكن العمل والمقرات الفيزيائية للشركات والمؤسسات مع ما فرضه كورونا من إجراءات، ولكن الموضوع يتجاوز مجرد ثنائية مكان العمل-المنزل بما يشبه التسارعات الزوومانية التي سيطرت على مفهوم وقت العمل: استسهال تغييرات جذرية في بُنى مفهوم العمل؛ تغييرات تذهب دوماً، بخفّة، في اتجاه «ضغط النفقات» دون اعتبار للهوامش المفيدة التي تفرضها البُنية الحالية، ولا للآثار الواقعة على حياة الناس وطبيعتهم وعلاقاتهم.
بخصوص الوقت، ذهبَ المنطق الزووماني في زمن الحجر والجائحة بشطر كبير من العاملين عبر الفضاء الافتراضي إلى تسريع وتيرتهم، كالطائرة حين تزيد سرعتها لدى منطقة مطبات لتجاوزها بأسرع وقت. شيء مشابه حصل معنا بخصوص المكان، أو بالأحرى بخصوص مخيال المكان؛ بخصوص «الحيّز»: الجائحة فرضت علينا قيود تواجد وتنقّل واجتماع فيزيائي، فكان ردّ فعلنا أن زِدنا وتيرتنا نحو تخيل إمكانية وجودنا في أماكن كثيرة، في نفس الوقت؛ كل المكان، كل الوقت: ويبنارات وجلسات نقاش افتراضية و«لايف» وكورسات عن ألف موضوع وموضوع، بمشاركة ألف خبير وخبير: لماذا كنا قد قيّدنا أنفسنا بحيّز ضيق؟ نستطيع أن نتابع كل هذا، نستطيع الاستغناء عن شرط المكان. نستطيع «الاستفادة» من «الوقت الضائع» الذي فرضه علينا الحجر.
أين المشكلة في الويبنار؟ هو فكرة عظيمة وتَقدُّم ممتاز، وهو خيار ممتاز لشركاء ممكنين لأنشطة ما، متباعدين مكانياً، طالما أنه لا يعني التباساً في استيعاب المكان والمسافة. مشكلته هي خفة موجودة في كمية كبيرة من هذه النشاطات تتوهّم سهولة إلغاء دور المكان (مثلاً، استمرار انعقاد نشاطات إلكترونية كانت في السابق فيزيائية، دون جهد للتفكير في الفروقات). ليس فقط المكان الفيزيائي فحسب، بل الحيّز البشري، الدور الذي يلعبه كل واحد منا حين يدخل الحيّز المخصص لنشاط جماعي ما (قاعة المحاضرات، الصف، النادي، المقهى، البار.. إلخ)، والطقوس التي يمارسها في هذا الاجتماع الفيزيائي، والشفرات السلوكية الممارَسة والمصطلَح عليها، والتعارف وتجديد شبكات التواصل.. إلخ.
لا نتحدث فقط عن المكان الذي تتواجد فيه أنت، بل ترتيب تواجدك مع تواجد آخرين. أوضح استيعابٍ لهذه النقطة عرضه متابعو الرياضات الجماهيرية، خصوصاً مشجعو كرة القدم، الذين يعبرون عن عدم ارتياحهم لمشاهدة مباريات في ملاعب دون جمهور. للأمر علاقة، ولا شك، بمشهدية وجود عشرات الآلاف من المشجعين على المدرجات، بصوتهم الهادر وإيقاعهم ودورهم في الضغط على اللاعبين وعلى الحكم، لكنه أيضاً متعلق بنظرة الفوتبولجي التلفزيوني لموقعه هو ضمن طقس المباراة: هو يشاهد التلفزيون، لوحده أو مع من يُتاح له أن يصطحبهم في المنزل أو المقهى أو البار، لكن هناك حلقة ناقصة في ترتيب الطقس، وهي ليست حلقة تقنية: هناك 22 لاعباً، وحكّام، ونقل تلفزيوني عالي التقنية، ومناورات وأهداف وفرح وحزن وغضب من الحكّام.. لكن هناك غياب مع ذلك. هناك مكان فارغ: ليس مكاني أنا كمشاهد تلفزيوني بالتحديد، لكنه مكان يجب أن يُشغَل، وغياب شاغليه خلخل المعادلة عليّ؛ غياب لم تنجح في ملئه حلول تقنية مثل إدخال صور أو أصوات جمهور افتراضي، بل زادت الطين بِلّة.
وما الفرق إذاً بين الويبنار ومحاضرة يوتيوب؟ محاضرة مرفوعة على اليوتيوب لا تنتظر مني دوراً، ولا تسجّل لي حضوراً، ولا تفرض طقوساً «بديلة» حتى لو كانت بسيطة مثل الردّ على الإيميل بتأكيد الحضور؛ ولا هي تجعلني أحرص أن يظهر اسمي للمنظِّمين ضمن الداخلين، إما تشجيعاً لهم («المتحمسون»، حسب ثافرا، حريصون للغاية على تشجيع بعضهم البعض) أو حساباً لسلطتهم أو رأسمالهم الرمزي عَليّ؛ ولا حتى تفرض عليّ التأكد بشكل محموم (ومتكرر) من أنني لم أسجّل دخولاً بكاميرا أو بمايكروفون مفتوح، لأنني لم أرتدِ الجزء العلوي من ثيابي بشكل يسمح بظهوري أمام غرباء، أو لم أوجّه الكاميرا نحو الزاوية التي استعمرها زووم في بيتي. محاضرة يوتيوب لا تحوّل حيّزي الخاص إلى امتداد ديستوبي لقاعة محاضرات تبدو ديكوراً من مخيال ديفيد لينش، ولا تتوقّع مني دوراً كجمهور فاعل، يُسمع صوت تصفيقه، ولا أتوقع منها أثراً اجتماعياً. ليس هناك خطل زماني ولا مكاني من أيٍّ من الجهتين.
التباس المُتاح
إذا كان الوقت كله صالحاً للملئ بمهمات ومشاريع، وعليك يقع عاتق الفعل العدواني المتمثل في تأجيل أو رفض بعضها، أو التجرؤ على وضع وقت لنفسك لا تكون فيه «متاحاً»، أو إدارة إعلان تعبك-إفلاسك المؤقت بين الحين والآخر وتحمّل أعباء ذلك؛ وإذا كانت كلّ الأمكنة صالحة لأن تكون أماكن عمل، وعليك يقع عاتق تنظيم الأمر وترتيبه؛ وإذا كانت حواجز المكان كلها مكسورة مقابل ثمن اشتراك في شبكة الإنترنت، وعليك يقع عاتق أن «تلحّق» كل الويبنارات والكورسات – عدا عن المُتاح الثقافي والفني الهائل – فعلى عاتقك يقع أيضاً أن تكون أنت نفسك متاحاً كل الوقت، لكل شيء، وبسرعة، وكل ما سوى ذلك هو فشل تتحمل أنت مسؤوليته، أو هو عدوانية عليك بمقابلها أن تراكم رأسمال رمزياً كافياً كي تمارسها. مع زمن الكورونا الزووماني، بات الأمر يتجاوز العمل لإحراز حقّ العامل بقطع الاتصال خارج العمل – وهو التشريع الذي أدخلته بعض الدول – باتجاه مرافعة من أجل مكافحة العدم الأنثروبولوجي، وللوقوف في وجه رعونة أين منها مناهضة النضالات العمّالية في فترة الثورة الصناعية؟
لكن، عدا أزمة المُتاحات في الحياة العملية، ثمة تراجيديا داخل الأنفس في ما يخص ما هو مُتاح وممكن، خصوصاً مع تْراوما كورونا وإجراءاتها. ليس من المنصف القول إن هناك قناعة بإلغاء المسافة والموانع لدى «فناجين القهوة الافتراضية»، لكن لا شك أن هناك مكابرة على الإقرار بأن هذه «الفناجين» قطعاً لا تُلغي أياً من إشكاليات المسافة، بل وأنها قد تكون مؤلمة.
نحن، أبناء الشرط السوري الرهيب، نعرف ذلك قطع المعرفة. «نفتح فيديو»، حينَ ميسرة، لأنه هو المتاح الأرحب، لكننا نعي مكوِّن الألم في ذلك، ونتعامل معه كممكن، لا كبديل. لا هولوغرام يُلغي المسافة، ولا شركات تقدّم ممثلين بدلاء عن الغائبين – أو عن النفس في مواقف محرجة – كشركة «فاميلي رومانس» اليابانية التي صوّر فيرنر هيرتزوغ قصّتها في فيلم ممتاز أُنتج نهاية عام 2019. المكابرة على الغياب الذي تفرضه المسافة تُحوّله إلى نوع من الغيب، وتُحيل محاولات التواصل إلى ما يشبه «استحضار الأرواح». ألا تشبه أعراض ما بعد الـ«كاتش أب» من تعب وضيق نفس ورغبة بالراحة والصمت، أعراضَ العّرافة التي تنهار بعد التواصل مع «الما-وراء» في الأفلام؟
من فيلم “فاميلي رومانس” لفيرنر هيرتزوغ (2019)
تحاول هذه المكابرات، عبثاً، أن تغطي على رعب الإقرار بالهشاشة، وهو رعب جوهري في نفسية الطبقات الوسطى الغربية وضواحيها، والتي نعيش، ولو جزئياً، ضمن دوائر عملها وإنتاجها واستهلاكها. القيود التي فرضتها الجائحة على ممكنات ما قبلها أطلقت لهفة مؤلمة نحو إثبات القدرة على الحصول عليها الآن (مع كل التباسات الوقت)، وهنا (مع كل التباسات المكان)، والوسط الأمثل لذلك هو «الأونلاين». جانب ضخم من ثروة جيف بيزوس، مؤسس أمازون ومديرها التنفيذي، يَدين بها لِلَهفة «الآن وهنا» المؤلمة هذه.
لننظر في «ذعر الفوات» (FOMO)، القلق النفسي من أن شيئاً ما يفوت المرء ويجعله في حالة اتصال دائم بالشبكة، متأهباً لتلقي المؤثرات منها كي لا يفوته شيء: عدا المكوّن النفسي فيها، ألا يمكن القول إن فيها دليلاً على الأذى الذي لحق «إعدادات المصنع» الأنثروبولوجية الخاصة باستشعار واستيعاب ما هو مُتاح، مكاناً وزماناً وجسداً؟
*****
ختاماً، أعود لسانتياغو آلبا لاقتباس تعريفه لليسار وللتطلعات التحررية الممكنة في رأيه اليوم: «ثوري اقتصادياً، إصلاحي مؤسساتياً، محافظ أنثروبولوجياً».¿Podemos seguir siendo de izquierdas? Panfleto en sí menor, Santiago Alba Rico; Pollen (2013). أفضّل التفكير بأن منطلقات الانطباعات السابقة نابعة عن حرص مُحافِظ أنثروبولوجياً، أي قناعة بأن اجتماع البشر وأُسُس حياتهم وتواصلهم المشترك أهم من أن يُعبَث بها – كما فعل مزيج النيوليبرالية والتكنولوجيا في العقود الأخيرة، ثم كوكتيل النيوليبرالية والتكنولوجيا وشرط الجائحة – وأدق من أن تُترك للكمون التمدّدي لوسائط إلكترونية الذي يشكّل جزءاً جوهرياً – نكرر – من جدواها التجارية. ليس الأمر نوستالجيا لزمن سابق أفضل، وليس رفضاً جوهرياً للتكنولوجيا ولا دعوة للانعزال عنها. نعم، لا عودة إلى الوراء، لكن ثمة ضرورة للدفاع عن النفس، تبدأ بمساءلة غرور التكنولوجيا: أليس زمننا هذا، الذي يُدّعى فيه أن التكنولوجيا ملأته بأكبر كم من تسهيلات الحياة والتواصل والإنتاج والاستهلاك في تاريخ البشرية، هو نفسه الذي وصل فيه استهلاك البشر للعقاقير المهدئة إلى درجة تلويث المياه بفضلات إطراحها بشكل أثّر على سلوكيات سمك السلمون؟