لاشكّ في أنّ القرن العشرين استثنائي في تاريخ البشرية. ولقصّة هذا القرن الفائت أبطاله وعمالقته، سلباً أو إيجاباً؛ أسماء شخصياتٍ بارزةٍ يكاد يعرفها ويتداولها الجميع. على أن ثمّة أشخاصاً ليسوا بأقل أهميةً أو أثراً، لكن القلائل هم من يعرفون عنهم أي شيءٍ على الإطلاق. وواحدٌ من أبرز هذه الشخصيات الخفية هو إدوارد بيرنايز، «أبُ» العلاقات العامة، الاختصاص الذي أدخل تطبيق المفاهيم السيكولوجية الفرويدية إلى كافة مناحي الحياة اليومية، والذي أدّت حملاته إلى التأثير الهائل على وعي البشر لأنفسهم وإلى تعميق انتشار مفاهيم الفردانية وأنماط السلوك والثقافة الاستهلاكية، مما ترك أثره المديد على الحياة السياسية في العالم، كذلك.
من هو؟
وُلِد إدوارد بيرنايز في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1893 في فيينا، لعائلة يهودية نمساوية. وكان سليل نسَبٍ مهمٍ، إذ جمعته صلةٌ عائليةٌ مزدوجةٌ بأحد عمالقة القرن العشرين، سيغموند فرويد: فقد كانت عمّته مارثا بيرنايز زوجة سيغموند فرويد، كما كانت والدته آنا شقيقة سيغموند فرويد الصغرى. وقد نشأ إدوارد منذ طفولته شديد القرب من «العمّ سيغي»، كما كان يسمّيه تحبّباً؛ ومتأثراً بشخصيّته وأفكاره الثورية عن النفس البشرية. يقول سكوت كاتليب: «عندما [كان] يلتقي المرء ببيرنايز للمرة الأولى، فلم يكن يمرّ وقتٌ طويلٌ حتى يرِد ذكر ‘العمّ سيغموند‘ في المحادثة؛ فقد كانت علاقته بفرويد دائماً في مقدّمة أفكاره» (كيرتس 2002). انتقلت العائلة إلى نيويورك حينما كان إدوارد طفلاً، حيث درس وتخرّج من جامعة كورنيل بشهادة في الزراعة. لكن إدوارد اختار الصحافة مهنةً له، ثم عمل وكيلاً دعائياً لبعضٍ من أبرز نجوم الفن في تلك الحقبة.
وفي العام 1917، كان الرأي العام الأميركي، ذو الميول الانعزالية، يقف بشدّة ضد دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، مما دفع بالرئيس وودرو ويلسون إلى إنشاء ما سُمّي بـ «لجنة الإعلام» بهدف الترويج الجماهيري للمشاركة الأميركية في هذا الصراع. وقد انضمّ بيرنايز إلى هذه اللجنة، كما أصبح عضواً في الوفد الأميركي المشارك في مؤتمر باريس للسلام (1919-1920)، ولعب دوراً في الترويج لنقاط ويلسون الأربعة عشر التي رسمت شكل العلاقات الدولية ما بعد الحرب. وبعد انتهاء المؤتمر، عاد بيرنايز إلى نيويورك ليؤسّس شركةً تقوم بالعمل فيما أطلق عليه هو اسم «العلاقات العامة». ومن ثم قام في العام 1923 بتأليف كتابٍ لا يزال حتى يومنا هذا يُعدّ من أهمّ الكتب في مجال العلاقات العامة، أسماه بلورة الرأي العام (Crystallizing Public Opinion)، وفيه أكّد على الفارق ما بين العلاقات العامة والإعلان: ففي العلاقات العامة، تتمّ صياغة الرسالة الملائمة لخلق الانطباع وتحفيز السلوك (شراء السلعة أو الخدمة، مثلاً) بناءً على فهم نفسيّة الفئة المستهدَفة، ليتمّ نشرها كخبرٍ وليس كإعلانٍ مدفوع، بما يسبغ على هذه الرسالة إقناعاً وموثوقيّةً أكبر. وقد استند في فهمه هذا بصورةٍ أساسيةٍ إلى أفكار «العمّ سيغي» عن ذهنية الأفراد والمجتمعات.
النظرة الفرويدية- الفرد مجموعة من الرغبات
يصعب التقليل من شأن ميراث أفكار فرويد. فقد أدخل مفاهيم جديدةٍ كلياً على قاموسنا اليومي، مثل «اللاوعي» أو «الأنا» أو «عقدة أوديب» أو سواها، وجعلها مقبولةً ومُستخدمةً حتى ممّن لم يقرأ سطراً من أيٍ من كتبه. وأفكار فرويد تشكّل إحدى أقوى التأثيرات على مجمل الفكر البشري، بما في ذلك «كافّة مجالات الثقافة […] إلى حدّ تغيير أسلوب حياتنا ومفهوم الإنسان نفسه، حتى» بحسب مؤرّخ علم النفس الكندي، هنري إيلينبرغر. وعليه، فمن الممكن القول بأن أثر الفرويدية المديد على حياة البشر لا يقلّ بحالٍ عن أثر الداروينيّة أو الماركسيّة.
ويمكن تلخيص الفرويدية برؤيتها للأفراد على أنهم محكومون بدوافع غريزية عنيفة لاواعية تستوطن العقل الباطن، أهمّها على الإطلاق هو الدافع الليبيديّ (الجنسي). وبحسب فرويد فإن هدف الحضارة هو كبح هذه الدوافع، وهو ما سيولّد بالتالي شعوراً حتمياً دائماً لدى الأفراد بعدم الرضا وبالقلق الوجوديّ. رأى فرويد أن الدوافع الغريزيّة «معاديةٌ للمجتمع، وتدفع الفرد إلى البحث على الدوام عن إشباعها بصورةٍ شبه-آليةٍ وعمياء، كما أنها تنطوي على إمكانيات تدميرٍ شاملة» (فروش 1999، ص. 155). فالفرد، بحسب النظرة الفرويدية، أشبه ما يكون بقطعةٍ صغيرةٍ من الفلّين، «تتمايل في أنواء محيطٍ هائلٍ من المخاوف والرغبات غير-المُدرَكة التي تتقاذفه بالكامل»، برأي روبرت رايخ (كيرتس 2002). وبالتالي، ففرويد لا يثق على الإطلاق بقدرة الأفراد على الحكم المنطقي أو التصرّف الواعي بصورةٍ جماعيّة، ولا بالديمقراطية بتاتاً: فالمجتمعات والجماعات في رأيه لن تعمل إلا على تكثيف وتضخيم الدوافع الغريزيّة والقطيعيّة، وتجسيدها بأعنف وأقسى الممارسات التي لا يمكن السيطرة عليها أو التخفيف من آثارها الشرّيرة.
وقد اتُهمت هذه النظرة، على ثوريّتها، بكونها محافِظةً ورجعيّةً، أو ذكوريةً وجوهرانيّة (ُEssentialist)، من قبل كُتّابٍ مثل إيريش فروم وسيمون دي بوفوار. على أن ذلك لم يقلّل على الإطلاق من انتشارها وتأثيرها على السياسة بشتى أطيافها، من أقصى اليسار الراديكالي إلى أقصى اليمين المحافِظ، وفي كافة مناحي العلوم والفنون، بما في ذلك فنون التسويق والعلاقات العامة- وهو ما كان لإدوارد بيرنايز، كما سبق وأشرنا، أكبر الأثر فيه.
إنجازات بيرنايز
كان الإنجاز الأهمّ لبيرنايز، هي وضعه أفكار فرويد موضع التنفيذ العمليّ لأغراضٍ تجاريةٍ ربحيّةٍ، وذلك بإحدى طريقتين: إما عبر تعديل مفاهيم قائمةٍ لتخدم الترويج لاستهلاك سلعةٍ ما، أو عبر خلق مفاهيم جديدةٍ كلياً. ولا يزال أثر هذه بعض مفاهيمه مستمراً حتى يومنا هذا، إلى درجة أننا بتنا نعتبرها جزءاً لا يتجزّأ من ثقافتنا اليومية.
فبيرنايز هو المسؤول عن الترويج للمفهوم الذي بات طاغياً في عالمنا اليوم، والذي يجعل النحافة مقياساً للجمال عند النساء. وقد كانت هذه فكرةً طرحها جزءاً من حملةٍ لصالح سجائر لاكي سترايك لترويج التدخين بين النساء: فكان الإيحاء بأنه يُستحسن للنساء تدخين السجائر عوضاً عن أكل الطعام، لأن النحافة تجعلهنّ جميلات! لكن التدخين العلنيّ في الأماكن العامّة كان لا يزال من المحرّمات على النساء، مما أثّر على أنماط استهلاك السجائر، وبالتالي، أرباح زبائن بيرنايز. فما كان منه إلا أن استند إلى إحدى أفكار «العمّ سيغي» لتحريك الرغبة اللاواعية لدي النساء، بحسب فرويد، لتجاوز «الحسد القضيبي» حتى يقمن بالتدخين العلنيّ. ولكي يجعله فعلاً مقبولاً مجتمعياً، فقد قرّر تسمية السجائر بـ «مشاعل الحرية» في حملته التي حازت تغطيةً إعلاميةً كبرى، وأدّت بضربةٍ واحدةٍ إلى جعل التدخين النسائي العلني أمراً مقبولاً اجتماعياً، وإلى مضاعفة مبيعات سجائر لاكي سترايك عدّة أضعاف. هذا، مع العلم أن بيرنايز كان معادياً بشدّة للتدخين، بل وسعى ما في وسعه لسنواتٍ طوالٍ لكي تقلع زوجته عن عادتها اليومية بتدخين علبة سجائر.
وما لبث نجاح بيرنايز المبهر في عالم الترويج التجاري أن لفت أنظار السياسيين، حيث استعان الرئيسان الأميركيّان كالفن كوليدج وهيربرت هوفر بخدماته في حملاتٍ تسهم في رفع شعبيّتيهما، كما استعانت به وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في حملتها لخلع الحكومة الغواتيمالية التي اعتبرتها الوكالة في أجواء الحرب الباردة تهديداً شيوعياً يطال مصالح أميركا. فقاد بيرنايز حملة علاقاتٍ عامةٍ نجحت في تشويه سمعة حكومة الرئيس آربينز في داخل غواتيمالا، إضافةً إلى الترويج لدعم انقلابٍ ضدها في الأوساط الاقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة.
العلاقات العامة: من البزنس إلى السياسة
ولم يكن هذا القفز -ما بين «البزنس» حيناً والسياسة أحياناً- مصادفةً، بل نابعاً عن نظرةٍ مبدئية راسخة عن ضرورة الهرمية في إدارة شؤون المجتمعات. ففي كتابه المهم الآخر الصادر في العام 1928 المدعوّ البروباغاندا، قدّمها بيرنايز بوصفها البديل الوحيد عن الفوضى، داعياً «الرجال الأذكياء إلى إدراك أنها الأداة الحديثة التي يمكنهم من خلالها النضال من أجل […] إخراج النظام من الفوضى» (بيرنايز 2005، ص. 159).
كان بيرنايز، مدفوعاً بأفكار فرويد، غير مؤمنٍ بأن الديمقراطية الحقيقية يمكن أن تتحقّق أو تنجح. بل آمن بأن السماح للجماهير بالتحكّم في حياتها أمر خطير للغاية لأنها، بسبب كونها مدفوعةً بنزعاتها المبنية على الهوى والغرائزيّة، وستفضي حتماً إلى الفوضى المدمّرة. وكانت النزعة الاستهلاكية، برأيه بالتالي، وسيلةً لمنح الناس «وهم» السيطرة على مصائرهم، بينما تتيح لـ «النخبة المسؤولة» مواصلة «إدارة» المجتمع؛ أي تسخير طاقة الجماهير في تحقيق المنفعة الاقتصادية، التي من شأنها تلبية رغباتها غير العقلانية عبر طلب واستهلاك السلع والخدمات. وقد أطلق على هذه العملية اسم «هندسة التوافق»، التي تحوّل المفاهيم النفسية الفرويدية من علاقة فرديةٍ بين الطبيب ومريضه إلى عمليةٍ هندسيةٍ تشمل مجتمعات بأكملها، وتستخدم مفاهيم الإنتاج الصناعي الضخم، لتنتج مستهلكين راضين طيّعين لا رغبة لديهم في تغيير أوضاعهم أو قلقلة نظام المجتمع القائم!
ومن السهل رؤية جاذبية هذه النظرة لأرباب السياسة خصوصاً مع انتشار قيم النيوليبرالية، وبالتحديد إبّان فترة حكم كلٍ من رونالد ريغان في الولايات المتحدة (1981-1989) ومارغريت تاتشر في بريطانيا (1979-1990)، اللذين آمنا بقدرة الأسواق، لا الساسة، على إشباع الرغبات غير الواعية للأفراد، واللذين عملا على «خصخصة» دور الدولة لأنهما آمنا بأن ذلك شكلٌ جديدٌ وأفضل للديمقراطية: ديمقراطية السوق، التي اعتبراها متحرّرةً من متاعب السياسة بمفهومها التقليدي. بات الناخبون إذاً «مستهلكين» للسياسة كما لو كانت سلعةً، مما يستوجب التحكّم بمزاج وذائقة المستهلكين لتلبية رغباتهم القائمة أو خلق رغباتٍ جديدةٍ تتناسب مع «المنتجات» التي ترغب الحكومة والساسة ببيعها. وأفضل الوسائل لتحقيق ذلك، بالتالي، هي الاستعانة بمفاهيم بيرنايز في العلاقات العامة وفي «هندسة التوافق».
إن جزءاً مهماً من المأزق الحالي للديمقراطية الليبرالية في الغرب يكمن في «تقلّص الديمقراطية من أمرٍ يفترض وجود مواطنين فاعلين، إلى ممارسةٍ تعتمد بصورةٍ متزايدةٍ على فكرة الجمهور كـ ‘مستهلكين سلبيين،‘ تُشبَع رغباتهم بأن تقدّم الحكومات إليهم ‘قطع الحلوى‘، لا تُغني ولا تُسمن من جوع»، بحسب رأي ستيوارت إيوين. ويمكن تتبّع جزءٍ مهم من هذا التحوّل إلى أفكار وممارسات بيرنايز عن «هندسة التوافق»، وعلى ربط مفهوم الديمقراطية الليبرالية الحقّة وإرادة الأفراد بالفوضى والعنف. والناس اليوم مدعوون إلى وعي مدى تدليس هذا الارتباط، وإلى مدى ضرر إرث بيرنايز والنظرة الفرويدية التي قام على أساسها، وإلى استعادة السياسة من براثن عالم الأعمال.
المصادر:
– «وفاة إدوارد بيرنايز، أبُ العلاقات العامة وزعيم صناعة الرأي العام، عن عمر 103 أعوام». جريدة النيويورك تايمز، العدد الصادر في 10 آذار (مارس)، 1995.
– آكسلرود، آلان. 2009. بيع الحرب العظمى: صناعة الدعاية الأميركية. نيويورك: دار بالغريف-ماكميلان.
– إيلينبرغر، هنري ف. 1970. اكتشاف اللاوعي: تاريخ وتطوّر الطب النفسي الديناميكي. نيويورك: دار بيسيك بووكس.
– إيوين، ستيوارت. 1996. العلاقات العامة! تأريخ اجتماعي للـ«سبين» (الكذب السياسي). نيويورك: دار بيسيك بووكس (بيرسيوس).
– بيرنايز، إدوارد ل. 2005. البروباغاندا. نيويورك: دار آي-جي للنشر.
– بيرنايز، إدوارد ل. 1947. «هندسة التوافق»، في حوليّات الأكاديمية الأميركية للعلوم السياسية والاجتماعية، المجلّد 250، ‘التواصل والعمل الاجتماعي،‘ (آذار-مارس 1947)، ص. 113—120.
– بيرنايز، إدوارد ل. 1965. سيرة ذاتية لفكرة: مذكّرات مستشار العلاقات العامة إدوارد ل. بيرنايز. نيويورك: دار سايمون أند شوستر.
– تاي، لاري. 1998. أب الـ«سبين» (الكذب السياسي): إدوارد ل. بيرنايز، وولادة العلاقات العامة. نيويورك: دار كراون.
– فروش، ستيفن. 1999. سياسة التحليل النفسي: مقدمة للنظرية الفرويدية وما-بعد-الفرويدية. لندن: دار ماكميلان.
– كاتليب، سكوت إم. 1994. السلطة غير-المرئية: العلاقات العامة، تأريخ. المملكة المتحدة: دار لورانس إيرلباوم.
– كيرتس، آدم. 2002. الفيلم الوثائقي قرن الذات.