الحاخام باشي يشتري حلب من الملك فيصل
عشية وصول عساكر الإنكليز إلى حلب، انسحب والي العثمانيين وقادتهم وعموم الأتراك تحت جنح الليل، ولم يبق منهم في المدينة غير المرضى والممرضين في المستشفيات الألمانية. رافقهم في الانسحاب حلفاؤهم الألمان الذين كانوا عازمين على نسف كل بناء يخصّهم في «المحطّة»، فنسفوا جسوراً على نهر قويق، وتحطمت نوافذ البيوت المحيطة بتكية أبو بكر الوفائي مغطّية الأرض بشظايا الزجاج الملوّن لأنهم كانوا قد دفنوا قربها ألغاماً حيث مستودع موادّهم النارية.
بعد مدة وجيزة، دخل الملك فيصل إلى الشهباء. كانت جماعة من الشبيبة العرب قد حولوا مبنى جمعية الاتحاد والترقّي المشرفة على تتريك حلب وريفها إلى «نادي العرب» مقرّ صحيفة العرب اليومية. يوم الثلاثاء 11 نوفمبر 1918، بُويعَ الملك فيصل في هذا النادي، جالساً على كرسيه في غرفة خصوصية. أتاه أعيان حلب وذواتها ووجهاؤها «من كلّ ملّة وبارح»، يبايعونه بالتملّك على العرب نيابة عن جلالة والده الحسين ملك العرب، حليف «أصحاب اليد البيضاء» الإنكليز والفرنسيين، المتّهم من خصومه بأنه قد «باع البلاد لقاء دريهمات».
بعد انتهاء المبايعة، أتى الملك فيصل إلى كرسي آخر في صدر الردهة وألقى خطبة أمام مئات المدعوّين إلى النادي، وبينهم كتّاب بأيديهم القراطيس والأقلام يدوّنون ما يفوه به بالحرف الواحد. لم ينسَ الملك أن يذكر جدّه الرسول الذي تحدّر منه أشراف السلالة الملكية، وقال: «خرج الأتراك من بلادنا ونحن اليوم كالطفل الصغير، لا حكومة ولا جند ولا معارف. […] القدرة الإلهية تأبى تركهم [الأتراك] بدون مجازاة لما أتوه من الفظائع»، فدولة الأتراك أعلنت الجهاد مع ألمانيا لتنتقم من الخاضعين لهم، ومنهم العرب. «أنا عربي، والعرب أمم وشعوب مختلفة باختلاف الأقاليم. العرب عرب قبل موسى وعيسى ومحمد، والديانات تأمر باتباع الحق والأخوة على الأرض»، قالها وعيناه على الرؤساء الروحيّين من علماء وشيوخ وأساقفة وحاخامات، جلساء الصفوف الأولى عادة. وعد الملك الناس بعودة الرجال الشرفاء الكثيرين المقيمين خارج الديار، واستدرك: «انظروا إلى الحكومة نظرةَ الولد البارّ إلى الوالد الشفوق». في أثناء انتظار رجوع الأبناء الأكفّاء المغتربين ليتدبّروا فوضى أرضهم الأمّ احتلّت فرنسا سورية.
روى هذه الوقائع المؤرّخ الغزّي في كتابه نهر الذهب في تاريخ حلب، ولكن لهذه الزيارة الملكية روايات أخرى.
كان الأسدي م. خير الدين طالباً يافعاً بمرحلة «الرشدية» المعادلة للثانوية، «مجاوراً» يعيش وحده في غرفة صغيرة في المدرسة العثمانية، حين شاهد الملك فيصل لدى أول زيارته حلب. شاهده في دار الحكومة في الفرافرة، وشاهد الحاخام باشي يدخل عليه ويهديه صينية الضيوف الفضية وعليها كاسات من فضّة، على أنه -أي رئيس الحاخامين- اشترى من الملك مدينة حلب وهذه الصينية ثمنها، قال هذا وأفهمَ كلّ من حوله أن تقاليد اليهود تقضي هذا العمل لتجوز صلاتهم، فابتسم الملك وقبل.
خير الدين الأسدي
نبذة عن المنبوذين
لحاخامات حلب شهرة بين حاخامي يهود العالم، واليهود لا يسكنون بلداً لا سورَ له، فهذا حرامٌ عندهم، وعليه ترى شريطاً معدنياً حول حلب يمتدّ في الفجوات التي هدم سورها وكان يتفقّدها يهودي.
كان حاخامو حلب في القرن 17 م ينتعلون النعال البنفسجية، وقبل ذلك كانت عمائمهم حمراء ويكتبون العربية بأحرف عبرية، وفي بدايات القرن التاسع عشر لم يرُق الصدر الأعظم أن يتعمّموا بالأحمر فأجبرهم على الأزرق. وهم يتولّون بأنفسهم مهمة الختان، وذلك أنه [الحاخام] يشدّ غرلة الصبي ثم يحبسها بملقط معدني، ثم يقطعها بالسكين جرّة واحدة، ثم يرفع الملقط وينضح الجرح بالعرق نفخاً من فمه، ثم يمصّ الدم ويتفله ثلاث مرات، ثم يضمّد الجرح حسب مقتضيات طبّ اليوم. و«العرلة»، من العبرية بالعين المهملة، هي غرلة الصبي، تطلَق على النصراني لأنه لا يختتن.
ويهود حلب يقولون الخاخام عن الحاخام ويجمعونه خاخاميم، وكان سفهاء الأولاد يهزجون وراءه:
خاخام بومة بومه أبو لفّة المبرومه
عطيني شعرا من دقنك لاخيّط فيّا التاسومه
والتاسومة الحذاء، ويهود حلب يقولون: «هاد زلمة بوم ومرتو بومة وشغلو بوم وبضاعتو بومة وأصحابو كلون بُوَم»، يريدون السوء والقبح. ومن أمثال اليهود: «قال لو: بومة، قال لو: على قد تَمَنَا» (أي الشرية بومة)، وهم يتشاءمون من التلفظ بالفحم فيقولون: «اشترينا فردة ع وجّ إبليس»، ويستخدمون لفظ «الأبشع» بمعنى الأقوى والأشدّ.
ومن كلام الحلبيين: «هالشغلة صارت بواحد ياهودي ومات».
ومن تشبيهاتهم: «شباك الياهودي» (أطلقها لاعبو الشدّة على ورقة الأربعة الدينارية، إلماعاً إلى أن جدران البيت اليهودي الأربعة تطلّ على الدينار)، «متل الياهودي المرعوب»، «قهوة بَلا دخان متل الياهود بلا خاخام»، «متل الياهود بياكلو قتل وبيحطّو خراج»، «متل فقرا الياهود لا دين ولا دنيا»، «متل الجحش الخاخام» (أي غشيم شيطان)، «بيع الياهود متل علك الجلود»؛ «هادا قرّي يا لطيف ما بلتحق لو قرار» (لعلها من أثر فصيلة القرّائين اليهود)؛ «هادا دخّي ملعون مالو قرار، ومرتو متلو دخّية، وأوبتن كلّا دخّين» (يريدون أنهم ماكرون، وأصل دخّي من العبرية من الآرامية: لقب طائفة من اليهود بمعنى الطهر والنقاء، يريدون أنهم مخلصون ليهوديتهم).
ومن تهكّماتهم: «نفّع غيري خاخام!» (وأصله أن جاء حاخام إلى محل الشيخ عبد الوهاب الصوفي في باب الجنان وصار يكشف الغطاء عن قاسميات اللبن ويلعط ويسأل: «وهَيْ بكام؟»، وبعدا طالع صحن من تحت جبتو وقال لو: «عطيني نصّ أوقية»، فأجابه: «نفّعْ غيري خاخام!»)؛ «هالشغلة بدها مدبّرة حلْفون» (حلفون يهودي يُضرب المثل بذكائه ودهائه وحسن تصرفه، وكان يستمدّ من امرأته مشورته فكانت ترشده إلى أجدى التصرفات)؛ «لبين ما تحرّكت حنّة بتكون سكّرت بواب الجنّة» (حنّة من العبرية، أي تحنّن الله)، «عرفتك من قلة دينك، أرقّ من دين ابن عزرا، سبّاب الدين أكّال الجرادين».
ومن نوادرهم: قالوا يهودي دخل حماة قال لدكّاني اعطيني شي اتحلّى واتسلّى وأطعمي حماري قام عطاه جبسة.
ومن كناياتهم: «اشترى صرماية ماكنة نعل جاموس اضربا براس ياهودي بْأسلم».
ومن أمثالهم: «كول ببيت الياهودي ونام ببيت النصراني»؛ «لا ترافق أجرودي ولا تشاور ياهودي»؛ «في عيد الفطير اللي ما عندو جبّه يستعير” (لأنه في نيسان العبري، وقد يكون فيه برد، وهذا العيد من أعياد اليهود مدته ثمانية أيام يأكلون فيه رقاقات لم يختمر عجينها: ذكرى خروج بني إسرائيل من مصر، ويبالغون في ألا تلحق عجينَه ذرّة من الخمير فيمضون أياماً في قحط مخبزه).
ومن حكاياتهم: يهودية تعسّر معا الطلق. أجا واحد وقال: «أنا بَيَسروا»، مسك ليرة وقّدما لرحما. مدّ راسو ورجع. طلّعوا بالليرة شافوا مغشوشة.
اليهود والنصارى في حلب يجعلون المهر على المرأة تدفعه للرجل؛ وكان من عادات الحلبيّات أن تضفر المسلمة ثلاث ضفائر والنصرانية ضفيرتين واليهودية أكثر من ثلاث.
*****
يزعم الحلبيون أن اليهودي قبل ما يسلّم ع المسلم يقول في قلبو سرّاً: «إن شاء الله»، وبعد بعلّي صوتو: «سلا- مات»، وأن اليهود إذا رأوا جنازة مسلم قالوا لبعضهم: «سمّاقي»، يريدون تكملتها في القلب عندهم: «عقبال الباقي»؛ ومن دعائهم على فلان «حزنْو»؛ وأن اليهودي يتأمل صباحاً ليرة ذهبية، ثم يمضي إلى دكانه ويقول للمسلم: «الله لا يقشّعك اللي قشعتو اليوم الصبح»، فيظنّ أنه دهمه مكروه؛ والغزّي يقول «إنّ الغالب على أهل حلب القناعة بالربح والعيش الكفاف لا سيما اليهود»؛ وإذا تكلّم غير اليهودي بكلام باطل قال اليهودي منبهاً رفيقه: أجا عزّوره شيقر (من شقر، أي الكذب، الغشّ).
يقول اليهود: «مو قاعي» أي ليس حاضراً، يوهمون السائل عن صاحب البيت أنه موجود ولكنه نائم مثلاً لئلا يتجاسر ويتعدّى على البيت ومن فيه، كما يقولون «الآحا بجي لعندك» و«آخا» بدلاً من «الأحد» و«أخذ»، ويزعم الإسلام أنهم يحذفون الدال نكاية بمحمد.
ومن مندرات الحلبيين:
-أدّن حمصي بوقت غير وقت الأذان وسألوه: «ليش؟» قال المادنة جديدة وعم نجرّبا. مرض المأدّن ما شافو صوّت غير واحد يهودي كان يقول: «أشهد أن لا إله إلا الله وتشهد حمص أن محمداً رسول الله».
-يزعم الإسلام أن تنين ماليهود عبّوا بطنن عرق وراحوا ليسكروا، ووين؟ ببستان الحجازي اللي هلّق صار قسم مالحديقة العامة منّو، وبركوا لك تحت سجر عزيق النهر وفرشوا محرمة وكتّوا بزرات ومازة: وبصحتك يا رفّول وبصحتك يا موشي، والتفت رفّول وقال:
-أنته بتعرف بتشعر يا موشي؟
-إي يا كان.
-هات سمّعني.
-إذا كان حبيبي قاعي جنبي… بكون حبيبي قاعي جنبي
وإن كان مو قاعي جنبي…. بكون مو قاعي جنبي
-عظيم عظيم، وهلّق بدّي أسمعك شعري أنا وبدّي أطربك.
-هات.
(بعد فترة): إذا كان حبيبي لابس قمبازو… يكون حبيبي لابس قمبازو
وإن كان مو لابس قمبازو…. يكون مو لابس قمبازو
منو سمع شعرن؟ سمعن واحد مسلم كان عالسجرا الكبيرة اللي فوقن، قام هالمسلم وكشف قمبازو وشرّ: شخّ عليهن. قاموا اليهود شكوا، أجا محقّق ونظم ضبط وبعتو.
وفي اليوم الموعود للمحكمة حكم الحاكم عالمسلم بالحبس مدة طويلة وبالجزا النقدي.
-سيدي! أنا مظلوم، هادا حكم كتير قاسي.
-نعم قاسي لأنك قصّرت كتير.
-ما فهمت
-لأنّك شخّيت عليهن وما ساويت الكبيرة عليهن.
أمكنة اليهود
-باب اليهود، بندرة اليهود-
باب اليهود أحد أبواب حلب. قال الغزي: «كان يُعرف قديماً بباب اليهود، لأن محال اليهود من داخله ومقابرهم من خارجه، فاستقبح الملك الظاهر وقوع هذا الاسم عليه فهدمه وجدّده وسمّاه باب النصر»، ولا يزال بعضه سالماً. ولا يزال مزاراً للإسلام باسم مقام الخضر، ومزاراً للنصارى باسم مقام جرجس أو مقام إلياس يقفون عنده للدعاء وفوقه سراج يُنار دائماً. كان إلحاق حيّ باب النصر بحي الفرافرة ومن قبله بحي المعقلية أمراً محتماً لأنه لم يسكنه ولا يسكنه إلا اليهود.
بان النصر في مدينة حلب، أو باب اليهود سابقاً
البَنْدَرة من حارات حلب وهي قسمان: بندرة الإسلام وبندرة اليهود، وهما متصلتان موقعهما وراء السوق الممتد من مخفر باب النصر حتى المحكمة الشرعية: هذا السوق المسمى بالبندرة، من بندر الفارسية بمعنى مرسى السفن في الميناء أو مقرّ التجّار، ألحقوا التاء في البندرتين إلماعاً إلى الحارة: من يهود أجانب يجلبون البضائع من البندقية وغيرها، ومن إسلام يشترونها منهم ويوزعونها على البرّ وغيره، وخانات حلب وقيسرياتها وأسواقها كعجلات القطار تسيرها قاطرة هذين الحيّين.
ومن أسواق حلب سوق الخميس يعقد كل خميس لحاجيات اليهود ومحله في بندرة الإسلام؛ وسوق الجوهرجية وكان معظم المشتغلين فيه يهوداً فتجارة الجواهر بيدهم؛ وسوق الصرّافين في مدخل خان الكمرك، وبعضهم في ساحة باب الفرج، وكان أكثر الصرّافين يهوداً. ونعرف صرافاً يهودياً أعمى كان في سوق الصرافين، وبعضهم لا دكان له وإنما كان يمشي ويخشخش بالمجيديات.
-خان القصابية-
خان قرب سوق الخضرية، سمّي بالقصابية نسبة إلى القصّابين بمعنى المشتغلين في صناعة القصب. وأمامه سوق القصّابية يبيع بالمفرّق، والخان للجملة.
صار سوق القصابية سوق الفستق، وفيه الحاخامخانة وفيها مكتبة عبرية. الحاخام باشي يسكن غربيّ خان القصابية، ومعظم غرف هذا الخان ملك اليهود، لأن تجارة القصب كانت بأيديهم.
ولا نعلم في بلد زرناه سوقاً للقصب ولا خاناً، فهو إذن كسوق الحبال وخان الحبال، وسوق العلبيّة وخان العلبيّة.
-كهف العزير-
في تادف القرية القريبة من الباب، المعروفة بباذنجانها وعنبها ورمانها، كهف النبي العزير. كان اليهود يشعلون فيه سراجاً ليلاً ونهاراً وحوله شبه معبد، ويقضون وقتاً فيه في عيد المظال. والآن خرب وتهدّم. وهذا عمل شائن من الرعاع.
الصابور في لهجة الباب أطلقوه على عيد المظال عند اليهود -وما أشهر رمّان الباب وتادف- يُؤتى بضربٍ من الكلأ الطويل ينبت على شواطئ الفرات ويُفْرَش على الأرض ويُجمع فوقه الرمّان ثم يُدَثّر بالكلأ نفسه، ويظلّ مدثّراً مدة لا تقلّ عن عشرين يوماً، ثم يطلق للبيع رمّاناً لذيذاً جداً. وقالوا في فعلها: صوبرنا الرمّان، بنوها من فعل صبر على الشيء: تريّث.
-مقام النبي إبراهيم-
أصل اسم إبراهيم بالعبرية أبْرام: كلمتان: الأب الأعلى، ثم سمّاه الرب أبراهام كما في التوراة، وله في قلعة حلب مقامٌ وجرن، بل في القلعة ستة أجران بيزنطية مما يدحض المزعم. وله في الصالحين قدمٌ نحو الذراع. وقال جرجي زيدان في مجلة الهلال أن أصل «نبي» من اللغة الهيروغليفية، وهي مؤلفة من لفظين أصل معناهما: ربّ المنزل أو رئيس العائلة. أخذها اليهود عن المصريين أثناء سكناهم بمصر، واستخدموها أولاً لهذا المعنى فسمّوا بها الآباء الأوّلين ثم أطلقوها على الأنبياء، وأخذها عنهم العرب.
ومن كنايات الحلبيين وتهكماتهم: خلاه يشوف النبي كردي والملايكة أعجام؛ طقطق الدست وطار الغطا إيه يا نبينا المصطفى.
الكنيس الأصفر في حلب
-الجنة في حلب، جهنم في فلسطين-
قال الصفري من شعراء سيف الدولة:
ما لأيامنا بمرج بَعاذين وقد أضحكَ الربا نُوّارُه
بعاذين أو بعيدين: قرية شمالي حلب اندثرت، وظهر فيها المعبد الثاني للإله حدد الحلبي. اشتهرت بحجرها الأصفر الرخامي دخل في بناء دور حلب الفخمة، وفرشت أرضها به. ولا شيء يدخل إلى النفس الهناء والنعيم من ضروب الرخام كرخام بعيدين، ومنها كنيس اليهود الذي يرجع عهد بنائه إلى نحو ألفي سنة، لذا يسمونها الكنيسة الصفراء، ومقلع الحجر هذا نضب الآن، وبقيت البساتين قرب عين التلّ، على غير ما كانت عليه أيام كان يتعهّدها قويق.
وأصل اسمها بالعمورية: «بَعْدن»، بمعنى مكان عدن، أي جنة عدن الأرضية كما تقدمها لنا التوراة. وفي مادة «عدين» من «القطوف الدانية» إشارة إلى هذا المعنى بالسريانية. فإن صحّت نظريتي هذه كانت الجنة في حلب وجهنم في فلسطين كما كانوا يرون، واعتقاد النصارى أن مسيحيي فلسطين كانوا يهوداً.
مصهر الكلمات
-مفردات عبرية في لهجة حلب-
أبّد: يقول اليهود: «هلق يجي الحاخام بأبدك». تحريف «يؤدّبك» العربية. وأبّد في العبرية تاه، تلاشى.
أسبت اليهودي وسبَت: دخل في السبت. قام بأمر السبت.
أي يكان: من حي القلّة، تعبير يهودي.
تبوّم: من تعابير اليهود، بنوا على تفعّل للمطاوعة من بوّم التي بنوها أيضاً من البوم.
تشعبوب: اسم عيد لليهود. من العبرية، أي تسعة بآب، وإذا سوّف اليهودي وعده وقال: «للتشعبوب»، مراده الرفض أن يفي.
توراة: من العبرية أي الشريعة والتعليم، تطلق على أسفار موسى الخمسة: التكوين والخروج واللاويين والأعداد والتثنية. ولا صحة لقولهم سميت بالتوراة من ورى الزناد لأنها ضياء في ضلال، كما لا صحة لقولهم من ورّى تورية: عرّض، لأن أكثرها توريات ورموز. أما التلمود فمن السريانية أي التعليم، من مادة لمد، أي علم، ومنه كلمة تلميدا: التلميذ. أطلق اليهود كلمة التلمود على كتاب الشريعة، والتلمود مجموعتان: البابلية والفلسطينية، وكلاهما مستمدتان من «المشنا»: شروح التوراة، وللتلمود شروح تسمي «الجُمُر» (تلفظ الجيم غير معطشة كالجيم المصرية).
جهنم: من العبرية أي وادي السرّ.
گوي: الگوييم هم جماعة الإسلام. كلمة «گوي» هي الشعب، ويقول اليهود خاصة: «هالزوتي گُوي»، يريدون المشار إليه مسلم (الزوتي المشار إليه بالعبرية).
جيتة: أطلقها اليهود على الليرة الورقية لأنهم مطبوعة بألوان مثل قماش الجيت القطني. من كلامهم: «اكبوس بإيد الموظف جيتة يمشّي لك معاملتك».
حابورة: من السريانية، وفي الكلدانية حبروتا مقعد اليهود في مجامعهم، جماعة اليهود، كنيس اليهود. ومن استعارات الحلبيّين: «فلان التمّ [الفم] جامع والقلب حابورة».
حاصي: عبرية لا يستعملها إلا اليهود بمعنى النصف، يقولون «عطيه الحاصي».
حامور: أثر اللفظ العبري للحمار.
حزيط: من مفردات اليهود. ترجومية، أي آرامية دخلت العبرية، بمعنى المسكينة، يدانيها في العربية «الحزينة».
حنّف: يستخدمها اليهود خاصة، وقد يقلّدهم غيرهم، أي مدح وأطرى وتزلّف.
خرندعي: من الخرنگعي، لقب التحقير الذي أطلقه اليهود من خرا.
دخيا: كلمة ترجومية دخلت العبرية من الآرامية، ومعناها الطاهر والنقي والزكي. كان اليهود يشرفون على الذبح في المسلخ، ومعنى طهارة الذبيحة خلوّها من كل كسر، فتُدمغ بدمغة «دخيا» وتُباع أغلى من غيرها المهملة من الدمغة.
الديّان: أحد أسماء الله الحسنى، يطلقه يهود حلب على الحاخام الذي يقضي ويحكم. وبيت الديّان من يهود حلب.
السليحوت: عبرية يستعملها اليهود فقط بمعنى الدعاء إلى الله أن يغفر لهم ذنوبهم، وتكون صلاة السليحوت آخر الليل، وفي القلّة وبحسيتا والجميلية حيث اليهود، يقرع أبواب اليهود شخص يحمل فانوساً ويقول: سليحوت، يوقظهم.
سُوحق: مطاوع السوحقة والمسوحقة، وكلها من تعبيرات اليهود. من العبرية، صوحق أي ضحك، بين اليهود خاصة.
شبوت شالوم: سلام السبت، بين اليهود خاصة.
شتُّقْ: من مفردات اليهود. من العبرية، بمعنى اسكت لا تقل شيئاً.
شوخَرْ: من مفردات اليهود، من العبرية بمعنى سكِر.
طهور: يطلقها اليهود اسماً لزبّ الصبي.
طُوفس: من العبرية، أي أمسك. يقول لاعب الطاولة اليهودي خاصة: «هاد بطوْفس الزهر لا تلعب معو»، أي يمسك النرد ويتحكم في رميه.
عشير: من مفردات اليهود دون غيرهم، من العبرية، أي الثريّ. ومن تهكّمات يهود حلب «عشير وگادول»، بمعنى غني وسارق؛ ومن أمثالهم: «كل جيئه بَهمه»، أي كل متكبّر بهيم.
عليوت: من مفردات اليهود خاصة. من العبرية بمعنى التعلّل، أي يتعلّل بعلل واهية.
كشّير: من العبرية بمعنى الطاهر، يقوله اليهود خاصة لحم كشير وأكل كشير، ما يحلّ أكله وفق شرائعهم.
ماعوط: من مفردات اليهود، عبرية، أي النقود.
محروم: المحروم عند اليهود مَن حرمه الكنيس من شركة اليهود.
معزير: المجهول الأب، عبرية، يستخدمها اليهود في مسبّاتهم.
نكّع: من العبرية، حقّر، رذل، بناها اليهود على «فعّل» وسرت إلى غيرهم.
يوْبيل: من العبرية: يبّيل: صاح صيحة الفزع، نفخ في البوق، عزف على العود ونحوه. وكان اليهود يقيمون عيداً كل خمسين سنة احتفالاً بخلاصهم، وسمّوا هذا العيد: يَبِيل. وانتقل هذا اللفظ إلى اليونانية واللاتينية ولغات أخرى مع بعض التحريف. والبابوات جعلوه عيداً كل مئة سنة أو كل خمسين سنة أو كل ثلاث وثلاثين سنة أو كل خمس وعشرين سنة. وانتقل هذا العيد إلى الملوك يقيمونه بمناسبة مرور خمس وعشرين سنة من أعمارهم أو خمسين. وبالترتيب نفسه اليوبيل الفضي والذهبي والماسّي لمناسبة مرور 25 و50 و 75 سنة لحدث شخصي أو عامّ.
-آمون-
آمين في العربية اسم فعل أمر بمعنى استجب، وتستعمل في كنائس النصارى واليهود.
وثمة مذهب أن أصلها آموْن: المعبود المصري الذي أعاد عبادته توت عنخ آمون. على أن ترجمة التوراة السبعينية في اليونانية ترجمتها بما مفاده: ليكنْ، أو ليصِرْ. وفي «شفاء الغليل» قيل إنه ليس بعربي، لأن وزن فاعيل ليس من كلام العرب.
ومن كنايات الحلبيين: آمين فوق الدعا.
ومن نوادرهم: صلّى إمام وقرأ: «ولا الضالّون» فردّ المقتدون: آمون.
وكان الشيخ محمد الجزماتي يعظ الناس في الجامع الكبير، وفي وعظه في رمضان كان ينهي درسه بذكر بعض المآكل ليتّخذ بعضها السامعون، أسمعه وأسمع الناس حوله:
-بامّه بعبّا محشي قرع
-آمين (ظناً منهم أنه يدعو)
-بانجان محشي وجنبو جبن
-آمين
-مغربية وجنبا سودا
-آمين
-عش البلبل وجنبو بقلاوة
-آمين (وهم يمسحون على أوجههم وصدورهم، وبعضهم يأخذه الحال).
-بحسيتا، ملجأ الله-
في تسمية هذا الحي الحلبي المذاهب التالية:
-المذهب الأول: أنها من «باح صيتا» أي ظهر صيتها وذاع، لما كانت عليه من مقام علمي رفيع لدى سكانها الإسلام واليهود. أبدلت صاد «صيتا» سيناً على غرار «أهدنا السراط المستقيم» ثم لزمتها الألف على سنن العامية في ضمير المؤنث الغائب.
قال الغزّي: «المشهور أنها كانت في صدر الإسلام مشتملة على كثير من المدارس العلمية الإسلامية».
وقال ياقوت الحمويّ: «باحسيتا» بكسر السين المهملة وياء ساكنة وتاء مثقلة وألف: «محلة كبيرة من محال حلب في شماليها ينسب إليها قوم وأهلها على مذهب السنة». ويُراد بالجملة الأخيرة: القسم الإسلامي الأكبر من أهلها على مذهب السنة: لا على مذهب الشيعة الذي كان منتشراً آنئذ بتأثير الحمدانيين وغيرهم، ولا تزال حتى يومنا هذا تردّد «فاز من صلّى» يوم عاشوراء.
وقال الحاخام إسحق شحيبر: «اشتهرت حلب منذ القديم بمحافلها الدينية وبعلوّ درجات علمائها وأحبارها حتى كانت قبلة الأرض، وكان لعلمائها احترام خاص لدى كل المشتغلين بالأمور الدينية».
-المذهب الثاني: أنها من «بَحّْ صوتا» أي أصاب صوتها البحة لكثرة جلبة الباعة في سوق الخميس فيها، أو بحّ صوتها في المطالبة بحقوقها على قدم المساواة، يؤذن به المثل الحلبي الساخر: «وجّ متل سقاقات بحسيتا» أي وجه شئيم شتيم مثل شوارع بحسيتا. ومثله في السخرية من جماعة قولهم: «شوارب متل درابيس خان الجمرك ووجاه متل صرامي السهرة» أي النعال المخلوعة في العتبة: من قباقب زحافية وشبراوية ومسوت وصنادل وقلاشين وبوابيج وجزمات صفراء ذات شرابات زرقاء ويمنيات وشحاطات وجواريخ وصرامي حمراء وصفراء وسوداء شغل باب أنطاكية و…
-المذهب الثالث: أنها من «بيت حسدا». قال الغزّي: «أقول: هذه الكلمة سريانية مؤلفة من كلمتين هما بيت حسدا معناهما بيت الرحمة. على أن كلمة سريانية تضاف إلى “با” مثل باصفرة وبانقوسا تكون مضافة إلى بيت. والظاهر من اسم هذه المحلة أنها كان فيها زمن الكلدانيين مكان مقدّس عندهم يقصدونه للاعتراف بخطاياهم». في أورشليم بركتان يرجح أن واحدة منهما هي بركة بيت حسدا، أما الأولى فهي بركة إسرائيل، على ما يقول التقليديون، وأما الثانية فهي عين أمّ الدرج، فعلى هذا نُقل اسم حيّنا من فلسطين، نقله السريان لا اليهود لأن العبرية لا تجتزئ باء «بيت».
-المذهب الرابع: أن أصلها «بحشوتا»: هذه الكلمة السريانية التي تعني «البحثية»، وجذر «بحش» السرياني يتحد معنىً بجذر «بحث» العربي كما يتحد به لفظاً، ما خلا الشين فإن مقابلها الثاء (والثاء من أحرف الروادف).
ومدلول «بحش» في السريانية عدا «بحث»: فتّش، فحص، بيّن، برهن، حفر، نكث، نبش، حرّك، هيّج. ويقيني أن فعل «بحبش» العامي منقول من «بحش» السرياني، بتكرار فاء الفعل دعماً وإلماعاً إلى أن الزيادة في اللفظ زيادة في المعنى، ووزنها عندنا فَعْفَل وعند الصرفيين فَعْلَل.
وقد آثرت العربية عن السريانية طائفة من المصادر الصناعية جاءت على لفظها السرياني، منها: الناسوت واللاهوت والطاغوت والملكوت والرهبوت والكهنوت والجبروت. وإذا صحّ مذهبنا الرابع هذا ألحقنا «بحثوت» بما تقدم، وإن قلبت واوها ياء. إذن فمعنى بحثوتا: المحلة المنسوبة إلى البحث الجليل، يريدون بحث العلم، وهو مذهب الجمهور عندنا.
-المذهب الخامس أنها من الإسبانيولية مركّبة من كلمتين «با» و«سيتا» ومعنى «با» المنخفض ومعنى «سيتا» المدينة، فمعنى الكلمة المركبة إذن: المدينة المنخفضة. ويُراد بالمدينة هنا لبابها وعينها: كما يطلق الآن على سوق السقطية، أي باعة سقط الذبائح: يطلق عليه اسم «المدينة» على سبيل المجاز المرسل من إطلاق الكلّ وإرادة الجزء تخيّلاً أن هذا الجزء بما توفّر فيه من مرافق يمثّل المدينة كلها.
بحسيتا
أطلق اليهود هذا الاسم الإسبانيولي على هذا الحيّ إثر نزولهم فيه بعد هجرتهم من إسبانية، أي بعد سنة 1492. وكان نصيب حلب من هؤلاء المهاجرين وفيراً لمكانة حلب التجارية، فشغلوا أعمال الصيرفة والدلالة والشحن والترجمة وما إليها من أعمال التجارة، شغلوها فور نزولهم كأنهم منها على ميعاد. وكان شأنهم في إستنبول وسلانيك خطيراً كشأنهم في حلب.
وكان اليهود في إسبانية يتكلمون العربية الدارجة هناك ممزوجة بالإسبانية. اسمع المستشرق يوهان فوك يقول: «باللغة الشعبية الدارجة جاءت الموشّحات والنماذج الواردة في ديوان الشاعر الأندلسي يهودا هاليفي (أي: اللاوي) المتوفى 1141 والتي تستعمل العبارات العربية والإسبانية القديمة والعبرية مختلطاً بعضها ببعض على السواء».
ويؤنس بهذا المذهب أنه لا يزال لدى يهود حلب حتى يومنا هذا أَثارة من الكلمات الإسبانية انفردوا باستعمالها وحدهم دون غيرهم. منها: “طوباجة” بمعنى: البشكير، أي منديل التنشيف (والإسبانية الحديثة الآن تبدل كل جيم خاء)، و «كبيسال» بمعنى المخدة الكبيرة… ولا يزال في حلب أسرات يهودية إسبانية، منها: بلانكا وجولدمان وباريدس وفرانكو.
لِمَ نعت هؤلاء اليهود المهاجرون منزلهم في حي بحسيتا بالانخفاض؟ الحقيقة أنه واقع بين التل في الباب الذي جدّده الملك الظاهر وأسماه باب النصر وبين تل القلّة، والقلة كالقمّة لامها أصلها الميم، فهي إذن من مفردات المرتفعات. على أن كلا التلين قد زال، كما زال تل النافعية الأسود، وكما زالت سلسلة التلال في حي التلل خارج السور.
-المذهب السادس. قال الغزّي: «إن اسمها هذا محرّف من “باح سيتا”، أي باح بالسرّ، وهو رجل صالح مدفون بالمسجد. مسجد سيتا داخل باب الفرج على يسرة الداخل منه، وهو مسجد عامر له منارة جميلة الصنعة جداً بُنيت سنة 751هـ. وفي سنة 1330هـ هدمت البلدية الجهة الشمالية التي تلي الجادة من هذا المسجد ورجعت بها إلى الوراء توسعة للطريق، وكانت المئذنة في غربي هذه الجهة، فنفضت دوراً دوراً وأعيدت كما كانت دون خلل في شرقي الجهة المذكورة».
ونعلّق نحن على عبارته هذه ما يلي:
1-قوله «سيتا» بالألف صوابه «سيته» بالهاء، كما هو مكتوب على مدخل المئذنة بخطّ قديم «جامع سيته».
2-قوله «محرّف من “باح سيتا”، أي باح بالسرّ». لعل صوابه: محرّف عن باحة سيته، بحذف الألف والتاء وتسكين الحاء، كل هذا تسهيلاً. وفي اللسان: «باحة الدار: ساحتها، والباحة: عرضة الدار»، وفي الحديث: «نظّفوا أفنيتكم ولا تدعوها كباحة اليهود». ولنا أن نطلق الباحة على ساحة الحي وعرضته، لأن مدلول الباب والحاء السعة.
3-قوله: «مدفون بالمسجد» يزاد عليه: وقبره على مصطبتين محلاتين بالقيشاني: دليل القدم. ثم إن القبر كان في الصحن ولدى توسعة الطريق نُقل إلى القبلية محافظاً على طبعه، هذا وترجمة الرجل مجهولة.
أما اشتقاق «سيته» فليس له مردّ إلى لغة إلا العربية. وأصل «سيته» عندها فَيْعَل من السته: كفيصل من الفصل وضيغم من الضغم (بمعنى العضّ) وصيرف من الصرف وغيلم من الغلمة. ووزن فَيْعل من أوزان الصفة المشبّهة، فمعنى الكلمات المتقدّمة: الفاصل والضاغم والصارف والغالم ومثلها السَيْتَه بمعنى الساته، أي المتخلّف عن الناس. وأهملت المعاجم ذكر السَيْتَه مجرّداً وأوردته متصلاً بياء النسبة، كما في اللسان: «السيتهي»: الذي يتخلّف خلف القوم فينظر في أستاههم.
بقي أن نردّ «سَيْتَه» إلى «سيتا»، ومردّه عندنا تصحيف العامة بأن قلبوا ياء اللين ياء مدّ، وكان طبيعياً لهذا أن تُكسر السين، ثم أبدلوا من الهاء ألفاً لشبه الحاء المتطرفة الساكنة بالوقف المسبوقة بالفتح. أقول لشبهها بالألف ثم حذفوا أداة التعريف فقالوا: بحسيتا بدلاً من باحة السَيْتَه.
فعلى ما تقدّم لُقّب شيخنا الصالح دفين جامعه، لُقّب بسَيْتِه لأنه كان على غرار الصوفية: يؤثر الناس عليه ويمشي إثرهم تواضعاً وتنكّراً لأنانيته، فيحسبه الجاهل ضعيفاً ذليلاً.
وذهبنا نستقرئ ذكر بحسيتا في سجلات المحكمة الشرعية عندنا: هذه السجلات التي يرجع أقدمها إلى القرن التاسع الهجري -وما قبله التهمته نار الحريق الذي أحدثه بعض ذوي المآرب- نعم مضينا، فوجدنا في هذه السجلات 13 وقفية لبحسيتا أقدمها سنة 1031هـ، منها وقفيتان لجامع سيته سنتي 1229 و 1233هـ.
وبعد فإن المذاهب الأربعة الأولى مدحوضة، لأنها لا تتوفّر فيها الحجّة القاطعة أمام محكمة البحث، فهي إذن فرضيات محتملة التصديق والتكذيب -وإن كان أقواها الرابع- شأنها شأن أن يُزعم أن «بحسيتا» أصلها «بسيطة»؛ أو أن أصلها «باس إيدا»، أي قبّل يدها؛ أو هي من «باخوس ديو» أي باخوس إله الخمر؛ أو هي من «بَس يَتَر» مترادفان تستعملهما التركية، والأول من الفارسية بمعنى يكفي أو حسبك؛ أو من «باع جيتا» بجيم بين بين، أعني بين الجيم والشين، والجيت نوع من النسيج لا يزال يسمى باسمه هذا، وتجارته بيد اليهود. أما المذهب الخامس فلا يحتمل إلا التكذيب، لأن «بحسيتا» ورد ذكرها في معجم البلدان لياقوت، وياقوت توفي سنة 1228، بينما حدثت الهجرة اليهودية سنة 1492، فلم يبقَ إذن إلا المذهب الأخير نقرّه.
-لكان، يكان-
أي يا كان، وقد يختصرون فيقولون: ياكان أو يكان، وقد تخونهم حاسة السمع فيقولون: أي لكان، ولدى الاختصار، لاكان أو لكان.
والأب رفائيل نخلة- على علوّ قدره في أثريه الواردين في مصادر موسوعتنا- لم ينتبه إلى أصل هذه اللام وقال: «ربما كان أصلها لام التوكيد والفعل “كان”».
تعبير «إي يا كان» أوجده يهود حلب في العهد العثماني، ونحن تولّيناه بالدراسة التالية:
إي ياكان: ثلاث كلمات: مدلولها العام الإقرار بالموضوع المطروح، وذلك:
1-إي: هي أداة الجواب التصديقي العربي ممالةً، فالإقرار كمن فيها.
2-يا: ليست أداة نداء -كما يتبادر- إنما هي أداة جواب تصديقي لكنها في التركية. فالإقرار كمنَ أيضاً فيها معزّزاً الإقرار العربي بإقرار آخر تركي. وألف «يا» مفخّمة في التركية، وهم لجهلهم أصلها حملوها على «يا» الندائية المرقّقة الألف، ولعل التركية استمدّتها من الألمانية بأربع آيات: الأولى: بوحدة اللفظ في كليهما وهو «يا». والثانية: بوحدة المعنى: معنى الجواب التصديقي. والثالثة: بتكرارها في كلتا اللغتين، تسأل: بدّا تسافر هالباخرة؟ فيجيبك التركي كما يجيبك الألماني: يايا أو يايايا، والرابعة: باستعمالهم إياها في معنى العجب: تقول: شوف هالصيني بياكل لحم حيّات، فيجيبك الألماني كما يجيبك التركي: يا، أي عجيب. كأن العجب إقرار بوقوع الحادث لكنه إقرار مشفوع بغرابته أو بجهل سرّه.
3-كان: وليست من الفعل الناقص -كما يتبادر أيضاً- إنما هي من «كن»: أداة جواب تصديقي أيضاً لكنها في العبرية. فالإقرار كمنَ فيها ثالثة معزّزاً الإقرارين السابقين: العربي والتركي بإقرار عبري.
إذن فمعنى إي ياكان: نعم نعم نعم. وإذن فتعبير إي ياكان أوجده يهود حلب في العهد العثماني. ومن بحسيتا سار التعبير إلى البلد التجاري حلب الذي كان يعجّ بتجار اليهود، ثم من حلب سار التعبير إلى بلاد عربية أخرى.
وإذا بدا لك أن تسألني عن سبب التعبير عن معنى الإيجاب الإقراري مؤكداً ثم مؤكداً أجبت: عدول عن القسم الذي ورد ذكره في الكلمات العشر: «لا تحلف باسمي باطلاً»، وشرّاح الكلمات حظروا القسَم مطلقاً لأن الإنسان قد يخطئ، فالتأكيد هذا مبعثه. على أن العربية أكّدت حرف الجواب التصديقي بمؤكّد واحد فقط، ومثل العربية لهجة حلب تقول: إي نعم.
-الآحور-
الآحور من العبرية، يستعملها اليهود فقط بمعنى الإست والمؤخرة، ويلاحظ أنها تداني كلمة الآخر العربية.
ومن نوادرهم:
مراهق مسلم سأل يهودي:
-دلني على دواء يكبّر الشوارب.
-مالك غير دهن الآحور
-وين بنباع؟
-ما يبيعوه إلا عطارين بحسيتا
وراح المسكين وكل عطار يزتّو لعند غيرو. الضحكة الحلوة اللي بتكون في القلب.
-البنادقة-
انتقلت من حلب إلى البلاد العربية كلمة «بندوق» بمعنى ابن الزنا. ذلك لأن تجار البندقية -وخان البنادقة ماثل الآن- كانوا وثيقي الاتصال بحلب، يأتونها للتجارة مع زوجاتهم السافرات، فتوهّم الحلبيون المحافظون الفحشَ في البنادقة فصاغوا منها على وزن فعلول الدالّ عندهم على الطرافة.
مسامرات الحاخام مزراحي
-قصاب البيع-
أي من يشتري الثياب العتيقة ونحوها. أعياني أمر أصلها إلى أن سألت الحاخام مزراحي، وأفادني أن أصله كان قصاب البيع، سُمّي بما ينادي به، وأصل لفظه «قصب للبيع»، يريد بالقصب الخيوط المعدنية التزيينية منها الذهبية والفضية، «فأنا كنتُ أنادي على أهمّ بضاعة أشتريها وإن كنتُ أشتري معها كل عتيق، ثم أحرق الثياب لأحصل على ذائب الفضة والذهب. فقد أشتري الكبّود العتيق الكابي لونه المتثني الذي سافت رقبته وتقطّع جبره، أشتريه بثلاثة براغيد فأصبغه وأرفو ياقته وأكويه وأركّب له جبراً جديداً وأبيعه بأربع مجيديات. ومثله أشتري القندرات التي مال كعبها وبدت ثقوبها وكلح لونها، أشتري الواحدة بتلت متليكات فأجلّس كعبها وأرتو ثقوبها وأصبغها وألمّعها وأبيعها بتلت براغيد كبار في بسطة سوق الجمعة أو سوق الأحد». وإذا قسنا أرباح قصاب البيع اليهودي إلى أرباح بيّاع النخالة أو إلى من ينادي: «سكّر الماكينة بالنحاس الأصفر يا ناس!» وجدنا فارقاً كبيراً جداً، فقصاب البيع كان يربح أكثر من دكان سمّان أو عطّار. واليوم حلّ محلّه المسلم ينادي: «اللي عندو شغلة عتيقة للبيع». ويبدو أن شراء العتائق أو المستعملات كان خاصاً باليهود، لأن العتيق بعد صبغه وكيّه وإصلاحه يباع بأسعار غالية بالنسبة إلى مشتراه، وفي معظم مدن البحر الأبيض المتوسط شهدنا اليهود يزاولونها، وهذه البالات التي ترسَل إلى حلب من أمريكا كلها من تجارة اليهود.
-حمامة المسلم ودجاجة اليهودي-
ودار ذات يوم حديث بيني وبين الحاخام مزراحي بحلب:
-الإسلام كانوا فنيين أكتر ماليهود.
-ليش؟
-لأنو سمّو زبّ الصبي حمامة وأنتو سمّيتوه جيجة.
-وين الفنّ؟
-وين الفنّ؟ الحمامة أزغر مالجيجة وزبّ الولد زغير وتحتو بيضتين زغار يقربو لبيض الحمامة أكتر ما بقربوا لبيض الجيج، وبمقابلا سمّو عضو البنت الصغيرة: العشّ، والعشّ للحمامة مو للجيجة، وبعدا وين صوت الحمامة من صوت الجيجة؟ وما في نسبة بين ملائكية الحمامة ومنظرا الشعري والجيجة.
-لا عيني لا، أش عم بتحكي بالشعر والخيال، إذا عطيتك حمامة بتعطيني بدالا جيجة!
الحاخام الأكبر يعقوب شاول دويك، حاخام مدينة حلب السورية، 1907م
-أكواز الصلصال-
حدثني الحاخام مزراحي قال:
أوصت عجوز أن يدفن في قبرها علبة فيها بيلون بورد، وجعلت منفّذاً لوصيتها حاخامي أنا، وأعطته سلفاً مجيدياً أجرة تنفيذ وصيتها، لكنها لم تمت في القريب، وصادف أن زارها بعض أقربائها ومعهم صغارهم، وفي لعب هؤلاء الصغار نبشوا هذه العلبة وأخذوا بعض الأكواز ونقعوها في الماء، وإذا تحتها خواتم ذهبية أوصت أن تدفَن معها.
*****
البيلون والجمع البوالين، أطلقوه على الحجر الصلصالي الغضاري النقي يستعملونه في حلب بأن يطلوا بمعجونه الرأس في الحمّام ليمتصّ المواد الدهنية منه ويزيل قشرته، وقد يطلون به البدن فيطرّيه ويزيل حرارته، كما يطلون به النسيج الملوّث بالدهن فيمتص دهنه. ويجلبونه إلى حلب من قرية كشتعار شمالي حلب، والحبلى لدى توحّمها تأكل منه.
استمدت العربية البيلون من اليونانية VALANTYON) βαλανεῖα) بمعنى الحمّام، والحمّام في اللاتينية (BALNEA). والعربية سمت الحمّام البلّان. في «التاج»: البلّانات واحدها بلّان وهو الحمّام، والبلّان هو الخادم في الحمّام.
وفي الحديث: «ستفتحون أرض العجم وستجدون فيها بيوتاً يقال لها: البلّانات، فمن دخلها ولم يستتر فليس منا».
وفي سياحاتي وجدت مصر والمغرب الأقصى لا يستترون في الحمام. ويسمون الماشطة في مصر البلّانة على المجاز المرسل.
وعلى ما تقدّم سمّت حلب هذا الحجر على هذا المجاز بأن أطلقت الحمّام وأرادت بعض ما يُستعمل فيه وهو هذا الحجر. واشتهرت حلب باختصاصها دون سواها بصنع البيلون بورد: أكوازاً صغيرة، وتسمّيه البلاد المجاورة: التربة الحلبية.
-أهل السبت-
استمدّت التوراة قصة الخليقة والطوفان وتقديس السبت وكثيراً غيرها من الكلدان. وقد شعر رجال الدين بنقص ألوهية الله في تسمية اليوم السابع بالسبت، أي بالراحة، إذ معنى هذا أن الله تعب والتعب نقص في القوة، والنقص يتضارب مع كمالات الله، فتلافوا هذا بشتّى التأويل والتفسير، وكان أحسنهم نبيّ الإسلام، إذ قال الله بعد الخلق: «وما مسّنا من لُغوب» [اللغوب الإعياء].
من دعاء الحلبيين على فلان: «لعنة السبت عليه»، ومن أمثالهم: «من قدّم السبت لقِي الأحد قدّامو»؛ وكان أولادهم يهزجون: «سبت سبّوت، أحد تبّوت، تنين خشبتين، تلاتا نارة، أربعا شرارة، الخميس فرحنا، الجمعة استرحنا».
يُروى في «كتاب اللبّاد» كتاب خيالي يتضمن المعتقدات الخرافية لنساء حلب، ويزعمون أنه كان سِفراً ضخماً ثم احترق وبقي منه صفحة واحدة سطَتْ عليه الأرضة، بقي منها جزء ما في صدور النسوان.: «إذا انقرفت الإبرة يوم السبت وجكّيتا هالإبرة المقروفة في توب مرا ما بعود بطقطق أو بنقرف شعر راسا. إذا وحدة خسلت روبا يوم السبت بجيه يوم باحترق حتماً. البقصّ أضافيرو يوم السبت ياما ويلات بدّا تجيه».
واليهود في حلب وفي غيرها لا يزاولون عملاً ما يوم السبت، فلا يرقعون ولا يقطبون زراً ولا يوقدون ناراً ولا يشعلون مصباحاً ولا يطفئونهما ولا يطبخون، لذا يصنعون طبيخهم الجمعة ويبيّتونه بالفرن لثاني يوم، وهذا ما سمّوه البيّوت. ويحسن في شرعهم أن يسترخي بدنهم كما استراح الله.
وسألتُ الحاخام مزراحي: «وأش بتساوي إذا شفت دهبة في الدرب؟» أجاب: «بخبّيا بشي قرنة لتاني يوم».
مطبخ اليهود
-اختفاء دجاجة-
يطلق اليهود اسم الصمّونة على كل خبزة ذات لباب كبيرة كانت أو صغيرة.
ومنذ نصف القرن كانت لبيبة اليهودية أشهر مغنيات حلب. خوجات الغناء والطرب غالبهن يهوديات. وعشاؤهن في حفلاتهن البيض المسلوق يزعمن أنه لتليين الحنجرة يجلو الصوت ويطرّيه، والحقيقة أن اليهود لا يأكلون من طبيخ غير اليهودي.
يقول اليهود «منّن الخاخام الجيجة»، أي فحصها ليرى هل يصحّ أن يأكلها يهودي. من «مُنا» الترجومية بمعنى أحصى، أي عدّ الحاخام أضلاع الدجاجة وفحص كل ضلع لئلا يكون فيه كسر او أثر كسر، لأن الشرع اليهودي في هذه الحالة يحرم أكلها.
يقول فقراء اليهود: «عشانا جيجة طارت»، أي لا عشاء، اختفت الدجاجة وتركت لهم بيضة واحدة تفقأ في ماء مغليّ مع الملح ولدى الأكل تمسّها الخبزة ومتى ما خافوا فسادها تقاسموها.
-مسلم هارب، يهودي مسافر-
الشيخ ولفتو: طبيخ لليهود، محشيّ القرع الشتويّ بالرز واللحم يرسل إلى الفرن.
«مسلم هارب» لقب البرغل بباذنجان عند اليهود خاصة، تحدياً للإسلام الذين يلقبونه بـ «يهودي مسافر» يريدون به الباذنجان الأسود الوجه كاليهودي سافر وانتقل إلى البرغل الذي ليس من عنصره، وتلقيب اليهود إياه بالهارب أنكى من المسافر، ففيه وصمهم إياهم بالجبن.
وفي تسمية بيروت الشاكرية «لبن أمّو» إلماع إلى شريعة اليهود في الوصايا العشر: «لا تأكل الجدي بلبن أمّه».
-المطبخ الأندلسي-
أضاف يهود الأسفاراد إلى مطبخ حلب ومعجمها بعد وصولهم إليها مطرودين من الأندلس:
كالسونس: من مفردات اليهود خاصة حملوها معهم من إسبانية إثر هجرتهم مع العرب منها ومعناها بالإسبانية السنبوسك المحشو بالبيض والجبن.
مِدياس: طعام يتّخذ من الباذنجان واللحم والبيض.
باستلس: سنبوسك بالفرن متخذ من السميذ المبسوس بالزيت.
مَتاهمبري: ماء غالٍ يصبّ فيه البيض مع قليل من الزيت والبقدونس، ومعنى «مَتاهمبري» قاتل الجوع.
ناهي: أطلقه الحلبيون على الخبز الذي يسمونه «إسبانيا»، أدخله اليهود إلى حلب بعد هجرتهم من إسبانيا، ثم أطلق الناهي على كل ما يشبهه من الحلوى اللينة السهلة المضغ.
إسبانيا: أو خبز إسبانية، سمّوها اختصاراً باسم المضاف إليه. وكانوا يسمونها أيضاً الصناديق لأنها تخبز في وعاء مستطيل. وهذه الحلوى تتّخذ من السميد والبيض والسكر والزعفران، واليهود أول من أدخلوها إلى حلب، واتّخذوه من الطحين والسكر والبيض. كان اليهود وحدهم يصنعون هذا الخبز ويبيعونه، ومن حلب انتقل إلى سائر بلدان الشرق الأدنى. وكنت اتصلتُ باليهود الذي يعملونها وراثة عن أجدادهم الذين نزحوا مع العرب من الأندلس، ومنهم أسرات كبيرة جاءت من هناك إلى سلانيك فحلب. هؤلاء ذوو اليسار تحمّلوا أعباء الرحلة، وغيرهم أكثرهم في المغرب العربي ثم في الجزائر ثم في تونس. الذين استوطنوا سلانيك أطلق عليهم «الدونمة»، وهي كلمة تركية بمعنى المرتدّ، إذ اعتنقوا الإسلام ظاهرياً في القرن الثامن عشر، وعقيدتهم مزيج من الإسلام واليهودية، ومنهم تأسّس حزب الاتحاد والترقّي التركي الذي خلع السلطان عبد الحميد.
يهود الحارة
-أبو إسحاقا-
من شخصيات خيمة الخليلاتي، يهودي مهنته تنظيف الطواريق والجُور الفنية، ويظهر بمظهر المعتزّ بعمله الشغوف به. جاء المثل التهكّمي: «ما بعزّل هالجورة إلا أبو إسحاقا» (يضربونه لمن يصلح للحقارة والعمل الأدنى أو الصفقة الخاسرة).
-أبو شالوم-
انظر الفواتفوات الموسوعة مخطوط مفقود من مخطوطات الأسدي..
-يسّاف دوّاس الكلاب-
قرأتُ في بعض الأسفار العبرية أن الكلب سمّي كلباً لأنه كلّه لبّ وعقل.
يسّاف شحاذ يهودي ذو كرش، ليمفاوي المزاج، حين يستعطي يغنّي. ساخر يطوف دور اليهود مرنّماً: «عالبوآيا»، يريد البقايا من طعامكم، ويردّ عليه معظمهم: «أجّلا» لأنهم لا يلفظون اسم الله، فيرنّم أيضاً: «أجّلناها»، وإذا كان يكره المؤجِّل يقول: «مأجّلة بس يبلاكي بدركلّه»، ويمشي بكرشه إلى دار أخرى، محروماً حتى من البنسة، وهي نقد من صفحة نحاسية صغيرة رقيقة يعدل خمس القرش يعطيها اليهود فقراءهم.
يستوقفه المارّة فيسردون عليه حروف الهجاء ويقابل هو كلّ حرف بمسبّة:
-أليف
-راسَك بالمعليف.
لا يبدأ بها حتى يقبض الأبطنعش سلفاً.
شاهدتُه في سوق الخميس، دعس على أجر واحد مسلم زوزق شيك صابغ قندرتو، قالو الشبّ:
-أشبَك مدكّش، كنّي ضاربَك العمى؟
-مُو بَس أعمى، أعمى ودوّاس كلاب.
-اللاوي لاعب الطاولة-
الياهودية ضرب من ألعاب الطاولة لا تُلعب لسخفها، وتسميتها باليهودية استصغار شأن اليهود، واليهود حقيقة برهنوا على ذكائهم النادر في الحقول العالمية طرّاً.
اللاوي يهودي حلبي دبّاح. كان يجيد لعب الطاولة ولعبنا كثيراً معه، وكان يفضّل أن يربط الخانة الرابعة عشر لا سيما إن كانت تنفذ إلى خلوة الدوا. إن لاعبي المحبوسة يسمون «خلوة الدوا» القرنة حيث يعدّ حبس حجر واحد فيها الخسارة الكبرى.
استطرادان أخيران
-قطار اليهودي-
في الحرب العالمية الأولى قريت أنا في نشرة تركية ما كان يطلع غيرا، اسما: الآرانس العثمانلي، قريت فيّا: واحد يهودي تبرّع بعشرة آلاف ليرة ذهبية لوزارة الحربية العثمانية.
ودارت الأيام، وبعد شي تلاتين سنة زرت استنبول وتعرّفت على أساتذة من جامعتها، ونحنّه ماشين أشاروا إلى بناية عظيمة وقالوا: هيّ بناية… وذكروا اسم هاليهودي اللي كنت قريت اسمو، وحالاً تذكّرتو، سألتن عن صحّة تبرّعو، قالوا نعم تبرّع بهالمبلغ، لكن مع اتفاق مع الوزارة أنو كل ترين بطلع من ألمانية ويتوجّه لتركية يحقّ لليهودي فيه فاكوْنة واحدة أش بريد بشحن فيّا.
إذا عرفت سوية ارتفاع الأسعار بهداك الزمان وعرفت شقد بقدر يشحن بتعرف أنّو قليل في الدنيا ماللي كان يربح ربحو.
تاري ياخاي! ماحدا ببخّر لألله ببلاش.
-في الغناء العبري-
في حلب -وكانت مركزاً خطيراً لليهود- كانوا يغنون في حفلاتهم غير الكنسية بالأغاني العربية نفسها، إلا أنهم يبدلون الكلام العربي بكلام عبري قريب من الأصل العربي في اللفظ، وعليه يقولون في «يا ليلي»: «يه إلي»، و«يَهْ إلي» من «يَهْ»: مقطع شعري من كلمة «يهوه» و«إلي» -بإمالة الهمزة- أي: إلهي.
حدّثني نوباتيّ سرياني -وأنا في القامشلي- قال: سنة 1933 أحيا المغني ذكي مراد ليلة طرب في بيت يهودي في يافا، وكنت عازف الكمان في تخته، واسترعى أنظارنا أنه لما مضى في الموّال كان يقول: «يَهْ إلي، يَهْ إلي»، وسألناه بعد الحفلة عنها فقال: هذا فنّ يهود حلب.