وزن «البَلاص» الممتلئ بالماء فوق الخمسة وعشرين كيلو غراماً. الجرة المصنوعة من الفخار، والتي يعود اسمها إلى منطقة دير البلاص القريبة من مدينة الأقصر، هي واحدة من أكثر علامات الثقافة البصرية شيوعاً عن مصر وفيها. مطلع القرن الثامن عشر، وطوال القرن الذي يليه، انخرط الرحالة والعسكريون والفنانون والحجاج الأوروبيون في إنتاج سلسلة من التصورات البصرية عن المنطقة. الصور الفوتوغرافية، وصور الطباعة بالحفر والرسم بالفحم التي أنتجوها، وبفضل حجمها الصغير مقارنة باللوحات الزيتية، كان تدوير تلك العلامات البصرية في أوروبا ممكناً على نطاق واسع، وكذلك عودتها إلى مصر عبر وسائط متنوعة – أبرزها الكارت السياحي. وفي تلك الأعمال، بالإضافة إلى المَعْلم الأثري الفرعوني والإسلامي، والمَعْلم الطبيعي كالنيل والصحراء والنخيل، برزت صورة المرأة وبلاصها بوصفها العلامة الأنثروبولوجية الأكثر شيوعاً للتمثيل البصري للسكان. مشهد الفلاحة حاملة الجرة الثقلية، بقاعدتها المقعرة المفتقدة لمساحة منبسطة للارتكاز، وتوازنها الدقيق على رأسها وهي تمشي لمسافات طويلة منتصبة القوام، لفت العين الغربيّة. وعلى العكس من التجسيد الڤيكتوري للأنوثة الهشة المشتهاة، كان البلاص علامة على تصور مغاير للجسد الأنثوي القوي، الكادح والممشوق، والمرغوب أيضاً – مع انكشاف الصدور والأذرع والسيقان حين تملأ الفلاحة الجرة فتميل نحو حافة المجرى المائي، أو حين ترفعها إلى أعلى رأسها.
في كتابها الحداثة على النيل: الفن في مصر بين الإسلامي والمعاصر، تخصص مؤرخة الفن الأميركية أليكس ديكا سيغرمان فصلاً لتتبع جينيولوجيا صورة المرأة والجرة في الثقافة البصرية. حاملة البلاص، بحسب سيغرمان، لا تمثل فقط موضوعاً لاشتهاء العين الغربيّة – التي طالما مثّلت الشرق بوصفه أنثى – بل أيضاً علامة على نظام بدائي لتوزيع الماء واستغلال موارد النيل، حيث تسير النساء مسافات طويلة إلى النهر لجلب المياه في جرارهم إلى البيوت، وهو نظام يستدعي التدخل بأدوات الحداثة والتكنولوجيا الهندسية. هكذا تبدو صورة امرأة البلاص دعوة للهيمنة الغربية بقصد الإصلاح والاستغلال الأمثل للوفرة الطبيعية. وسيشهد القرن التاسع عشر بالفعل سلسلة من المشروعات الهندسة المائية، بتصميمات أوروبية، لتحسين شبكة الري ورفع الإنتاجية الزراعية، وستكون هذه المشروعات نواة مشروع الحداثة الذي تبنته الدولة المصرية.
تشير سيغرمان بشكل عابر إلى الرمزية الأمومية للجرة والفلاحة التي تحملها:
الانحناءات المستديرة للبلاص تحاكي ثدياً ممتلئاً أو بطن امرأة حامل، وتستحضر الخصوبة الأنثوية. هنا تتقاطع المياة مع الأنوثة … كدح الفلاحة مرتبط بالسوائل، كما هو الحال في الولادة والإرضاع. الجرة تمثل أيضاً القوة الكامنة في تابو تدفقات الجسد الأنثوي التناسلي، الحيض واللبن والسائل الأمنيوسي (السائل المغذي المحيط بالجنين في الرحم) … هذا الانعكاس لمياه النيل وتدفقات الخصوبة الأنثوية يمثل موقعاً للتحكم، لكن يجسد أيضاً قوة هائلة.
هكذا يمكننا أن نفترض أن الجرة رمز أمومي، والفلاحة أم بالضرورة، والأم رمز لمصر. عبر تلك السلسلة من الترميزات، تكتفي سيغرمان بالربط بين مركزية صورة الفلاحة في الثقافة البصرية المصرية وبين الخصوبة الأمومية والوطن، دون أن تذهب في فكرتها أبعد من ذلك. لكن في عشرات الأمثلة التي يطرحها الكتاب من صور لفنانين ومصوّرين غربيين لـ«الفلاحة»، يظهر البلاص جنباً إلى جنب مع الطفل: امرأة تحمل طفلاً وبجوارها أخرى تحمل البلاص، وفلاحة تحمل بلاصاً على رأسها ويتمسك بملابسها طفلان، أو ببساطة يحل الطفل مكان البلاص على رأس المرأة أو العكس. البلاص يحمل دلالة أمومية، كالطفل تماماً – وإن كانت أقل مباشرة – لذلك يمكن لأحدهما أن يحل مكان الآخر، دون اهتزاز البينة الرمزية ومعناها.
نساء وأطفال الطبقات الدنيا من كتاب \”عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم\”، إدوارد لين، 1833
تبدو لوحة الفنان الفرنسي ليون بونات فلاحة مصرية وطفلها (1869-1870) نموذجا مثالياً لعملية الإحلال البصري تلك. فالمرأة ذات الوشوم التقليدية على الوجه، تحمل طفلها على كتفها، فيما يرتكز هو بذراعيه المتقاطعين ورأسه المسترخية على رأسها المائل. تُمسك الفلاحة بساق الطفل المتدلية أمام صدرها بيد، فيما ترتفع ذارعها الأخرى إلى الأعلى، وتنثني بزاوية حادة لتسند رأس الطفل من الخلف، في وضعية تشبه كثيراً وضعية حمل البلاص على الرأس مع إسناده بإحدى اليدين.
فلاحة مصرية وطفلها، ليون بونات، 1869-1870
ولعل كشف الجلباب الأسود المفتوح عن جزء من الصدر والجذع، وكُمّه المنحسر عن الذراع المرفوع، يقدم المحتوى الاشتهائي المتوقع، والذي تكمن غوايته هنا في المستور أكثر من المكشوف.
الفلاحة وطفلها؛ الاثنان مستغرقان فيما يشبه السبات. الأم مغلقة العينين، وشالها الأسود يلتفّ حول رأس الطفل وعينيه حاجباً عنه الرؤية. صورة الشرق الغارق في الظلمة/الماضي تؤكَّد هنا برمزية من اليسير فك شفرتها. ولا يغيب الماء والتدفق عن اللوحة، ففي الخلفية وبشكل خافت، يظهر مسطَّح مائي بضفة رملية. ويسهل التعرف على هوية المجرى دون مشقة كبيرة، فبونات بدأ رسم لوحته أثناء زيارته إلى مصر لحضور افتتاح قناة السويس عام 1869، وهو مشروع مائي أوروبي، يوظف تقنيات الحداثة الهندسية وسُخرة السكان للسيطرة على الطبيعة والتحكم بتدفقها. مرة أخرى، الأم/الفلاحة هنا هي مصر، وهي الوفرة وموقع الهيمنة. بيعت اللوحة إلى رجل الأعمال الأميركي جون ولفي في 1882 (نفس العام الذي احتلت فيه القوات البريطانية مصر)، وبقيت في نيويورك بعد وفاة مالكها إلى اليوم، حيث قامت وريثته بإهدائها إلى متحف المتروبوليتان للفنون.
بعد ذلك بحوالي ثلاثة عقود، يصل الشاب ذو العشرين عاماً محمود مختار إلى باريس عام 1911، ليكون أول مصري يُبعث لدراسة الفنون في أوروبا. البعثة التي موّلها الأمير يوسف كمال، ومدرسة الفنون الجميلة التي أسّسها هو نفسه عام 1908 والتحق مختار بها في دفعتها الأولى، كانتا جزءاً من مشروع التحديث الوطني، والذي سعى لإثبات قدرة المصريين على إنتاج الفنون الجميلة مثل الأوروبيين، ومن ثم جدارتهم بحكم أنفسهم ونيل الاستقلال. لم تُتَح الفرصة لمختار بالطبع لرؤية لوحة بونات في باريس (حيث كانت قد انتقلت إلى نيويورك)، ولا دليل على أنه التقى بالفنان الفرنسي الشهير (الذي كان في الثامنة والسبعين حينها). لكن عمل مختار الأهم والأشهر، تمثال نهضة مصر، كان في جزء منه رداً على لوحة بونات تلك (وإن بشكل غير مقصود في الأغلب) أو على الأقل معارضة لمصفوفة المعنى التي تمثلها. فالتمثال – الذي يعتبر القطعة الأبرز في تاريخ الفن المصري الحديث – يدمج التمثلات البصرية الاستشراقية عن مصر، الفلاحة والأثر الفرعوني معاً، لكنه يعكس معناها لتضحي رمزاً للنضال ضد الاستعمار وشعاراً لمصر المستقلة لاحقاً.
تمثال نهضة مصر، محمود مختار، 1928
الفلاحة، أي مصر الناهضة، لم تعد مغمضة العينين ولا غارقة في سبات الماضي، بل تتطلع إلى الأمام. والشال الذي كان يلفّ عيني الطفل في لوحة بونات، ترفعه الفلاحة عن وجهها بيدها لينكشف أمامها الأفق على اتساعه. ووضعيه الذراع وهي ترفع الحجاب مفروداً إلى جانبها تبدو مشابهة لوضعية الذارع المرفوع لإسناد الطفل في لوحة بونات. أما الطفل فيخفتي من رأس الفلاحة (وكذلك البلاص) ويحل بدلاً منه إلى جانبها تمثال أبو الهول، والذي تستند هي بيدها الأخرى على رأسه. لا الطفل ولا البلاص ضروريان لإثبات أمومة المرأة البديهية: مرة أخرى كل امرأة هي أم، وكل أم هي رمز للوطن. تلك المعاني التي يعكسها تمثال نهضة مصر كانت مفهومة لقادة حزب الوفد المصري، وعلى رأسهم سعد زغلول، حين زاروا مختار في باريس وألقوا نظرة على نسخة أولية صغيرة للتمثال، وكذلك لعامة المصريين الذين ساهموا في حملة التبرعات الأهلية التي أطلقها حزب الوفد، واستمرت لسنوات، لجمع تكاليف المنحوتة الضخمة ونصبها، وهو ما تم أخيراً عام 1928.
لكن غياب الجرة عن تمثال نهضة مصر، لا يمنعنا من تخيلها على رأس الفلاحة بأي حال. فالبلاليص تظهر في أعمال مختار بكثرة، وهي العنصر الأكثر تكراراً في منحوتاته، ففي تمثاله على شط النيل (1926) تحمل الفلاحة البلاص على رأسها في الوضعية المعتادة، بذراع مرفوعة إلى أعلى، بينما ذراعها الأخرى مضمومة إلى صدرها بالطريقة التي تتقاطع بها أذرع التماثيل الفرعونية على الصدر. تتقاطع رمزيتا الفلاحة والهوية الفرعونية مرة أخرى، وإن بطريقة أقل مباشرة من نهضة مصر.
على شط النيل، محمود مختار، 1926
ويجرب مختار عدداً من التنويعات على أوضاع جسد الفلاحة وعلاقاته المختلفة مع الجرة. على سبيل المثال في رافعة الماء (1929) تتخذ المرأة وضع الانحناء بظهر أفقي وركبتَين مُنثَنِيَتَين بزاوية قائمة، فيما تمتد الذراعان مستقيمتَين إلى أسفل لترفعا الجرة الممتلئة من النهر. وتتكرر ذات الثيمات في لوحات راغب عياد ومحمود سعيد ومحمد ناجي، الثلاثة الذي يمثلون مع مختار الجيل التأسيسي للفن المصري الحديث، أو ما يطلق عليه «جيل الرواد». جميع هؤلاء قدموا تنويعات على الفلاحة حاملة البلاص، والفلاحة مع الطفل، مع إحالات إلى النهر والعهد الفرعوني، كل ذلك بوصفه عناصر أساسية لخلق هوية وثقافة بصرية وطنية، في القلب منها تقف أيقونة المرأة الخصبة/الأم كرمز للوطن.
رافعة الماء، محمود مختار، 1929
سيستمر حضور تلك العلامات البصرية في أعمال أجيال متتابعة من الفنانين المصريين، وصولاً إلى هذا اليوم. وبالرغم من اختفاء جرات الماء من الواقع المعاش، تظل الفلاحة حاملة البلاص تعاود الظهور في اللوحات والمنحوتات كعلامة معاصرة على «الأصالة». لكن الهيمنة الطاغية لتلك الرمزيات في أعمال الرواد، ستتم زعزعتها مع الجيل التالي من الفنانين، فالعلامات التي نُسخت من المخيلة الاستشراقية، وقُلبت معانيها لتشكيل هوية بصرية وطنية مقاوِمة للاستعمار، سيتم توظيفها هي نفسها لاحقاً لنقد دولة ما بعد الاستعمار ورسم صور أقل مثاليةً للأم/الوطن.
لعل الكورس الشعبي (1948-1951) من أشهر لوحات جيل الوسط، وهي على الأرجح العلامة الأكثر وضوحاً لإعادة الترميز تلك. فالعمل الذي تسبب عند عرضه باعتقال صاحبه الفنان عبد الهادي الجزار لمدة شهر، يصوِّر صفّاً من النساء البائسات المظهر، بآنية فارغة موضوعة على الأرض أمامهن، وفي وسط اللوحة إبريق ماء (يمكن أن نخمن أنه فارغ مثل الآنية الأخرى). لا تقف نساء الجزار ممشوقاتِ القامة وفي حالة تطلع للمستقبل، بل في حالة انكسار، وتتقاطع أذرع اثنتين منهما كعلامة على الشعور بالبرد لا المجد الفرعوني، فيما إحداهنّ عارية تماماً وتستر عورتها بيديها. اللوحة التي تحمل اسم الجوع أضاف لها صاحبها عبارة تفسيرية: «هؤلاء هم رعاياك يا مولاي» (في إشارة للملك فاروق). لا يوجد في اللوحة رجل واحد، فالإشارة إلى مصر بوصفها امرأة/نساء ما تزال فعالة، لكن بتأثير معكوس، فالوطن جوعان. الإشارة الأمومية حاضرة، فواحدة من النساء، قرب منتصف اللوحة، تضع يدها على كتف طفلها أو طفلتها، في تذكير لنا بفلّاحة نهضة مصر المرتكزة بيدها على رأس أبو الهول، لكن الحجاب الذي كان مرفوعاً عن وجه المرأة في منحوتة مختار يعود ليغطي وجه الأم المنقّبة في لوحة الجزار.
لوحة الكورس الشعبي، عبد الهادي الجزار، 1948- 1951
في العام 1962، ينتهي الجزار من العمل على لوحة أخرى شهيرة هي الميثاق، وهي ربما أشهر لوحاته على الإطلاق. العمل المفترض منه أن يَحتفل بصدور «الميثاق الوطني للجمهورية العربية المتحدة»، يصوِّر مصر كامرأة تُمسك كتاب الميثاق بالقرب من صدرها، بينما اليد الأخرى مرفوعة في وضعية القسم. في الخلفية تظهر قناة السويس كما في لوحة بونات، وكذلك السد العالي: المشروعان الضخمان للتحكم في تدفق المياه/الطبيعة كدلالة على الخصوبة والحداثة معاً. الرمزية الريفية للفلاح الراكع أمام المرأة/مصر تُوازنها رمزية العامل الراكع في الجهة الأخرى، كدلالة على التحديث الصناعي بعد ثورة يوليو، وهو ما تؤكده الهياكل المعدنية وأطباق الالتقاط المحيطة بهم، والتي تصوّر الطموح العلمي والفضائي لمصر الناصرية. تبدو اللوحة إعادة إنتاج محدّثة لأيقونة مصر الأم النمطية، مضافاً لها بُعد صناعي. بعد عامين، وفي العام 1964، يحصل الجزار على وسام الجمهورية في العلوم والفنون من الدرجة الأولى، ويقوم ناصر نفسه بتقليده إياه.
لوحة الميثاق، عبد الهادي الجزار، 1962
لكن نظرة ثانية على اللوحة قد توحي بدلالات أخرى، فالجزار الذي كان أول فنان مصري يُسجَن بسبب عمل فني، ربما عَمِد إلى إخفاء نقديّته داخل غِلالة من الغموض، أتاحها أسلوبه الوحشي وسريالية أساطيره الشعبية. فمضمون لوحة الميثاق ربما لا يقل نقداً عن مضمون الكورس الشعبي، وإن كان أقل مباشرةً وأكثر حدةً وسخرية. تخلو الميثاق من أي دلالة على الخصوبة، والخلفية تبدو جرداء تماماً؛ تربة يهيمن عليها البياض لا لون الطمْي الأسود، وبلا أي أثر للحياة النباتية. لا يوجد بلاص فوق رأس المرأة، وبدلاً منه يستقر شعار الجمهورية وفروع شجرة يابسة بشكل مُقبِض، بلا ورقة واحدة أو ثمر. اللون الأخضر الذي يصبغ وجه المرأة والظاهر من جسدها ليس بالضرورة علامة خصوبة، فالجزار استخدم اللون الأخضر لصبغ مجاذيبه ومُسوخه المشوَّهة (إحدى لوحاته تحمل اسم المجنون الأخضر). وجه المرأة مكشوف، لكن عينيها مفرغتان ويصبغ قاعَهما السواد القاتم. لا إغماض هنا بل ثقبان من الظلام، عمىً كامل. الفلاح ينظر إلى قطفة القطن الوحيدة في يده، وقبضة الحبوب في اليد الأخرى، بتعبيرات تنمّ عن خليط من الانكسار والحسرة، وفي وضعية تشبه التسوّل. عِقد ملكية الأرض (المعبِّر عن الإصلاح الزراعي لنظام يوليو) مُلقىً على الأرض ويدهسه طائر أبو قردان، أما القسّ والشيخ المتعانقان بعيداً في خلفية اللوحة فيبدو التصاقهما المبالَغ به سخرية من شعارات الوحدة الوطنية أكثر منه احتفاءً بها. والأهم، لا يترك الجزار لوحته دون عبارة تفسيرية مرة أخرى، فعلى طرف الرداء المنسدل على كتف الفلاح، وبنقش صغير باللون الأصفر، يترك الفنان رسالته المشفرة والتحريضية: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
برزت عشرات الأسماء الأخرى في جيل الجزار، بينها نساء لأول مرة – لعل إنجي أفلاطون وجاذبية سري من أكثرهن شهرة وتأثيراً – سيقمن بتحرير الأم من رمزيتها الوطنية. تظل صورة المرأة في إطار بنية الأسرة والوطن معظم الوقت، لكنها شخص حقيقي لا مجرد رمز أو علامة خصوبة: أمهات سجينات، وأمهات غاضبات، ومتواريات وراء الآخرين، وفي المقدمة، ومُجْهَدات، وسعيدات، وبائسات، وقويات، ومنكسرات. التمثلات العديدة والثرية التي ستُبدعها فنانات جيل الوسط بعيون نسوية ستترك أثرها على الفنانين الرجال أيضاً. ستظل ثيمة الماء حاضرة، لكن مع عناصر جديدة. التوسع في المرافق العامة ووصول شبكة المياه النقية إلى مئات آلاف البيوت في حواضر وأرياف مصر، سيُعيد تركيب الصورة الأمومية. في لوحة المطبخ (1950) لجاذبية سري، ولوحة أم سيد (1959) الذي يبدو فيها يوسف سيده متأثراً بسابقته، يحلّ الجردل والصفيحة والطشت المصنوعون من المعدن محل البلاص الفخاري، ويظهر بدلاً من النهر حوض البورسلان الأبيض، والصنبور، والخرطوم المطاطي، والمواسير النحاسية، فيما يختفي الريف المنبسط ونرى أنفسنا داخل جدران الغرف المنزلية، وبالكاد نرى وجه المرأة المنهمكة في العمل، أما الطفل فنائم، لا في غفلة بل في دَعَة، وشالُ الأم لم يعد يغطي عينيه بل جسده، مانحاً إياه الدفء.
عالم حديث مطمئن وأقل تعباً، لكنه ضيّق، محكوم تماماً، ومغلَق.
لوحة المطبخ، جاذبية سري، 1950
لوحة أم سيد، يوسف سيده، 1959