من بداية الصفحة الأولى لكتاب مياومة: هايكو عامل معاصر لمحمد فرج، يشعر القارئ أن النص هو نص إعداد لفيلم أنيميشن صامت، أو للوحة عرائس صامتة رمادية فيها شخوص بلا ملامح ولا ألوان، ضخام بدون انسجام، بمفاصل محلولة وفقرات متآكلة بفعل اغترابهم في مساحات العمل، مثل شخوص الرسام الفرنسي فيرديناند ليجيه، تشدّهم «خيوط مرئية ولامرئية»، منسحقين في عالم ضارٍ، «غير قادرين على التحكم فيه»، «غير قادرين على التحكم في ردود أفعال الآخرين» و«غير قادرين حتى على التحكم في ردود أفعالهم». وفجأة تخترق الجو الرمادي صورة خضراء تذكّر بإلحاح بالصفحة النهائية لقصة أطفال صدرت قبل 38 عاماً.
في صورة فرج المباغتة نقرأ: «سأقدم طلباً إلى الإدارة أقترح فيه أن يتم تحويل حدبتي الناشئة إلى منتزه عام، تُغرس فيها أشجار وحشائش وبركة مياه، وتُخصَّص للأطفال الخائفين من التجول في شوارع المدينة، يصعدون إليها من ذراعي، ويستريحون عند الكتف خلال لعبهم فوق الحدبة».
في الصفحة الأخيرة من الفيل يجد عملاً، قصة الأطفال التي كتبها ورسمها الخطاط والرسّام المصري محيي الدين اللباد وصدرت ضمن سلسلة تحفة عن دار الفتى العربي في لبنان عام 1982، وتحكي عن قيمة العمل، يهتدي الفيل بعد خيبات كبيرة إلى أن يضع صنائع يديه، الكبيرة وغير الملائمة لأي من الأشغال التي جرّبها، تحت تصرف أطفال المدينة في حديقة عامّة ليستمتعوا بها. مدينة فيل اللبّاد كانت ما تزال ملونة، وعدم تأقلم فيلها الضخم مع العمل ليس مشكلة، بل فرصة ليوتوبيا سعيدة تُقرأ على وجوه الأطفال. مدينة محمد فرج، بالمقابل، رمادية، وعاملها لم يعد يهمه تأقلمه من عدمه: «ماكينة عملاقة تصدأ وتتهاوى أجزاؤها لتُحدث ضجة مكتومة»، ولا يوتوبيا منتظرة بكل الأحوال. والعمل الذي يؤدي إلى تهاوٍ بضجة مكتومة ليس العمل الكادح في مناجم ومزارع، بل هو عمل معاصر يسحن الروح والجسد بدون عرق ودماء؛ «على الناعم». الفرق بين الزمنين هو إمكانية السرديات الكبرى وقيمها وملاحمها، أو انعدام إمكانياتها، وهو كذلك فرق بين مدينتين.
في عملَي محمد فرج خطط طويلة الأجل ومياومة: يوميات عامل معاصر، تتبدى المدينة المتغيرة نحو التشظي والصدأ بتسارع. هي الشخصية المهيمنة، «مُبكسَلة» إلى جزيئات رمادية غير متمايزة الألوان، متسقة تماماً مع الصور، الرمادية أيضاً، المدمجة في يوميات عامل معاصر، والتي ليس فيها الكثير من نقاط العلّام التي يمكن أن ترسم في ذهن القارئ (غير المصري) طبوغرافيا للأحداث.

هذه البكسلة في المدينة لا يمكن الإخلاص لها وعكسها في رواية تدّعي وضع ناظم للحياة والوقائع. لا وقائع. الواقعة الوحيدة هو هذا الانهيار الصاخب في خَرَسِه: المدينة وجسد العامل ينهارون ليِحدثوا «الضجة المكتومة» ومجموع حدبات العمال هي سِنام المدينة المنهَكة من القنوط والكمد. عندها تُضحي القصة القصيرة والهايكو لا عزوفاً رغبوياً عن الرواية والسرديات الكبرى والملاحم وحسب، ولكن الشكل الوحيد المخلص لخطوات المشّاء محمد فرج.
في العملين نكتشف فعلاً أن محمد فرج مشّاء في مدينة تتغير وتكتنز عنفاً أصم يمكن أن ينفجر من حزام ناسف متخيَّل لأحد ركاب القطار، كما في إحدى قصص خطط طويلة الأمد. يحفظ ويعرف مدينته كمستخدم يومي، ويكتشف أنها تتغير بسرعة حتى بات يتعثر ويخطئ في بعض مواضعها.
في كتابه الأشهر ابتكار الحياة اليومية، يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل دو سيرتو أن «القابع في الطوابق المرتفعة لبرج التجارة العالمية في نيويورك، يحاول أن يُفلت من عناق الشوارع والحياة اليومية في الشوارع له. بارتفاعه إلى الطوابق العليا يحوز كذلك عيناً إلهية ترى مجمل الأشياء، تجمّد غليان الجموع في الأسفل لتُطْبِق عليها وتتحكم بها من أعلى، وتهويمات العين الشمولية سبقت الإمكانية التقنية لصنع أبراج. إن البرج ذا الأربعمئة متر في مانهاتن ما زال يحاول أن يخلق تخييلاً يوهم بإمكانية قراءة تعقيد مدينة وحركتها الدائمة بطريقة واضحة وبسيطة. ولكن الحقيقة أن المشائين العاديين موجودون في الأسفل، في الشوارع، تخضع أجسادهم لحكم ’النص‘ المديني الذي يكتبونه دون أن يستطيعوا أن يقرؤوه».
يتحدث سيرتو عن «نص» مديني لأن المشي بالنسبة له فعل لغة، تَحكُمه كل قوانين الكلام والبلاغة. استذكرت دي سيرتو لأن الشكل الفني في شذرات الهايكو والقصص القصيرة لـ خطط طويلة الأمد يحكي عن المستخدم الذي يكتب الحياة ولا يقرأها، وهو يعلن أصلاً انه غير قادر على إعطاء قراءات أو معانٍ. الرواية، في المقابل، هي العين الإلهية من قمة البرج المرتفع، تقرأ وتهندس مصائر وتفسيرات، وأحياناً في سياقات وعصور أخرى تُعطي سرديات ملحمية. تقول كتابات محمد فرج أن من المستحيل فرض نظام من نوع النظام الروائي وحبكاته على واقع مضطرب متشابك متآكل، حتى أننا لا نجد قصصاً بحبكات في مجموعته الأولى. الحبكة أيضاً عين إلهية.

في نفس فصل المشي كفعل كلام، يقول دي سيرتو: «تُفلت من الشموليات المتخيَّلة للعين غرابةُ اليومي الذي قد لا يظهر بسرعة». هذه الغرابة التي يكتشفها محمد فرج في لقطة «الليمونة» تخلق حَمولة شعرية كبيرة كهايكو فعلاً: الليمونة التي لم يستطع صديق العامل إنقاذها من مصيرها المحتم بالتعفن هي النقطة الملونة الوحيدة في بحر الرماد. في التضادّ الحزين للأصفر مع الرمادي. كان هناك بقية أمل للقارئ ولكنه تلاشى عفناً. العامل كان متيقناً أكثر من القارئ أنها ستتعفن، ولا يبالي. تراجيديا الليمونة تضاهي المشهد الختامي لموت العامل في لقطة سينمائية؛ الموت الذي يكاد يكون المشهد الأكثر حرارة في بحر الرماد والضجيج المكتوم.
هذه الأشكال الفنية التي يبدؤها جيل جديد، ويبدو لي أن التجريب في مصر أكبر على هذا المستوى، في كتابة النصوص المتحررة من بنى روائية، والراغبة في الحديث عن اليومي المنمنم اللصيق، أخذت تشكل تياراً واضحاً في الأدب الناطق بالعربية، فيه قدر كبير من التجريب والتخفف، أو لنقل التحرر من مسلّمات في الأشكال الأدبية. ولكنه مع ذلك مقلق للقارىء، ليس فقط بما يعكسه من كمد ويأس واستلاب له مسبباته الموضوعية، ولكن لأنه ينبئ أن الاتجاه صوب الجواني والفرداني والتفصيلي المُبكسَل سيستمر لفترة قبل أن نقرأ عن سرديات خلاصية جمعية تكثر فيها القيم، على الأقل، حتى لا نقول البطولات وانتصارات المعارك.