تذكر جامايكا كينكيد علاقتها الحميمة بوالدتها، كيف بَنَت خلال سنواتها التسع الأولى عالماً عاطفياً يدور في فلك الأم. تصف كينكيد انسيابية تلك العلاقة التي تداخلت فيها الشخصيتان وانصهرتا، إلى أن تعرّضت البنت الوحيدة إلى صدمة ستغيّر مجرى حياتها. فعلى مدى خمس سنوات أنجبت الأم من زوجها الثاني ثلاثة أطفال ذكور تاهت في تربيتهم فشطّ اهتمامها عن ابنتها. كان لتجربة الإهمال المادي والعاطفي تلك أثر على كينكيد سيطبع أعمالها الأدبية.
تتحدّث كينكيد في أعمالها عن إهمال أمّها، الذي تجلّى في الشرخ الذي بدأ يتّضح بين أحلام الأم لأولادها الذكور وأحلامها الصغيرة لبنتها الوحيدة. لم تلبث كينكيد أن أُخرجت من المدرسة، هي المتفوقة التي لم يتصوّر لها أحد مستقبلاً. ستترك الفتاة الكاريبية مسقط رأسها أنتيجوا وسترحل إلى أميركا لتعمل – ولو مؤقتاً – حاضنة لأطفال عائلة أميركية. لم تَفُتها المفارقة أن البنت التي هجرتها والدتُها انتهت حاضنة لأربع فتيات لا يربطها بهنّ شيء.
في أميركا، لن ترسل مالاً إلى عائلتها، ولن تفتح حتى رسائل والدتها؛ رسائل بقيت مختومة على مدى ثلاثة عقود. ستصبح جامايكا كينكيد قاصّة وروائية، ارتبط اسمها بالسيرة الذاتية في روايتَيْ آني جون (1985) ولوسي (1991)، حيث ستعود مراراً في سردياتها إلى علاقتها المبتورة بوالدتها التي تناولت حياتها في السيرة الذاتية لوالدتي (1996).
نشرت كينكيد «Girl» سنة 1978، ليصبح من أكثر النصوص حضوراً في أنطولوجيات الأدب النسوي والأنغلوفوني والكاريبي. ليس النص مقالاً، وليس شعراً، ولا هو قصة.
يتكوّن النص من جملة واحدة طويلة تتوجّه فيها إحدى حارسات الأبوية إلى بنتها في سلسلة من النصائح حول ضرورة إتقان البنت للطبخ وصَونها لعفّتها والاعتناء برَجُلها؛ تُعلِّمها كيف تسيطر على انفعالاتها حيناً، وكيف تستعين بحواسها أحياناً؛ كيف تبحث عن نظرة الرجل وتأسرها؛ كيف تضبط جسدها علناً وتعاقبه سراً؛ كيف تتعايش مع العيب فيها؛ كيف تنظر إلى المرآة فلا ترى سوى المرأة الداشرة التي تربّت على نبذها.
تحثّ الأمّ بنتها على الحفاظ على سُمعتها، فيما تعلّمها التحايل على نظام أبوي يحدّ من خيالها وجسدها معاً. ولكنها، في الوقت ذاته، تقول لها إن تلك الممنوعات يجب ألا تُثنيها عن فعل ما تريد، والتصرّف كما يحلو لها. تقسو عليها كي تمكّنها من تحصين موقعها داخل النظام الذي يحدّها. للوهلة الأولى، يبدو النص مستقرّاً، ثابتاً في لغته ومعانيه، ولكنه لا يلبث أن يتحوّل سخرية تنزل عليكِ ناراً وقلقاً.
النص غنيّ بالمحكية الكاريبية، تتداخل فيه الفودو والكنيسة والأساطير المحلية ويوميات طبقة المزارعين وصيادي السمك على شواطئ الجزيرة الصغيرة. للنص خصوصية ثقافية، نعم، ولكنّه يَصِلُكِ متحرّراً من حدوده اللغوية والثقافية. هو غريب عليك، ولكنك تعرفينه جيداً: فلا بدّ أنّ إحدى حارسات الأبوية أحبّتكِ وربّتكِ وعلّمتكِ وأنّبتكِ واستشاطت غضباً حين عانقتِ أحدهم أو استبدلتِ دروس الدين بدروس في الحياة، مثلاً. فلو كان النص في العربية، ماذا كان ليقول؟
هنا تبرز إشكالية الترجمة.
كيف أترجم هذا النص؟ كيف أتحدّث بصوت أمٍّ لستُ هي، ولكن بصوت ليس غريباً عليّ؟ كيف لأمّ كاريبية لا تتكلّم لغتي أن تتمكّن من تفاصيل حياتي، أنا، بذلك السحر وتلك الخفّة؟ كيف أنقل نصّاً أعرف أنه لم يوجَّه إليّ، ولكنّي أعلم جيداً أنه يعنيني؟ تعثّرت كثيراً، في الحقيقة، فقمت بنقله إلى العربيّة في محاولات ثلاث.
في المحاولة الأولى، ترجمت كلمات النص ومعانيه الحرفية إلى الفصحى. جعلته متاحاً بالعربية محاوِلةً – قدر المستطاع – نقل الجملة الكاريبية إلى العربية. كانت تلك المحاولة لتقدّم درساً نادراً في الأنثروبولوجيا (مثلاً: كيف كنتِ ستعرفين أغاني البينا المتحرّرة لولاي؟). بالرغم من دقة هذه المحاولة ورصانتها، إلا أنها بَدَتْ عقيمة، فقد جعلت النص مقفلاً، عاجزاً عن القول، ذلك أنّي لم أعثر على حساسية النص الأصيل في النص المترجم، أي إن النص الأصيل بقي متخفياً وناقصاً.
في المحاولة الثانية، قمت بترجمة النص حرفياً، ولكني تلاعبت بالمستوى اللغوي فوضعته بالعامية الشامية. شكّكت في قدرة الفصحى على نقل حميمية النص الأصلي، فرأيت في المحكية الشامية، أي لغتي الأم، قدرة على محاكاة لغة الجسد والتأنيب التي ظننتُ الفصحى عاجزة عنها. كانت النتيجة درساً آخر في الأنثروبولوجيا، ولكن بالعامية هذه المرة (مثلاً: كيف كنتي رح تعرفي أغاني البينا بلايي؟). فها هو النص المترجَم يحوّل الكاريبية إلى العامية الشامية، فيقترب أكثر من المَعيش والحميمية ولغة الأمّ. هو نص جديد ولكنه بقي خالياً من القول.
في المحاولة الثالثة، عدلت عن ترجمة النص وفضّلت تعريبه. فهمت أن ما يجعل النص الأصلي متماسكاً وساحراً ليس في الحقيقة مستواه اللغوي ومكوّنه الثقافي، أي العادات والمأكولات والأساطير الكاريبية. ما يجعله نصاً متماسكاً قادراً على القول هو تلك الحساسية التي تفرزها علاقة الأم بابنتها في نظام أبوي لا نحتاج إلى اللغة أو الإشارات الثقافية للدلالة عليه؛ تجربة حياتية تنتقل إلينا متحرّرةً من التزامات الترجمة بالوفاء إلى الكلمة أولاً. عندما فهمت ذلك، ذهبت إلى التعريب. عندئذ، رحل النص من الكاراييب واستقرّ أمامي في جبل لبنان: تحدّث بلساني، ولبس زِيّي، وحاكى موسيقاي (مثلاً: كيف كنت ستعرفين أغاني سارية السواس المتحرّرة لولاي؟).
هذه ليست إذاً ممارسة في الترجمة أو النقل الوفيّ للمعنى اللغوي، بل هي ممارسة في التعريب، أي جعل النص متاحاً ليس في اللغة فحسب، بل في التجربة أيضاً. هي ممارسة في تعريب أمومة كاريبية في محاولة قد لا تكون الأخيرة، ولكنها قد تقول شيئاً إضافياً هذه المرة.