حملت فرقة وليم شيكسبير المسرحيّة اسم «رجال الملك» بعد أن كان اسمها «رجال اللورد تشامبلرين». كان مسرح الغلوب في ضواحي لندن حينها مقراً للفرقة منذ تأسيسه نهاية القرن السادس عشر. اكتسب ممثلو الفرقة شهرة لا بأس بها، وكان من بينهم جون رايس، الذي نقرأ أن اسمه كان دوماً في «آخر القائمة»، بالرغم من كونه واحداً من الأعضاء الرئيسيين، والمثير للاهتمام أنه يوصف بـ«الصبيّ»، والسبب هو صغر سنه، وملامحه «المؤنثّة» أو «الرقيقة»، ما جعله يلعب أدوار النساء الرئيسية في مسرحيات شيكسبير، إذ كان أول من لعب دور الليدي ماكبث، وكليوباترا، وكورديليا ابنة الملك لير.
لنفهم أكثر خصوصيّة رايس، لابد من النظر إلى الخشبة التي ظهر عليها، فمسرح الغلوب كان مشهوراً بتقنياته المسرحية المتطورة و«مؤثراته الخاصة» لإنتاج العواصف والرعد والأصوات المرعبة، ناهيك عن الاعتناء بالأزياء وأسلوب الأداء، اللذين كانا عاملين هامين في خلق «التصديق» لدى الجمهور، وتعليق الشكّ لديهم بأن ما يرونه «مسرح»، الأهم أن شيكسبير نفسه كان يكتب للخشبة، أي يكتب لأعضاء فرقته، مدركاً مهارات وقدرات كل واحد منهم. أما اللغة الشعريّة التي تنطق بها الشخصيات، ولا يتحدث بها أحد في الواقع، فكانت جزءاً من عملية التخييل والإيهام.

كان شيكسبير مدركاً أن «صبياً» سيلعب دور الليدي ماكبث، الشخصية المكتوبة لتكسر الدور الجندري التقليديّ، وجون رايس – إذا إن أردنا تخيّله – كان أشبه بـ«ملكة جرّ» أو دْراغ كْوين (drag queen): رجل يسعى لإتقان دور امرأة وتبنّي حركاتها وأسلوبها. لا نعلم إن كان أداؤه مبالغاً به أو لا، فالشهادة الوحيدة التي وصلتنا من تلك الفترة منحولة، ولا يؤخذ بمصداقيتها. لكن كيف يمكن أن يكون شكلهـ(ـا) وهي تنطق مونولوغها في المشهد الخامس من الفصل الأول من المسرحية الاسكتلنديّة الملعون من يذكر اسمها؛ المشهد الذي يـ(تـ)ـظهر فيه لأولّ مرة داخل قصرها، ونقرأ فيه:
تعالي أيتها الأرواح التي ترعى القتل والدمار، وانزعي جنسي عني [unsex me] هنا، واملئيني من قمة رأسي حتى أخمص قدميّ بالقسوة، علّني اطفح بها! أحيلي ما في عروقي إلى دم غليظ، وسُدّي الممرّ على كل رحمة، وانزعي مني الشفقة كي لا أتزحزح عن مأربي الرهيب، أو أقيم سِلماً بيني وبين تحقيقه! تعالي أيتها القسوة احتلي ثديَي المرأة هذين، وبدلي حليبهما بسمّ. هلموا يا وصيفات القتل حيثما أنتن، بكياناتكنّ التي لا تُرى، وارعينَ كل انتهاك للطبيعة! تعال أيها الليل الكثيف، وتسربل بأحلك ما في جهنم من دخان…
لا نعلم إن كانـ(ـت) الليدي ماكبث هنا تستدعي الأرواح، أو تنطق بتعويذة سحرية، أو تنفي «أنوثتها» الاستعراضيّة، خصوصاً أننا لا نعلم أيضاً اسم الليدي ماكبث، ولا كنيتها، ما نعرفه فقط هو «اسم الخشبة» الخاص بها. لكن يمكن لنا أن نتتبع سيرة رايس المتخيلة في رواية كنت كليوباترا لدينيس أبرامز، حيث يخبرنا الأخير عن الجهد الذي بذله «الصبي» رايس ذو الثلاثة عشر عاماً كي يتحول إلى «امرأة استعراضيّة على الخشبة» أو «دْراغ كوين» بالمعنى المعاصر. نقرأ كيف تتمرن على المهارات «المؤنثة»، كأسلوب المشي، ووضع المكياج، والتعامل مع أعضاء جسده الاصطناعيّة. الصبي الخجول الذي يرد اسمه في آخر أعضاء الفرقة، كان «ملكة» غاضبة على الخشبة، وكان سيدة النيل، والابنة المحكومة بالموت بسبب سذاجة أبيها. ربما كان جون رايس أشد إتقاناً للدور المؤنث الاستعراضي من الممثلات أنفسهن، كونه يبذل جهدين، جهد أداء المرأة، وجهد أداء الدور المسرحيّ.
ملك(ـة) الدْراغ: الفزع ومساحة الأمان الاستعراضيّة
يمثل الدْراغ كْوين والدْراغ كينغ تهديداً للمفاهيم التقليدية للـ«شكل» المرتبط بكل جنس. مساحة الاستعراض توفر مكان آمناً لظهوره ولعب دور مغاير للجنس البيولوجي، فتاريخ الاستعراض مليء بهذا النوع من «التنكر» و«الأداء»، واللذين لا يرتبطان بالميول الجنسية، بل بالاستعراض نفسه. الأضواء والاحتفاء بالجسد، والمبالغة في الزينة والتنكر، كلها تراهن على استعراض الظهور الأسلوبي (masquerading) المستمد من تاريخ الاستعراض نفسه ورموزه مثل فْريدي ميركوري، شير، الشحرورة صباح، داليدا… أولئك المؤدّين «الأكبر من العالم» – إن صحت الترجمة – من أيقونات الخشبة والهالات الآسرة للجمهور.
مساحة الأمان الاستعراضية لا ترى في الدْراغ تنكراً متقناً فقط، أو نفياً للدور التقليدي (undoing)، بل سخرية من مفهوم استعراض الدور الجندري إن تبنينا تعريف جوديث باتلر: «تكرار أسلوبي علني لمجموعة من الأفعال والرموز التي ترسّخها الأعراف الثقافية والاجتماعيّة». من هذا المنطلق، الدْراغ يقتبس من الأعراف والرموز، ويبالغ في أسلوب استعراضها، ويتجاوز الإتقان ليؤكد على أن الجندر «دور»، مهما اختلفت «مهارة» استعراضها؛ وبصورة أخرى هذا الدور هو شكل من أشكال التنكر التي يمكن التلاعب بها. إن مَسرَحَة الخصائص النسائية والرجوليّة تكشف أن جدية الدور الرسمي هشة، وقابلة للتعديل كلما تكرر الاقتباس أو سوء الاقتباس منها.
هذا الأمان، أي الحماية من العنف الرمزي والمادي، سببه اللاجديّة التي تفترضها خشبة الاستعراض، كما في مسابقات الدْراغ كْوين. فالأمر مجرد لعبة، تنتهي بانتهاء الأضواء – نظرياً – ولا تظهر في الحياة الواقعيّة، لكن هذا الحس باللاجديّة يحمل نوعاً من الاستخفاف – لا الاستخفاف بالمهارة المطلوبة لإتقان الاستعراض، بل بالادّعاء نفسه بأن أحدهم أو إحداهنّ «يؤدّي» دور غيره. هذا الاستخفاف يتحول إلى إحراج وسخرية، وعنف أحياناً، خارج مساحة الاستعراض، حيث الأدوار مرسومة بدقة وتفصل بينها الأعراف والسطوة الاجتماعيّة.

ما يجب لفت الانتباه إليه هو الاختلاف بين «مسابقات الدْراغ» وبين «اللبس المغاير» أو الكْروس دْريسينغ (cross dressing). ففي كلا الحالتين تبادل للأدوار الجندريّة عبر التنكر، لكن في حالات الكْروس دْريسينغ مثل الجدة ميديا (تايلر باري) أو الخالة نونسة (محمد هنيدي)، التنكر خدعة تتم ممارستها للتهرب من شيء ما أو اكتشاف شيء جديد، فالتنكر حيلة، وبسببها قد تظهر الكوميديا إثر عدم إتقان الدور، أو الجدية بسبب إتقانه، وهدف التنكر في النهاية إخفاء الهوية الأصلية ونفي الشبهة. لكن في حالة مسابقات الدْراغ، فإن إخفاء الخصائص الرجولية أو النسائيّة هو المهارة ذاتها، والتي يتم عبرها امتلاك الدور الجديد والفخر به بهدف الاستعراض ومَسرَحَة القدرة على نفي الأصل لصالح «الشخصيّة» الجديدة.
الإتقان والمبالغة على الخشبة هو ما يحكم الدْراغ. طبقات الثياب والمكياج من أجل «التحول» و«نفي» الفيزيائي لصالح الرمزي تتطلب مهارة من نوع جديد، وهي إتقان الدور بصورة فائقة، سواءً كانت امرأة تلعب دور رجل أو رجل يلعب دور امرأة. المهارات المطلوبة تتجاوز تلك الواقعية أو التي تفترض الإقناع، فالهدف الجمالي/الاستعراضي لا يتحقق فقط عبر إتقان الشخصية الجديدة، بل أيضاً عبر تحطيم الدور الأصلي وكشف «هشاشته»، وهذا ما نراه في عملية إخفاء القضيب، وإعادة تكوين الوجه، والتي تشبه النحت عبر المكياج لـ«إلغاء» المعالم البيولوجية المميزة. وهنا يتفعل الفزع لدى المشاهد التقليدي؛ ذاك الشعور بهشاشة الذات ومكوناتها التي تشكل الأدوار الرسميّة خارج الخشبة: رجل مقابل امرأة.
يمكن تلخيص هذا الفزع المشترك لدى الأدوار التقليديّة بالتالي: حين يمشي رجل بكعب عالٍ، مقاطعاً قدميه لتهتز إليتاه، فهو لا يشابه المرأة، لأنه لا يستطيع «فيزيائياً» مقاربة أسلوب مشي المرأة بسبب اختلاف التشريح العضلي. هو يقدم صورة متخيّلة، لا يمكن مقارنتها مع عارضات الأزياء مثلاً. ذات الفزع يظهر لدى الرجال، فذاك الذي يتمايل بكعبه العالي يمتلك «قوّة» لا يمتلكها الرجل العادي أو القياسي الذي يدّعي إتقان كل المهارات ويستخفّ بتلك الخاصة بالنساء.
أسرة الدْراغ الممتدة
يَـ(تُـ)ـهدّد الدْراغ كْوين الرجولة القياسيّة – حسب تعبير الفنان البريطاني والدْراغ كْوين غاريسون بيري – خارج مساحة الاستعراض الآمنة، حيث الإتقان غير مطلوب وهناك فقط استعراض للذات بالصورة الملائمة للفرد. وهنا يظهر الفزع مرة أخرى، ويُطرح سؤال: أيهما أشد إتقاناً للرجولة أو الأنوثة، البيولوجي المنصاع للعُرف أم «المقلّد» الذي يتلاعب بالعُرف ورموزه وينتقدها؟
يطرح بيري هذه التساؤلات بوصفه دْراغ كْوين في الحياة اليومية، حيث الجدّية مطلوبة من الآخر لدى التعامل معه، فبيري يرتدي أزياءه الخاصة، ويصمم أدوات وأغراضاً لا تتطلب مهارات الرجولة التقليدية (الخشونة والقوة والصرامة والانضباط)، كدراجة نارية من السهل التحكم بها وذات لون زهري وزينة برّاقة. يرى بيري أن قسوة المهارات الرجوليّة غير منطقيّة، وتلعب مؤسسات الرجولة (نادي الرياضة، الجيش، الشركة، الورشة…) دوراً محورياً في معاداة من لا يُتقن هذه المهارات. وهنا تظهر فئة الدْراغ كينغ (drag king) بوصفها أقليّة صامتة مختفيّة، ترفض أبرز أشكال الرجولة «الثياب»، ما يتسبب بخسارة أفرادها خارج الاستعراض معظم مكتسباتهم كـ«أفراد»: الاحترام، والزوجة، والعمل. وأهم الخسارات هي الاختفاء من الفضاء العام الجدّي.
لكن سواءً في مساحة الاستعراض أو في الفضاءات الجدّية، هناك تعويض لهذه «الخسارات» يظهر ضمن العلاقات بين ملوك وملكات الدْراغ. فهناك أسرة دراغ تحوي هرميّة مختلفة عن تلك التي تحويها الأسرة التقليديّة. هذه الأسرة البديلة تقف بوجه العنف الذي يواجهه من يتبنَّون هذا الشكل من الأداء، سواءً سراً أو على الخشبة، فهناك دوماً من يلعب أو تلعب دور الأم؛ أم لا تتدخل فقط في الأزياء وتُعين على تحمّل مشاقّ الاستعراض، بل أيضاً توفر الدعم العاطفي. هذه الأسرة – إن صحت التسميّة – تلعب دور الملجأ من العالم القياسي والمدرّب في عالم الاستعراض. في حالة جون رايس، كان الصبي الذي وقع في حبه يمثل «الأم»، وفي الأمثلة المعاصرة، هناك رو بول، مؤسس مسابقة الدْراغ الأشهر في العالم، والذي يمثل نموذج الأم عبر مزيج القسوة والتسامح في سبيل الاستعراض الذي يحكم العلاقة مع المتسابقين. ذات الأمر مع فيليبا باريس، زوجة غاريسون بيري، والتي تساعده في شراء أزيائه وتصميم شخصياته المتعددة.
هذه الأسرة البديلة، ذات الشجرة أحياناً، تمارس مهامَّ متعددة كالتبنّي والتسميّة، فأكواريا التي فازت الموسم العاشر من برنامج تلفزيون الواقع مسابقة روبول للدْراغ كانت «ابنة دْراغ» لشارون نيدلز الفائز(ة) بالموسم الرابع. ذات الأمر في عمليّة «التسميّة» التي ترتبط بالموضوعة و«الشخصية» التي يرغب أحدهم أو إحداهن تبنيها، وعادةً تكون «الأم» أو «الأخت» المسؤولات عن شرعنة الاسم.
يمتد الأمر نحو «المنزل»، ولو كانت الكلمات هنا مجازيّة. فلكل أسرة شجرة عائلة وأسماء أشبه بعشيرة ينتمون لمنزل أو عدة منازل، فنحن أمام علاقات بديلة للعالم الجدّي، تُنكَر ضمنها علاقات الدم التي تحكم الأمهات والبنات، وتُستبدَل بالاستحقاق والقدرة على الالتزام، والوفاء لـ«الأسرة» و«المنزل»
أن تحدّق بنسختك الفائقة
اشتُهر في العالم العربي في منتصف التسعينات المؤدي اللبناني باسم فغالي، والذي يوصف بالعديد من الصفات: مؤدّي مسرح فردي (مونولوجست)، مقلّد، جوكر. ترى الصحفية نضال أحمدية أن فغالي مصاب بجروح في الروح، ولا يعرف هويته؛ «لا ذكر ولا أنثى». لكن النسخة الإنكليزيّة من صفح باسم فغالي على ويكيبيديا تستخدم صفة «دْراغ كْوين» للإشارة إليه، وهو ما يتكرر في لقاءات مع ملكات دْراغ من لبنان يستخدمن هذه الكلمة لوصفه.
نستحضر تجربة باسم فغالي للحديث عن عرض-محاضرة «الموت على الخشبة» للقبرصي كريستودولوس بانايوتو، والذي يناقش فيها – كما هو واضح من العنوان – أشكال الموت على خشبة المسرح. يقترح بانايوتو «الموت الرمزي»، ذاك الذي يشاهد فيه أحدهم «شبيهه» أو «قرينه المتقن» يؤدّي على الخشبة، وكأن الإتقان في التقليد سخرية من الزمن الذي مرّ وسلب الأصل/الفنان مهارته. فالأصل خلق أيقونة خالدة، لكن الزمن الْتهَمَ وجهه وجسده، في حين أن الدور/الأيقونة لا تتأثر بتدفق اللحظات والأيام والسنين.
المقاربة السابقة رأيناها عام 1998. حينها، وفي مقابلة مع الفنانة صباح ذات الـ71 عاماً، اعتلى باسم فغالي خشبة المسرح، واختزل 50 عاماً من مسيرة صباح خلال عشر دقائق، وغنى 5 أغنيات مجتزأة. الأدوار الاستعراضيّة التي قدّمتها صباح طوال نصف قرن، لعبها كلّها فغالي أمام ناظرَيها بتقليد مُتقَن وساخر. الدْراغ كْوين هنا، أو النسخة المتقنة حين تلعب دور الأصل (صباح)، تُفعّل سلطة الزمن البيولوجي العدمي، خصوصاً أننا نشاهد خلف فغالي على الخشبة ساعة تدور، مقسَّمة لعقود من الزمن، 1960، 1970، 1980، 1990، 2000، يختار منها فغالي عشوائياً «العقد» الذي اختبرته صباح ويؤدي الدور الذي اشتُهرت فيه.
,
هناك قسوة في مشاهدة هذا التسجيل، إذ تتحول لعبة «ساعات، ساعات» إلى «عقود، عقود» لدى فغالي. هذه المفارقة يشير إليها فراس حمدان محتفياً بصباح في مقال بعنوان «ساعات ساعات: العمر كسلطة اجتماعية»، يرى فيه أن: «الساعات في حياة الصبوحة لم تكن فقط أداة يُقاس بها الزمن، فالعمر أيضاً كمحدد اجتماعي له فلسفة خاصة عندها. شكلت صباح عمرها وجعلته متغيراً ديناميكياً بذكاء. لم تسقط صباح في فخ العمر، ولم تظهر لنا عاجزة او مرهقة، بل حاولت ان تتحدى العمر بضحكاتها التي تأثرت حتماً بظهور خطوط العمر خلف الكاميرات ووراء الأضواء. هذه الديڤا كانت تذكر في مقابلاتها تفاصيل عن أحفادها وأبنائها وهي ترتدي فساتين ربما أكثر جرأة مما ارتدت في شبابها، فتُبرهن وهي في السبعين بأن ما تمارسه كعمرها هو ما تؤمن به».
جنود الخوف والمرح
الافتراض أننا «نؤدّي» و«نستعرض» أدوارنا علناً عبر أسلوب ورموز نتبناها، يعني أن هناك «أنا» تحاول أن تظهر للعلن بالصورة التي تراها مرضيّة، لكن الضوابط الجندريّة التي تحيط بهذا الأداء العلني تزداد صرامة ضمن مؤسسات الرجولة الجدّية، خصوصاً المؤسسة العسكرية، والتي تسحق الأنا وتوحّد أعضاءها شكلاً وفكراً لأجل الدفاع عن الأصدقاء وإبادة الأعداء.
المثير للاهتمام أن الرجولة التي تُنتجها المؤسسة العسكريّة، تمنع عادة سوء الاقتباس من العلامات المؤنّثة أو حتى تبنّيها، فالرجولة الصِّرفة في هذه المؤسسة تفترض الطاعة العمياء، والخشونة السامة، والعنف التأديبيّ، لكن تتسرب دوماً أشكال لسوء الاقتباس الذي يقوم به الجنود بصورة مازحة وغير جدّية. الأهم أن «سوء الاقتباس» هذا لا يشكل تهديداً للرجولة، وهذا ما يظهر دوماً بشكل صور وتسجيلات لجنود يتنكرون بإتقان أو سوء إتقان بثياب نساء «أثناء أداء الواجب الوطني»، وكأن الزي الموحد الذي يقضي على فردانيّة الجندي يجد خلاصه في الاستعراضية الملتصقة بالدور النسائي و«رموزه»، وكأن التنكر بزي امرأة يخلق فضاءً مازحاً يشكل نقيضاً لذاك الجدّي القائم على الطاعة والتماثل، وكأنه اقتباس للـ«الضعف النسائي» بمواجهة الشدّة المطلوبة في ساحة الاشتباك.

هذه الشكل من التنكر أو الكْروس دْريسينغ اشتُهر بين الجنود النازيين، إذ كشف الفنان الألماني مارتن دامن أثناء بحثه في أرشيف الحرب العالمية الثانية عشرات الصور لجنود نازيين بأزياء نساء يتمايلون في أحضان أقرانهم من الجنود المرتدين لزيهم الرسمي. الصور لم تؤخذ سراً، بل علانيّة، وضمن حفلات وولائم. ويرى دامن الذي جمع هذه الصور في كتاب يحمل اسم دراسات الجنود أن الزمن الطويل الذي قضاه الجنود بعيداً عن أسرهم كان سبباً في ذلك، وربما هي العزلة والحاجة للرقة، أو الهرب من فضاء «الجيش». ويضيف أنه لا يمكن إثبات أي شيء بخصوص الموضوع، لكن بالرغم من محاربة النازية للمثليين، هذه الظاهرة كانت مباحة، والتأويل هنا مفتوح، خصوصاً أننا لا نعرف أي شيء عن هؤلاء الجنود ولا حتى أسمائهم.
ذات الظاهرة نراها في سوريا لدى جنود النظام السوري في تسريبات مصورة تكشف هذا الشكل من الأداء، والذي لا يسعى للإتقان، بل يراهن على الفُحش واللعب البذيء، إذ نشاهد مجموعة من الجنود في غرفة جلوس، يرتدون ثياباً نسائية استعراضيّة، ويرقصون ويلعبون مع غياب سطوة المحيطين بهم، بل مع دعوة لـ«التصوير» والتشجيع والحفاظ على جو اللعب.
لا يوجد أي شعور بالحرج بين المؤدّين/الجنود حتى عند استخدام البنادق وصواعق الكهرباء كإكسسوارات في الرقص، وكأن الرجولة بأوج تجلياتها الخشنة (العسكر) لا يمكن المساس بها طالما أن ما يحدث هو في سياق اللعب غير الجدّي. لكن عبارة «الأسد أو نحرق البلد» على الخوذة العسكرية تتحول إلى علامة على الرعب. نحن لسنا أمام محاكاة ساخرة أو «پارودي»، فما نراه ليس استعراضاً، بل استراحة من زمن «القتال». مهارات وصورة الجندي السابقة واللاحقة على «اللعب» تتلاشى وتحل مكانها اقتباسات متعددة من أشكال الرقص و«الغواية» والتخفف من الجدّية.
لكن قراءة التعليقات على المقطع – بعيداً عن تلك الانفعالية – تكشف تشكيك البعض بحقيقة أنهم جنود نظاميون، بل ربما هم النقيض من ذلك: هي محاولة لتشويه صورة الجندي السوري النظامي؛ هذا التشويه – إن افترضنا حقيقته – قائم على أساس «التأنيث» والاتهام بالمثلية عبر أداء غير متقن لا تتضح معالمه، وهنا تظهر هشاشة الرجولة في عُقر مؤسساتها الرسميّة. فالرجولة وامتيازاتها قابلان للتلاشي أمام أي شكل من أشكال الاقتباس من المؤنّث، حتى لو كان مبتذلاً وغير جدّي.