كما تنّبهنا المفكرة حنا آرنت، فإن كلمة revolution، بدأت، في أصلها البعيد، من السماء؛ من علم الفلك ودوران النجوم والأفلاك في مداراتها، ربما على نقيض كلمة «ثورة» العربية التي بدأت، كما يمكننا الافتراض، من تفصيلة شديدة اليومية؛ الثور وخُواره.
للثور أهمية كبيرة في حياة الساميين القدماء. لقد ساعدهم ترويضه على الزراعة، حتى أنه سُمي في التوراة باسم «إيلِف»، أي الحيوان الذي جرى توليفه، أي ترويضه، ومن هذا المعنى، وبهذا الاسم، رُسم حرف «الألف»، في أول تجلّ له في الأبجدية السينائية، على شكل رأس ثور، وهو ما لا يزال بإمكاننا ملاحظته في رسمة حرف A اللاتيني، فقط لو قلبناه رأسًا على عقب.
ولكن للثور حالات أخرى، أبرزها الهياج، وهو ما قد يكون المعنى الذي اشتُقت منه كلمة «ثورة»، بأصدائها التي تذكّر بالخُوار وبالفَوَران، وبالتأكيد بـ«سَورات الانفعال».
يعني فعل «تار» في السريانية «حرّك»، أو «خلط»، والـ«تور» في السريانية، هو نفسه الـ«تور» المصري؛ الثور.
وفي كتابه «الاستشراق» يسخر المفكر إدوارد سعيد من المستشرق برنارد لويس، الذي يكتب تعريفًا للثورة بالعربية، رابطًا إياها، بلا سياق، بمعنى «نهوض الجمل» الوارد في مختار الصحاح، فيما يبدو بغرض تنفير القرّاء من مفهوم الثورة في العربية، عن طريق ربطها بمعنى الهياج الفارغ قليل الأهمية.
***
للكلمتين، «وطن» و«ثورة»، ظلال فصيحة بعض الشيء، وكلتاهما تُنبئان عن ثقافة من ينطقهما. كلتاهما كلمتان حداثيتان، وصلتا للمصريين عن طريق النخب الثقافية والحاكمة.
لا تشيع كلمة «وطن» في كلام عموم الناس، إذ تحل محلها ببساطة كلمة «مصر» أو «البلد»، أو أنها تأتي في سياقات تهكمية؛ أن يعمل المرء أمرًا ما «لله وللوطن» يعني أنه يعمله مجّانًا بلا مقابل.
أما كلمة «ثورة»، والمبتلاة بحرف الثاء غير المنطوق في العامية المصرية، فتُنطق كأنها «سَوْرة»، تُقلب ثاؤها سينًا كما يحدث في الكلمات التي عرفها المصريون عن طريق القراءة قبل أن يسمعوها بآذانهم، وهذا في مقابل الثاء التي تُقلب تاء في حالة الممارسات الأقرب لحياتهم اليومية، في مثل «التار» مثلًا، والمأخوذة من «الثأر»، والتي يسهل افتراض قرابة قديمة لها مع كلمة الـ«ثورة».
قبل يناير بسنوات طويلة، قال لي أصدقاء ريفيون إن «فلان بيسَوْرج»، أي يحتج ويعترض مُمارِسًا أداءات «ثورجية».
يعني هذا أنه في مقابل كلمة «وطن»، سهلة النطق ولكن غير الشائعة في كلام عموم الناس، فإن كلمة «ثورة»، ورغم ثائها الإشكالية، منطوقة بأريحية شديدة، وهذا ببساطة لأن «الوطن» مفهوم مجرد، حتى محبوه يعترفون بصعوبة شرحه، بل ويتساءلون هم أنفسهم عن كُنهه، فيما «الثورة» حدث ملموس، عرفه المصريون جيدًا وسمعوا كل حكاياته، حتى من قبل أن يشهدوا تحققه بأعينهم.
***
كانت هناك بالأصل «ثورة 52»، كنا نعرف الكلمة جيدًا، وكان يتآلف فيها معنيا «الثورة» و«الوطن» في الوقت نفسه.
كانت هناك أيضًا الثورة العُرابية وثورة 1919 وثورة الزنج وثورة القرامطة والثورة على السفينة بونتي، ولكن إذا ذُكرت كلمة «ثورة» وحدها، فإن هذا كان ليعني حصرًا ثورة 1952.
في الخمسينيات والستينيات نفسها، أشارت كلمة «الثورة» لزمنين مختلفين، لحركة الضباط التي جرت في فجر 23 يوليو 1952، كما لعملية مستمرة من التحديث، طريق طويل نحن ماضون فيه والله أعلم متى سينتهي. لم تكن الثورة بهذا المعنى الأخير مجرد فعل ماض، وإنما مضارعًا مستمرًا للأبد.
هذا المعنيان، الفعل الماضي والمضارع المستمر، كانا هما أيضًا ما شاعا لِكلمة «ثورة» في السنوات القليلة التي تلت 25 يناير: الثورة من ناحية هي الـ«18 يوم»، التي نجحت في مطلبها الأساسي بتنحية مبارك، ولكن، وطالما أن الأهداف الأخرى لم تتحقق، فإن «الثورة مستمرة».
في انتخابات مجلس الشعب التي جرت في خريف 2011، وفي استعادة متجددة لجدل الوطن والثورة، تنافست كتلتان على أصوات العلمانيين في مصر، تحالف «الكتلة المصرية»، وتحالف «الثورة مستمرة». وبينما كان واضحًا أن «الكتلة المصرية» تمثّل غالبًا مزاجًا علمانيًا محافظًا، فقد مثلّت «الثورة مستمرة» مزاجًا علمانيًا ثوريًا جديدًا وشابًا.
كانت هذه هي النغمة ساعتها؛ يقول المحافظون إن لها كل الاحترام ولكنها اندلعت وانقضت وآن الأوان للالتفات للوطن، ويرد عليهم الثوريون بالقول لا بل هي مستمرة؛ كل فريق يحاول دفع الثورة نحو الزمن الذي يحب أن يراها فيه.
***
على سبيل الطرافة اللغوية، تُترجَم «الثورة» في الفارسية بكلمة «انقلاب»، وتعني الـ«ثورة» في العبرية «مهپِخاه»، بينما تعني «انقلاب» هناك «هفيخاه»، وكلتاهما من جذر «هفخ» أي: قَلَب.
في سنواتها الأولى، سميت «يوليو 1952» بـ«حركة الجيش» و«الحركة المباركة»، قبل أن يُحسَم الأمر على يد المفكّر طه حسين، كما يقال، ويقال أحيانًا كذلك سيد قطب، لصالح كلمة «ثورة».
نشأنا على كلمة «ثورة» وفي أذهاننا معنيان إيجابيان متزامنان لها، معنى «انقلاب نظام الحكم»، كما في 1952، ومعنى «الهبة الشعبية»، كما في ثورة 1919 وكما في الثورتين الفرنسية والبلشفية، وأخذ المعنيان يتباعدان في أذهاننا إلى أن بدأنا، ربما في السنوات الأخيرة ما قبل يناير 2011، ننتبه أن 52 لم تكن «ثورة» وإنما «انقلابًا»، إذ لم يكن فيها شيء من الهبة الشعبية.
يقول أحد أفراد الشعب في مسرحية «تخاريف» للمؤلف لينين الرملي (1988): نستنّى ونشوف مين اللي هيحكمنا، لو إنسان وِحِش، يبقى انقلاب، ولو واحد كويس، تبقى ثورة.
قد يكون هذا أدق تعبير عن معضلة «ثورة ولا انقلاب»، والتي تعني أحيانًا، وبشكل حصري، «جيد أم رديء»، «هل أنا معه أم ضده»، وهو نفس ما تعنيه أحيانًا، بالمناسبة، معضلة «وطني أم غير وطني». في كل من كلمتي «الثورة» و«الوطن» تشوّش سُحُب القداسة على المعاني التقنية الواضحة.
أو أن هذا ما حدث، ربما، حتى يوم 25 يناير 2011، إذ انضبط يومها مفهوم «الثورة» في أذهاننا تقنيًا، لم يفقد قداسته، ولكنه استمدها هذه المرة من الأسفل، من معنى هبوب الشعب.
سُميت يناير 2011 بـ«الثورة» من يومها الأول، كنا جاهزين للاسم منذ ثورة تونس وهروب بن علي، وحينما اعترض أعداء يناير على تسمية «ثورة» لم يُقدِّموا بديلًا موحدًا، وإنما أسماء عدة وتعلو فيها أصوات الندب والمناحة، مثل المؤامرة أو النكسة أو الوكسة، ما فتح الطريق لاسم «ثورة 25 يناير» للثبات والترسخ والانطلاق في سماء الكلام.
أما المسكينة 30 يونيو، فقد سُميت بـ«الثورة» منذ ما قبل يومها الأول، بقرار من الأعداء بسبب تنافسهم مع يناير، ومن ناحيتنا نحن لأن «الثورة مستمرة»، ولكن رغمًا عن هذا، فسرعان ما أخذ اسم «الثورة» فيها يسقط من على ألسن الناس، لا ينطقه الواحد الآن إلا متهكمًا، أو لو أراد إعطاء رسالة واضحة بأنه مؤيد للسيسي، مثل الصحف الرسمية مثلًا. لتجنب جدل «ثورة ولا انقلاب»، يكتفي الناس الآن بتسميتها بـ«30 يونيو»، مجرد تلاتين يونيو تائهة وضائعة وحزينة.
ولا تزال معضلة ثورة/ انقلاب 23 يوليو غير محلولة.
لا تزال 52 على المستوى الرسمي «ثورة»، بل «الثورة» المُؤَسِّسة لـ«الوطن»، فيما يُسمّيها منتقدوها «انقلابًا» أو لا يسمّونها من الأساس، ولكن في كل الأحوال، فلا يُعنى الكثير من الناس بهذه المشكلة، لأنهم لا يُعنون بتذكرها من الأساس، حتى ليبدو اسم جمال عبد الناصر، بالسلب أو بالإيجاب، أشْيَع وأبرز وأدلّ على الحقبة الزمنية، لدى الجميع، من اسم «ثورة 1952».