عزيزي السيّد فون مولو،
أولاً يتوجّب عليّ أن أشكرك على تحيّتك الوديّة بمناسبة يوم مولدي، وكذا على رسالتك المفتوحة إليّ، التي قدّمتَها إلى الصحافة الألمانيّة والتي وجدت بعضُ مقاطعها طريقَها إلى الصحافة الأميركيّة أيضاً. في هذه الرسالة المفتوحة تتبدّى، بوضوح أشدّ وإلحاح أكبر مما في رسالتك الخاصّة، الرغبةُ، بل المُطالبة المُلزمة، بعودتي إلى ألمانيا والعيش هناك: «لأجل العمل وإسداء النّصح». في الواقع لستَ وحدك من وجَّه إليَّ هذا النداء، بل فعلته أيضاً إذاعةُ برلين المُدارة من قبل الروس، وكذا تنظيم الأحزاب الديمقراطيّة الألمانيّة المتّحدة، معلّلين ذلك، كما قيل لي، بالحجّة المُستهلَكة القائلة بأنّه «ثمّة مهمّة تاريخيّة يمكنني إنجازُها في ألمانيا». حسناً، ينبغي أن أكونَ الآن مبتهجاً، لأن ألمانيا صارت تريدُني ثانيةً، لا تريدُ كتبي فحسب بل تريدُ شخصي كذلك؛ لكن ثمة ما يُقلقُني ويضايقُني في هذه النّداءات، ثمّة ما ليس منطقيّاً، بل حتّى ليس عادلاً، وليس ناضجاً تماماً، يَظهرُ لي من خلالها. أنت تعرفُ تماماً، يا سيّد فون مولو، بأن ألمانيا اليوم، في هذه الظروف شبه الميؤوس منها التي أوصلَ شعبُنا التّعسُ نفسه إليها، بأمسّ الحاجّة إلى «العمل والنّصح». لكنّني أشكّك في أنّ يكون رجل، قد غدا في الأثناء عجوزاً وحَفَرَ ذلك الوقتُ العصيبُ أثره على عضلة قلبه، قادراً بعد، بشكل شخصي مباشر، بوساطة وجوده الجسديّ، على المساهمة بفاعليّة في تقويم حال الناس من انكسارهم الشديد الذي وَصفتَه أنتَ بتلك الطريقة المؤثّرة. وبالرغم من أنّي لم أفكر في الأمر جيداً بعدُ، لكن يبدو لي أن ثمة أيضاً مشقّات تقنيّة ومواطنيّة وروحيّة تقفُ عائقاً في دربِ “«عودتي». أثمة إمكانيةٌ لمسح هذه السنوات الاثنتي عشرة عن اللوحة، والتصرّف، تالياً، كما لو أنها لم تكن؟ فحسبُ صدمة العام ثلاثة وثلاثين، حين فُقدَت أسس الحياة، من مسكن وأرض وكتب وذكريات وأملاك، إلى جانب تلك الإجراءات المؤسفة في البلد من ترحيل وإقصاء، حسبها هذه عصية بما يكفي، حسبها هذه خاطفة للأنفاس. لن أنسى في حياتي ذاك التحريض الدمويّ الجاهل ضد مقالتي حول فاغنر، الذي قامت به إذاعة ميونخ والذي بيّنَ لي أن سبل العودة قد سُدّت أمامي تماماً؛ سعيي الدؤوب للعثور على كلمات، لشرح حالتي، محاولاتي للكتابة والرد، «الرسائل إلى الليل»، كما سمّى أحد أصدقائي الراحلين الكثُرِ؛ رينيه شيكيليه، تلك المونولوجات الخانقةاقترحَ شيكيليه (1883-1940) على توماس مان أن يسمّي رسائله المدوّنة في السنوات الأولى من وصول هتلر إلى السلطة بـ: «رسائل إلى الليل».. شاقّاً بما يكفي كان أيضاً ما تلا ذلك من حياة التجوّل من بلد إلى آخر، القلق بشأن جواز السفر، الوجود المتنقّل بين الفنادق، في حين كانت أنباء العار تتسابق إلى الآذان من تلك البلاد التي غدت تائهة، متوحشة وغريبة تماماً. إنكم لم تعيشوا هذا كله، أنتم الذين عاهدتم «الفوهرر الكاريزماتي» على الوفاء (كم مُفزع ذلك، كم مُفزع، يا للثقافة الغريقة!)، وأَنجزتم أعمالكم في ظل ثقافة غوبلز. لا أنسى بالطبع أنكم عشتم لاحقاً ما هو أكثر شناعةً، بينما أنا نجوتُ منها؛ لكنكم لم تَخبَروا «الربو القلبييستخدمُ مان التعبير التالي بالألمانيّة لوصف مشقّة المنفى: das Herzasthma des Exils، أي الربو القلبيّ للمنفى، والربو القلبيّ مرضٌ يصيبُ عضلة القلب فيسبّب ضيقاً في التنفُّس. للمنفى، الاقتلاع من الجذور، أهوال التشرد المُفزعة».
أحياناً كنتُ أغضبُ بسبب الامتيازات التي كنتم تتمتّعون بها. كنتُ أجدُ فيها رفضاً للتضامن. لأنّ الأنتلجينسيا الألمانية، وقتذاك، أي كل من كان معروفاً محلياً أو عالمياً، من أطباء وموسيقيين ومعلمين وكتاب وفنانين، لو وقفت وقفة رجل واحد في وجه ذلك العار، لو أعلنت الإضراب العام، أو غادرت البلاد، – لترك ذلك أثراً في الداخل والخارج، وربما سبّب تغيّراً في مسار بعض الأمور التي حدثت فيما بعد. الفرد الذي، مُصادفةً، لم يكن يهودياً كان يجد نفسه على الدوام مصطدماً بالتساؤل التالي: «لماذا حقاً؟ هل الآخرون يعملون إلى جانبهم، لا بد، إذن، أن الأمر ليس بتلك الخطورة». قلتُ أحياناً كان يتملّكني غضبٌ، غير أنّي لم أحسد أياً منكم، أنتم الذين بقيتم في الداخل، ولا حتى في أعظم أيامكم، إذ كنتُ على دراية تامّة بأن تلك الأيام العظيمة ليست إلا زبداً دامياً سرعان ما سيتلاشى. لم أحسد أحداً غير هيرمان هيسه، الذي وجدتُ في التعامل معه، خلال الأيام والأشهر الأولى، قوةً وسلوى، حسدتُه لأنه كان حراً منذ زمنٍ بعيد، إذ نأى بنفسه في الوقت المناسب، مُعللاً ذلك بطريقة سليمة تماماً: «من عساهُ ينكرُ أن الألمان شعبٌ عظيمٌ وثريٌ ومهم؟ لعلّ ملح الأرض يفعلُ؟ لكن كأمة سياسية – فمستحيل! لا أريد أن تربطني به، بصفته هذه، أية صلة على الإطلاق». كان هيسه يعيش في أمانٍ جميل في منزله الكائن في مونتاغنولا (في سويسرا)، حيث كان يلعب في حديقته الخلفيّة البوتشيا (Boccia) مع ضيوفه المُضطربين.
على رسلِها راحت أموري تهدأ وتنتظمُ من جديد. في البدءِ وجدتُ مسكناً في فرنسا ومن بعدها في سويسرا؛ رانَ هدوء نسبي، ومن رحم تلك الوحشة طفقَ ينمو إحساسٌ بالاستقرار والانتماء، وعدتُ، ثانية، إلى عملي الذي خِلتُهُ قد ضاع من يدي إلى الأبد. سويسرا، البلدُ المضيافُ عبر التاريخ، كانت واقعةً تحت ضغوط وتهديدات جارٍ قوي يُلزمها على الحياد حتّى في المسائل الأخلاقية، فكانت تُبدي -وهذا مفهوم بطبيعة الحال- علامات الحيرة والخوف وعدم الارتياح من وجود ضيف بلا وثائق وعلاقاته مع حكومة بلاده سيّئة للغاية، لذلك كان على الدوام مُطالباً بــ «الكياسة»؛ إلى أن جاءت الدعوةُ من الجامعة الأميركية، فغدوتُ حينها، فجأةً، في تلك البلاد الحرّة الواسعة حيث لم يكن ثمة أيّ حديثٍ حول «الكياسة»، بل قُوبلتُ بلطافةٍ واضحةٍ مُعلنةٍ دونما قيد أو شرط، مبتهجاً، طليقاً، تحت شِعار: «شكراً سيّد هتلر»؛ أجل، يا سيّد فون مولو، لديّ أسباب كثيرة تجعلني شاكراً لهذه البلاد وتدفعني لأعبّر عن شُكري لها.
إنني اليوم مواطنٌ أميركي، وسبق لي أن صرّحتُ، قبل وقت طويل من الهزيمة النكراء التي مُنيت بها ألمانيا، في السرّ كما في العلن، بأني لستُ أنوي أن أدير ظهري لهذه البلاد ثانيةً. أبنائي، اثنان منهم يخدمان في الجيش الأميركي، جذورهم ضاربة في هذه الأرض، وأحفادي الناطقون بالإنكليزية يترعرعون من حولي. بل حتّى أنا نفسي قد تجذّرتُ في هذه الأرض من نواح عدة، إنّي مرتبط بها، هنا وهناك، بميثاق شَرَفيّ – مرتبطٌ بواشنطن، بالجامعات القيّمة في مختلف الولايات التي منحتني درجات دكتوراه فخرية. كما بنيتُ لي، هنا، على هذا الساحل الرائع الذي يستنشق المستقبل ومناخُه يوائم سِني، منزلاً أحبُّ أن أُكمِلَ داخل أسوارهِ عمل حياتي، ممتناً لكل نهار مشمسٍ يبزغُ، لكل أضواء العالم الملونة من حولي – متمتّعاً بجوٍّ من القوة والعقلانية والوفرة والسلام. لذا لا أجدُ مبرراً لأن أحرمَ نفسي من هذه المزايا التي جلبها لي القدر، بعد أن ذقتُ مرارته حتّى آخر قطرة. لستُ أجد لذلك مبرراً، بالمقام الأول، لأنّي لا أرى تلك الخدمةَ التي في وسعي تقديمها للشعب الألماني – والتي لا أستطيعُ بالطبع تقديمها من هنا من ولاية كاليفورنيا.

أن يكون قد حدث ذلكَ كلّه بتلك الصورة التي جرت، فذا ليسَ فِعلتي بالتأكيد؛ بل نتيجةٌ من نتائج شخصيّة وقدر الشعب الألماني – هذا الشعب الغريب بما يكفي، المُثير للانتباه بصورة تراجيديّة تدعو المرءَ لأن يتقبّل منه بعض الأشياء، بل وحتّى أن يحتملَ بعضها الآخر، لكن، والحال هذه، يتوجّب علينا الآن أن نقرّ أيضاً بنتائج ما حدث، وألّا نغضّ الطرفَ عنها بعبارات سخيفة من قبيل: «عُد، لقد تم الصفح عن كل شيء».
إن الاغترار بالنفس لا يمتُّ لي بصلةٍ؛ وأعرفُ أنه كان هيّناً علينا، نحن الذين في الخارج، أن نلزمَ العفّة ونقولَ آراءنا في هِتلر. كما أني لا أرفعُ حجراً في وجه أحد، لكنّي فحسبُ متردّد بعض الشيء و«أخشى الغرباءَ» استعمل مان المفردة الألمانيّة «fremdeln»، التي تدلُّ على طفل يخشى البالغين الغرباءَ ويحتاطُ منهم.، كما يُقال عن الأطفال. أجل، لقد غدت ألمانيا بالنسبة لي، خلال هذه السنوات، غريبةً بحقّ. إنّه بلدٌ مُخيف، عليكَ أن تقرَّ بذلك. كما أعترفُ بأنّ خشية تتملّكني من الأنقاض هناك – الحجريّة منها والبشريّة. مثلما أخشى أن يكون التفاهم بين مَن شاهد رقصة الشيطان من الخارج، وبينكم، أنتم الذين رقصتم معه وقدَّرتُم السيّدَ الشيطان، لم يزل بعيد المنال. وثمّ كيف لي ألا أتحسّسَ من سيل الرسائل التي تصلني من ألمانيا، الرسائل المليئة بمشاعر مخبَّأة منذ أمدٍ بعيد! إنها مغامرةٌ قلبيّةٌ مؤثّرةٌ بحقّ! لكن، ثمّة ما يُعكّر فرحتي بها أيضاً؛ ليس فقطِ بسببِ التفكير في أنّها ما كانت لتُكتَبَ قطُّ لو أن هِتلر قد انتصر، إنما أيضاً بسببِ السذاجة وانعدام الحسّ الظاهرين فيها، بل وحتى تلك المباشرة الساذجة في التّواصل وكأنّ هذه الأعوام الاثني عشر لم تحدث أبداً. ثمة أيضاً كتبٌ تصلني، هل أعترف بأني لست مُبتهجاً برؤيتِها وبأنّي أضعها بعيداً عنّي فور وصولها؟ قد يكونُ الدافع الكامن وراء فعلتي هذه خرافيّاً، إلا أنّي أجدُ أنّ الكتبَ الصادرة في ألمانيا بين عامي 1933-1945 أقلّ من أن تكون عديمة القيمة، بل حتّى لا يمكن حملها بين اليدين؛ رائحة الدم والعار لم تزل ملتصقة بها، ويجب أن تُسحَق سحقاً.
لم يكن ممكناً القيام بعمل «ثقافي» في ألمانيا، بل كان مستحيلاً في ظل تلك الأحداث التي نعرفها جميعاً، إذ كان يعني، بالضرورة، تجميل ما كان يجري وتزيين الجرائم. ومن الآلام التي كنا نقاسيها كانت مشاهدتنا كيف أن العقل والفن الألمانيين يُستخدَمان درعاً وقيادةً لذاك الفجور المحض. من المستحيل ألّا يكون المرءُ قادراً على تخيّل أن ثمّة وظائف أشرف من تصميم المسرح لمهرجان فاغنر في بايرويت الهِتلريّةأولى النازيّون أهمية كبيرة لمهرجان فاغنر في بايرويت، والذي كانت تُديرهُ فينفريد فاغنر، زوجة ابن ريتشارد فاغنر، الداعمةُ للحكم النازي والمُقرّبة من هتلر. كما كان لهتلر، المولع بموسيقا فاغنر والمُحبّب عند آل فاغنر، مساهمات مؤثرة في عمليّة تصميم خشبة المسرح وغير ذلك من تفاصيل متعلّقة بصورة المهرجان. – ياهٍ، كم يجب أن يكون المرء عديم الإحساس ليفعل ذلك. أمّا السفر بتصريح من غوبلزكان غوبلز وزير الدعاية في ألمانيا النازية وأحد المقرّبين من الزعيم النازي أدولف هتلر. إلى هنغاريا أو إلى بلد ألماني-أوروبي آخر لأجل تقديم محاضرات منمّقة بغرض البروباغندا الثقافيّة للرايخ الثالث، فلن أقول إنّه مُعيب، فقط سأكتفي بالقول إني لا أستطيع فهمه، وإنه ثمة أناسٌ أخافُ رؤيتهم مرةً أخرى. المايسترو الذي أرسله هِتلر ليقدم موسيقا بيتهوفن في زيورخ، باريس أو بودابيست، حمّلَ نفسه ذنب كذبة شنيعة بادّعائه أنه مجرّد موسيقي وأن كلّ ما يصنعه هو الموسيقا فحسب؛ لكن كذبته الأساسيّة هي، قبل كلّ شيء، تقديمُه لهذه الموسيقا على أرضِ الوطن، إذ كيف لم تكن مقطوعة بيتهوفن «فيديليو» ممنوعةً في «ألمانيا السنوات الـ 12»، هذه الأوبرا المُخصّصة ليوم التحرّر الألماني؟ إنها لفضيحة شائنة أنها لم تكن قد مُنِعَت، أنه كان ثمة عروض رفيعة المستوى تُقدّمها، أنه كان ثمة مغنون يؤدونها وموسيقيون يعزفونها وجمهور يصيخ السمع إليها، إذ أية بلادة يحتاجُ المرء حتى يستمع إلى «فيديليو» في ألمانيا هيملركان هيملر قائد وحدات النخبة النازيّة «Schutzstaffel»، وأحد أبرز المسؤولين المُباشرين عن المحارق النازيّة. دون أن يغطي وجهه بكفيه ويهرعَ مغادراً الصالة!
في الحقيقة تصلني أحياناً بعض الرسائل من ذاك الوطن الغريب المروّع عبر رُقباء وملازمين أميركيين، ليس من شخصيات اعتبارية فحسب، بل أيضاً من أناس عاديين وشبان، والغريب أن لا أحد من هؤلاء يقترحُ عليّ العودة سريعاً إلى ألمانيا. «ابق حيث أنت!»؛ هكذا يقولون ببساطة. «اقض خريف حياتك في وطنك الجديد، الأكثر سعادة! فالحياةُ هنا مُحزنة للغاية …». مُحزنة؟ آه لو أنها كانت كذلك فحسب، وليست بعدُ مليئةً، إلى حدٍّ لا يمكن تفاديه، بالشرّ والعدائيّة.
كأنّما حصلتُ على غنيمة حين وصلتني في الآونة الأخيرة من جهة أميركية نسخةٌ قديمةٌ من المجلة الألمانية Volk im Werden تعود لعام 1937، صادرة لدى دار Hamburg Hanseatische Verlagsanstalt، من قِبَلِ بروفيسور نازي رفيع والدكتور «ه. ك.». لم يكن اسمُ البروفيسور النازي Krieg، بل Krieck، بـ (ck).يشيرُ توماس مان هنا إلى تشابه وقرب اسم البروفيسور النازيّ «Krieck» من المفردة الألمانية «Krieg» التي تعني «الحرب». لقد كانت قراءةً خائفةً بالفعل. كيف لشعبٍ يُقدَّمُ له هذا النّوع من المخدّرات لمدة 12 سنة أن يعيشَ حياة هيّنةً! وقلتُ في نفسي: لا بدِّ أن يكون لي الكثير من الأصدقاء هناك، مسنّين وشبّاناً؛ لكن أيضاً الكثير من الأعداء؛ صحيحٌ أنهم سيكونون أعداء مغلوبين، لكن هؤلاء بالتّحديد هم الأسوأ والأكثر شرّاً.
ومع ذلك يا عزيزي السيّد فون مولو، فهذا كلّه ليس إلا جانباً واحداً للمسألة، والجانبُ الآخر يُطالبُ أيضاً بحقّه – حقّه في الكلام. الفضول والهيجان اللذين أتلقّف بهما كلَّ خبر قادم من ألمانيا، أكان ذلك بصورة مباشرة أم غير مباشرة، وحزمي في تفضيله على سواه من أخبار عالمنا الكبير الذي أخذَ يتعاملُ ببرود شديد مع مصير ألمانيا مُنحسِر الأهميّة، ذلك كلّه يجعلني أعي، مرّة بعد مرّة، أيّة وشيجة متينة تربطني بهذا البلد الذي «نزعَ عنّي جنسيته». إنني الآن مواطن أمريكي-عالمي، وهذا حسنٌ بحق. لكن كيف لي أن أنكرَ جذوري الضاربة في تلكَ الأرض، وبأنّي، رغم تقديري الوافر لكلّ ما هو غريب، أحيا وأنسجُ عملي داخلَ التراث الألماني، حتى وإن لم يُتِح الزمنُ لأعمالي أن تكونَ غير صدى عليلٍ فيه شيءٌ من الباروديا لكلّ ما هو ألماني عظيم.
لن أتوقّف يوماً عن النّظر إلى نفسي بوصفي كاتباً ألمانيّاً، بل حتّى في السنوات التي راجت فيها كتبي بالإنجليزيّة بقيتُ وفيّاً للغة الألمانيّة – ليس فحسبُ لأنّي كنتُ قد بلغتُ عمراً لا يُعينني على التحوّلِ لغويّاً، إنّما أيضاً عن وعيٍّ بأنّ لمُنجَزي مكانةً مُتواضعةَ في التاريخ اللغويّ الألمانيّ. روايتي حول غوته المكتوبة في أحلكِ أوقات ألمانيا، والتي هُرِّبَت إليكم بعض نسخِها، ليست، بحالٍ، وثيقةَ لنسيانٍ أو قطيعة.يقصد هنا روايته لوته في فايمار، التي كُتبَت وصدرت عام 1939 في المنفى. كما أني لستُ في حاجة لقول: «يعتريني خجلٌ من أوقات الراحة التي حظيتُ بها، لأنّ التألمَ معكم كان أشدّ نفعاً». لم تترك لي ألمانيا أيّة راحةٍ. لقد «تألمتُ معكم»، ولم يكن من المُبالغةِ بشيءٍ حين تحدّثتُ في «رسالتي إلى بون» عن القلق والمشقّة، عن المحنة الروحيّة والفكريّة، التي «لم أستطع، خلال أعوام أربعة من حياتي، أن أتحرّر منها ساعةً واحدةّ فحسب، وكان يتوجّبُ عليّ مواجهتها في كلّ مرّةٍ لأتمكّن من إنجاز عمليّ الإبداعيّ». في أحيان كثيرة لم أحاول قطُّ مواجهتها؛ ولعلّ تلك المراسلات الإذاعيّة الخمسين (أم أنها أكثر من ذلك؟)، التي طُبِعَت مؤخراً في السويد، – تلك المناشدات المتكررة بلا انقطاع – تشهدُ بأنّي في كثيرٍ من الأحيان كنتُ أجدُ أن ثمّة أمراً آخرَ أشدَّ إلحاحاً من «الفن».
قبل بضعة أسابيع ألقيتُ في مكتبة الكونغرس في واشنطن محاضرةَ تحت عنوان: «ألمانيا والألمان». لقد كتبتُها بالألمانيّة وسوف تصدر في العدد القادم لمجلة Neuer Rundschau، التي أُعيد إحياؤها في حزيران 1945. لقد كانت محاولةً لكي أبيّن لجمهور أميركي مثقف، من وجهة نظر نفسانيّة، كيفَ أمكن لكلّ ذلك أن يحدثَ في ألمانيا، وكم تعجّبتُ من استعدادهم الرزين لتقبُّل تفسيراتي تلك إثرَ حرب مروّعة بالكاد حطّت أوزارها. لم يكن هيّناً بالطبع أن أجد سبيلاً بين تبرير غير ملائمٍ وتنصُّلٍ ما كان ليناسبني بدوره قطّ؛ لكني، إلى حد ما، أفلحتُ في ذلك. لقد تحدّثتُ عن الحقيقة الرحيمة، حقيقة أنّ على هذه الأرض غالباً ما ينبثقُ الخيرُ من الشرّ – وكذا عن الحقيقة الشيطانيّة بأنّ كثيراً ما ينبثقُ الشرُّ من الخير. كما تطرّقت، باختصار، إلى تاريخ «الروحيّة» الألمانية، ورفضتُ النظرية القائلة بثنائية ألمانيا؛ واحدة خيّرة وأخرى شريرة.

إن ألمانيا الشريرة، أفصحتُ، هي ذاتها ألمانيا الخيّرة التي ضلّت طريقها، هي ذاتها ألمانيا الخيّرة في المحنة، هي ألمانيا في حالة من الذنب والانهيار.
كما ذكرتُ بأنّي لستُ هنا لأشيدَ بنفسي أمام العالم، تبعاً لتلك العادة الخسيسة، كممثّل لألمانيا الخيّرة، النبيلة، العادلة ذات الفستان الأبيض. ولا شيء على الإطلاق مما حاولتُ قوله لمُستَمِعيّ حول ألمانيا جاءَ من مجرّد معرفة غريبة باردة أو محايدة؛ إذ أحملُ ذلك كلّه في داخلي؛ لقد خَبِرتُه بجسدي الشخصيّ.
ربما أمكنَ تسمية ذلكَ بإعلان التضامن – في أكثر اللحظات صعوبةً. لكنّه لم يكن، قطّ، تضامناً مع الاشتراكيّة القوميّة؛ إنما مع ألمانيا التي أدمنَتها وأبرمت تحالفاً مع الشيطان. تحالفُ الشيطان هو إغواءٌ ألماني تقليديٌّ عميق، وأيّة روايةٍ ألمانيّة مُستوحاة من عذابات السنين الأخيرة، من عذابات ألمانيا، لا بدّ لها أن تتناول تحديداً هذا التحالف الوحشيّ. لكن حتى في أعظم أعمالنا الشعريّة يتمُّ، في نهاية المطاف، خداع الشيطان بروح فاوست الفرديّة؛ لذا دعونا نبتعد عن تخيُّل أنّ ألمانيا قد جاءت بالشيطان بصورة نهائيّة. إنّ الرحمة دوماً أسمى من كلّ عقدٍ مكتوب بالدّم. إني مؤمنٌ بالرحمة، وكذا بمستقبل ألمانيا مهما دعا حاضرها إلى اليأس وبدا خرابها عميماً لا أمل يُرتجى منه. ولنكفّ كذلك عن التحدّث حول «نهاية التاريخ الألماني»! إذ لا يمكن بحالٍ مطابقة ألمانيا مع هذه المرحلة التاريخيّة المظلمة القصيرة التي تحمل اسم هتلر، ولا حتى مع مرحلة الإمبراطوريّة البسماركية البروسيّة-الألمانيّة قصيرة الأمد بدورها، بل ولا يمكن حتى مطابقتها مع تلك الحقبة التي استمرت فحسب لقرنين من الزمن والتي بوسعنا أن نعمّدها باسم فريدريش العظيم. إنّها، الآن، في طور اتّخاذ شكل جديد وايجاد منفذ إلى وضعيّة حياتيّة جديدة من شأنها أن تجلب، بعد آلام التحوّل والانتقال الأوليّة، مزيداً من السّعادة والكرامة الحقّة، وتكون أكثر انسجاماً مع حالِ الأمّة وحاجاتِها.
هل بلغَ تاريخُ العالم نهايته؟ لا، بل إنّنا نعيشُ الآن أكثر مراحله حيويّة، وليس التاريخ الألماني إلا جزءاً مرتبطاً به. صحيحٌ أيضاً أنّ سياسات القوة ما برحت تشكّل تحذيراً ملحّاً لأية توقّعات مبالغة فيها، لكن، ومع ذلك، أليس ثمة أمل بأن الخطوات الأوليّة ستجري لا محالة في اتجاه وضعيّة عالميّة جديدة تذوب فيها الفردانيّة الوطنيّة العائدة للقرن التاسع عشر، لتتلاشى بعدئذ؟ اقتصاد عالمي، تضاؤل قيمةِ الحدود السياسيّة، «نزع الطابع السياسيّ» بدرجة معيّنة عن كيان الدولة، إيقاظ الوعي البشريِّ بوحدتهم الفعليّة، التصوّر الأولي للدولة العالميّة، كيف يمكن لهذه النزعة الإنسانيّة الاجتماعيّة المتجاوزة تماماً لقيم الديمقراطيّة البرجوازيّة، والتي تمثّل جوهر زماننا الراهن، أن تكون غريبةً على الروح الألمانيّة ونابذةً لها؟ دوماً كانت مُحاذرتُها (محاذرةُ الروح الألمانيّة) العالمَ تنطوي على الكثير من التقرُّب إلى العالم، ومن يجهلُ أن في قعرِ هذه الوحشةِ التي شنّعتها وجعلت منها شريرةً ثمّة رغبةٌ عميقةٌ في أن تُحِبَّ وتُحَبَّ. لندع ألمانيا تنبذ الغرور والكراهية من دمها، فلندعها تُحِبًّ ثانيةً، وستغدو محبوبةً. إنّها، رغم الأحوال جميعاً، ما برحت بلاداً ذات قيم عظيمة، بلادٌ يمكنها الاعتماد على كفاءة أهلها كما على عونِ العالم، وتنتظرُها، بمجرّد أن تتجاوز هذا الواقعَ العصيب، حياةٌ جديدةٌ مليئة بالإنجازات والمكانة الحسنة.
عزيزي السيد فون مولو، سامحني، لقد استطردتُ في الردّ كثيراً! لكن في رسالةٍ إلى ألمانيا لا بدّ من التطرّقَ إلى أمور شتى. كما أودّ هنا أن أشيرَ إلى أمر آخر بعد: إنّ حلمَ أن أشعر بقدمي تَطَآن ثانيةً أرضَ القارة العجوز، رغم الحياة الرغيدة التي تؤمّنها لي أميريا، ليس غريباً عن أَنهُري وليالي، وإذا ما حانت السّاعةُ وكنتُ لم أزل على قيد الحياة وأتاحت لي وسائطُ النّقل والدوائرُ المحمودةُ المجال، فسأولي شطركم لا محالة. وبمجرّد أن أغدو هناك، هكذا يُخيّل إلي، فلن تصمدَ المخاوفُ ومشاعرُ الاغتراب، مفرزاتُ اثنتي عشرة سنة فحسب، أمام جاذبيّة تَحمِلُ في صفّها ذكريات مديدة ذات سنين ألفٍ.
إلى اللقاء، بمشيئة الرب.
المخلص
توماس مان