لا أحبُّ أن أكون سيّء النية، لكنّ الراحل عن عالمنا، لابتوب قاسم البصري القديم، كان يفتح أمامي طريق النيّات السيئة؛ يتوقف عن العمل قبيل الاجتماعات بقليل، أو يتأخر في إنجاز عملية الإقلاع بالذات عندما يكون لدي موعدُ عملٍ مع قاسم. أحبّ أن أصدّق، مع ذلك، أنّ اللائمة تقع على اللابتوب وليس على قاسم نفسه، فأن أُسيءَ الظن بشيءٍ أفضلُ من أن أُسيءَ الظن بشخص، خاصةً إذا كان الشخص مثل قاسم.
قد رحل اللابتوب عن عالمنا ليذهب معه السر إلى الأبد: تُرى هل كان قاسم نائماً في ذلك اليوم مثلاً؟ أم أنّ اللابتوب رفض إتمام عملية الإقلاع لسببٍ لا يعرفه إلا الشيطان وحده؟
صادق عبد الرحمن
لم تُتِح لي الظروف معرفةَ المغدور بشكلٍ جيّد، ولكنّي تمكنت من تبيان أثره الرهيف من خلال نتائج المهمات الثقيلة التي كانت ملقاةً على كاهله: مثل تتبع وأرشفة المآلات المأساوية لأيّ كائنٍ سُمِع به على الإطلاق، شاباً كان أم طفلاً أم حتى وحشاً كاسراً من وحوش الفلاة يدبُّ على الأرض، ممن كان صاحب اللابتوب المغدور يعرفُ بدقةٍ إلى أين قذفت بهم مصائرهم المروّعة بعد ربع ساعة النجومية التي اختفوا عن الساحة بعدها. ذلك فضلاً عن مهماتٍ أخرى، مثل نبش التواريخ السوداء لزملائه في العمل قبل أعدائه، وهي معلوماتٌ أتمنى أن تكون قد رافقت المغدور إلى حيث لا تنفع الثروة ولا الجاه ولا ملفات ابتزاز الزملاء التي كان الزميل، سامحه الله، يكدّسها بجشعٍ وتلذّذ، ويمتّع ناظريه بتصفّحها كل ليلة بعيونٍ يقطر منها الأذى.
أظنّ أن قلب المغدور العجوز النقي لم يحتمل كل هذه الظلمة فانفجر كمداً؛ ليكون موته لنا ولسمعتنا نجاة، وليكون مخلِّصاً لنا من التصفح الإجباري لأرشيف الكوارث المحفوظ عليه.
رشا عباس
في عالمٍ مولعٍ بأفلام الرعب التي يستولي فيها الذكاء الصناعي على العالم، سيكون من الجيد التوقّف والصمت أمام لحظةِ رحيل، رحيل واحدٍ من أعتى بروليتاريّة التكنولوجيا في القرن الحادي والعشرين:
المناضل الذي وقف للعمل وإيصال صوتنا رغم تعطّل المروحة ومقاومة أسلاك الشحن، الرفيق الذي لولاه لما كنّا استطعنا سماع الرفيق قاسم. في هذه اللحظة يجب أن نتعلّم الحقيقة وراء كل تلك الخزعبلات الهوليوودية، إذ يمكننا من خلال الشقّ في الشاشة معرفة أنّ البروليتارية الحقيقية لزماننا هم معشر اللابتوبات.
لم يرحل الرفيق المناضل لابتوب قاسم قبل أن يُعلِّمنا ذلك بصبرٍ وإصرار، ليحجز مكاناً له بين الرفاق أنجلز ولينين وستالين وبريجينيف.
عروة خليفة

في زمن الزووم اللعين، وفي تبعثرنا وبُعْدنا عن بعضنا، كنّا نتثاقل أحياناً من فتح الكاميرات في الاجتماعات، ولكن حرصنا على رؤية ابتسامة الرفيق قاسم وشمس مارسيليا المتوسطية تنسكبُ على ظهره وتضيفُ لمعاناً لعيونه كـ«أيقونة»، جعلنا نخاطرُ بفتحها وهدرِ المزيد من الأكسجين وإنتاج ثاني أكسيد الكربون والتسبب بكارثةٍ بيئية، كان حاسبه قد تسبّب أصلاً بنصفها ولم ينكر يوماً ذلك. كان يزأرُ كل مرةٍ مُعلِناً جريمته، وراجياً الإعدام السريع للتخلص من عقدة الذنب. بالمناسبة، مع الحاسب الجديد ذي الكاميرا عالية الجودة، أصبحت أشعة مارسيليا دافئةً أكثر وابتسامتُه أجمل. ونحن نعيش بهذه النعمة غير آبهين بحزب الخضر وبضميرنا البيئي.
نائلة منصور
الكتابة فعلُ زراعة. وضعُ بذرة الفكرة وتقليب تراب الذاكرة والتفكّر عليها، لتنمو وتكبُرَ وتتحولَ إلى حروفٍ وكلمات. قاسم، عدا تراب ذاكرةٍ وتفكّر من النوع الممتاز، ومهارة استثنائية في انتقاء البذار الأفضل، كان يمتلك أداةً نوعيةً قلّ مثيلها: جرّار زراعي من النوع الممتاز، يهدر مُقلّباً التربة، مخترقاً طبقاتها، وواصلاً إلى حيث لا تصل حتى منتجات كتربيلار الإمبريالية الغاشمة. تراكتور لاسلكي، كثيراً ما فاض عزمه عن حاجة قاسم ورغبته، مخردقاً موادنا الرمادية والبيضاء خلال اجتماعات التحرير الأسبوعية.
ياسين السويحة
من آمن بي وإن مات فسيحيا
يرقدُ على رجاء القيامة اللابتوب العزّاقة، بعد صراعٍ طويلٍ مع المرض الذي أصابه في رئتيه، فمنعه من أكثر نِعَمِ اللابتوب ضرورةً وحساسية: نعمة التنفّس السليم. أصابه المرضُ في صميم مروحته الوادعة، امتصّ سوائلها وجعل الأبدان تقشعرّ لصوت هديرها، والعيون تتألم لحال صديق عمره وشريكه قاسم، الذي لم يكن بيده حيلة سوى الوقوف بجانب لابتوب عمره، وإسعافه ببعض الصعقات الكهربائية، إطفائه وتشغيله ريثما يلتقط أنفاسه، وانتظار رحمة الله.
ندعو الله اليوم أن يصبّر قلب قاسم المفجوع برحيل صديقه، ونقول له إن لابتوبك لم يمت، بل انتقل إلى عالمٍ آخر، حيث لا وجع ولا حزن ولا تنهّد.
وديعة فرزلي
تدقُّ جارتي الفرنسية المُسنّة جدار غرفتي كل يوم مراتٍ عديدة، يبدو أن تلك هي الطريقة الوحيدة لتتفاهم معي «حجرياً» بعد أن أعاقتنا اللغة. جاهداً أُحاولُ أن أخفض صوتي وأنا أتحدث على ماسنجر، وألعن الساعة التي رُزِقت فيها بجارةٍ حادّة السمع. في الحقيقة، وبعد أن استعنتُ بمترجم، تبيّنَ لي أنها لا تسمع صوتي شخصياً، ولكنّها تبحث عن مصدر الضجة الآتي على شكل طنين، وأحياناً على شكل مروحةٍ عملاقة، ومرّاتٍ يتحول الصوت هديراً. كان هذا صوت لابتوب قاسم البصري القادم عبر ماسنجر.
لجأتُ إلى حلٍّ بشراء سماعات أذن من نوعية رديئة، قلتُ لعلّي أُخفّف الثقل عن المسكينة وأتحمله وحدي.
في تلك الدقائق التي تمضيها رفقة البصري ولابتوبه، تتعلّمُ لغة الإشارة، والحديث مع مرآةٍ أيضاً. تشعر أنك تسأل وتجيب مع موسيقا تصويرية لضوضاء حرب أو إخراج أشخاصٍ من تحت الأنقاض باستخدام «كمبريسة». وبينما يزداد إصرار اللابتوب على مطالبته بالحرية، يزداد قاسم عنفاً بتكميم صوته، يضربه بيديه بمعدل ثلاث مراتٍ في الدقيقة. يبدو في النهاية أنّ البصري سيترك الصحافة ليتعلم قرع الطبول، فالخبيط على أماكن محدّدة جداً هي ما ينفع في إخراس اللابتوب لعشرين ثانية، أما ما تبقى من جسده فقد تمسَحَ ووصلَ إلى عتبة الألم.
مصطفى أبو شمس
حاولتُ مراعاة مشاعر قاسم لأطول فترةٍ ممكنة، لم أرغب أن تُفسَّر تعليقاتي بخصوص لابتوبه على أنها هجومية أو جارحة، وخصوصاً حين كنت أضعه في مقارنةٍ مع لابتوبي. لقد كان لابتوب قاسم لوحاً ثقيلاً يُصدر ضجيجاً وإضاءة أكثر من كونه كمبيوتر.
تجربتي مع اللابتوب كانت على مرحلتين: مرحلة مكالمات السكايب، ومرحلة انتظار من ربع ساعة كاملة حتى نشاهد مَقطع فيديو. تميّزت مرحلة مكالمات السكايب بجملة: «لا تتّصل أنت، أنا بتّصل، مشان لابتوبي ما يعلّق»! كانت هذه الجملة مثيرةً للحيرة والتفكير والدهشة والقلق بشكلٍ يعبّرُ عن مشاعري المتضاربة تجاه اللابتوب.
أما مرحلة الانتظار، فكانت صعبةً في البداية، وتطلّبَ الأمر مني وقتاً لكي أتأقلم مع كمية الوقت والجهد المطلوبين لتشغيل مقطع فيديو على يوتيوب، فتخيلوا ما هو الوقت الذي احتجته لاستيعاب فكرة أنّ قاسم يشغّل أيّ مقطع فيديو، دون أن يشاهده إطلاقاً، وذلك فقط لأنّ لديه مكالمة ضرورية بعد ساعةٍ كاملة. هنا لا بدّ من القول إنّ الفقيد اللابتوب كان يجب أن يظلّ مشغولاً بشيءٍ ما، لأنّه إذا ارتاح سيأخذ وقتاً أطول ليعمل من جديد. اليوم، أنا متفائلٌ جداً بمستقبل قاسم ما بعد اللابتوب، وسأقول له بمناسبة هذا الفقد: تهانيّ الحارّة!
باسم محمد
حقيقةً، كوني صديقة للأخ قاسم وأعرفه، سيكون صعباً عليّ تقبّل اللابتوب الجديد، الذي يمثّل قاسم البصري الجديد الذي صار يمتلك كمبيوتراً يستحقُّ هذا الاسم، فمن الممكن، لا سمح الله، أن يتطوّر أمر قاسم لدرجة أن يبادر ويستكمل أوراق التأمين الصحي العالقة منذ سنواتٍ دون أي سبب.
وعليه، فإنّ مشاعري تجاه اللابتوب القديم هي مشاعر حزنٍ خالص، فمع رحيله قَلَّت الأسباب التي تسمح لي بالتقفيل على قاسم واستلامه، وكذلك تعليمه كيف يعيش، باعتبار أنّ أي نوع تنظير كان من الممكن أن يتوقف عند جملة: «إذا لابتوبك ما عم تعرف تغيرو»! كانت هذه الجملة تعطينا إحساساً بالانتصار والتفوّق العملي والحياتي عليه. كيف يمكن الرد على هكذا جملة دقيقة وصحيحة لغوياً وواقعياً؟ حالياً بات الموضوع صعباً علينا.
نينار عمران
رغم عدم منطقية الفكرة، ولكن من الممكن أن تتطوّر العلاقة بين إنسانٍ وآلة لتصير أكثر من كونها علاقةً بين مالكٍ وأداةٍ يملكها. في رأيي، لم تكن علاقة قاسم بالعزّاقة علاقةً بين إنسانٍ ولابتوبه، بل كانت صلةً قائمةً بين كيانين موجودين ومستقلين، كلٌّ منهما يأخد مساحةً من المنزل ويفكّر ولديه متطلبات وعيوب وميزات.
لم يكن لابتوب قاسم يأكل، ولكنه كان يجلس معه على طاولة الأكل ليعرض فيديوهات أو مسلسلاتٍ تسلّيه وتُشعره بالصحبة، حتى لو كان أحدهما يملك قلباً والآخر بالكاد لديه ماذر بورد. كنتُ أعاينُ خوفَ قاسم وإسراعه لتصليح اللابتوب عند الضرورات المتكرّرة كثيراً، وكنت أعرف أنّ السبب لا يتعلّق بشغل قاسم وحقيقة أنّ هذا اللابتوب هو الخيار الوحيد لإنجازه. كلا، كان قاسم يخشى عليه تماماَ كما يخشى على نفسه، وأحياناً أكثر.
من النزيه الاعتراف بأنّ العلاقة بينهما، ككل العلاقات، لم تكن مثالية، ولكن ربّما فارق العمر هو السبب، فاللابتوب أكبر من قاسم بكثير. وقد يكون السبب هو ما يشبه العاصفة الهوائية التي يصدرها اللابتوب فجأةً، فتكون كفيلةً بإسقاط كأسٍ من فوق الطاولة. هذا النوع من العواصف يأتي عادةً كتعبيرٍ عن الغضب من فتح أكثر من ثلاث نوافذ على المُستعرض! تخيّلوا، ثلاث دفعةً واحدة!
سومر باكير
بمجرد أن أستيقظ، وقبل أي شيءٍ آخر، كنتُ أُشغّل اللابتوب حتى أتمكن من استخدامه بعد ساعة أو ساعة ونصف على النحو «الأمثل». النحو الأمثل بالنسبة للابتوبي هو أن أكون مُضطراً لإجراء اجتماع، فيسمح لي بالدخول إليه خلال مدةٍ لا تتجاوز خمس دقائق، أما النحو الأكثر مثاليةً هو أن يسمح لي باستكمال الاجتماع دون أن أُطالب مراراً بكتم الصوت والتوقف عن الحديث. كان اللابتوب يزمجر فجأةً خلال الاجتماعات، فلا أرى أمامي سوى وجوه قد تجعدت وسماعات قد أُخرجت من الآذان.
كثيراً ما كان بوسعي، وبعد النقر على زرّ الانضمام إلى محادثة صوتية أو مرئية، أن أجهّز فنجان قهوة أو أن أُمشّط شعري ريثما يقرّر اللابتوب الموافقة على انضمامي للمحادثة. كل ذلك يهون أمام دقائق الانتظار في كل مرة للانتقال من ملفٍّ إلى آخر. مرّةً أجرى أحد أصدقائي عمليةً حسابيةً اكتشف خلالها أنه يقضي سنةً من كل ثمان سنين من حياته في إسطنبول داخل الميتروبوس للذهاب والعودة من عمله. لم أفعل الأمر ذاته لحساب انتظاراتي أمام اللابتوب وهو يطالبني بالانتظار عليه قليلاً بكثيرٍ من العنين، حتى لا أموت كمداً على سنين عمري الضائعة هباءً.
صديقةٌ لي سمّته العزّاقة، فدرج هذا الاسم على الألسن، ولكني لم أكن سعيداً به. كان الأمر أشبه بأن يشتمَ أحدُهم ولداً لي أو أن يعيّره بصفةٍ سيئة. رحلت العزاقة اليوم، وليس بوسعي سوى أن أتذكر مشهد أم نصار ابن عريبي في مسلسل الخوالي، وهي تقول لابنها: الله معك يا ولدي، الله معك يا حبيبي، سلّم على أبوك يا مِرْضي.
قاسم البصري