ناسَ الشيءُ أي تحرّكَ وتذبذبَ متدلّياً. ذِي هي روحي من السماء تتدلى، وتنوس شغوفة، تذرع 467 كيلو متر مع كل غمضة عين، بين مدينتين حارستين، بين درعا وحلب.

أما مُحدِّثكم، أنا، لست إلا الجسد البعيد الخاوي الجافّ، الشّاهد الوحيد عن أسباب ودلالات نُواس روحي، ومشاهداتها، عن هذا التكرار الأبدي.

درعا

هي مسقط رأسي. وُلدتُ فيها في الألفية الماضية، عام ثلاثة وثمانين. درعا بسيطة تختزن كبرياءها في سنابل القمح، ظلت لمئات السنين تزرعه ويخبزه العالم القديم. وحدها درعا كانت تُنبِت الذهب، ولا تُخبّئه.

حلب

هي مسقط حلمي، الذي ولُدَ فيها في هذه الألفية أكثر من مرة. تبدو حلب بالنسبة لي كما لو أنها نقيض درعا في عُرف المدن. وحلب إن أحبّتْك، فتحتْ لك باب عشق إلى عوالم شهيّة عصيّة عن الفهم. لا يشبه عشق حلب عشق سواها من المدن.

خفّة دم القدر

في مطلع هذه الألفية، وحين أنهيتُ الثانوية العامة بمعدل تجاوز التسعين في المئة، كنت شديد الاعتناء باختيار رغبات الدراسة الجامعية في المفاضلةالمفاضلة نظام يعتمد على تسجيل الاختصاصات المُراد دراستها في الجامعة، ويتحدد الاختصاص بناء على نتائج هذه المفاضلة، وهو نظام يتسبب بأن كثيرين على مدى أجيال حُرموا ممّا يحبون.، كتبتُ عشر رغبات، كان صديقي يكتبها عني لخطه الجميل. سألني عن العشر رغبات المتبقية، مازحتُه وقلت: قَرِّر مصيري أنت. وقد فعل. حزت القبول في الرغبة رقم 17، هندسة الطاقة في حلب.

رفضتُ هذا الخيار، قاومت وحاولت لكن بلا طائل، قالت أمي: «روح وجرّب شهرين وشوف».

استطالَ الشهران إلى نحو عقديْن.

«رفقاء» السّفرة

حجزتُ مبكراً، قبل يومين من موعد الرحلة إلى حلب. لم تكن تسافر سوى حافلة واحدة من درعا، في الساعة الحادية عشرة ليلاً. كان رقم مقعد الجلوس واحد، وأمامي رحلة مدتها ست ساعات.

مُنيةُ جلوس فتاة إلى جانبي تبدَّدَت بشكل قاسٍ.

كلّ ركاب الحافلة، شركاء السفر، كانوا «عساكر». لا حاجة أخرى لأهل درعا في حلب. معظم أبناء درعا يؤدون خدمتهم الإلزامية في حلب، هكذا جرت العادة. أبناء حلب يخدمون في درعا، وأبناء إدلب في الحسكة، وهكذا. أبناء الواسطة في بيوتهم.

مفرق أول

تركتُ درعا ورائي، ولم نلبث أن وصلنا إلى جسر صيدا للعبور إلى الطريق الدولي حتى سمعتُ جَلَبة، وكأنه طقس متّفَق عليه. جميع العساكر بدأوا بخلع أحذيتهم العسكرية الطويلة (البسطار)، وتهيؤوا للنوم.

ولأن الطريق من درعا إلى دمشق مألوف بالنسبة لي، انشغلت بالعسكري الجالس إلى جانبي؛ به وبهمه الطارئ في البحث عن وضعية مريحة للنوم. تَكوّعَ مثل الجنين إلى جانبي، وحده بسطاره ظل واقفاً لم ينم.

الجميع نيام حتى المُرافِق، فقط أنا والسائق والأحذية العسكرية كنا صاحين، عيني على السائق وعيون البساطير عليّ.

كنتُ أعتقدُ أن دمشق تقع على حافة الأرض المقابلة، كانت دوماً المُستقرَّ الأخير، لم أفكر كثيراً أنني سأغادرها لأول مرة شمالاً. حين وصلنا إلى حرستا انخطف قلبي، شعرت كأني أركب قطار الموت، بهدوء تصل إلى أعلى نقطة، وفجأة تهوي، وهوى قلبي مع كل متر كنتُ أغادر فيه دمشق. خبّأتُ خوفي كي لا تشتمه «البساطير» فتتجرَّأ وتفترسني، كان لها ألسنة طويلة متدلية.

رؤية أوضح

مقعدي في المقدمة مَنحني أفضل وأوسع مجال للرؤية، كان العتمُ واسعاً وشهيّاً، فالرحلة، كما أسلفتُ، ليليّة، وأنا منذ ذلك الوقت لا أنام في السفر مهما طال. بيننا مداورة للسُلطة، النوم سلطان عليَّ في كل وقت، وفي السفر أنا عليه السلطان.

العتمة صديق مخلص للخيال. كانت تقول لي أمي إنني، ومنذ الصغر، كنتُ كثير الصمت، كثير الشرود، أدندن بكلمات وألحان غير مفهومة، وتحديداً في وضعيتي المفضلة، قدماي للأعلى ورأسي للأرض. لا أدري منذ ذلك الوقت أيهما الوضعية الصحيحة أو المقلوبة للعالم.

إذاً سنعقد أنا والعتمة والخيال اتفاقاً، سأرسم ما يغيب من ملامح وتفاصيل الطريق، سنؤلّف قصصاً عن سائق هذه الشاحنة، أو تلك، عن قرى نائمة باستثناء ضوء أو اثنين، عن المدن ونتسلى بأضوائها، نعيد تشكيلها ونُهندِس الأبنية التي تتخللها، الشوارع والحدائق والكروم. أحياناً ألعب وأتسلّى بعدّ الخطوط البيضاء المتقطّعة على الطريق. هذه اللعبة كان التنفيذ السيء للطرق يُفسِدها، أصل إلى عدد «محترم» ثم تختفي، لعنة الله على كل متعهد ابن حرام.

الخيال سخي كريم، ورفيق أمين، هو لا يحرّرني من المادة وقيودها وحسب، بل يحررني من الزمن وقوانينه وشروطه.

حرستا الحارسة

حرستا، يقول عنها ياقوت الحموي إنها منطقة عامرة مسترخية وسط بساتين غير بعيدة عن دمشق، بنى فيها خلفاء بني أمية قصوراً لوفرة مائها ونقاء هوائها. كان ذلك في الألفية الأولى. في الألفية الثالثة ظلّت حرستا على عهدها، حارسة حدود الغوطة حين يحكم دمشق طاغية ما. بُنيت على تخوم حرستا حواجز عسكرية مشوّهة لا تشبه قصور الأمويين، ماؤها شَحَّ وهواؤها تزاحمه قنبلة ورصاصة، وخالطه أكثر من مرة غازُ السارين.

عَجِزَ الخيال عن تصوّر شكل المذبحة رغم وضوح صورتها ووجوه أهلها، تركتُ المذبحة ورائي، وأكملتُ رحلتي شمالاً، كان إلى جوار حافلتي عشرات الحافلات الخضراء التي تُقلّ مهجري الغوطة، انضمّت إلينا قبل قليل، خشيتُ أن يوقظ بكاء الأطفال العسكريّ/الجندي النائم إلى جانبي، أو ينتبه بسطاره، ويغضب.

فَهِمَ المهجّرون هواجسي واحترموها، تدثّروا بالصمت وناموا في ضَياعهم المنتظر في مخيمات الشقاء شمالاً، أما أنا فقد عادت الطمأنينة إليَّ بخصوص أن الرحلة لن تفسد، سأصل إلى وجهتي، وأجرب دراسة هندسة الطاقة في جامعة حلب لمدة شهرين كما اقترحت أمي.

إشارات طرقية

إلى الضْمير، إلى يبرود، إلى عسال الورد… تعددت الإشارات الطرقية، يميناً وشمالاً، وعند كل مفرق كانت حافلات خضراء جديدة تنضم إلينا. عبر زجاج الحافلات كان الجميع ينظر إلي، وكأنهم أيضاً تواطأوا معي خدمة لهدفي في الوصول، وعدم إزعاج العسكري، وإيقاظه.

النبك المنسية

لم يقطع الهمس سوى ما بدت أنها مدينة جليلة: النبك ترحب بكم.

النبك تعني أنها المكان المرتفع، لم تَبدُ كذلك، فالمُرتفَع في قاموسنا الحوراني تعني جبلَي الشيخ والعرب فقط. حتى قاسيون يَعرف أننا نجامله حين ندعوه «يا جبل». قاسيون ليس سوى حائط عالٍ يتكئ عليه الغرباء في دمشق كلما هَدّهم التعب.

كان مرورنا بالنبك سريعاً؛ مجرّد توقف سريع، نزل السائق فقط لدقائق، تَزوَّدَ بالوقود وانطلقنا.

شعرتُ أنني لم أشبع من هذه المدينة، لا نحن مررنا بها مرور الكرام، ولا توقفنا فيها واسترحنا.

قبل انطلاقنا أومأَ لي شاب تحدَّثَ سريعاً قائلاً إنه من عائلة شهيرة في النبك،عائلة مستو، قُتل منها 34 فرداً كانوا مختبئين في الأقبية خلال المعارك التي تقدم من خلالها النظام وسيطر على مدينة النبك، وقام بتصفيتهم وفق الروايات المتداولة أفراد من حزب الله اللبناني. قُدَّرَ عدد الضحايا من أبناء المدينة بنحو 600 شخص. كان وراءه جمع من أهله، يلتحفون ما يشبه الأكفان، قال إنهم جاءوا من أقبية في الجبل بعدما جاء رجال برايات صفر، نزعوا عنهم ثوب الحياة، وأبدلوها بالأكفان. سريعاً مرت الثورة في النبك، مثل حافلتنا، تزودت بالوقود وانطلقت شمالاً.

اعتذرتُ من الشاب، وحين رأى البسطار إلى جانبي صاحياً أمسكَ عن الكلام. أفسد عليَّ عدّ الملتحِفين أكفانهم ما أفسده عليّ عد الخطوط البيضاء المرسومة على الطريق. توقفتُ عند رقم ستمئة، شاب امرأة طفل، مضوا في طريقهم إلى السماء، وأكملنا طريقنا إلى حلب.

دير عطية

كنت أفكر بأحد الذين التقيتُهم في النبك، كان متعباً حين شاهدتُ مستشفىً على تلة. تمنيتُ لو كان في الحافلة متسع لإحضاره إلى هذه المستشفى الأنيقة، دقائق وكانت أناقة هذه المستشفى تُخفي وراءها مدينة أكثر أناقة. إنها دير عطية.

دير عطية أول مدينة سورية افتتحت فيها روسيا مدرسة يسوعية بالتزامن مع افتتاح مدرسة مشابهة في القدس في القرن التاسع عشر. أهل هذه المدينة يحبونها، غادرها معظمهم إلى المهجر، ومِن هناك بذلوا المال لتحسين مدينتهم، الطرقات والبنية التحتية والحدائق.

حين تجاوزنا دير عطية، شيء مني هاجرَ إلى السماء، صحبة مع ضحايا النبك المنسيين، وبدأت تهيئة عقدة ستُشَّد لاحقاً كي تمسك روحي حين تتدلى.

قارَة على الطريق، مهين وصدد، يا الله ما أكثر المدن والقرى في سوريا! ثمة رأي يقول إن الشام سُميت شاماً لأن القرى والمدن فيها مثل الشامات.

القصير تُهديكم السلام

كنتُ شغوفاً بقراءة كل اللافتات. لم أتخيل أن أكثر القرى المغمورة ستُعرف ويكون لها قصة وألف غصة، تابعت القراءة، لافتة أخرى: القصير 17 كيلومتراً.

الرقم 17 مرة أخرى، قلتُ في سري ممازحاً. أعان الله القصير، سيغادرها أهلها جميعاً مثلي لدراسة هندسة الطاقة، هذا الرقم مسحور. فجأة تحوَّلَ المزاح إلى ما يشبه الرعب، هل يمكن أن يحدث ذلك؟ مدينة يُسافر أهلها جميعاً مرغمين مثلي؟ لا، لا، هذا ليس عدلاً، صرختُ في سري.

المدن تكتئب إن ظُلمت، هل يعقل هذا والقصير شهدت معركة قادش بين الفراعنة والحثّيين، وفي القصير وُقعت بينهما أول معاهدة سلام وثَّقها التاريخ؟ يا تاريخ، شيئاً من العدل والحنان واللطف.

حمص يا منتصف الطريق إلى كل شيء

لم يمسح ملامح الحزن عن وجهي سوى ضوء عاكس على لافتة مكتوب عليها «حمص». ابتسمت. حمص هواؤها يحمل البهجة والفرح.

بدأ ياقوت الحموي حديثه عن حمص قائلاً إنها بين دمشق وحلب، في منتصف الطريق.

حمص في نصف طريق كل شيء، رحلتي هذه، في منتصف الطريق بين الحب والغضب، البهجة والحزن، السكوت والثورة، الوطن واللاوطن. قيل إن حمص بناها اليونانيون، وزيتون فلسطين من غرسها.

حمص، خرج منها بعض أبنائها غرباً، قبل أكثر من ألف عام، وكانوا من جملة الداخلين إلى الأندلس. جُند حمص وصلوا إلى قرية صغيرة، سكنوا فيها، وأطلقوا عليها اسم مدينتهم حمص كاسم آخر، صارت القرية بعدها درة مدن الأندلس في عصرها الذهبي، إنها بلنسية.

في «كراج حمص» توقفنا لاستراحة مدتها ربع ساعة. جميع العساكر استيقظوا، لبسوا أحذيتهم، نزلوا للأكل أو تدخين سيكارة، تحولت محطة الحافلات إلى معسكر.

لم تكن الساعة قد بلغت الثالثة فجراً، لا أعرف لِم بدت حمص أكثر كآبة وصمتاً مما كنت أتخيل. نزلتُ من الحافلة، حاولت الابتعاد إلى أطراف هذا المعسكر، وعند السور شعرت بحاجة إلى البكاء، هل حمص التي أهدت كل السوريين البهجة والبسمة وخفة الدم تعطيني هذه الغصة؟ فجأة برز شاب وسيم، اقترب مني ولا أعرف لما ارتميت في حضنه أبكي، ناولني شربة ماء، واستحلفني قائلاً: المرة القادمة عندما تأتي إلى حمص تعال وزُرني. اسمي باسل شحادة، وقبري معروف. ناولَني كسرة خبز، قال: تزوّد طالما أنك في منتصف الطريق، لتكمل الطريق.

باسل كان أيضاً رحّالة، جالَ دولاً عدة، أجمل رحلاته كانت ركوبه دراجة هوائية بين دمشق وحلب، ولاحقاً على دراجته النارية تجاوز حلب، إلى تركيا وصولاً إلى الهند. شجاعة لا أَمتلكها، آخر حدود الأرض التي تتجرأ روحي في الوصول إليها هي حلب.

نادى السائق وكأنه نداء في قطعة عسكرية، وركب الجميع الحافلة مجدداً.

كان الجميع صاحياً، والحافلات الخضراء التي ازدحم بها طريقنا زادت. طريق الإياب ازدحم بعربات عسكرية متجهة جنوباً، قلتُ لعلّها ذاهبة إلى درعا أو الجولان، فيهما مواقع عسكرية لا تُحصى، لكن ما الذي يفعله هؤلاء العساكر معي في الحافلة ذاتها متجهين معاً شمالاً لا جنوباً؟

الرستن: أجساد أبنائها جسوراً للعبور إلى الخلاص

عند جسر كبير لمحتُ مدينة على يساري، التقطتُ اسمها سريعاً، مدينة الرستن. كانت هناك حفلة غريبة، دبابات ترقص وتطلق قذائف وكأنها ألعاب نارية، ترى ما الذي تحتفل به؟ دقّقتُ أكثر بعد صعودنا في نهاية الجسر، لم تكن ترقص، كانت تقفز فوق جسد شاب، وكانت تطلق قذائفها غضباً، لأن الشاب كان يبتسم. حافلة خضراء خرجت للتو من الرستن مرت بجواري، لمحتُ شاباً وكأنه يؤكد لي ما رأيت. همس في أذني أن اسم صاحب ذاك الجسد، أحمد الخلف،أحمد الخلف ضابط من أبناء الرستن، انشقَّ عن قوات الأسد في درعا رافضاً إطلاق النار على المدنيين، وحين حاولت قوات النظام اقتحام مدينته قال: إذا رأيتم الدبابات في الرستن فاعلموا أنّي قد استشهدت. له قصة طويلة. ابحث عنها، دع روحك حين تعود إلى الرستن تروي هذه القصة لكل جدار في كل بيت، لكل طفل.

أطفال الحرية

حين تجاوزتنا الحافلة كان 53 طفلاً يعبرون الطريق،أطفال الحرية هو اسم لأحدى الجمع في حزيران 2011، خرج فيها نحو نصف مليون متظاهر في أكبر مظاهرة عرفتها سوريا، ما دفع قوات الأمن إلى تفريقها بالرصاص الحي وقتل 53 شخصاً على الأقل. كدتُ أصرخ كي يتوقف السائق، لكن فجأة نَمَت للأطفال أجنحة وطاروا من فوقنا. نظرتُ إلى يساري، كانت حماة، فركتُ عيوني أكثر من مرة، بدت أضواء المدينة وهي تخترق العتمة، وكأن المدينة مشهد سينمائي قديم بالأبيض والأسود.

لوّحَ جميع من في الحافلات للمدينة، لم أعرف السبب لكن لوحتُ معهم. خشيتُ أن تعتب عليّ المدينة إن مررت بها يوماً ما.

خان شيخون

تعبت، قلتُ أَعدُّ الخطوط البيضاء على الطريق، واحد اثنان ثلاثة.. مئة، فجأة انتبهت، هي ليست خطوطاً بيضاء بل أكفان، تطول وتقصر، هذا كفن لرجل، والآخر لطفل. جنرال معتوه استبدل هواء هذه المدينة بالسارين.في نيسان 2015، استهدفت قوات النظام مدينة خان شيخون بالسلاح الكيميائي وقتلت 100 شخص.

لافتة من معرة النعمان إلى كفرنبل

لافتة لا تشبه سواها من اللافتات، مكتوب عليها «يسقط كل شيء». ضحكتُ ضحكة مشوبة بالألم، فجأة غرقت العتمة في محيط من اللافتات، دوّختني اللافتات، فجأة انتظمت وصارت كتاباً. آه سأقلد الأوروبيين، سأقرأ وأنا في الحافلة. كتاب اللافتات، فكرة مجنونة وعظيمة، توقَّفَ الزمن كي يمنحني فرصة الفراغ من القراءة، لافتة وراء أخرى، حدثاً وراء آخر، يبدو أن الكتاب مبني على قصص حقيقة، زاد تعلقي به. تأليف جماعي وكأنه أوركسترا يقودها مايسترو اسمه رائد الفارس، وصلتُ إلى الصفحة الأخيرة. كفرنبل، هُجِّرَ أهلها واعتزلت كتابة اللافتات، كانت اللافتةَ الأكثر قسوة. من أين جاء كل هذا الشر، الحقد؟ من هذا الذي يفكر باقتلاع الناس من بيوتهم، والقرى والمدن من جذورها؟ من هذا الذي يبني مجده في الهواء؟

كفكفت معرة النعمان كعادتها دمعي والغضب، وحملت مع أهلها أحلامهم. انسكبَ حزنهم في قلبي، صارت العتمة أثقل، والخيال ابتليَ ببلادة مضجرة. هَدَّني التعب ما إن وصلنا إلى «سراقب».

سراقب بعد الوصل مكسورة الخاطر

سراقب تاريخياً تُهدي للمارين فيها الراحة بعد وعثاء السفر. كانت ملتقى القوافل، وظلت بعد ألف عام واحدة من أهم عُقَد المواصلات في سوريا. في سراقب يمر الطريق بين حلب ودمشق المعروف بالطريق M5، وهو، إن تمعنتَ في الخرائط، الطريق البري الوحيد الذي يربط شمال الأرض بجنوبها. وكذلك يمر منها الطريق M4، الذي يربط العراق ومن خلفه إيران والشرق بالبحر المتوسط. امبراطوريات حَلُمت بهذه الإطلالة في غابر الزمان.

سراقب منحت العالم «الوصل» أوصالها اليوم مُقطّعة، بيوتها خاوية. سراقب محطة المسافرين لأكثر من ألف عام ، هي اليوم متعبة مكسورة الخاطر، فكتمت روحي فيها رغبتها في البوح والراحة.

حلب 2016

استسلمْت، حاولت إمالة رأسي من التعب. كان العسكري النائم إلى جواري قد احتلَّ المقعد كاملاً، خفت، عدّلتُ من جلستي وقلتُ اقتربنا من حلب، هناك سأتجه فوراً إلى كلية هندسة الطاقة، أسجّل، وأجرب شهراً واحداً لا شهرين، ولتسامحني أمي، هذا الطريق إلى حلب أتعبني.

قبل الوصول إلى حلب، مع لحظات الفجر الأولى، توقفت الحافلة فجأة، لم أفهم ما حدث، وقف العساكر وهم نيام، مشوا وهم نيام، نزلوا وهم نيام، اصطفوا طابوراً واحداً، نزلت بعد ذلك البساطير. وقفت الأحذية العسكرية أمام العساكر وصرخت بهم: استرح..استعد.. سدّوا الطريق علينا فسَلكنا ومعنا الحافلات الخضراء طريقاً من خان العسل إلى الغرب.

اقترضَ الخيال ما بقي من العتمة، رسم لي حياةً كاملة، أحياء وشوارع، أصدقاء، وأصدقاء أعداء، قبور وسجون وساحات بهجة وغرف لطالما ضحكت معنا جدرانها وبكت، تفاصيل امتدت في حلب قرابة عشرين عاماً، كالحلم. كنتُ أعرفُ أن هذا السخاء من الخيال يعقبه وداع، تركني خيالي مع آخر خيوط العتمة، ومنذ ذلك الوقت شرفات القلب مفتوحة على العدم.

المدن المنسية ونحن

كانت أضواء حلب تخفّ مع شروق الشمس، وبيوت حلب تبتعد. صرختُ في السائق: أين تذهب؟ حلب على اليمين يا أخي… يا أخ أنا ذاهب إلى حلب… لكن السائق لم يكترث.. تقف كل بضعة دقائق عدة حافلات، وكان ينمو منها في كل مرة مخيم. نُثِرت المخيمات كأنها مدن وقرى جديدة، بلا طرق ولا لافتات ولا هوية ولا تاريخ، في أماكن ليست بعيدة عن «المدن المنسية»، التاريخ يغدر أحياناً ويقتل الذاكرة.

آه الذاكرة!

سألت السائق: كم الساعة؟

السائق: تأخرنا عن موعدنا عشرين عاماً فقط. وربما نصف قرن.

مضينا غرباً، وذاب الجسد في الغياب، طارقاً أبواب مدن لا تفهمه ولا يفهمها، وعَينُ قلبه معلّقة على روحه، ظلت هناك بِنَهَم تختزن الصور والأسماء والمجازر، تزور البيوت وتحرسها، وتهدهد حجارتها، وتسقي قبور الأحبة.

كانت هناك ملايين الأرواح المتدلية إلى جانب روحي، كلّ منها تروح وتجيء في طريق تختاره هي. كانت هذه الطريقة هي البديل الاستراتيجي الوحيد لملايين السوريين الذين توزعت أجسادهم في جهات الأرض الأربعة، البديل الاستراتيجي الوحيد عن العدم والانتحار قهراً وشوقاً. كلها تحرس المدن والقرى والطرقات والقبور والذكريات، وكان نصيب روحي طريقاً طويلاً متخماً بالتفاصيل، ربما تبقى هناك للأبد، تنوس بين درعا وحلب.