القاف
إلينا، يا مُريد! يا جنين الفجر! واغسل إذا زاملتنا
سطور هذه الأوراق الزائفة، واتلُ معنا مصحف الكون
مصحف الكون نشوة، مصحف الكون دمعة،
مصحف الكون صرخة العظمة البالغة
نسمتُ في فلكه الأطلس روائح النجوم، وسبحتُ في رجراج القبل
(سورة الغيب)المقتبسات كافة في مطالع النصوص منقولة عن اثنين من مؤلفات العلّامة الأسدي م. خير الدين: الفصحى من ديوانه الوحيد «أغاني القبة» (1950)، العامية من «موسوعة حلب المقارنة» (منشورات جامعة حلب 1987).
كان الأسدي قد شاهد في خزائن خراسان ثلاثة مصاحف مدروجة مكتوبة على رقوق: المصحف الأول بخط الإمام علي، والثاني بخط ابنه الحسين، والثالث – على ما يُظنّ – بخط ابن الحسين.
يعلم قرّاء القرآن أنه حُفظ أولاً في خزائن الصدور، ثم نقشه كتبة الوحي. كل سوره الـ114 تبدأ بالبسملة، إلا سورة التوبة (أو براءة). كُتبت آياته أول ما كتبت على العُسُب (جريد النخل) واللخاف (صفائح الحجارة الرقيقة) والرقاع (من جلد أو ورق) والأقتاب (الأخشاب التي توضع على ظهور الجمال للركوب عليها)، وعلى الأكتاف من عظام الدوابّ والوحوش النافقة. يعلم القرّاء أن القرآن بشكله الأخير، المعروف حالياً باسم «مصحف عثمان»، جُمع في عهد عثمان بن عفان الذي وحّد كل النسخ المتداولة في نسخة واحدة وأمر بإحراق كل ما عداها، لأن قراءات القرآن تباينت وتعددت في الأمصار حتى بلغت بالمسلمين حدود الشقاق والتكفير فتجاوزوها أحياناً. كان القرآن قد جُمع أولاً بعد حروب الردّة، واقترحت تسميته «السِّفر» على أبو بكر الصديق فأجاب أن ذلك اسمٌ تسمّيه اليهود، فاتفق الصحابة على اسم «المصحف» المأخوذ عن تقاليد الحبشة.
للقرآن أسماء أخرى: الكتاب، الفرقان، الهدى، الرحمة، الشفاء، المبين، النور… وقد عُورض منذ نزوله مرات ومرات عبر تاريخ اللغة العربية. من الذين تحدَّوه وتنطّعوا للإتيان بمثله، أو أُشيع عنهم هذا: مسيلمة النجدي، سُجاح التميمية، الفارسيان ابن المقفّع وابن الراوندي، المتنبي، المعري… وقد يلحق الأسدي بهذه القائمة، إذ سمّى كل أغنية من «أغاني القبة» سورة، وعددها سبع وعشرون بعدد حروف الهجاء العربية، مستثنياً الألف لأنه «قيّوم الحروف يسري في مخارج الحروف كلها سريان الواحد في مراتب الأعداد». قال إن السورة هي الأغنية، والغناء سابق على العروض في دنيا العرب. مهّد لكل سورة بفقرتين هما الشرح والتأثّر، وهذا التمهيد لا يعدو شرحاً مدرسياً للمفردات التي حسبها الأستاذ صعبة على تلامذته القرّاء، ومفردات أعجمية أو لا تنتمي إلى الفصحى، وما نحته من مفردات لم ترد في المعاجم، يليه ذكر أمين لأسماء متصوفة كثر ألهموه واقتبس منهم، وعلى رأسهم حافظ الشيرازي، لكنه ذوّب المقتبسات في سُوَره دون تحديد الفارق بين كلماته وكلماتهم، مستخدماً تعبيراً ملتبساً من قبيل: «غمْر أو غدق من حافظ مع التعديل، وسائرها لصاحب الكتاب». فمثلاً، في سورة «السواجي»، قد لا يعرف القارئ أن أبو يزيد البسطامي هو من قال «انسلختُ عن نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها، ثم نظرتُ إلى ذاتي فإذا أنا هو». أظن أن ملاحظة كهذه نافلة عند الأسدي، قد تُفسد عليه لذّات القراءة، إذ ترك سوره مفتوحة ولم يفسّرها إطلاقاً في أي مناسبة، وقال: «فللقارئ أن يسبح في الجو الذي استوحى».
عصا موسى
قبّلتُ السر، وقبّلني،
ودخلت الجنة ودخلتني
يا أمانة ياسين! يا محكِم الطواسين!
(سورة الغيب)
سُمع علي بن أبي طالب يناجي ربه «يا ألم». وحين سمع عمر بن الخطاب القرآن للمرة الأولى سأل: «ما هذه الهينمة؟». وكان ما سمعه شيئاً من سورة «طه»: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}. سمع السحر في مطلع هذه السورة فأسلم، وقال: «رقّ له قلبي فبكيت».
هاتان الكلمتان «ألم» و«طه» [ألف لام ميم وطا ها] من فواتح السور، ما جاءت إلا في أوائل تسع وعشرين سورة من السور المكية، وحار فيها القرّاء عبر العصور. الراجح أنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، ويُطلعه على من يشاء من خلقه. الفواتح أربعة عشر حرفاً مختاراً، أي نصف الأبجدية. كلمات ملغزة تسافر عبر الزمن، أو أسماء أخرى للسور لم تبلغ في الشهرة حدّ التواتر. قد يكون كلٌّ منها اسماً أو بعض اسم. قرأ متصوفة «ألم»: «أنا لي مني»، أو «أنا الله أعلم» أو «ألستُ بربّكم»، ورآها جلال الدين الرومي «عصا موسى»، وقال ابن عبّاس إنها «اسم الله الأعظم»، وأوَّلَها الضحّاك بأنها ألف الله ولام جبريل وميم محمد، وزاد الماوردي أن ميم محمد ميم المحبة التي يصعد العبد إلى مقامها فتضمه بحنان دائرتها ويفنى في الله… ولكن راج تفسير المبرد أكثر من سواه، أي تحدي الرسول للكفار ليأتوا بمثل القرآن فهذه الحروف مادته، ورأى الأخفش أن الله أقسم بهذه الحروف لأنها مباني أسمائه وكتبه، وشرّفها لأنها أصول اللغات، والبعض منها هنا يُراد به الكلّ.
مطلع سورة البقرة
يقول أبو بكر الصديق: «لله في كلّ كتاب سرّ، وسرّه في القرآن أوائل السور»، وهي تراوح من حرف واحد (ص، ق، ن) إلى خمسة (حم عسق، كهيعص). إذا حُذف المكرر منها تطابقت مع «نص حكيم قاطع له سرّ» أو «صراطُ علي حق» لدى الشيعة، و«صحّ طريقك مع السنة» لدى السنة إذا حُسبت على حساب الجُمَل. أدرج الأسدي منها في سوره: ألم، حم، ق، يس، طه. من عادات العرب الاكتفاء من الاسم الواحد بحرف واحد، وفي لسانهم أفعال أمر من حرف واحد، كما سمّوا الأشياء بالأحرف، فالنحاس صاد، والنقد عين، والسحاب غين، والحوت نون. علّق الأسدي أن النون هو السمكة بالسريانية، وجنح أحياناً إلى حلّ ما يُشكِل على المفسّرين من معاني القرآن بالرجوع إلى السريانية. ربما رأى صورة حياته كلها في الكلمات الثلاث الأولى من القرآن: {ألم * ذٰلِكَ الكِتَابُ}. ثلاث كلمات فتحت له باباً آخر من أبواب الحيرة وشرّعت روحه على لغز الألم. ألم ذلك الكتاب العظيم، الكتاب المعجزة. اللام في «ذلك» هي لام البعد، لأن مصدر الكتاب موغل في العلوّ، لا يطال منزلته أحد.
كنتُ صبياً صغيراً حين سمعتُ شيوعياً مخموراً ينسب هذه الفواتح إلى الراهب بحيرة في حوران، ويفترض أن «ألم» في بداية سورة «البقرة»، السورة الأولى، تعني «الألم» حرفياً. قطع على السهارى تساؤلهم: «لماذا تدوم عقود الإيجار في ممتلكات اليهود تسعاً وتسعين سنة؟»، طارحاً سؤالاً آخر: «أليس القرآن هو ’أمّ الكتب‘؟ فإذن ’الألم‘ هو بداية البداية، فكّروا بالولادة». اقترح السكران «الألم» اسماً أخيراً تكتمل به أسماء الله الحسنى، كتاج الشوك الذي يكلّل هامة المسيح. استدرك الشيوعيّ مدرّس اللغة العربية في بارقة صحو: «لماذا لا تكون لام ’ألم‘ لاماً مزحلقة أنزلها الوحي في قلب ’أمّ‘، وأيّ أمّ أكرم من مريم بنت عمران؟».
كالدُّمى في روسيا
أحكم مهندس الكون طريق الدير ذي الجهات الستّ،
ولم يرسم في تصميمه نافذة تطلّ على القدر
(سورة البيان)
يذكر ابن خلدون أن «العرب يستعينون بالأعاجم لبناء صروحهم»، لكن هندسة القباب ليست حكراً على شعب أو أمّة، إذ استلهمت قبة السماء التي تحتويها جميعاً مثل حكايات وضعت بيوضها داخل حكاية لا تنتهي. القبة مجرى انسكاب النور والنسيم في قلب المسجد، يترسّب في كِواها دخان القناديل المرصعة باسم الله فيكشط الخطاطون الهباب ويتخذونه حبراً يكتبون بسواده آية النور.
قبة الصخرة هي الأولى في الإسلام. بريق ذهبها ونحاسها أول ما يبهر العين حين تُرى صور القدس التي زارها الأسدي سنة 1946. ربما انعطفت أغاني معراجه الشعري حين وقف مسحوراً تحت تلك القبة ورفع ناظريه فانتابه الدوار، رأى زهوراً تنبع من أسماء الله وسمع صوتاً هاتفاً.
قبة الجامع الأموي في دمشق- ويكيكومنز
أمواج الصوت اللامرئية كروية الشكل، وتضخيم الصدى إحدى وظائف القبة. ظاهر القباب أملس عادة، وقد غالى الأسدي في تنميق قبته الروحية، فأثقل باطنها بالزخارف والأسماء، هو المخلص دوماً لمعلّميه البرَرة الموتى. فهل استعادت قبتُه القبةَ الغامضة التي سماها ابن عربي «آرين» وهي محل الاعتدال في الأشياء؟ أم تراها فيروزية كالقبة على ضريح حافظ الشيرازي الذي حجّ إليه الأسدي، زرقتها مرآةُ الفناء في الحب؟ أم هي القبة الخضراء للحرم النبويّ، فالوحي نور يتغير لونه وفق البلور في قلب المؤمن، مثل المصابيح في مشاكي القباب؟ «النفس زمردة خضراء» لدى المتصوفة، وظلمة العقل تخضرّ حين يخالطها نور الكلمة.
* * * * *
تعكس هندسة المسجد رضا المؤمن وشكواه إلى ربه.
المئذنة والقبة في مصحف الكون هما الألف والهاء، آه الله، و «آه الله» إشادةُ المصغي إلى الموسيقا إذا انتشى، آه العاشق والمشتاق والموجوع والمخذول والمتضرّع، بشهقةٍ تهبط روحه إلى الأعماق وبزفرة تصعد إلى الذروات. من ناحية أخرى، استدارة القبة تريح العين من حدة المئذنة، فالألف الاستقامة، والهاء تنهيدة الراحة، وهما معاً صورة الوجود والعدم، الواحد والصفر.
مئذنتا الجامعين الأمويين، في دمشق وحلب، مربعتان كأبراج الكنائس البيزنطية، وهما أولى المآذن في تاريخ الإسلام، وكان علوّهما للإنارة لا للنداء على الصلاة. افتتن الأسدي بالجامع الكبير (الأموي)، المبني في حديقة كاتدرائية بيزنطية ومقبرتها، قرب مدخل سوق المدينة في حارة الجلوم التي ولد فيها عند فاتحة القرن العشرين وكانت مرتع طفولته وشبابه، وتعلّم في مدارسها الدينية قواعدَ اللغة التركية العثمانية قبل العربية. يقول الحلبيون إن مئذنة الجامع الأموي أجمل ألف في الكون، ويتهكّم بعض أئمّتهم: «فلان كالمئذنة في استقامة الظاهر واعوجاج الباطن». قبة النبي زكريا، في صحن هذا الجامع، مزدانة بآيات من سورة مريم، وتذخر «شعراية النبي» يخرجونها يوم المولد النبوي من صندوق زكريا يحملها شيخ الجامع في احتفال تسير معه المباخر، والناس حوله يرفعون أصواتهم: «الصلاة والسلام عليك يا من عظّمك الله» تُعاد وتعاد حتى يرتفع الصندوق فوق سلّم تحت القبة، وهنا يُفتَح وتُفتح الصُرر بقجة تدثّر بقجة، وكلها من نفيس النسيج والأوشحة حتى تبدو أخيراً شعرة الرسول الوحيدة طيّ زجاجة مضمّخة بالمسك فيتهافت الناس ويقبّلونها.
قبة دانيال
ألا تزال -يا شهاب!-
ألا تزال هكذا: ترسم يراعتك في «صوت أجنحة جبريل»
إقليماً لا تجد السبابة إليه متجها؟
(سورة الإشراق)
رأى الأسدي صورة لحلب في قصر العظم، فلفت نظره أن معظم دورها مسقوف بقبة. تُطلعنا موسوعته أن القبة في العبرية هي الخيمة وغرفة النوم، وأصل الكلمة هو «كبّه» الفارسية أي كأس الحجامة، تسقف المعابد والأضرحة ويُزعم أنها من اختراع الأرمن في البناء. من تهكمات الحلبيين: «شافوا القبة من بعيد حسّبوا مزار»، أما قبة دانيال «فيريد بها النصارى قبة دُفن فيها النبي دانيال، من الأنبياء الكبار الأربعة، كان يروي المنامات والرؤى الرمزية والناس تعتقد به». من معتقدات الحلبيين التي لم يذكرها الأسدي، ولا ندري إذا كان قد استدركها في واحد من مخطوطاته المفقودة، أن قبة دانيال ظهرت لأربعة هم الحلاج والسهروردي والنسيمي والسلاخ، أتوها من أحقابٍ شتّى وعاشوا معاً تحتها. كانوا قد جاؤوا إلى حلب من أصقاع وعصور أخرى، حيث اتّهموا أيضاً بالزندقة وحُكم عليهم بالقتل فاستأذنوا السلطان ليغتسلوا في وضوئهم الأخير قبل صلاة الموت، فأذِن لهم، وما إن وطئت أقدامهم باحة القصر حتى قفزوا إلى «البحرة» الكبيرة التي تتوسّطها وتواروا عن العيون. سدى انتظر ظهورهم السجّانون والسيّاف والفقهاء والمتأسّفون، لأن الأبرار لا يظهرون إلا لمن لا ينتظرهم.
دخل علماء الحقيقة الأربعة قبة المغارة السحرية فانقفلت عليهم حَولاً بتمامه، فنهلوا من ينبوعها المعارف اللدنية وقرأوا على جدرانها من علوم الغيب وفكّوا مبهمات الرسوم وصاروا يتكلمون بعلوم الأسرار بعد خروجهم منها، فلم يتراجعوا برغم معرفتهم المصائرَ التي تنتظرهم، حتى أفتى المكفّرون بإباحة دمائهم، فعُذّبوا جميعاً حتى الموت سلخاً أو خنقاً وقُطّعت أوصالهم في حلب، إلا الحلاج الذي انتهى مصلوباً في بغداد. كان هناك أناس يجوبون أسواق حلب وفي أيديهم قطع طين يبلّلونها بدموعهم ولعابهم كلما جفّت، منتظرين ظهور هذه القبة، فإذا تجلّتْ سارعوا ليلصقوا قطع الطين إلى جدرانها كما تمغنَط إلى يومنا هذا شظايا الفخار في زوايا المراقد والمزارات، ثم ينتزعون قطعة الطين ليقرؤوا ما انطبع على سطحها من حروف ورموز ويهرعون هاربين قبل أن تطبق المغارة السحرية فمها لتبتلعهم. روى المسعودي الحكاية على نحو آخر في «مروج الذهب»، فنقلها من حلب إلى الصين حيث تحولت القبة إلى بئر ما أكبّ إنسانٌ عليها إلا هوى فيها.
ورقة يابسة سقطت في المحطة
حين بلغ المؤيّد بالملكوت مرتبة الفناء
صلّى الحب عليه وسلّم،
وأودعته الملائك مكتبة السماء
لأنه تاريخ قلب عظيم
(سورة الإشراق)
شهاب الدين السهروردي، المسفار حافظ القرآن، تهوّر في الذود عن الحقّ. يصفه ياقوت في «معجم الأدباء»: «لم يناظره مناظر إلا خصَمه وأفحمه». كان هذا الفتى الكردي المولع بخزائن الكتب، وعاشق الطيور، الطوّاف بحثاً عن كتاب هنا أو هناك، يترجم بنفسه ما يكتبه بين العربية والفارسية ذهاباً وإياباً. انحدر من جبال كردستان وجاب أقطار الجوار حتى حطّت به مصادفات الترحال في حلب، وأمام القلعة سقطت ورقة عند قدميه. من معتقدات الحلبيين أن في السماء شجرة، وكل إنسان من أهل الأرض اسمه مكتوب على ورقة من أوراقها، وإذا كان مقدَّراً له أن يموت في العام القادم سقطت ورقته من الشجرة في نصف شعبان.
موسوعة مصنفات السهروردي
دخل السهروردي حلب شاباً زريّاً يسعى على ثيابه القمل من يراه يهرب منه، ولاقى من افتراءات الفقهاء منتهى العذاب. سُجن وخُنق داخل سجن القلعة في عهد كردي آخر هو صلاح الدين الأيوبي. قبره حالياً خارج السور في باب الفرج وراء مبنى البريد الذي صار مخفراً. إنه وليٌّ صاحب كرامات يضرب به أهل حلب المثل: «فلان متل العبد السليوردي [السهروردي] منين ما كمشتو ينزل بإيدك»، أي يستحيل الإمساك به فيسقط باللمس أنفه أو أذنه أو أي عضو آخر. يروي ابن أبي أصبيعة في طبقات الأطباء أن تلامذة السهروردي اشتروا شاة من راعٍ تركماني في إحدى ساحات حلب وساموه في الثمن ومضوا، فلحق بهم إذ حسبهم قد بخسوه حقه، ولما جذب شيخهم من يمناه انخلعت وسقطت على الأرض وسال الدم، فهرب مذعوراً مما رأى، والتقط السهروردي منديله الأحمر المعفّر بالتراب.
ربما تخيل الأسدي مصيراً مماثلاً لنفسه حين كتب: «ما كان أقسى القدامى إذ كانوا يسلخون جلد المتّهم بالكفر، يسلخونه وهو على قيد الحياة، منهم قتيل حلب ’السهروردي‘، وصورته على مكتبي».
دولة السكارى
من ذا الذي شرب الزمن؟
دم وزمن، دم العنقود والزمن المخمَّر،
بهذا ألطفنا جاهنا في دولة السكارى فشربنا الدم والزمن
(سورة التعاشيب)
ألمَّ الأسدي بالقليل من الكردية. تناغمت في خمريات المتصوفة الأكراد وملمّعاتهم لغاتٌ أربع كأربعة أقطار كردستان، وهي الكردية والفارسية والتركية العثمانية والعربية. كانوا يمزجون جميعها في أشعارهم منذ نهاية العصور الوسطى حتى مطلع القرن العشرين، فتسمع في القصيدة الواحدة كلمات من تلك اللغات الأربع المرسومة بأبجدية واحدة. لعل أشهر أمثلتها قصائد الملا الجزيري، التي لا يزال الأكراد يتداولونها في أغنياتهم، والكلمات تجري من لغة إلى أخرى داخل البيت الواحد دون أن يختلّ الوزن. فمثلاً، الشوق سراج العاشق والجنون دينه، إذ يقوم «الشوق» بالعربية مقام «النور» بالكردية لأن لفظ الكلمتين واحد في اللسانين، وعلى المنوال إياه يحلّ «الدِّين» محلّ «الجنون».
يستوقفنا هنا الملّا محمد المحويّ (1831-1906)، الشاعر الكردي الصوفيّ، المبتهل إلى «من أنار ظلمة التقوى بنور الخمر»، ومَن غُربته الوجودُ لا المكان: «وحيدٌ أنا ولا أحد يفقه لغتي [..]/ إليّ يا صورةَ البهاء، اغمسي في دمي أصابعك». تتنقّل قصائده بين اللغات الأربع إياها، والروح فيها تتأرجح صعوداً وهبوطاً بين الأعالي والأسافل، تتنازعها التناقضات والتداعيات وتفني بعضها بعضاً. شاعرها في قلب الحياة اليومية التي لا حياة سواها ليعشقها ويرفضها. كلمته صورة في أغنية، وقصيدته رسمٌ بالمجرّدات، وهو ساكن العتبة، يسمع ما يدور وراء الباب، مخمّناً حيواتٍ أخرى في منزل مسكون بأرواح الحب التي راودت شعراء آخرين: من شيرين الأرمنية وليلى، إلى شابة يونانية وُلدت من العقل كالملاك. لا فكاك بين الحب والفناء. الحبّ، وما تبقى كله مجرد تفاصيل. الصور بنات اللذّات، والأضداد تتجاذب الروح وتمزّقها، وحين ينفد الزمان في الحياة المهدورة وتنسدّ المخارج، يتعيّن على الإنسان «أن يستعير وقتاً من صاحب الوقت ليموت فيه». تعدّد الاحتمالات أساس المعنى لدى المحوي، طباقاته وجناساته كثيرة عسيرة، يهمنا أحدها: «دم» الكردية، ومعنى اللفظ «الزمن». هكذا يكون آدم ألف الزمان وألف الدم، ولا شيء يدوم، لا كمال لمن يبدأ لأن كل بداية أول النقصان.
سين «سوف» جند من جند إبليس
تلكم الدار دار الغرام، أرضها، وَصِيدها، طَنَفها، رَوْشنها: كلها شعر وألحان
قلم النور يرسم أبداً معالمها، أين من يجد السبيل إليها؟
إنه سليمان الزمان
(سورة السواجي)
«سليمان ذو المنقارين» اسم الهدهد بالكردية. يُحكى في عفرين أنّ رائحته كعرق المراهقين مطلع بلوغهم، وهذا عقابه لأنه سكت حين شاهدهم عراة يتمرغون بالوحول حتى التصقت جذور الحشائش البيضاء بسمرة جلودهم، وأراقوا ماء الحياة في البراري، في خطوات ربيعهم الأولى على طريق الذنوب الطويل، ثم أتى الشيطان ومزج منيّهم بالتراب والعشب، وخلق من هذا الوحل دمى صغيرة جنّدها لشروره وكاثر بها الكوابيس. كلُّ دمية تتحوّل وتصير أيَّ مخلوق يراه الإنسان ولا يعرفه.
مخطوط بسملة على شكل هدهد، خطاط مجهول، القرن السابع
أخذ الهدهد في منقاره ما تبقى من ماء الحياة ليُلصق به كالغراء عيدان عشّه، حيث يخبئ بين بيوضه حجر السعادة الرقيق، ذا اللونين الفيروزي والفستقي، لترى أنْقافُه حين تفتح عيونها على العالم السماءَ في مرآة والعشبَ في مرآة أخرى. حتى الآن، كل الذين يحاولون السطو على الحجر يكسرون المرآتين.
المعلّم الفقير الدليل الحيران
دعوني وحدي أجذّف سفينتي، ومعي ديوان حافظ،
فليس في البحار ما يلفظ الدرّ سواه
(سورة الحَباب)
تذهل ذاكرة الأسدي طلبته الذين يزورونه. أخلصُهم له ابن الحلاق الذي يتردّد عليه الأستاذ. يستغرب الفتى كثرة القصاصات المليئة بالملاحظات الموزّعة في أرجاء بيته، ومجموعة الجماجم المرتّبة على رفوف مكتبته، والعدد المدوّخ من تسجيلات الموسيقا والصور الفوتوغرافية: الأستاذ من كبار سمّيعة القدود والموشّحات، ولديه أربعون ألف صورة رتّبها أبجدياً. وجرياً على عادته، يقدّم الشوكولا لزواره مشفوعة بنوادره التي لا تنضب، منبعاها حلب وكتب التراث. يسأله الطالب عن المرسوم في لوحة الفسيفساء الزرقاء المعلقة إلى صدر الصالون، فيجيبه: «هذا لسان الغيب وترجمان الأسرار حافظ الشيرازي، زعيم الشعر الصوفي وأستاذي وملهمي».
كتب الأسدي في «سورة البيان»: «وكانت الغربة طليعة البلاء». في لسان العرب، الغربة من الغرب والفقيرُ المكسورُ فقار الظهر. ربما هذا أحد الأسباب وراء اختيار الأسدي الشيرازيَّ، دليلاً مشرقياً يرشده في «أغاني القبة»، موافقاً معلّمه الآخر ابن عربي الذي قال:
ومَن طلبَ الطريقَ بلا دليلٍ / إلهي لقد طلبَ المُحالا
أجاد الأسدي اللغة الفارسية، ورأى في حافظ الشيرازي صورته ومثاله على أكثر من نحو. تيتّم الشيرازي ولزم العيش وحده مع أمه حتى وفاتها، يستيقظ كل منتصف ليل في صِباه ليعمل خبازاً حتى الفجر، ثم يقتصد من أجر عمله ليتعلّم علوم اللغتين الفارسية والعربية حتى حفظ القرآن، وتبنّى لقب «حافظ» بدلاً من اسمه «شمس الدين». لا ننسى أن الرسول أول حفظة القرآن، كان جبريل يراجعه فيه مرة كل سنة طوال سني الوحي الثلاث والعشرين، ومرّتين سنة وفاته.
عمل حافظ معلماً في مدارس شتّى طوال حياته، يسأم مهنته أحياناً ولا يشكو شحّ مرتّبه الذي أبقاه على الكفاف أو أقلّ. يُحكى أن «شاخ نبات» صدّته فاعتكف في ضريح شمال شيراز أربعين يوماً حتى زاره الإمام علي وأخرجه من نفسه في ليلة سعيدة، فأطعمه من موائد السماء وسقاه خمراً زهدَ من بعدها في الدنيا، فكتب شعراً الحبُّ مبتدؤه ومنتهاه، يقرنه الفرس بالإعجاز ولا يدرك روعته إلا مَن تكلّم الفارسية.
حافظ الشيرازي كما رسمه أبو الحسن صديقي، 1931
مقرون حافظ الغزل، كما نظم الملمَّعات التي لم يستحسنها العرب وعدّوها زخرفاً. لنسمعه في مثال مغنّى معروف يبدأ قصيدته الفارسية بالعربية ويختمها بها:
ألا يا أيها الساقي / أدِرْ كاساً وناولها
متى ما تلق من تهوى / دعِ الدنيا وأهملها
الغزلية شكل شعري تستخدمه حالياً حتى لغات أوروبية كالإنكليزية، كلُّ مقطع فيه سطران كبيت من شطرين، قافية ثانيهما كلمةٌ تُدعى «الرديف» قد تذكّر بالردف في قوافي العرب، وتكون أحياناً اسم الشاعر. الشعراء والمتصوفون الفرس القدماء يذكرون أسماءهم في شعرهم لأنهم غائبون داخل قصائدهم حائرون في عوالمها والمتكلم صوتٌ آخر سواهم، ففي العشق يحضر المعشوق ويغيب العاشق كما يفنى العبد ويبقى وجه الله. محا الأسدي نفسه بطرق أخرى. غيّب اسمه في «أغاني القبة» وأبرز حافظ. إجلالاً وعرفاناً لمعلمه الميّت سجّل بعضاً من سور «أغاني القبة» حين زار إيران، بثّتها «مَذاعة طهران» في صيف 1949، إحداها «سورة الدرداب» حيث اقتبس من سلطان آخر للعاشقين هو ابن الفارض:
لمعت نارُهم وقد عسعس الليـ / ـلُ وملَّ الحادي وحار الدليلُ
ليست الحيرة سجناً يرجو المتصوف خلاصاً منه، إنها شرط وجوده وصورته الأبلغ.
أمّ الكتاب
تعانق الظلال كتعانق الأنوار.
بلغة الدمع البليغة أناجيك. فأذن لوهج ظلالك
أن يواسي ظلك المحروب الجريح
(سورة الظلال)
لم يربط الأسدي التصوّف بالتسنّن ولا العرفان بالتشيّع. لم يعتنق مبادئ البطون والظهور، إذ لم يكن ظاهرياً ولا باطنياً. كان كلاً منهما وكليهما ولم يكن أياً منهما. لدى غلاة الكوفة مذاهب في النحو والتأويل، وقد استهوى غلوّهم غلوّه. قلّ ما نجا من مؤلفاتهم العرفانية منذ القرن التاسع. شاع عنهم تحريف القرآن، واعتقادهم بصعود عليّ إلى السمٰوات ليهدر صوته في الرعد ويومض سيفه في البروق المنشقّة كلسان الحيّة. قدّر الغلاة بالأدلة أن الحروف الاثني عشر في كلمتَي «الرحمٰن الرحيم» من البسملة تصديق لأئمتهم منذ بداية البدايات. كفتهم آية من سورة الرعد: {يَمحُوْ اللهُ مَاْ يَشَاْءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَاْبِ}. لتأليف «أمّ الكتاب» أو «كتاب الظلال»: اللغة فيه هي «النقطة التي تحت الباء»، الألف هي الملك والألف على الجبين هي روح الحياة، وجه الإنسان مرآةُ «بسم الله»، الاسم دائرة نور تحيط بوجه المؤمن، روح الكلام مستوٍ على بحر الدماغ تحت قبة القحف، جنات الفردوس هي «قبة الأرجوان» وكل الأنهار الجارية تحتها أنهار معرفة.
النقطة
كم تسافر الظنون إلى مجاهل النقطة
(سورة التعاشيب)
يُقال إن الأسدي أمضى شطراً من شبابه معتنقاً البهائية التي ظلت محافلها قائمة في سورية ومصر، حتى سَنَّ جمال عبد الناصر مرسوماً بحَلّها سنة 1960. كان أول عهْد الأسدي بمهنة التعليم مدة وجيزة من تدريس اللغة التركية في المدرسة العربية 1917. تعرف هناك إلى مجد الدين الحلبي البهائي، زميله في التدريس وجاره في حارة الجلوم، وارتاد معه المدرسة البهائية المشيّدة فوق الدار التي سكنها أبو الطيب المتنبي عشر سنين. أحبّ الأسدي أن البهائيين يتوضؤون بماء الورد، وسجودهم على لوح من البلور، وموتاهم يُدفنون في قبور زجاجية مكفّنين بالحرير، وليس لديهم كهنوت، واحتفالات ولائمهم أيام الهاء، وشهور سنتهم تسعة عشر أسماؤها من أسماء الله الحسنى، وفوق هذا كله زعيمهم ميرزا علي باب الله من شيراز. يقول «حضرة النقطة الأولى» نبي البهائيين إن الحروف كلها عوقبت على ما اقترفت من خطايا في الزمن الأول، فقيّدها الله بسلاسل الإعراب، ومن هنا وجوب الشطح لتحرير الكلمات. رفض الأسدي هذا المبدأ. كان صديقه البهائي قد أسرّ له أن «البيان»، كتابهم الأقدس، أُوحي إلى بهاء الله في سجونه ومنافيه، فنسخ به القرآن وإنْ عنون كل فصل منه «سورة».
الباء
فأنا النقطة تحت الباء، أنا سلطان مملكة النور
(سورة الحَبرة)
«أنا النقطة التي تحت الباء»، قالها الشبلي وابن عربي وكثر غيرهما من المتصوفة. سُحروا جميعاً بالباء. قال علي بن أبي طالب: «أنا نقطة باءِ بسم الله» (نقطة خفية، لأن القرآن لم يكن منقّطاً وقتذاك)، وكتب الشبلي: «بالباء ظهر الوجود، وبالنقطة تميّز العابد من المعبود».
تحوي الفاتحة كل شيء وكلها رحمة. الفاتحة في البسملة، والبسملة في باء الاستعانة، والباء في النقطة. لا يبدأ القرآن بالاسم. بدايته نقطة باء البسملة، وهي أمّ الكتاب وجميع الكتب كامنة فيها. تلك النقطة «محلّ الفيض» ومختصر الوجود ومنها نبعت جميع المخلوقات. الألف تعطي الذات ولها من الأسماء الله، أما الباء فتعطي الصفة وهي الوسط بين الواحد والكثير، وكل الموجودات طبعت بختمها.
الألف
شهدت عهد أن كانت النقطة دائرة عوالم الحروف،
ونظر الحق إليها بالهيبة فسالت وكانت ألفاً
(سورة الحَبرة)
للرائي والمرائي والمرآة جذر واحد. أستميح الشعراء الرؤيويين عذراً على هذا الاشتقاق، لأنني أحببتُ ذات يوم أن يستلهم الشاعر محمود السيد إشراقات السهروردي في «سهر الورد، أو تجليات السهروردي في الورد والدم»، يوم طغى «النص المفتوح» على قصيدة النثر السورية، وراج ما كتبه الناقد محمد جمال باروت حول الفروق بين «القصيدة الشفوية» و «قصيدة الرؤيا». كم صفحة استولد الشعراء الراؤون من الفعل «رأيتُ» حتى خال القارئ أن أناشيدهم لا نهاية لها؟
كلّ سطر يُكتَب يموت. بعض الشعراء هرقل، رامحٌ أو ساهمٌ مدّرع متباهٍ بمفتول العضل ينازل وحده هيدرا اللغة الساكنة في موج البحر، يقطع رأساً فينبت آخر في موضعه، وإذا شاء القدر انتهى النزال الطويل في حلبة الزبد والدم بضربة قاضية يسددها الشاعر إلى الرأس الأم، أسّ الولادات، فتهمد الهيدرا التي لا تموت وتنتهي القصيدة مليئة برؤوسها المقطوعة.
* * * * *
ترأس محمود السيد تحرير ألف، المجلة الأدبية التي ساهم في تأسيسها سنة 1990 الشعراءُ الشبّان لملتقى جامعة حلب. الألف حجر الأساس وأول الأمل. لم يقرنوا هذا الحرفَ بآدم ولا لويس زوكوفسكي ولا بورخيس ولا آرتور رامبو وحروفه الصائتة الملوّنة ولا حتى علّامتهم الأسدي الذي شرّح الألف في مخطوط غير منشور من 481 صفحة، بل استلهموه من مخاطبات النفري: «يا عبد، الحروف كلها مرضى إلا الألف». اتخذوا من هذا القبس شعاراً لمجلتهم.
من يستطيع أن يُحصي ما راج من الطلاسم والطواسين في القصائد شرقاً وغرباً؟ شاعت تأويلات الحروف واستخداماتها إلى حد يصعب حصره في الشعر والفن العربيين الحديثين والمعاصرين، من الخليج إلى المحيط. انقسم المتمسّكون بآرائهم إزاء الحروفية، غير أنّ مَن رآها تاج الأصالة لم يبتعد عمّن عدّها تخلفاً دينياً وتكريساً للانحطاط وانصياعاً للاستشراق والفولكلور الاستعماري. سهّلت صعوبتها وغرابتها السخريةَ منها والانبهار بها على السواء.
دولة السنبلة في أرض الحقيقة
في دبيب النور، وعلى قطرات الطلّ،
زرعتُ حبّة روحي بيدي في حقل الوجود
(سورة الذكرى)
قد تكون دولة السنبلة الغامضة في الفتوحات المكية هي دولة الألف. «فلمّا خمّر الحقّ بيديه طينة آدم، وجعل ظهره محلاً للأشقياء والسعداء من ذريته … أودع الكلّ طينةَ آدم، وجمع فيه الأضداد بحكم المجاورة، وأنشأه على الحركة المستقيمة، وذلك في دولة السنبلة».
بعد خلْق آدم، تبقّت فضلة من خميرة طينته خلقت منها النخلة «أخته وعمّتنا». وأي شجرة أكرم من شجرة وَلَدت تحتها مريم بنت عمران، سَقَفتْ أوراقها المساجدَ الطينية الأولى، وحفيفُها حنينُها إلى الرسول؟ وبعد خلْق النخلة، بقي من بقية الطينة قدر السمسمة في الخفاء خلقت منها أرض السمسمة، أو أرض الحقيقة مسرح عيون العارفين، تتآلف الأضداد في رحابها، وفيها من العجائب والغرائب والمحالات ما لا يقدر على حصره أحد:
العارفون يدخلون هذه الأرض بأرواحهم لا بأجسامهم، وخلقها ينبتون كالنبات من غير تناسل. كلّ من يدخلها يُعطى فهم جميع ما فيها من ألسنة، ويشهد وجود الجسم الواحد في مكانين في الوقت عينه، ويرى بحراً من تراب تمخره سفينة التأمت من الحجارة ركابها يسافرون حيث يشتهون.
هذا نزْر يسير مما شهده ابن عربي. أورد أحد شارحيه عبد الكريم الجيلي في الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل أن المريد أراد أن يتزيّا بالزي الفاخر لرجال الغيب، فقال له واحد منهم إن الثياب في سوق السمسمة الباقية، فسأله: «وهل أجد سبيلاً إلى هذا المحل العجيب؟». «نعم، إذا كمل وهمك، وتمكنت بمشاهدة الحس لمعاني الخيال. حينئذ تنسج لك من تلك المعاني ثياباً وإذا لبستها فتَح لك إلى السمسمة باباً»، فأشار بيده بعد همهمة فإذا أنا في أرض السمسمة».
خلق الله الكون من نقطة باء البسملة، أصغر ما في القرآن. السمسمة رمز ما خفي ودقّ عن البيان، واسم أصغر العظام في يد الإنسان. فهل تساءل الأسدي، في لحاقه بالدقائق والخفايا في دفاتره ومخطوطاته، إذا ما كانت هذه السمسمة المباركة التي تداول قصصها عامة الناس في حلب قد بلغت مسامع حنّا دياب، فأعاد الأخير روايتها لأنطوان غالان جاعلاً «افتح يا سمسم» المفتاحَ السحري لمغارة علي بابا؟
المترجمان
والنبي شايل كتاب
من حلب لعنتاب
(من شدّيات عرس حلبي)
أنطوان يوسف حنا دياب حلبيّ ماروني معروف باسم «حنا»، سافر إلى أوروبا مترجماً لفرنسي يجمع المخطوطات والتُّحف يدعى بول لوكا.
مثُل حنا دياب في حضرة «الملك الشمس» في فرساي. أنطوان غالان، أول مترجمي ألف ليلة وليلة وأول محرّفيها الأوروبيين، التقى حنّا في «بهريس»، واستمدّ منه الحكايات التي سدّ بها ثغرات مخطوط ناقص كان قد أحضره من إسطنبول وأمعن في ترجمته تهذيباً وتحريفاً. حذف البذاءات وعطّر ليل الشرق بالبخور وزخرفه بالأرابيسك ومدّن عربانه ليليقوا بأناقة صالونات باريس. أهدى حنّا أو أنطوان الحلبي ثروةَ حكاياته التي اختلقها أو سمعها في حلب إلى سميّه المترجم الآخر الذي لا يكاد يذكره في المصادر، فبادله حنّا الحذف بالحذف حين روى رحلته، ولم يذكره إلا عرضاً. لا يزال حذف أسماء المترجمين سهلاً، سوى أن قصص حنا المزوّرة، المروية بالفرنسية مرّتين مرة بلسانه ومرة بلسان سميّه، مثل مصباح علاء الدين وعلي بابا والأربعين حرامي، أقفلت إلى العربية وصارت جزءاً من «ألف ليلة وليلة» التي تُرجمت بدورها عن أصول أخرى مجهولة.
روى أنطوان المشرقي رحلته الأوروبية بلهجة عربية وسطى تختلط فيها الفصحى بالعاميات. مزج الحكواتي سيرته بسير الذين تخيّلهم ودسّ نفسه في ثنايا قصص الآخرين. هذه الرحلة دائرية، تبدأ بانطلاق الترجمان حنا من مدينته حلب، وتنتهي برجوع بول لوكا إليها مرة أخرى. هنا يأخذه حنا إلى سرداب بين حلب وعنتاب كان ممراً سرياً لجنود الحروب القديمة، وكلّ المغامرين الذين دخلوه اختفوا إلى الأبد، ولكن جامع التحف ومترجمه يخرجان من هذه المتاهة آمنين: «وكلْ من راح في حال سبيله، ونستغفر الله من الزيادة والنقصان».
المترجمان
أتناول كسرة الخبز اليابسة من مائدتي، مبللة بدموعي،
ولكم دعوتُ جبريل إليها، فلبّى ولزّنا دفء الوداد
(سورة الحكمة)
تولّه الأسدي بالمعرّي. بجّل تبحّرَه في النحو وشكوكه وأطربته لواذع سخريته، وتلذّذ مثله بالكلمات «كأنها الراح». لعل أبا العلاء مَن ألهم الأسدي ليصير نباتياً بضع سنين لا نكاد نعرف عنها شيئاً سوى انشغالات مبهمة بدراسة الهندوسية ومناضلات نسّاكها وتناسخ أرواحها. كان هاديه «لزوم ما لا يلزم». استمتع دائماً بالمعارف المهملة وعشق الكتبَ المنسية عشقَه المدن الميتة – جاراتِ حلبه الأحبّ. واظب الشاب على النباتية حتى فقر دمه ووهن جسمه فأجبره طبيبه على أكل اللحوم. حين وضعت أمّه طبق اللحم قدّامه، لأول مرة بعد سنين، راح يبكي ويبكي حتى غسل دمعه كبد الذبيحة المقطّع أمامه، وراح يتناوله، في إشفاق وتردّد، ولقمته منداة بدموعه.
في نهاية تلك السنوات، تعرف الأسدي إلى بارسيخ تشيتويان أثناء التدريس في مدرسة الهايكازيان الأرمنية، وترجم معه عروج أبي العلاء للشاعر الأرمني أويديك إسحاقيان (1875-1957). صدرت الترجمة، إذا جازت التسمية، لدى مطبوعات الضاد في حلب 1940، وكان دور الأسدي هو صياغة القصائد دون مراعاة الحرفية عند تعريبها، ومراده أن يعدّد دهشة خالقها. هذه الملحمة مقسمة إلى سبع قصائد، وضع إسحاقيان لكل منها عنوان «سورة»، مختلقاً سيرة شعرية للمعري دليل رحلته في الصحراء، بعد خروج الأخير من بغداد التي عشقها قافلاً إلى عزلته النهائية المديدة في معرّة النعمان.
غلاف كتاب أغاني القبة
ربما كانت هذه الترجمة أحد تمارين الأسدي على معراجه في أغاني القبة. روى لزميله الأرمني، نقلاً عن رسالة الغفران، أن آدم تكلم بالعربية في الفردوس، ثم أنساه إياها الله حين عصى ونُفي إلى الأرض فتكلّم بالسريانية. مازحه بارسيخ: «ما دامت الجنة لكم والأرض للسريان، فماذا تبقى لنا نحن الأرمن؟».
الكلمة المشتراة بربع قرن من العمر
فني الفنا، ونادى الحقّ: يا أنا!
ليسيّة بدايتك كليسية نهايتك:
وجود عدم، وعدم وجود.
(سورة الليسية)
قد تشيّب الكلمة سامعها وقائلها. في الحديث «شيّبتني هود وأخواتها»، ففوق أهوال تلك السور التي تشيّب الولدان وضع الرسول الأمر الإلهي: «فاستقِم كما أمِرتَ»، إذ ما من آية أشدّ ولا أشقّ عليه من هذه.
قال الأسدي في حوار أجري معه سنة 1965 أنه «ليس هي الكلمة التي اشتريتها بربع قرن من عمري». أنفق 28 سنة باحثاً من مكتبة لأخرى، وزائراً هذا القطر أو ذاك، نابشاً جذور «ليس» وأسرارها. كانت ثمرة كدّه مجلّدين في 600 صفحة. ردّد أنه يعشق الكلمة التي يتفانى في البحث عنها حتى تتجسّد أمامه شخصاً «فيرفع الكتاب إليها كأيّ حبيب»: «ليس! يا مجلى العدم، لبّيك! طهّرتُ شفتي بالهباء ثم تلوتُك […] نعم، ليس! يا مجلى العدم، ومظهر الطهر! يا لائية الوجود ونفي الدنس، إليك أرفع وريقاتي هذه، وإنها لمنكِ وإليكِ وبكِ، وإنني بتقديمها لجدّ سعيد».
* * * * *
اصطخبت مقاهي المثقفين شرقاً وغرباً بمجادلات العدم والوجود عقب الحرب العالمية الثانية. لم تكن أمواج جان بول سارتر والوجوديين قد بلغت لسان العرب حين كان الأسدي في وحدته يعرّي تاريخ الفعلين الناقصين «أيس وليس»: «أخطر فعل في لغات العالم طرّاً هو فعل الوجود». ربما قدح الكندي شرارة البدء بما كتبه عن الله «مؤيس الأيسات عن ليس» أي خالق المخلوقات من عدم، وبلغت الفكرة إحدى ذرواتها لدى ابن عربي الذي افتتح «الفتوحات المكية» بهذا الشكر: «الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدَمه، وأوقف وجودها على توجّه كلَمِه».
«ستودّعنا وفي نفسك من ليس شيء»، داعب الطلبة أستاذهم الأسدي حين التقطوا صورة تذكارية له شائباً أمام لوحة «ليس» المكتوبة بخط الثلث والمعلقة في بيته. لم يحدد لهم المقصود أو المقصودين بخافت الهمسات وغريب التساؤلات التي تصل إلى مسامعه رغم الجهد الذي بذله في هذا المضمار: «ولكن ما فائدة «ليس»؟ وهل يُسمّى التعمّق في دراستها علماً؟»
الدُّوار
سيطوف حافظ حول البيت الحرام:
بيت الأباريق والدنان
(سورة الزنّار)
اهتدى الأسدي بابن عربي الذي «كان عيناً فصار قلباً»، فتقصّى الحقيقة في كل دين. فلنضعِ المثل الحلبي: «فلان تمّو جامع وقلبو كنيسة» مقابل أبيات معروفة للشيخ الأكبر يدين فيها بدين الحب، ويقبل قلبه صور المعابد كلها: دير رهبان، كعبة طائف، بيت أوثان… قد نقول إن هذا التنوع ماثل في الطبقات الخفية لأساسات الجامع الأموي في دمشق، المبني فوق كنيسة بُنيت فوق كنيس بُني فوق معبد وثني، ولا تزال هناك بقايا صور على قسم من جداره الجنوبي كرسوم الشجر والزهور.
يقتبس الأسدي في «سورة الحكمة» حديثاً قدسياً: «أما سمعت النداء القدسي؟: لا يسعني أرضي ولا سمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن».
المؤمنُ سميُّ الله، قلبه عرش القرآن وفيه مستقرّ الكعبة. يسجد المؤمن بقلبه، فوجهةُ الوجه القِبلة وسجود القلب لربّ الكعبة. السجود خير أفعال الصلاة، والمؤمن الحقّ ساجد الدهر لا يرفع رأسه أبداً لأن رفع الرأس غفلة عن رب العالمين، أما الكافر، أياً كان ما يعبده، فيسجد بظلّه لله.
في «سورة الدرداب»، يقتبس الأسدي من سلطان العاشقين:
وبي موقفي لا بل إليّ توجّهي / كذلك صلاتي لي ومنّي كعبتي
فكم من معنى يتخفّى في قلب شاعر؟ يذكر ياقوت في معجم البلدان أنّ الكعبة سرّة الأرض وأول مكان خلقه الله، ومن أسمائها الأل والدوار. ربما كانا سيروقان الأسدي فيدرجهما في تفاسير «يا ليل» لسواد الكعبة وطواف عبّادها حولها مرنّمين، وكذلك طيف الإله الساميّ «إيل» في اسمها. روى الأزرقي في «أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار» أن قريش قد جعلوا في دعائم الكعبة صور الأنبياء والشجر والملائكة. يوم فتح مكة، دخل الرسول الكعبة واقتدى بجده إبراهيم الذي رفع قواعدها، فأمر الصحابة بتحطيم التماثيل كلّها، وقال: «امحوا جميع الصور إلا ما كان تحت يدي»، فطمسها عمر بن الخطاب بثوب مبلل بماء زمزم إلا صورة عيسى وأمه مريم. احترقت صورتهما هذه حين حُوصر البيت الحرام في عهد يزيد بن معاوية وقُذفت الكعبة بالمنجنيق فاشتعلت أستارها. كما تلاشى في هذا الحريق قرنا الكبش الذي فدى الله به إسماعيل، وكان رأسه من قبلُ معلقاً إلى الجدار بين «المعلّقات» المكتوبة بماء الذهب.
الكهف
هلمَّ إلى كهف يضحك فيه النور: خمر النور: خمر أمم النور
(سورة الحكمة)
كان نصّ الآيات ينسكب في روح الرسول «مُشعّاً كالصورة». رأى الملاكَ جبريل للمرة الأولى في غار حراء، وكان «جالساً على كرسي بين السماء والأرض».
عظّم الأسدي نقلة الرسالات، وكتب العديد من «أغاني القبة» عارياً، بالمعنى الحرفي للتعبير. كان يعتكف أياماً وليالي بأكملها لا يراه أحد، فيُسدل الستائر ويتخفّف أو يتجرّد من لباسه، صامتاً جائعاً يلفّه الظلام. كان يجهد نفسه بصيامٍ صارم حتى تصفو روحه وتخفّ، عسى أن تحلّ ساعة لا ضامن لحلولها، فتنهمر عليه الموسيقا من النجوم ويملأ النور أرجاء البيت ويُسمع وقع خطوات رابعة العدوية، وعلى إيقاع قدميها يبدأ كتابة سوره.
تُفيدنا مقدمة ديوانه أن الشعر، في شواش الحواس، يلتقط الصور بـ«عدسة الغيبوبة»، «نشوة روحية يفيض بها اللاشعور المستعر ويخنس الوعي»، «ولعلّ هذه الإثارة من بقاياها التي لم يذلّلها الوعي». قد تبهت الصور في سوره كأنها منامات ناقصة أخفق مَن رآها في استعادتها فزيّفتها اللغة لتختلق منها صوراً أخرى.
المستهلَك في التصوف طالبُ هلاكه، وتكاثر الصور عليه سببها المظاهر، أما المعصوم فيبقى محلاً تتقلّب فيه الصور دون أن تؤثّر فيه. قد تُفهم الصورة الصوفية في ضوء الردّة الأفلاطونية للمجتمعات المعاصرة ومسجونيها المشوّشين وأنفاقها المكتظّة بالإعلانات، فيلتقطون من الواقع صوراً تخصّهم وحدهم تعوّضهم عن الواقع وتحرمهم منه ليتحول الأخير إلى نسخة أو ظلّ أو خدعة.
خرج الأسدي من سجن المحاكاة الأفلاطونية وجاب متاهة الخلق، حيث «صورة آدم مكتوبة بخطّ الله» كما كتب الغزالي في «مشكاة الأنوار». أُسوةً بأصحابه وشيوخه المتصوفة، رأى الأسدي أن الصورة الشعرية تمر عبر حاسة الذوق «كحركة جزئية في مشهد جمالي كلّي»، واقتبس من النور الأبهر في «سورة الدرداب»:
مُدّت موائده حولي، وطلعته / ترنو إليّ، وقد غابت عن اللاهي
وليمتي هذه الدنيا بأجمعها / وكلُّها صورةٌ من صورة اللهِ
المصوّر البارئ {فِيْ أَيِّ صُوْرَةٍ مَاْ شَاْءَ رَكَّبَكَ» (سورة الانفطار)، والمصوّر، كما يذكّرنا الحاتميّ، «مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءَه»، ومِن رحمته أنّ الوجود صورٌ تتناسل وتسافر، وما من صورة تطابق الواقع إلا في عين الله. هذه المطابقة محال بعين الإنسان، وشتان بين من يرى نفسه بعينه ومن يراها بقلبه.
جاء في الحديث: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء». القلب مشتق من التقلّب، وما يظهر فيه محكوم أبد الدهر بالتحوّل والتتالي. يقول أبو طالب المكّي في «قوت القلوب» إن الله ما تجلّى قطّ في صورة واحدة لشخصين، ولا في صورة واحدة مرتين.
سوق الصور
ليكن موعدنا وراء بحر بلور الأثير، وليكن
ثالثنا إيماءة الشيخ الأكبر:
إذا تبدّى حبيبي / بأيّ عين أراه؟
بعينه لا بعيني / فما يراه سواه
(سورة الزنّار)
جاء في سنن الترمذي هذا الحديث النبويّ: «إن في الجنة لسوقاً ما فيها شراء ولا بيع، إلا الصور من الرجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها». توسع ابن عربي في شرح هذا الحديث في الفتوحات المكية، «ففي جنة الفردوس سوق معين به نشر الرحمٰن من صوره». يأتي أهل الجنة إلى سوق الصور فمَن اشتهى صورة دخل فيها وانصرف بها إلى أهله كما ينصرف بالحاجة يشتريها من السوق، وإذا اشتهت جماعةٌ الصورةَ نفسها حازها كل واحد منهم فيأخذونها معهم وتبقى الصورة في موقعها لا تبرح السوق ولا تخرج منه، فهذا من «تجلّي الحقّ في صور متعددة يتحوّل فيهنّ من صورة إلى صورة والعين واحدة». كل مشتاق ينال شيئاً فتفوته أشياء. الجنة والأرض مرآتان متقابلتان، الباطن في إحداهما هو الظاهر في الأخرى. الناس في سوق الجنة يتحوّلون بالصور «من غير نزع ولا خلع، والباطن على حاله كما تتحوّل البواطن هنا بالصور والظاهر على حاله». «فإذا دخل [الروح الإنساني] سوق الجنة ورأى ما فيه من الصور، فأية صورة رآها واستحسنها حُشر فيها، فلا يزال في الجنة دائماً يُحشر من صورة إلى صورة إلى ما لا نهاية له ليعلم بذلك الاتّساع الإلهي».
لكل مؤمن اسمٌ مقدَّر من أسماء الله لن يدرك سرّه. المصوّر عبدٌ انتحل اسم ربّه، وفوق كل عبد اسمٌ يرأسه. كل عابد يحبس حقيقته في صورةٍ ويعبدها، متعبّداً إلهاً من خلقه يعتقد به، فتعزّيه تلك الصورة وتُبكيه، وينكر الصور الأخرى إذا خالفت صورته ما تبدّى له. لهذا كتب الشيخ الأكبر: «فما ثمة إلا عابدٌ وثناً».
الفرمصوني
وخُتم على شفتيّ، فشربت دم قلبي في صمت وسكون
(سورة الحَبرة)
مراهقة الأسدي موسومة بمقاطعتهِ أباه الشيخ عمر بعدما طلّق أمه. ترسخت القطيعة بينهما حين اشتبه الأب بأن ابنه الوحيد ملتهم الكتب قد أوهم الناس بالتواري والانطوائية لينتسب إلى الجمعية الفرمصونية [الماسونية]. قِيل إنها جمعية عالمية سرية تعاونية أسسها اليهود في القرن الثامن، وشعارها الزاوية والبيكار. كان ابنه يرتادها ويعرف أعضاءها، لكنه أصر دوماً على عدم الانضمام إلى «جماعة الإخوان البنّائين الأحرار». لم يتزاورا إلا نادراً حتى وفاة الشيخ عمر سنة 1940، فأشهر الأسدي تصوفه وتولّى دفن أبيه ومراسم العزاء رغم حظر التجول الذي كان الجيش الفرنسي قد فرضه في حلب. اعترضت دورية فرنسية موكب المشيّعين وأوقفته بالبنادق، وأمرتهم بفتح التابوت للتأكد من عدم وجود أسلحة فيه.
خير الدين الأسدي
ثم عاش الابن مع أمه في حارة العقبة حتى وفاتها. ذات مساء خريفي ممطر، اختفى من الحارة حجرٌ تعلقّت به روحه. كان يمرّ يومياً بجامع القيقان ويمتّع عينه بذلك الحجر وجمال نقوشه الهيروغليفية الحثّية. علم الناس أن قنصل فرنسا قد سرقه. أغواه سحر الهيروغليفية كما أغوى أسلافه. أما الألمان فاشتروا تحفة رفراف الليوان في بيت صادر. لحسن الطالع، لم يأبه القناصل والرحّالة بالأفاعي المنحوتة في قنطرة مدخل جامع الحيات الذي كان معبداً حثياً ثم كنيساً، ولا يزال هناك في باحته لوح بازلتي منقوش بكلمات عبرية.
الدال
نُسغ الحياة حلو مرير،
ليكن مريراً علقماً،
إنه نسغ الحياة
(سورة المقصَف)
تبين موسوعة الأسدي كم عرف من فقراء اليهود وأغنيائهم في حلب، ومنهم الحاخامات والتجار والمترجمون لدى القنصليات والصيارفة والأطباء، وهم يقولون لدى تعذيب الجهلة إياهم: «أموت فداك»، و«خوجات» الغناء في كباريهات شارعي غورو وفرنسا «معظمهن يهوديات كنّ في حفلاتهنّ يتعشين بيضاً مسلوقاً، زاعماتٍ أنه لتليين الحنجرة يجلو الصوت ويطرّيه، والحقيقة أن اليهود لا يأكلون من طبيخ غير اليهودي». درس تاريخهم ومآكلهم ونقل بعضاً من قصصهم وأمثالهم وخفايا لباسهم، واستشار مراراً الحاخام إسحق شحيبر الذي أغنى الجانب العبري من بحوثه اللغوية، كما استقصى مفرداتهم التي طعّمت لهجة حلب، بما فيها ما جلبه يهود الإسفاراد من جديد الألفاظ بعد طردهم من الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر ووصول الميسورين منهم إلى حلب (الماعوط: النقود، السُّوْحقة: الضحك، وبعض اليهود اسمه «إسحق» يدعه ويمضي إلى لفظه في اللغات الأوروبية فيقول «إيزاك»، ثم يضطره محيطه العربي فيجعله «زكي»…إلخ). يهود حلب سمّوها «متا محسيا» أي ملجأ الله، وسماها الصابئة «مدينة الأحبار». الحلبيون ينادون الحاخام «خاخام»، ويقولون «خوخم» أي قرأ قراءة غير مفهومة، ويسمون الوزغة (أي «أبو بريص») جمل اليهود، والخُبَّازى من طعام فقرائهم (الخبازى «بقلة اليهود» في تاج العروس). كانوا يكتبون العربية بأحرف عبرية قبل القرن السابع عشر، وهم «يلفظون الواحد ’واحى‘، ويقول الإسلام أنهم يحذفون الدال نكاية بدال محمد»، و«اليهودي إذا مدحته أساء الظنّ بك»، ولدى تجهيزهم الميت يفتحون أجفانه ويذرّون التراب على عينيه، «ومن هنا جاء المثل ’العين ما بتشبع إلا من التراب‘». «ويزعم الإسلام أن اليهود يقولون في جنازاتهم: ’يا موت ليش أخدتو؟ عمرو ما قتل مرتو، عمرو ما اشتغل سبتو، عمرو ما نصح مسلم‘، وأن اليهود إذا رأوا جنازة مسلم قالوا لبعضهم: ’سمّاقي‘، يريدون تكملتها في القلب عندهم: ’عقبال الباقي‘. وهذه وأمثالها تخرّصات يضعها العوام، وإلا فنحن عاشرنا اليهود 21 عاماً لم نرَ صحة لهذه المزاعم، بل بالعكس عمّ البلدَ خبَرُ من استودع سياهو شماع مبلغاً ملفوفاً ثم ادعى أن طيه ذهباً وكلفه لليمين فأبى ودفع المبلغ».
العصفور اليهودي
يقظة وسنى في مهاد الخيال،
وجناح جبريل يروّح عليها ويهدهدها!
(سورة الشظايا)
اختلف السلف في كلمة «يهود»، فقيل هي من «الهودة» أي المودّة، أو «التهوّد» أي التوبة، وسكّوا منها فعل «يتهوّد» أي يتحرّك عند تلاوة التوراة. التهويدة أغنية تنويم الطفل، والهدهدة أرجحته لينام في المهد أو سواه، وهي أيضاً الوسوسة وأصوات الجنّ التي لا واحد لها، فحين نام بلال الحبشي عن إيقاظ الناس للصلاة قال الرسول: «جاء شيطان فحمل بلالاً فجعل يهدهده كما يهدهد الصبيّ». والهدهدة أيضاً الهديل، وقد يفسّر لنا هذا الحضورَ الطاغي للحمام في التهويدات. يذكر الأسدي في موسوعته اعتقاد الحلبيين بأن العصافير يهودية والحمامة مسلمة، ويستعيد من طفولته هذه المناغاة:
«وكنتُ قد سألت أمّي:
-لما كنت أنا زغير كنتي تدلليني؟
-يا كان.
-وأش كنتي تقولي لي؟
-كتير أشيا.
-متل أيش؟
-هزّي راسك يا ميمه / راسك راس الحمامه
-وأنا كنت أهزّو؟
-في الأوّل أنا كنت أهزّلك ياه، وبعدا صرت لحالك تهزّو.
-وأنتي كنتي تنبسطي؟
-يا سلام! الدنيا كلا كانت ترقص لي!»
الباء
لا أزال أذكر ذلك اليوم: يوم الخليقة،
إذ وقعت نقطة من مداد قلمك،
فكان ما كان،
وجفّ القلم
(سورة التعاشيب)
خُلق الكون من الباء في اليهودية والإسلام. إذا ضربنا صفحاً عن اللغات غير الأبجدية، وإذا وضعنا السريانية أو أمّها الآرامية جانباً، فسوف تتنازع العربية والعبرية على أقدس البدايات، أيهما حامل الشعلة الأولى وأيهما سارقها. لم يكن أولمبياد الإغريق قد بدأ وقتذاك، ولا أوقدت نار زرادشت. اللغتان الإلهيتان تتباريان في القداسة، فهما مكتوبتان بيدي الله، وكلتاهما يد يمنى.
التوراة في التلمود مكتوبة بنار سوداء على نار بيضاء، وهي أول الموجودات السبعة. استفتاها الله قبل خلق العالم، فتردّدت خوفاً من ارتكاب المخلوقات الفانية للمعاصي، ثم وافقت، فتنزّلت من تاج العظمة الإلهية حروف الأبجدية العبرية الاثنان والعشرون، المكتوبة بقلم من لهب. هبطت حرفاً تلو حرف ثم تزاحمت، وكلُّ ينادي لله: «اخلقِ العالم من خلالي أنا! اخلقِ العالم من خلالي أنا!». اختيرت الباء، الحرف الأول من «بُورِك». كانت الألف هي الحرف الوحيد الذي لزم الصمت في زحام المتنافسين المتطلعين جميعاً إلى الصدارة، فجازاها الله على تواضعها بمنحها ناصيةَ الأبجدية.
أهدى الأسدي «أغاني القبة» إلى كلمة «تبارك»، رافعاً صلواته إلى هذا السرّ بابتسام وخشوع في صفحة الإهداء: «نعم، إلى تبارك هذي التي ولدت معها ولم، وأموت معها ولن». «تبارك» اسم العلم المذكر والمؤنث معاً، أو سورة القرآن ذات الاسمين (اسمها الآخر «الملك»)، أو الله إذا قرأنا الآية حرفياً: «تبارك اسمُ ربكّ»… إنها الكلمة التي «استوت على مفرق سلم الوجود والتفتت حولها»، فإذا الجنة والنار.
الألف
يا هامش الكتاب! يا جبين الحبيب!
(سورة الأُسميذ)
يشير الأسدي في الموسوعة متعجّباً أن القرآن حين يذكر الإنسان يذكر مساوئه، وحين يذكر ابن آدم يذكر محاسنه.
الإنسان في القرآن مخلوق تكلُّمِ الله. «خُلق الإنسان من عَجَلٍ»، أي ضجِراً لا صبر له على سراء ولا ضراء. له نشأتان: الطين والنطفة. صفاته لا تَسُرّ: الهلوع، الكفور، الظلوم، الجهول، الضعيف، اليؤوس. استعار ابن عربي معرَّبَ الكلمة الفارسية «برنامه» ليكتب أن الإنسان برنامج العالم. الإنسان مختصر العالم ومصغّره وطلسمه؛ نقرأ في فصوص الحكم أن «العارف يخلق بالهمّة» و «متى طرأ على العارف غفلةٌ عن حفظ ما خَلق، عُدِم ذلك المخلوق»، فما لا يُنتبه إليه يَفنى، أما الحقّ فلا يغفل فيبقى ما خَلَق. الهمّة يرادفها الإخلاص والحضور لدى المتصوّفة، وهي قوة غامضة أنعمت بها عناية الله على صفوتهم.
تخبرنا دراسات غرشوم شولم للقبلانية أن حاخاماً خلق الكون بأكمله من حروف كلمات عشوائية للتوراة، ولكن لم يستطع أحد أن يرى شيئاً من هذا الكون المصغَّر، حتى الحاخام نفسه الذي خلقه وظل يحمل الكون كلّه معه في جيبه.
أطلقت إسرائيل اسم «غولم» على أول كمبيوتر صمّمه علماؤها، ولا تقلّ هذه التسمية شططاً عمّن يعدّ منارةَ الجامع وقبته الواحدَ والصفر في لغة كمبيوتر الكون. لم يظهر الغولم المنقذ لدى اليهود في وادي الرافدين، أرض الكتابة الأولى على الطين. ظهرت أسطورته في وسط أوروبا أواخر القرون الوسطى واكتملت في القرن الثامن عشر، حين خلق المهارال إنساناً نباتياً حزيناً في غيتو براغ، بناء على وصفة سحرية ضائعة، قامت على تجميع حروف عشوائية لكلمات التوراة، هذا لأن كلمات الله تحتوي الأسرار كلَّها.
جمع الأسرار في العربية أسارير، والسرّ الخطُّ في باطن الكف والخطّ في الجبين. حروف الأبجدية هي مادة الخلق الأولى في اليهودية والإسلام. جسد الغولم صلصال من كلمات، ومصيره مكتوب على جبينه. كتب الحاخام لاوي على جبين الغولم كلمةَ «إمِت»، أي «الحقيقة» بالعبرية، كما يكتب الخزّاف بإصبعه على طراوة الطين، وعند شروق الشمس كانت هذه الكلمة تعيد الحياة إلى المخلوق الأسمر كالتراب، فيقوم إلى خدمة الكنيس ويقرع الأجراس ويعاون الحاخام في أعماله اليومية المعتادة. لكنّ الغولم خرج عن سيطرة سيّده لاحقاً وقتل كلّ الذين صادفهم أو اعترضوا طريقه في الغيتو، فاضطر الحاخام لاوي إلى محو الألف، الحرف الأول من «إمِت» أي «الحقيقة» المكتوبة على الجبين، فأصبحت الكلمة المقروءة «مِت» أي «الميت»، ورجع المخلوق إلى الغبار الذي خلق منه. اللغات السامية تتقاسم «الموت» نفسه مع تعديلات طفيفة في اللفظ، له في العربية عشرات الأسماء التي تراوغ مكر الفظاعة، صنّفها لغويُّ الأندلس الكفيف ابن سيّده في «المخصّص»، وبعضها مؤنث مثل الوفاة والمنيّة والقاضية وسواها مما أفنى التقادم.
الغولم أسطورة الخلاص الذي ينقلب إلى لعنة، ناشده اليهود حمايتهم فارتكب المنقذ مذبحة أخرى ضدهم. إنه سلف فرانكنشتاين الذي يدمّر خالقه، وهو المثال عن انقلاب الوديع إلى قاتل، أو لعله كناية عن عنف المخلوق وندم الخالق وموت كليهما، أو بالأحرى كناية عن الكتابة نفسها- كيف يختلق الكاتبُ الكتابة، وكيف تختلق الكتابةُ الكاتب، وكيف يتلف كلٌّ منهما الآخرَ فيَخلَقان بمرور الوقت.
اسم الاسم
تعلمتُ في مدرسة الأسى
(سورة التقطير)
جاء في موسوعة الأسدي أن النصارى يُكثرون من اسم الصليب؛ ويكثر الإسلام من «بسم الله الرحمن الرحيم» لا سيما إذا صبّوا زيتاً مما يستدعي أن تزداد بركته (وفي الفارسية المسلخ بسملكاه حيث تُتلى البسملة قبل الذبح)؛ من تهكّمات الحلبيين: «اسمك خفيف يا عبد اللطيف»؛ «قالوا للعاطل: صير مليح قال لن: بصير لي اسمين»؛ «الخنفسة شافت بنتا عالحيط قالت: اسم الله! لُوليّة ومضمومة بخيط!». ومن تشبيهاتهم: «متل شرب الدخان لا أولو بسم الله ولا آخرو الحمد لله»؛ ومن ألغازهم: «إينا شي أنته بتملكو والناس بستعملوه أكتر منك»؛ «شي فات فيك وما طلع» (اسمك).
أطلق العرب اسم «الاسم» على المقصود نفسه. وكان يهود حلب يردّدون «بشم هشم»، أي باسم الاسم، «لا يذكرون الله تأدّباً وديمومة عزّ»، ومن دعائهم على أحد أن يُمحى اسمه وذكره من العالم. ألمَّ الأسدي بالعبرية. بدأ تعلمها في الثلاثينات حين درّس النحو والصرف العربيين في مدرسة «الأليانس توراة تلمود» التي افتتحت منتصف القرن التاسع عشر في حي بحسيتا. نبغ بين تلاميذ هذه المدرسة عزرا بنڤنيست، المولود في حلب لأبوين يعملان موجّهين في هذه المدرسة ذاتها ونشأ على تعدّد اللغات، قبل أن يتبنى اسم «إيميل» حين انتقل إلى فرنسا ليدرس في المدرسة الحاخامية في مرسيليا، ثم استقرّ عالم لسانيات في باريس. كتب بنڤنيست حول «التجديف» في واحد من مقالاته المتأخرة: «لا يجوز أن يمرّ اسم الله عبر الفم، لأن فعل التلفّظ يطبع أثراً في العالم، والاسم هو الوجود. اسم الله هو كيان الله. فمن صنع وجوده هو حرفُ اسمه».
الضاد
سراج الكأس ينير زوايا القلوب، فتطلّ على تعاشيب الأحلام.
سنخترق -ونحن سكارى- هذا الفلك المسجور، ونرفع النقاب عن وجه الله
(سورة التعاشيب)
اقتصر بنڤنيست على اللغات الأوروبية حين فنّد إمكانية اشتقاق معنى ما ونقيضه من جذر واحد. اعتقد أن وجود كلمات متضادة المعاني وهمٌ محض.
الضدّ في لغة الضاد كلمة متعددة الدلالات فيها دلالتان متضادتان تماماً، محدّد المعنى السياقُ أو النعت. قد تكون صفة أو اسماً أو ظرفاً أو فعلاً لازماً أو متعدياً. عدد الأضداد يناهز الثلاثمائة، أثبتها الأصمعي والسجستاني وسواهما، إحداها «الضد» نفسها، فمعناها الخلاف والمثل. الكثير منها مهجور، مثل التجوّن، أي تبييض باب العروس وتسويد باب الميت، و«المسجور» أي المملوء والفارغ. وبعضها لا يزال قيد الاستخدام اليومي، وإن ألغى التداول أحياناً أحد المعنيين المتضادين، مثل: كلا: لا ونعم، الأزْر: القوة والضعف، الظنّ: الشكّ واليقين، أَسرّ: كتم وأظهر، أخفى: وارى وأبان، عسعس الليل: أقبل وأدبر، وراء: خلف وأمام، الغابر: ما مضى وما بقي، السوى: الذات والغير… إلخ.
تمزج الأضداد الأصولَ في دماء الكلمة الواحدة، فقد تنصهر في بعضها تباينات لغوية بين قبائل العرب القديمة، وكلٌّ حسبت نفسها الأفصح. لا ننسى نزول القرآن على سبعة أحرف، أي لغات العرب المشهود لها بالفصاحة. الأضداد أيضاً مفردات أليفة في معجم المتصوفة لأن التناقض الدائم حالهم. استخدمها الأسدي في «أغاني القبة»، بدءا من العنوان الفرعيّ لديوانه وهو «نفحات صوفية»، فالنفحة ريح المِسك ورحمة الله وعذابه الشديد، وما سمّي العذاب عذاباً إلا لعذوبته. هذا يعيدنا بالضرورة إلى القرآن وجمال لغته الزاخرة بالأضداد التي سحرت الأسدي. لعلها ترجمة أخرى لحيرته أمام سرّ الوجود، أو صورة أخرى لتبحّره في علوم الكلمة الواحدة وغنى احتمالاتها حيث يتلاقى المحدود واللامتناهي، أو تذبذبه بين شوارع حلب المصطخبة بفنون الحياة وهدوء صومعته العامرة بالكتب إذ لا غنى لروحه عن كليهما.
يفضح الضد لغة المنفعة والاتّزان التي تحكم على العقل باليأس والعقم، كما يؤيد رغبة الروح في إخراس المنطق والوصول إلى نقطة قصوى للمخيلة ما وراء اللغة. لا مستحيل مع اليأس، إذ كيف للغة الله التي خلق منها القرآن أن تلزم المنطق؟ ليس الضد مستحاثة من لغة أولى نجهلها، كما افترض التحليل النفسي. إنه لغز آخر من ألغاز العربية وواحد من جمّ محاسنها. ربما رأى الأسدي نفسه في كلّ ضد كتبه، فهو مثله ذاتهُ والنقيض وما لا يدرك سرّه في آن واحد. لنتذكر المعري:
مهجتي ضدٌّ يحاربني / أنا مني، كيف أحترسُ