على مدار الأجزاء الستة من الحوار الذي أجرته قناة العربية مع إبنة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، لم تقل رغد شيئاً جديراً بالضجة الإعلامية التي سبقت ورافقت ظهورها. وعليه، جاءت كثيرٌ من التعليقات لتسخر من جملةٍ عارضة ذكرتها لتبرئة أبيها من تهمة التعطّش للدماء دون التركيز على التفاصيل الأخرى، وهو ما يدحضه، بطبيعة الحال، سجلٌ زاخرٌ بأفعال القتل الإجرامية التي مارسها الرجل طوال اشتغاله بالسياسة، ومنذ مراحل مبكرة سبقت وصوله إلى رئاسة البلاد.

إلا أنّ رغد كانت واضحةً منذ البداية، حين كرّرت أنها ليست الشخص الذي يبوح بالأسرار، لتكون المقابلة في معظمها استرجاعاً نوستالجياً لبطولات وأخلاق العائلة التي كان أفرادها «أسياد العراق». بخلاف ذلك، ربّما كانت المرة الأولى التي تحكي فيها من وجهة نظرٍ شخصية عن بعض التفاصيل المتعلقة بتصفية زوجها على يد والدها. غير أنّ مروية رغد، والجرح الذي ألحقته بها هذه الحادثة، معروفان لدى كثيرين، وبتفاصيل أوفى من التي سردتها. هنا لم يَفُت رغد أيضاً تبرئة أبيها من دم زوجها حسين كامل المجيد، فقد سامح صدام ابن عمه على الخيانة، ولكنّ العشيرة لم تسامح.

ومن التفاصيل القليلة الأخرى التي يمكن العودة إليها في الحوار، بعض الأشياء التي قالتها عن محاكمة والدها، من قبيل أنها كانت ترسل له نوعه المفضّل من السيجار الكوبي إلى سجنه، وأشياء أخرى قليلة الأهمية لكنّها تشرح أشياء عن رغد وأبيها. غير أنّها لم تتطرق إلى كثير من التفاصيل المهمة، وحرصت على عدم ذكر أسماء كثيرة، عربية وأجنبية، ليس فقط بما يتصل بالمحاكمة، وإنما بالجهات التي تكفّلت وما زالت تتكفّل بنفقات ومصاريف العائلة منذ العام 2003، والتي قالت إنها دول لا تريد ذكرها كي لا تتسبب بإحراج أحد. وطوال الحوار، لم تُبدِ السيدة أي موقفٍ من الأحداث العراقية الداخلية أو الإقليمية، كما لم تأتِ على ذكر انتفاضة تشرين التي ما زالت مع تداعياتها في صلب المشهد العراقي حتى اليوم. اكتفت رغد بالحديث عن استباحة إيران للعراق، والمقارنة بين عراقي يعيش بكرامة في عهد أبيها وآخر مهدور الحقوق والكرامة، يبحث عن الخبز في عهد العراق المُستباح إيرانياً، كما أنّها لم تفوّت الإشارة إلى عدم اعترافها بالطبقة السياسية التي تحكم البلاد اليوم.

اللافت في كلام رغد أنها، بعد قرابة عقدين مرّا على الغزو الأميركي للعراق، لم تُقدِّم أيّ مراجعاتٍ لتاريخ أبيها ونظام حكمه، خلا أحداث غزو الكويت التي حمّلت خصوم أبيها الخليجيين مقداراً مماثلاً من الخطأ، مما أدّى إلى احتلال الكويت وتالياً تدمير الكثير من المنشآت العراقية على يد قوّات التحالف وفرض حصار اقتصادي خانق على البلاد. اختصرت رغد كل ذلك بالقول «أخطأنا وأخطأوا». علاوةً على ذلك، قدّمت رغد نفسها استمراراً لقائدٍ «ما يزال يعيش في قلوب العراقيين والعرب»، مشيرةً إلى أنّ عودتها إلى المشهد السياسي العراقي ليست مستبعدةً، بل إنها أبدت طموحاً لذلك. ولعلّ هذا ما كان ينتظره سياسيون عراقيون كُثُر، وميليشياتٌ وأحزاب ما تزال تشرعن لنفسها الفساد، والإمساكَ بالسلطة والسلاح، عبر التذكير بحقبة نظام صدام حسين واستبداده وعنفه والتخويف من عودتها، لتعطيهم رغد ذلك الاحتمال، رغم استحالة تحققه، ورقةً يخوّفون بها الشارع العراقي الغاضب، وخصوصاً الشيعي منه، الذي ما تزال سنوات حكم البعث ودمويتها راسخةً في أذهان أبنائه.

مجريات الحوار، وطريقة التقديم له، سيما أنه جاء بعد دعوةٍ لرغد من القناة السعودية لتسجيله في دولة الإمارات لا في الأردن محلّ إقامتها، وكذلك البعد الإنساني في مدخل الحلقات الموحّد، حين تلقي التحية على جميع العاملين في المكان، وتوضح لهم أن ما يهمها هو راحتهم هم، ثم ابتعاد المذيع عن طرح أيّ سؤالٍ قد يضع ضيفته في موقفٍ حرجٍ، والعديد من الحلقات التي تلت ظهورها واستُضيفت فيها شخصياتٌ كثيرة على مدى أيام للتعليق على محتويات الحلقات؛ كل ذلك يجعل من الواضح أن القناة أرادت لرغد أن تقدّم نفسها بأحسن صورةٍ ممكنة، وأن ترسل ما تسعى إليه من الرسائل لمتابعيها دون مقاطعةٍ أو تشكيك، فكانت القناة السعودية بمثابة الجهة التي تقوم بالتسويق لرغد.

هل فعلت قناة العربية ذلك بشكلٍ بريء؟ الأرجح أن الأمر ليس كذلك، خاصةً إذا ما نظرنا إلى أنّ البلاد مقبلةٌ قريباً على انتخاباتٍ مبكرةٍ فرضتها انتفاضة تشرين، ما يجعل هذا الحوار، الذي أُغلِقَت التعليقات عليه في موقع يوتيوب، أقرب إلى رسائل سعودية تستهدف النفوذ الإيراني في العراق من وريثةٍ رمزية لأبرز أعداء طهران. ولكن في الواقع، لم تكن الطبقة السياسية في العراق، والمحسوبون منها على إيران على وجه الخصوص، محتاجين إلى أكثر من تصريح تدلي به رغد صدام حسين عن عزمها العودة إلى المشهد السياسي العراقي، حتى يضعوا الناخب العراقي أمام تهديد عودة البعثيين إلى السلطة، ذلك إذا ما تذكّرنا أنّ العديد من الأحزاب العراقية الحاكمة للبلاد، والمحسوبين عليها، دأبوا على وصم متظاهري ساحات تشرين وفرزهم بين جواكر مرتبطين بالأميركيين وبعثيين يريدون إعادة إحياء نظام صدام حسين.

كان يمكن للقاء رغد أن يمرّ بشكلٍ عرضي، وألّا يحظى بملايين المتابعين كما حصل فعلياً، لو أنّ العراق قد اجتاز زمن صدام حسين إلى خيرٍ منه. بؤس الواقع المعيشي وغياب الخدمات، ورداءة الأحزاب السياسية وشخوصها، وتراجع الحكومة أمام هيمنة الميليشيات مشفوعاً بانفلاتها وتجاوزاتها، يجعل العراقيين حتى اليوم مجبرين على المقارنة بين مرويات عن زمن استقرار نسبي عاشوه سابقاً في بعض مراحل حكم البعث، والزمن الراهن المروّع بجميع تفاصيله.

لقد اختصرت الميليشيات المُمسكة بالبلاد كل أدوات الترهيب والتعذيب والتغييب التي وظفها صدام حسين في وجه مخالفيه بعبواتٍ ناسفة تنال ممن يخالفها بالرأي. فوق ذلك، العنف الذي لا تزال الدولة الجديدة غير قادرةٍ على احتكاره يكاد يكون الراسم الحقيقي لحجم ونفوذ الأحزاب التي تسيطر على البلاد، في مقابل غياب الدولة إلى الدرجة التي تجعل من القوات الحكومية عاجزةً عن حماية نفسها منه، فضلاً عن المدنيين ومتظاهري الساحات.

لم يستطع الذين جاؤوا بعد صدام حسين تقديم أيّ شيءٍ للعراقيين، فلا خبز ولا أمن ولا خدمات ولا حريةً ولا كرامة، وهي المعادلة الصعبة التي رأت رغد في حوار العربية استحالة تحقيقها في العراق، عندما قالت إن الناس لو خيرتهم بين الديمقراطية من جهة، والخبز والأمن من جهة أخرى، فإنهم سيختارون الثانية. ما زال صدام حسين، وابنته ضمناً، يحضرون في أذهان كثير من العراقيين والعراقيات بفضل الأحزاب الحاكمة للعراق اليوم، وكأنّ قدر العراقيين أن يحكمهم صدام في حياته، وأن تحكمهم أشباحه والتخويف بها ميتاً.