أُحسُّ بالخفّة وبالثّقل في آن معاً.

بعد 2011، عام الثورة، بات لا يمكن لي كتابة أي شيء، دون أن يمتزج الشخصي بالمهني بالعام! كما بات لا يمكنني النظر إلى الحاضر دون التفاتة إلى الماضي، وكأنّي بي أشرب من عين الماء!

سأكتب الآن، وستختلط المطارح والأزمان والأفكار.

أنا في الخمسين، أنا من الشرق، الحزين، وثورتي لم تنتهِ بعد.

الممكن يُشعرني بالخفّة، وثمنُ تحدّي المستحيل ثقيل!

كلما أغمضت عينيّ، طالعتني وجوه وعتبات، وضجيج الطيبين والطيبات، العادلين والعادلات… والتضحيات.

طالعني حزن وحنين، غضب وفرح، إحباط وأمل، غياب وحضور، هشاشة وثبات.

في سوريا «الأسد»، سوريا «الأسف» كما أطلق عليها ثائرون عندما تلمّسوا الكارثة، حدّقنا في عيني الوحش، فشرب من دمنا، لكنّنا بقينا!

عن الثّورة، أستحضر الكلمات، لا الشعارات، فالأخيرة قد تُخطئ وقد تصيب. قد تتحول إلى سياسة. وقد تصير هباء. أما الكلمات، فهي نحن: من نحن؟ ماذا نريد!؟

عشرية الثورة السورية

2012 المظاهرة الوحيدة

كنّا قد اتفقنا، جهاد زوجي وأنا، ألا نشارك سوية في المظاهرات (تقليد الآباء والأمهات). سبقني هو إلى القابون، وحين عاد، قال: روحي روحي، بحياتك ما بتنسيها!

إلى برزة، ذهبت مع نسرين وعلا وآخرين. نزلنا من السيارة، وعلى عجل وبعض الخفّة، تأتيني فكرة أن نتخذ أسماء تدل على «مسيحيّتنا». لا نتفق. تنتفض نسرين، لا تقبل. تقول: مع الوقت كلّه بينعرف دون افتعال، بس مو هيك! نتلعثم بأسماء متلعثمة، وننطلق متبادلين ضحكات عصبية.

إلى منزل رفيدة نذهب أولاً، لنشرب ماءً وشجاعة، وأماناً. هناك، حيث تستضيف رفيدة كل الـ«حابّين» يطلعوا مظاهرة، تُوزِّع علينا «الإشاربات» لنتخفّى، خوفاً علينا؛ خوفاً منهم، رجال الأمن.

الدرب مُعتِمة للغاية، سواد مهيب تُقطّعه أنوار «البيل» من هنا وهناك. نتبع بصيصَ الضوء، تُرافقه أصوات الشجعان: «من هون»، «دغري»، «ع اليسار»…

وبعد دقائق، ينبلج الضوء من ساحة المظاهرة، وكأننا في كوكب آخر: زينة عرس، أوراق ملونة، مكبرات للصوت، دربكة، طبل، رقص وغناء.

لا أعرف من أخذ بيدي! لا أعرف من يقفز بجانبي! الكتف ع الكتف ويبدأ النطّ: «وهيه… ويالله…».

من «الإشاربات» التي كانت تزحط عن رؤوسنا، عرفوا أننا من غير مكان. من وين؟ «من القصّاع!». هو الحي المسيحي الأشهر بدمشق، تعمّدتُ ذِكره مع أني لست منه. فَعَلَتِ التهاليل: «إسلام ومسيحّية / كلنا بدنا حريّة!».

كنتُ عندها في الأربعين، وإذ أسمع صوتي يخرج من حنجرتي. لا أصدق! لحظة كثيفة، تساوت عندي فيها الحياة مع الموت، وفكرتُ أني إن عدت إلى بيتي أم لا، ما عاد بتفرق، خلص… لقد عشت!

يمر وقت قصير، وتبدأ الإشارات أن اهربوا!

حزيران 2012 تركنا سوريا مؤقتاً! اعتُقل أصدقاء، وقُتل آخرون

بدأت الأمور بالتدهور في دمشق بعد منتصف عام 2012، فقرّرنا الذهاب إلى بيروت، حيث يعيش قسم من العائلة والأصدقاء. لحين من الزمن قررنا الذهاب، وريثما يسقط النظام. فمرّت ستة أعوام.

في غمرة مرارة ذنب الخروج من سوريا، يصلني نبأ استشهاد النّحّات وائل قسطون، صديق الصبا والكشّاف، في ضيعتي مرمريتا.

وائل الذي لم يكن يتحمل يوما منظر الدم عند اللّحّام بجانب محل والده في حارة «السّهلة»، قُتل تحت التعذيب!

نعيت وائل بمطلع أغنية من أغاني الرحلات:

«مارمريتا ما أحلاكي متل العروس / لمّا جينا وشفناكي نسينا طرطوس»

تحت التعذيب، يا وائل!؟ «يا ويل أمّ الدّني»، مرمريتا… مُرّة!

دُفن وائل قسطون بصمت، والسبب؟ «القضاء والقدر»! قدر الأب، قدر الابن!

المرارة في الحلق

قال لي الطبيب في مستشفى أوتيل دْيو «حرق في البلعوم! ليه يا مدام؟».

«القاشوش!»

«كيف!؟»

«أقصد دبس الرّمان… أنا يعني كتير بحب دبس الرمان، ولولا الحياء بحطه مع الكاتوه!»

«لا لا، يجب إيقاف كل هذا بأسرع وقت».

ومرَّ الوقت، قبل وائل وبعد وائل. ومرّت المجازر، وكلّ هذا لم يتوقف… يا دكتور.

أغاني، رسومات، لافتات، غرافيتي، مسرح، أفلام، أقلام… فرح، حرية، انعتاق… أحلام، اعتقال، مجازر، براميل، لجوء، موت وحطام.

تشرين الثاني 2012: مستشفى القديس سان لويس

قصة خوف عادية: أبي يحاول أن يموت أول مرة!

إلى غرفة العناية المشددة في مستشفى الفرنسي بالقصاع. أقطع الشوراع، وفي كل مكان، على الحيطان صور الموت الطري، بالجملة!

أبي، مدرس ومفتش مادة الرياضيات، المهووس بها، والمحامي الذي ربح دعوتين وتقاعد بعدها، ممدَّدّاً. جسد هزيل تملؤه ثقوب الإبر وأشرطة المضادات الحيوية، يُرسل إشارات كأنها الوداع. يبتسم: «جيتي؟».

يفتح عينان متعبتان مرهقتان، وبصوت معقول: «يَسقُط…».

الأطباء، الممرضون… يتلفّتون: «هيئته العمّ انفصل عن الواقع… معلش، الله يشفيه يا مدام».

ستة أيام، لم ينم. يضحك «منفصلاً عن الواقع»، ومع صوت المدافع، يُسقِط الكثير ويُبقي على أبي العلاء المعري. يملأ المكان كلام، نفس الكلام على مدى ستة أيام:

«غرفة 111»، «مستشفى القديس سان لويس»، «يا ليت شعري ما الصحيح!».

بعد عامين، قرر أبي أن يموت، ومات.

بيروت، الصنايع

في بيت «أم جهاد»، وفي الغرفة على الحائط قبالتي، وضعت خريطة لسوريا، وخريطة لدمشق وريفها: دوما، القابون، برزة. إلى هناك أنظر ساهمةً طوال الوقت، مع مرارة في الحلق. أفكر بأم عبدو من دوما، بأبو عبدو من القابون. يقلقون علينا، هم في جحيمهم اليومي، يخافون علينا: «بدكم شي؟ عاوزين شي؟».

كنّ كلّهن أم عبدو، كانوا كلّهم أبو عبدو. لبسوا اسماً واحداً، وتفرّدوا بالبطولات! حيطانهم مليئة بغرافيتي الحرية و«يسقط النّظام»، وهنا، في دمشق، حيطاننا تقول هو أو لا أحد، هو أو يحرق البلد.

2013 بيت صغير في الملّا، وذاكرة

من البيت الصغير في منطقة الملّا، بيت فواز ونوال طرابلسي، حيث أقمنا، وبالتحديد من مكتب فواز، الـ«مترين بمتر»، أبدأ العمل وأملأ المساحات القليلة المتبقية على الجدار بخرائط للغوطة، للّجوء، للمعارك والجيوش… وبرسم توضيحي لكل نقطة على طريق دمشق- بيروت، أملاها عليّ السائق أبو علي «ملك الحدود»، بالإضافة إلى رسومات الأولاد بموضوع شبه وحيد.

كانت ابنتي تهمُّ بإطفاء شمعة ميلادها، حين وَشوَشَتْني بتردد: «ماما، ممكن غيّر الأمنية هديك تبع 2011؟». وتنهّدت: «صار عندي وحدة جديدة!»

كيف لا وقد صار الزمن يُقاس بعدد الأسابيع والأشهر التي انقضت على الاعتقال الثاني لصديقنا الجويد نجاح، وبعدد زيارات عبير إلى سجن عدرا، وأحاديث آخر الليل حول تفاصيل الزيارة والطريق الخطرة بين دمشق وعدرا! عبير التي تحدت الخطر بالزيارة، كما يتحدّى المؤمن التجربة بالصلاة، تَسخَر لتَصبِر. نقهقه هي وأنا، وننام على أمل. عبير التي قالت لنا يوماً بعد اللجوء إلى فرنسا، حيث غيَّرتْ مهنتها من تدريس الفرنسيّة إلى الحدادة: «الحديد أسهل من الإنسان». «عبير الحديد»، هكذا لقبناها، يُعينها في يومياتها برنامج «طريق الفلسفة» على إحدى محطات الراديو الفرنسية.

لماذا أعمل على «ذاكرة»؟ ليس لدي جواب نهائي. ولما نختار ما نختار؟

ذاكرة لما هو حاضر، وكأنّه اختفى للتوّ؟! هاجس!

أَمْ ذاكرة حاضر مسكونة بماضيه، فتكشف المستقبل!؟

تؤرقني الأسئلة، وأتابع العمل.

عشرية الثورة السورية

جامعة دمشق

في سوريا، تخرجت من كلية الفنون الجميلة، حيث المكتبة مغلقة، لأننا مخرِّبون بالضرورة، وحتى يثبت العكس! وكيف يثبت العكس؟

لم تعلمني الجامعة، بل علّمني أستاذ. الفنان الراحل، باكراً جداً، عبد القادر أرناؤوط، والذي وضع لي يوماً علامة الصّفر، عقاباً لي، حتى أفكر، حتى أؤمن بمخيلتي، ولا أستكين لثِقَل الملل والممنوع والمغلق، فهناك دائماً باب صغير مُشْرَع على دواخلنا، حذار أن نُغلقَه!

ذكراك عطرة أستاذي.

خلال الست سنين التي سبقت انطلاقة الثورة، عملتُ في مجال الثقافة والفن، على مشروع أجندة «يوميات ثقافية».

أتاحت لي هذه التجربة أن أراقب، أن ألاحظ، أن أكون في دوائر متعددة. دوائر الإبداع: من ينتج؟ ماذا؟ أين؟ لمن؟ ودوائر الرقابة: ماذا نستطيع؟ كيف نلتفّ؟ أين نقف؟

في 2011 علّق فاعلون ثقافيون وفنانون سوريون نشاطهم جِهاراً احتجاجاً على القمع، وكلفهم ذلك أثماناً. تأتي مي سعيفان، نجتمع في مكتبي، في ساحة التحرير، المقابل تماماً لمبنى المخابرات الجويّة الشهير (بأيّ فصام كنّا نعيش؟).

تقول مي: «اسحبي الإعلان، سأعلّق مهرجان الرقص المعاصر». أندهش للشجاعة!

وكرّت السبحة. أغلقت الصالات والمراكز الثقافية أبوابها تباعاً، وتوقفت حتّى برامج المراكز الثقافية العامة التابعة للدولة، فتحولت «يوميات ثقافية»، خلال سنة، من 40 صفحة باللغتين في أفضل مواسمها ما قبل الثورة، إلى صفحتين فقط باللغتين في صيف 2012، متحدّيةً رواية النظام القائلة على مدى شهور طويلة بأن «سوريا بخير»!

ما قبل الثورة، معها، وما بعدها، سواءً في «يوميات ثقافية» أو في «ذاكرة إبداعية»، لم يكن الفن فقط هو الهاجس، بل تعبير الإنسان، ذاكرة هذا التعبير. كيف عبّرنا؟ شو قلنا؟ كيف تغيرْنا وكيف تغيرتْ علاقتنا ببعضنا، ومع المكان؟

ذاكرة زمن ما إن انفتح فيه المكان حتى سطعت المخيلة، وتدفقت المواهب والأفكار.

احتجاج، فن، ثقافة، كلام، وكلّه في السياسة. شيء لم يخطر على بال في يوم من الأيام!

انفرط شيء من عِقد

لكننا صرنا نتشابك حول ما إن كان الفن والثقافة يغيران في شيء! وإن كان الفن جميلاً شرط أن يكون عادلاً! وهل من ذاكرة عادلة؟ وماذا عن التاريخ؟ غاب عنّا أن النظام السوري قتل أكرم رسلان لأنه رسم! بالضبط كما أعدم المجند لأنه لم يَقتُل.

وصرنا ننقسم حول الأولويات، وحول مين «برّا» ومين «جوّا»، داخل وخارج، فيما كنّا نصارع التحدّيات برّا وجوّا: اعتقال، قتل، هروب، تمويل، أجندات، برامج… أو صمت.

في لبنان الذي أحب، وحيث عشتُ أغنى التجارب، ازدهرنا، لكن إلى حين! فتبدُّل القرار السياسي الدولي وتقلُّبه، واستثمار اللجوء الهائل بأسوأ الأساليب، أغلق الفضاء الرحب على حلبة لعبة موازين القوى اللئيمة.

أرادت لنا قوى المال والقرار، بِنِيّة أو بغيرها، أن ننزع عنا، كيفما اشتغلنا، صفة السياسة، وأن نلبس صفة «الإنسانية»، وكأن الشيئين متضادّان! فصرنا طبقتين، طبقة المثقفين والفنانين والمشتغلين في الشأن المدني، وطبقة الباقيين. عمل الأوّلون، في أحيان ليست قليلة، «على» الباقيين وليس «معهم»، ومعظمنا فات بالحيط، قبل أن نستعيد الزِّمام، بعناء.

خمسين، باريس، وحديقة

هذه المرة لجوء. مع أنني أملك الجنسية الفرنسية منذ زمن، إلا أن الطعم هذه المرة هو طعم لجوء.

جلبت معي بعضاً من حديقة سوريا ولبنان. فعاشت وأشرقت.

في الخمسين، لم يعد عندي لا أب ولا أمّ. غابت «الستّ ماما» بتاريخ 17 آذار، في ثنايا الذكرى الثامنة للثورة، هكذا اختارت موعداً خاصّاً بها، لا في 15 ولا في 18 ولا حتى في عيد الأم! لوحدها، في بيتها الذي لم تشأ يوما تركه، لأنّه «طالما حواليي إم منير وإم شادي، وإم جورج، وغسان وسلامة، الله يرظى عليهم، بجيبلولي إنترنت وأكلات طيبة، مش طالعه من هون». وإلاّ ما يسقط هالنظّام!

حديقة سنا يازجي
حديقة سنا يازجي

«لا إم عبدالله ولا مرت عصام، أني إلي إسم، روزة». أمي التي فاقَ شعورُها العفويّ بنفسها كامرأة كلَّ فضاء مُتاح، فتحوّلت إلى كتلة مَرار، رتّبت موتَها على مَهلِها، غيرَ ساعيةٍ إليه، فاشترت قبراً في مكان هي اختارته، في جوار بيت هي اشترته، من تعبِ سنين العمل الطويلة المالحة. بيت يُطلُّ على سهل واسع ساطع مَهيب، وقبر لوحدها، لا مع أهلها ولا مع زوجها! أيُّ امرأة أنتِ يا ستّ؟!

انتظرتُ قليلاً، وطبختُ كشكاً؛ طقس الآباء والأمهات، طقس نهايات وبدايات.

مرّ الكثير، مرت عشرُ سنين، ليست خسارة ولا انتصاراً.

أقفل الكلام على حزنِ فقدِك يا حسّان، فهل أستعيدك في اسم بنفسجة؟

ألست الذي قال في الذكرى الثالثة للثورة: «هي أصلاً لم تبدأ إلا لتبقى حتى تصل إلى ما يريده أهلها: حياة كريمة بلا ظلم ولا ظلامية»؟