الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. تُجهدني منذ أكثر من ساعتين محاولة إيجاد عبارات أو صور أو أغنيات، تكون لائقة بالحفل الافتراضي على فيسبوك بمناسبة العيد العاشر للثورة السورية. يَسري في جسمي، ودون سابق إنذار، تيار كالكهرباء، يشتد في رأسي وينزلق حتى أصابع قدمي. تتسارع ضربات قلبي، ويُطبِق صُداع حاد على رأسي، فأدرك أنني أدخل في واحدة من نوبات الهلع. لا أكترث. قد بدأت اعتيادها منذ سنتين، وأعلم أنه لا جدوى من مقارعتها، والحل في هذه اللحظة هو محاولة استرجاع ذكريات مُبهِجة من الماضي، أو اختلاق حلم مفرح أكون فيه أنا المؤلف والمخرج والبطل، وذلك تنفيذاً لنصيحة سمعتها من أحد الأخصائيين النفسيين وساعدتْني أحياناً في مواجهة نوبات الهلع، وفي النوم أيضاً.
عليه، أتسلّلُ هاربةً من الفضاء الأزرق الافتراضي، أُغلِقُ موبايلي، أَتَكوّرُ على نفسي في سريري الصغير، في غرفتي الصغيرة في مدينة أنطاكيا في تركيا. أُهملُ شعوري بالاختناق وآلام صدري، والإحساس بأن فيلاً يجثو على كتفي، فلا وقت لدي لمراقبة تفاصيل الأعراض الجسدية لنوبة الهلع. الوقت الآن لأغرق في مشاهدي وأحلامي الوردية، حتى تهدأ نوبتي وأخلد إلى النوم.
أحبك خضراء، يا أرض خضراء
أتمدّد على جانبي الأيمن في السرير، أتنفّس ببطء، ومن بين الوجوه المزدحمة في رأسي، ألتقط وجه صديق عتيق لي، عرفتُه قبل الثورة، وعايشتُ جزءاً من تفاصيلها معه في درعا. أُشاهدني معه بدايات ربيع 2018، في بيت في معربة شرقي محافظة درعا، وهو يُمعن الغزل في دراجته النارية «ماتوره»، نوع «جالنك» موديل 2003، الذي لم يخذلْه لحظة واحدة، حتى في طرقات منطقة اللجاة الوعرة كما يزعم. ولدرجة ولعه الشديد بدراجته، أطلق عليها اسم «الشبوحة»، التي قررنا فجأة، أنا وهو، وكعادتنا هكذا ودون تخطيط، أن نذهب بواسطتها إلى طَفَس، غربي محافظة درعا، كي نشهد فصل الربيع رائقاً مكتملاً.
أستحضر المنظر الأخضر وهو يغطي جنبات الطريق الحربي الذي كنا نجتازه صعوداً وهبوطاً، ونتوقف أثناء عبورنا على تلة مرتفعة تكشف كل مدينة درعا بقِسمِيها، الواقع أحدُهما تحت سيطرة فصائل المعارضة والآخر تحت سيطرة قوات النظام. لا نتوقف تعباً، بل لننفث سيجارتَي حمرا طويلة، ونستشعر النصر؛ النصر بأننا شربنا السجائر بعد اجتيازنا لحاجز جبهة النصرة، ولأننا نقف عالياً، عالياً جداً، ونكشف مناطق سيطرة النظام.
– بحبّها كثير لما تكون خضرا
– مين هي؟
– درعا
– يضحك ويقول: على قولة عمي محمود درويش، أحبُّكِ خضراءَ / يا أرضُ خضراءَ
في طريقنا إلى مدينة طَفَس، أستنشق كل الهواء من حولي، ولو كنت أعلم أن استنشاق الأوكسجين بكمية كبيرة أول عملية يجب أن نمارسها في حالات نوبات الهلع، لكنتُ خزّنتُ في رئتيّ كل هواء درعا، بل قضمتُه، حتى يصبح مخزوناً دَسِماً في جسدي أستهلكه عند الحاجة.
أختنق، تَثقُل يديّ اليسرى وتتخدّر، وينتفض جسدي. يُبعثرُ الصورةَ كلَّها مشهدُ فراقنا في صيف 2018، حين صعد صديقي إياه مع زوجته في الباصات التي كانت مخصَّصة لنقل عناصر الدفاع المدني وعوائلهم إلى الأردن، وصعدت أنا في باصات التهجير إلى الشمال السوري.
لا بأس، لا بأس، أقول لنفسي وأنا أدلّك جنبات رأسي المتشنّج، وأُطبِقُ عينيّ بشدة بحثاً عن صورة أو مشهد أكثر لطفاً ورفقاً، فأرى شاباً وسيماً، يحمل أكياساً كثيرة ويضعها على الطاولة أمامي.
8 كيلو سمك
كان شاباً في الثالثة والعشرين من عمره، طويل القامة والشعر، بعضلات مفتولة ووجه جميل جداً. استضافني فترة من الزمن مع عائلة ثانية مؤلفة من سيدة وزوجها في شتاء 2017 في منزله المستأجر في بلدة الجيزة شرقي درعا.
يمرّ المشهد أمامي وكأنه البارحة، حين استيقظ الشاب الصغير في صباح 18 آذار 2018 وتوجه إلى المطبخ حيث كنتُ جالسة أشرب قهوتي. قال لي: «كل عام وإنتي بخير».
– ليش شوفي؟
– اليوم عيد الثورة، ول مالچ؟ هاظ التاريخ لازم ما تنسيه
– حيرتونا، نحتفل بـ15 ولا بـ18
– ثمنطعش، ثمنطعش.. طلعت من درعا وأول شهيد من درعا (يرد بحماس أكبر)
– طيب، المهم ثورة (أقول)
قبل أن يغادر يقول لي: «لا تطبخن اليوم، عازمكم».
في المساء يضع على طاولة المطبخ 8 كيلو سمك، وسحارة فيها باذنجان وبطاطا وبندورة، وأكياساً فيها باقات من البقدونس والخس، وكيسَين من الأرز، ويرجوني أنا والسيدة التي كانت معي أن نطهو كل السمك والأرز، ونقلي البطاطا والباذنجان، ونُحضّر طبقاً كبيراً من السلطة، فهو كان قد دعا صديقَين له في الحارة وجارنا شيخ الجامع لتناوُل السمك احتفالاً بعيد الثورة السابع. ولأنه لم يكن لدينا جرة غاز، أحضر جرتَين بدل الواحدة، واشترى مِقلاة كبيرة وصحون زجاج إضافية. سألتُه حينها عن مصدر المال الذي اشترى به ما اشترى، فأخبرني أنه كان يدّخر منذ شهرين قدراً من المال – الذي يحصل عليه من عمله في محل الملابس – للاحتفال بهذا اليوم.
تبدو عيناه واضحتَين فرحتَين، وكأنهما أمامي، وهو يحدّثني عن انضمامه للمظاهرات في الثامنة عشرة من عمره، وعن تركه لجامعته والتحاقه بفصائل الجيش الحر في بلدته خربة غزالة. يذبل، وتذبل عيناه، وتأخذان بالتلاشي عندما يخبرني بتركه لفصائل الجيش الحر، ونزوحه وحيداً دون أهله إلى بلدة الجيزة، لينزوي فيها في محل للألبسة يعمل فيه، بعد أن سيطر جيش النظام على بلدته.
ظننت أن النوم العميق صار قريباً مني، لولا تشنُّج معدتي والصوت الذي راح يزعق في داخلي، ويُذكِّرني أنني لن أرسل لصديقي الشاب الصغير في 18 آذار هذا العام رسالة على واتسآب في عيد الثورة، لأنه تم اعتقاله العام الماضي من قبل قوات النظام بعد إجرائه للتسوية.
أنهض، أُشعل سيجارة. أعترف بخسارتي في الجولة الأولى من مقارعة النوم، ثم أعاود الكرة من جديد، فأستلقي على ظهري بعد أن دخّنتُ نصفها، وأبدأ في تقليب صفحات أرشيف دماغي بحثاً عن مشهد آخر أتغلّب فيه على الأرق، بعد أن نجح المشهدان السابقان في تهدئة نوبة الهلع.
الزر الأحمر
تختلط عليّ الأمور، فلا أعلم إن كانت الصخرة التي أشاهدها هي صخرة في إحدى المخيمات التي مكثتُ فيها إبان اجتياح درعا، أم هي الصخرة التي جلست عليها بانتظار باصات التهجير. تلتقي الوجوه وتتنافر في رأسي. أتقلّب في سريري وأخاطب نفسي: «هل أتناول حبة أسبرين؟». أتناسى فكرة الأسبرين، فالموضوع برمته نفسيّ وليس جسدياً. تتقافز المشاهد على رأسي، وقد تتخلّلها مشاهد من طفولتي، وهكذا حتى أُرهَق. ولكنني أعود لاستلام زمام مخيلتي عبر ممارسة التنفس العميق، فيهدأ صراعي. يظهر وجه صديقة لي وهي تحمل في يديها زراً أحمرَ يُشبه كبسة الزر الكهربائي، وتقول لي: «إذا ضغطتي على هذا الزر فستعودين إلى ما قبل عام 2011، دون ثورة أو خسائر». أَمُدُّ يدي نحو الزر، أُوشكُ على ضغطه، ولكني أرتخي فجأة، تنتظم ضربات قلبي، يزول شعوري بالاختناق، وأسحب يدي بعيداً عن الزر وأستسلم للنوم العميق.
كان أول أمر فعلته بعد أن استيقظت من نومي في اليوم التالي هو مراسلة صديقتي إياها، صاحبة الزر الأحمر. كتبت لها في الرسالة:
كيفك؟ طمنيني، لقيتي بيت ببرلين؟
صحيح.. بتذكري الزر الأحمر! بعدني ما بدي اضغط عليه ههههههه
اشتقتلك، بس تفيقي حاكيني
الزر الأحمر هو لعبة اخترعتْها صديقتي عندما اجتمعتُ أنا وعدد من أصدقائنا المتحمسين للثورة في منزلها في دمشق خريف 2013، وطرحتْ علينا السؤال التالي: «لو كان أمامنا زر أحمر يشبه الزر الكهربائي، قادر على إعادة أي شخص فينا إلى ما قبل عام 2011 بمجرد الضغط عليه، فمن منكم سيضغط عليه؟». كنتُ وقتها من الذين رفضوا ضغط الزر، مع أنني كنت مُثقَلة بالحزن بسبب اعتقال زوجي في صيف العام ذاته.
لا تزال صديقتي تستغرب من رفضي ضغط الزر الأحمر حتى الآن، رغم السلسلة المتتالية من الافتراق عن الأهل والأحبة والأصدقاء، ومن معايشة الموت والانكسارات والخسارات والخيبات والتهجير داخل البلد، ثم إلى خارجه. وأنا نفسي أستغرب من نفسي أحياناً، لكنّ وقوفي على مسافة بعيدة قليلاً من أناي الحزينة والآسفة، وحتى النادمة، على قليل أو كثير مما أصابني وأصاب بلداً بأكمله، يجعلني أشعر كم أن التاريخ كان حليفاً لي عندما جعلني جزءاً من ثورة ضرورية وحتمية. أتمنى لو أن كثيراً من أحداث السنوات العشر الماضية لم تقع، لكن ليس من بينها لحظة الثورة بأي حال.