مرت عشر سنوات على لحظة الثورة السورية، على النشوة المقدسة لصرخة «حرية حرية»، على القضمة الأولى من التفاحة المحرَّمة. عشر سنوات كان فيها على كثير ممن خرجوا إلى الشوارع أن يتركوا الشوارع، ويبحثوا لأنفسهم عن عناوين في منافٍ جديدة. شباب وصبايا 2011 لم يعودوا هم أنفسهم، ولم يعد الطريق الذي ساروا فيه نفسه. لكن كثيرين منهم ما زالوا مستمرين فيه، يرسمون ملامحه الجديدة “ويشقونه” بخطواتهم.
جيل كامل في سوريا تزامن نضجه مع الثورة، فانعجن بها وتفتَّح وعيه السياسي معها، وما زال ينمو، لكنه وجد نفسه بعيداً ومنفياً.
فتح بعض الناشطين أعينهم في منافيهم الجديدة وهم يحملون الثورة السورية وسوريا بين أسنانهم كورقة من الغار. غيرهم قطعوا شرايينهم وجذورهم التي تربطهم مع الماضي ومع الحدود البعيدة، وغرسوا أنفسهم في التربة الجديدة؛ وآخرون بحثوا عن خيار بين هنا وهناك.
في أربع قصص لسوريين في الشتات الألماني، حاولنا أن نتتبع الوعي والانخراط السياسي لشباب الثورة السورية في ألمانيا بعد مرور عشر سنوات عليها. وفي هذه المقالة نحاول أن نرسم ملامح هذا الانخراط وهذا الصعود، من خلال تتبع قصص يرويها أصحابها بأنفسهم.
في شباط عام 2015 كنت أمشي في مدينة كيل. سمعت أصوات شباب يهتفون، ورأيت أعلاماً ولافتات مرفوعة. لم أعرف ما الذي يدور في المدينة. رأيت الحماسة وشعرت بسعادة غريبة لأن الناس يعبرون عن رأيهم. راقبت عن بعد، ووجدت نفسي أقترب شيئاً فشيئاً. تجذبني الحماسة ويسحبني الخوف وأنا أخطو ببطء. بعد قليل رأيت عناصر الشرطة فارتعدت. اختبأت بين الجموع ثم اندفعت أبحث عن مخرج منها. راقبت الشرطة عن كثب. أدركت أن رجال الأمن هنا يحمون المظاهرة و يحافظون على الأمن. عرفت فيما بعد أنها مظاهرة ضد «بيغيدا» واليمين المتطرف الألماني.
لم تمضِ دقائق حتى وجدت نفسي على رأس المظاهرة، أشاهد الأعلام تخفق ولا أعرف دلالتها، أسمع هتافات لا أعرف معانيها ولكنها تُطربني. ثم فوجئت بنفسي محمولاً على الأكتاف. وصل رئيس وزراء المقاطعة وبدأ يكلم الجموع التي تحمل مطالبها. ذُهلت من المشهد، ويبدو أن ذهولي بدا واضحاً على وجهي. قرّبني أحد معارفي من الوزير مبتسماً وقال له: «هذا طارق، جديد هنا!».
شعرت بالخجل كعادتي، وتلعثمت، ابتسم لي الوزير وقال: «كن واثقاً، كل شيء سيكون على مايرام». لدهشتي، سبقت حماستي خجلي وسألته دون لحظة تفكير: «هل يمكنني أن أتدرب في مكتبك في الوزارة؟».
قبل أن أجد وقتاً لأفكر في تسرعي، أجاب الرئيس بالإيجاب. ومن هنا بدأت رحلتي التي لم أكن أعرف وجهتها، بين الأحزاب الألمانية وفي البرلمانات.
تدريبي في مكتب رئيس الوزراء صادف المؤتمر السنوي للحزب الديمقراطي الاشتراكي، أكبر أحزاب المعارضة تمثيلاً في برلمانها، وثاني أكبر حزب شعبيةً من حيث العضوية. وهناك طلب مني إلقاء كلمة. شعرت بالإطراء وبالحماسة. تدربت على نطق الكلمة، ومرّنت لساني على الكلمات الألمانية الطويلة. رغم ذلك، شعرت بالعرق يبلل قميصي. انتهت الكلمة وأنا مذهول. شعرت بدمي يتدفق في عروقي وبنفسي يتسارع. رفعت رأسي لأُفاجَأ برئيس الوزراء وهو يربِّت على كتفي ثم يضمني إليه. كانت هذه اللحظة حاسمة لي. نَفَذَتْ كلمات الرئيس المشجعة إلى كياني وانصاعت لها جوارحي، شعرت وكأن المؤتمر بأكمله يحتضنني.
لم أقاوم انجذابي إلى الميدان السياسي. قررت في هذه اللحظة أنني أريد أن أستمر في التجربة وأن أختبر أكثر. التقيت في المؤتمر بعضوة برلمانية من الحزب الديمقراطي الاشتراكي هي سيربيل ميدياتلي، وهنأتني على الكلمة وأثنت عليها. ثم رمقتْني بنظرة مستفسِرة، يبدو أنها عرفت أن في فمي كلاماً ليقال. بقليل من الاضطراب، وبسرعة، سألتها: «هل يمكنني أن أتدرب لدى مكتبكم في البرلمان؟» ووافقت. وفعلاً بعد بضعة أيام بدأت تدريبي الذي استمر عدة شهور، قررتُ بعدها أن أنضم إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي. فَتَنَتْني فكرة إمكانية التغيير وتحقيق العدالة. رغم أن أي تغيير في الحكومة والبرلمان يأخذ وقتاً طويلاً، ويتطلب صبراً وطول بال لا نهائيَّين، إلا أنه يُجدي نفعاً في النهاية.
بعد نجاتي من طلقة اخترقت جسدي عام 2013 بينما كنت أصور المعارك في سوريا، لم أعد الشاب طارق المندفع نفسه. رغبتي بعالم أفضل ما زالت نفسها، ولكن اندفاعي تغير. تجربتي جعلتني أعيد التفكير ملياً، ليس فقط في ما أرغب به وإنما في الثمن الذي أنا مستعد لدفعه.
لم يكن الانخراط السياسي والوصول إلى مناصب قيادية في حزب ألماني عريق على قائمتي عندما وصلت إلى ألمانيا عام 2014، بل ألمانيا نفسها لم تكن في مخططاتي. أغرتْني السياسة ووجدتُ نفسي منجذباً. أُعطي الحزب والسياسة كل وقت فراغي وأعصابي. في البدء لم أكن أسمح للسياسة بأن تُغويني تماماً. كنت أخطو، ثم أقيّم خطواتي، وأجرب نفسي وأجرب السياسة. بعد إنهائي لمراحل دراسة اللغة، سجلت في جامعة كيل لدراسة هندسة الكهرباء. طريق اخترت أن أمشي فيه إلى جانب السياسة؛ طريق آمن، يؤمّن لي لقمة عيش وحياة كريمة. فالسياسة عالم مجهول، دخوله متاح لكن نجاحه مقامرة. حاولت ضم الأصدقاء والمعارف إلى العمل في الحزب، فوجود مجموعات الضغط في الحزب يسهل الوصول إلى الأهداف.
أشغل حالياً منصباً في اللجنة التنفيذية لمجلس المقاطعة، وتم انتخابي كرئيس لمجموعة العمل المعنية بالهجرة والتنوع في الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ولاية شليسفيغ هولشتاين.
عندما وصلت إلى مدينة دورتموند عام 2015 ٬ بدأت أتحسّس المكان الجديد وموطئ قدمي فيه. بطريقة ما، كان واضحاً لي أنني أريد أن أكون ناشطاً. عرفت فور وصولي ألمانيا أن هذا هو أنا، وما أريد أن أكونه، وما لا أستطيع إلا أن أكونه. في سوريا، كنت منخرطاً في مبادرات سورية، على نطاقات ضيقة وآمنة نسبياً، وكان والدي هو من دفعني. وللصدق، كان الدافع لي لأكون ناشطاً هو هاتف وعدني به أبي عندما كنت في الصف السادس. وما ابتدأ برشوة خط مع الوقت أخاديده في شخصيتي. لم أفكر مرتين، عندما وصلت إلى ألمانيا في شباط 2015، في أنني أريد أن أكون ناشطاً. تمهلت فقط لأعرف أين وكيف.
أعطيت نفسي في الفترة الأولى من وصولي إلى ألمانيا بعض الوقت لأفهم على أي أرض أقف، لأتعلم اللغة. في هذا الوقت، بدأتُ أتنقل بين المبادرات السورية والألمانية، أسمع هنا وأجرب هناك. قمت مع مجموعة من الشباب والشابات السوريات باستطلاع رأي للسوريين، لنعرف ما ينقصهم، ما يحتاجونه وما يرونه مفيداً. كان يشغل تفكيري أن كمية المبادرات التي أخرجها السوريون أو شاركوا فيها لا تتناسب مع كمية المبادرات التي نجحت. هناك خلل وهناك شي ناقص، أردت بحرقة أن أعرف ما هو. بعد البحث تَبيَّن لي أننا كسوريين نواجه تحدياً يخص التواصل، تحدياً في التواصل مع الآخر والتعاون معه٬ الأمر الذي أفهمه تماماً: أربعون سنة من استبداد النظام السوري وحكم الحزب الواحد، هذه نتائجها.
في مدينة دورتموند، انضممتُ إلى جمعية قطار الأمل، المنظمة التي تضم مهاجرين وألماناً وتسعى لترسيخ التعددية في المجتمع وتمكين المهاجرين. مع نشاطي، بدأت ألمس التغيير على شخصيتي وعلى محيطي. التغيير بطيء ولكنه مستمر وملموس، وتَرَاكُمُه يصنع فرقاً. ساعدني نشاطي على أن أرسخ وجودي في المكان الذي أنا فيه؛ ساعدني ليتم ترشيحي لمجلس الاندماج؛ ساعدني لأجلس مع ممثلين من الاتحاد الأوروبي وأقول لهم، في وجوههم: «ما تقدمونه ليس كافياً، نحتاج المزيد».
عام 2018، التقيت برئيس ألمانيا شتاين ماير والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في حفل تكريم للأفراد الفاعلين في المجتمع المدني في ألمانيا. لم أكن أتوقع أن عمل عامَين قد يتكلل بتكريم على مستوى كهذا. لحظات كهذه تغمرني بالتفاؤل وتجعلني أشعر بالجدوى. اقتربَتِ المستشارة الألمانية مني وصافحتني، شعرتُ بغبطة كبيرة وأنا أُخبرُها أني سوري وأني عبرت البحر لأصل إلى ألمانيا. شعرتُ أني، في مكاني هذا، لست جميل عليو فقط وإنما شخص يحمل واجب إيصال صوت السوريين الذين عبروا البحر معي. ابتسمت لي المستشارة ورحبت بي في ألمانيا، ثم عرّجت قائلة: «بالمناسبة، اليوم صباحاً كنت في مكالمة مع الرئيس الروسي بوتين».
انفصلت للحظات عن المكان، ولم أنتبه لنفسي إلا وأنا أحدث المستشارة قائلاً: «لكن يا سيدة ميركل، بوتين… بوتين هو الذي يدعم الأسد في قصف الشعب، ولولا دعمه المستمر للأسد لما استمر في حكم البلد، و…». ثم صحوتُ على نفسي وابتلعتُ بقية الجملة. لقد تحولتُ في لحظات من جميل الدبلوماسي بالبدلة الرسمية وربطة العنق، إلى متظاهر في الشارع يهتف ضد الأسد ويلفّ علم الثورة حول رأسه. حتى لو ظننا أن اختيار معاركنا حاسم، ستُطل علينا تلك المعارك التي لم نَخُضها وستزرع لنا المكائد في الطريق.
أنا مؤمن بالثورة، ولكني اخترتُ أن أجعل نشاطي يصب في مساعدة الناس على التواصل مع البلد الجديد، مساعدة المهاجرين أن يكونوا ممثَّلين و مسموعين. الثورة كانت لحظة مكثَّفة ومانحة للأمل، دفعت العمل المجتمعي والسياسي إلى الأمام وبسرعة. لكن الآن هو الوقت لكي ننتقل إلى مرحلة جديدة ونفهمها. أستطيع أن أعمل في دورتموند لبلدي بشكل أفضل بكثير من اللاذقية، للأسف. بالإضافة إلى أن ألمانيا تحاول أن تنهج سياسات اندماج مغايرة لتلك الماضية، وأن تتعلم من أخطائها، فألمانيا تعلمت من التجارب ومن الحرب والديكتاتورية فصارت تقدّر هذه الحريات أكثر وتقدّر من يقف خلفها ويطالب بها.
في شهر أيلول الماضي، حصلت جمعيتنا على أكثر من 4 بالمئة من أصوات الناخبين في مدينة دورتموند، مما مكننا من تحصيل مقعد في مجلس الاندماج. لا أقول أن العمل المجتمعي سهل؛ إنه يتطلب وقتاً وأعصاباً من حديد. لكنه ما يعطي حياتي معنى، وهو ما تركت دراسة هندسة الطاقة لأجله. بعد تفكير طويل وأخذ ورد، تركت الفرع الذي أدرسه وانتقلت لدراسة العمل المجتمعي في مجال الهجرة والاندماج.
وفا علي مصطفى
عندما وصلت إلى برلين عام 2016، بدأ فصل جديد من التغريبة التي أعيشها. المشهد السياسي هنا مختلف. في برلين لا يمكنني أن أقدّم نفسي كثائرة أو ثوريّة دون أن أُقابَل بعلامات تعجُّب. كلمة «الثورة» في لبنان والأردن وتركيا قبل سنوات كان لها معنى ما، أما في ألمانيا فقضية السوريين اليوم هي قضية حرب ولجوء، والثورة ليست جزءاً من الفهم السائد لما يحدث.
منذ انطلاق الثورة في سوريا، ودّعت حياتي بشكلها السابق. توقفتْ جامعتي، وتغير ما أفعله في يومي، لتحتل الثورة الأولوية المطلقة. كانت أيامي معظمها للثورة وفي الثورة. اعتقال والدي كسر ظهري، وسبقه استشهاد واحد من أقرب أصدقائي. عندما اعتقل النظام السوري أبي عام 2013، اتصل بي أصدقاؤه ومعارفه وأخبروني أن علي أن أخرج بأقصى سرعة، أنا وأمي وأختي. بين ليلة وضحاها، كان علي أن أكون في مكان جديد، مكان مجهول، إلى وقت غير معلوم. شعرتُ أني طُردتُ من حاضر كبير إلى مستقبل صغير؛ من الجنة الصغيرة إلى الجحيم الكبير. أنا لم أفقد مدينة وأباً فحسب، بل فقدت حياة بأكملها.
في الحقيقة، بينما كنا نحارب في سوريا، لم أكن أفكر بِاسمٍ لما كنا نقوم به. نحن نشطاء وفاعلون والسياسة من حولنا، إلى جانبنا، لكنني لم أكن أفكر في تعريف هذا الذي نفعله، ولم أكن أتحدث عنه. كنا نفعل وحسب. بل كنت أُصرّ ألّا أسمّي نفسي سياسيّة. ربما كنوع من التطهُّر من السياسيين التقليديين، وربما كنوع من حماية ما نفعله. فالمحاولات السياسية فشلت من قبل، ونحن نريد إنجاح هذه التجربة، التي لا تشبه ما قبلها. كنت أريد أن أمنح نضالنا فرادته التي يستحقها. مع خطواتي الأولى في برلين، بدأت أُعيد تعريف نفسي وبدأت أفهم السياسة. وبينما كنت أحاول أن أفهم المكان، كنت أحاول أن أفهم نفسي فيه. مع الوقت٬ بدأت أُطلِق على نفسي «ناشطة سياسية» كنوع من البراغماتية والتعامل مع المكان والزمان ومفرداتهما٬ ولكن أيضاً كنوع من إعادة تصوُّر السياسة في الفعل الثوري.
إلى جانب نشاطي في منظمة «تبنّى ثورة»٬ أشارك في حملة «سوريا ليست آمنة» حيث ندعو لمنع ترحيل السوريين، حتى مرتكبي الجرائم منهم، إلى سوريا الأسد المحكومة بالاعتقال والتعذيب. بشكل أساسي، أطالب – مع آلاف العائلات السورية – بحرية أحبائنا المغيَّبين والمغيَّبات قسراً؛ النشاط الذي أراه سياسيّاً ولا ينفصل عن السياسة.
النضال من أجل سوريا مُتعِب لأنه غير محدد بزمن، ونتائجه غير مرئية. لكن هناك لحظات تمرّ وتُشعرنا بالجدوى وتضخّ الأمل في عروقنا. لحظة وقوفي أمام محكمة كوبلنز في ألمانيا – حيث تمت للمرة الأولى محاكمة مجرمي النظام السوري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية – كانت لحظة غيرت حياتي. رغم أنها من أصعب التجارب النفسية التي مررت بها. بينما كنت أجلس إلى جانب 121 صورة لمعتقلين سوريين على باب محكمة كوبلنز، شعرتُ بألم مطبق على صدري، يُثقِلُه إلى حد أنني لم أعد قادرة على التقاط نَفَس٬ خصوصاً وأنا أقرأ الرسائل التي يُرسلها لي أهالي المعتقلين على حساب فيسبوك. ولكنني شعرت للحظة ما أن هناك أثراً؛ أن لنشاطنا نتيجة. ملف المعتقلين تحرّك، والكلام عنه أيضاً.
شعرتُ ربما للمرة الأولى منذ زمن أنني أفعل شيئاً. وشعرت أنّه قد يكون لوجودي في ألمانيا جانب إيجابي. ككثير من الوافدين الجدد، بحثت عن روابط تصلني مع المكان الذي وصلت إليه، ويمكنني أن أقول أني وجدت في مسيرة العدالة والمحاسبة هذه رابطاً متيناً، يتيح لي فرصة جديدة للمحاولة والاستمرار.
ليس لدي أدنى شك بأني محكومة بأن أكمل نضالي إلى ما لا نهاية. كنت أرفض أن أقول حتى بين ونفسي أن الثورة فشلت في تحقيق أهداف معينة، فهي مستمرة في المحاولة بطرق مختلفة ربما. أتذكر بعد نقاش مع صديقي الذي سألني «ليش خايفة تقولي فشلت الثورة؟» أني أقفلت الباب على نفسي عدة أيام. أثقلني الفراغ الذي سيحلّ بروحي إن اعترفْت. كان يسحبني للأسفل إلى قاع لا أعرف نهايته. شعرتُ أن وجودي مهدَّد. فكرت كثيراً، وأعدت التفكير مراراً. إن كانت الثورة قد فشلت، فما الذي أفعله أنا أربعاً وعشرين ساعة في اليوم؟
خرجت بعدها إلى الشارع، رأيت الجموع محتشدة تهتف في مظاهرة ضد عنف الشرطة، انضممت إلى الناس وهتفت حتى بُحَّ صوتي. شعرت بالقوة، وعرفت يومها أنني إن كنت سأنقذ نفسي فعليّ أن أخرج منها، وإن كنت أريد أن أنجو بنضالنا فعليّ أن أربطه بنضال أكبر. برلين مدينة سياسية، تفتح لك أبواب الفاعلية، بل وتذكرك كل يوم أن عليك أن تكون سياسياً. لا أعتقد أن هناك مدينة في العالم أكثر من برلين تذكرك كل يوم لماذا عليك أن تحارب. برلين قريبة من نضالات الشعوب كلها، نضالات الثائرين والثائرات من أجل الحرية ومن أجل عالم أفضل. كل يوم هناك مظاهرة في برلين، سواء ضد عنف الشرطة أو ضد تعنيف النساء أو من أجل البيئة. وفي كل مظاهرة٬ أنزل وأصرخ مع الجموع. أربط نفسي بنضالات البشرية، وأخرج عن سوريّتي٬ وعن قدري الشخصي٬ إلى نضال أوسع وأرحب.
في أحد ليالي الصيف، كنت عائداً من إحدى السهرات البرلينية المتأخرة. كنت أتصفح تويتر تمضية للوقت حتى يصل القطار. تتالت أمامي صور قادمة من الغوطة الشرقية. الأسد ضرب الغوطة بالسلاح الكيماوي المحرّم. استجمعتُ قوتي، فتحتُ الصور؛ بعضها فقط، ثم أغلقت الموبايل.
وصلني إشعار من مجموعة زملائي في المدرسة على واتسآب. فتحت المجموعة، ترددتُ مرة، ترددتُ أخرى، ثم كتبت بالألمانية: «الأسد ضرب الغوطة بالكيماوي، من لديه صلابة قلب يمكنه أن يبحث على غوغل ويشاهد الصور». ثم أغلقت الموبايل. صدمَتِ الصور وعيي وانتشلتْني بضربة واحدة.
في منتصف اليوم التالي، فتحت المجموعة لأجد أن هناك سبعين رسالة غير مقروءة. قرأت الرسائل بترتيب عكسي، حتى وصلت إلى الخبر الذي كتبتُه، لأجد رسالتي متبوعة بصمت مُغرِق. والرسائل السبعين بعدها تناقش أمراً آخر. نشرتْ زميلتي صباحاً عريضة لإنقاذ تشيكو: الكلب تشيكو عضّ صاحبه، والعريضة تطالب بعدم قتل الكلب لأنه بالتأكيد لم يفعل ذلك عن قصد. الكلب يستحق الحياة. أغلقتُ الموبايل وأنا أسأل نفسي: «مين الكلب هون؟».
بعد فترة، سرَّب نظام الأسد قائمة بالمعتقلين الذين قُتلوا تحت التعذيب. تحوّل حساب فيسبوك عندي إلى منشورات من عوائل تبحث عن مفقوديها، وصور لجثث مكدّسة لهياكل عظمية تبدو عليها علامات التعذيب. فتحتُ بريدي الإلكتروني لأجد دعوات لمظاهرات، وللتوقيع على عريضة لمنع رمي البلاستيك في المحيطات. فتحتُ الإيميل، ثم أغلقتُه، ثم فتحتُه مجدداً. شعرتُ بانفصام مريع، وفكرتُ بالرد الذي سأكتبه. تراجعتُ وقلتُ لنفسي: ربما هذا عالم يستحق أصلاً أن نموت فيه بأكياس البلاستيك.
أمزح طبعاً. أنا، كأمين، مهتم جداً بقضايا البيئة وقضايا المرأة والعدالة الجندرية، لكنني أرى أنني كسوري لدي قضاياي الأكثر إلحاحاً. لا يمكنني، ببساطة، أن أتظاهر من أجل أكياس القمامة، بينما جثث رفاقي تتكدس في معتقلات سوريا كالقمامة.
بعد وصولي إلى ألمانيا عام 2016، بدأت التعرف على السياق الألماني السياسي، وعلى القضايا التي تشغل الناس. قضايا المجتمع الألماني مُلِحَّة بالتأكيد لمن يعيش في ألمانيا، وقضايا البيئة مُلِحَّة طبعاً بالنسبة لنا في الشرق الأوسط. بل نحن معنيون بها أكثر من أوروبا: أي فلاح في الشرق الأوسط يعرف أن المناخ يقسو، وأن محصوله يتغير إلى غير رجعة، ونحن معنيون بالاحتباس الحراري أكثر، لأن الحرائق والتصحر ستبدأ أوّلَ ما تبدأ من مناطقنا، بل قد بدأت فعلاً. لكن رغم ذلك، بالنسبة لي ولماضيَّ، وبالنسبة للظروف التي يعيشها الناس في بلدي، هناك قضايا أكثر إلحاحاً.
بعد فترة من وجودي في ألمانيا، وجدتُ على فيسبوك فعالية تنظمها مجموعة 4syrian rebellion. سجلت اسمي وذهبت إلى اللقاء. كان الجو حماسياً ولمسني شعور فاتن بإمكانية التغيير. كانت المجموعة تخطط لنشاطات للوقوف في وجه الدوائر الرسمية الألمانية التي تطالب اللاجئين بالذهاب إلى السفارة السورية لاستصدار وثائق ثبوتية. هنا سألني المنظمون لمَ لا أشارك معهم. فكرت لثوانٍ، ثم قلتُ في نفسي: «إي والله ليش ما شارك!». فعلياً، سؤال الانخراط السياسي بالنسبة لي ليس سؤال لماذا. وإنما سؤال لمَ لا. أنا لم أشارك في تظاهرات 2011 في سوريا، إذا لم يتجاوز عمري آنذاك الستة عشر عاماً. والـ«ليش لأ» كان جوابها وقتها: «لأني بخاف على إمي». أما اليوم، بينما أعيش وأمي بأمان في برلين، فلا يوجد سبب لهذه الـ«لأ». الانخراط السياسي مُتعِب طبعاً ومستنزِف للوقت، لكن الوقوف على الحياد ليس حلّاً. هؤلاء السياسيون يقررون عني وعن غيري حياتنا. السياسة لنا ويجب أن نستعيدها.
خلال نشاطي مع المجموعة اكتشفت شيئاً بديهياً في السياق الألماني، وساحراً بالنسبة لسوري: اكتشفت أنه من الممكن ببساطة الذهاب إلى المسؤولين والسياسيين في ألمانيا وطَرق بابِهِم وتقديم المطالب لهم.
في الفترة الأولى، كنت أصارع ماضيَّ وأحاول أن أضرب جذوراً في الأرض الألمانية. بعدها، أدركتُ أن محاولاتي للهرب من سياقي السوري لا تُعيدني إلا إليه. هنا بدأتْ معركة الشدّ والجذب، وبدأتُ أتخبط بين سياقَين أعيشهما معاً ويتصارعان فيَّ معاً. مع صعود اليمين المتطرف في ألمانيا، بدا واضحاً لي أن المعركة في سوريا والمعركة في ألمانيا ليستا منفصلتين، وأدركتُ أنه ليس هناك قضايا أهمّ من قضايا أخرى. هي معركة واحدة كبيرة، معركة من أجل العدالة ومن أجل الإنسان، معركة أن نبني أنظمة اجتماعية وسياسية أكثر إنسانية وأكثر عدلاً.
مع الوقت، أدركتُ أن إحداث تغيير مستدام يتطلب أن يكون الناشط جزءاً من هيكلية سياسية معينة. صادفتُ وقتها إعلاناً على فيسبوك في المجلس الأعلى للاجئين في المحلّة التي أسكن فيها في برلين. تقدمتُ وتم قبولي فوراً. منذ ذلك الوقت، وإلى جانب دراستي للتاريخ وعلوم الإعلام في جامعة برلين، أنشط في حملة «سوريا ليست آمنة» التي تعمل على إبقاء منع ترحيل اللاجئين السوريين إلى سوريا وفي المجلس الأعلى للاجئين في محلة بانكو.
مرت عشر سنوات على لحظة الثورة، عشر سنوات على تفتح بذرة الوعي السياسي التي ما زالت تنمو وتزدهر. في لحظة الثورة عام 2011، لم يكن الجوع أو الرغبة بتغيير نظام الحكم مُحرِّك الثائرين، بل التَّوْق: التوق إلى الحرية، إلى التغيير، إلى عالم أكثر عدالة. والآن رغم تغيُّر المكان وتغيُّر خرائطه، ما زال كثيرون منهم مستمرين في صعود جبل الحرية، في البحث عن عالم ينتزعون فيه حقهم بالمشاركة وواجبهم بالكلام؛ عالم لا يُخجل قلوبهم.