تعدّ مدينة حلب أكبر المدن السورية ومن أكثرها تعرضاً للدمار، وشهدت نزوح مئات الآلاف من بيوتهم. تركّز ذلك بشكل خاص في المدينة القديمة وحلب الشرقية، اللتين كانتا تحت سيطرة فصائل معارضة متنافسة بين تموز (يوليو) 2012 وكانون الأول (ديسمبر) 2016، وشهدتا دماراً واسعاً، في حين لم تتعرض مناطق سيطرة النظام في حلب الغربية إلى كثير من الضرر. عبر إعادة النظر في مأساة حلب، أقوم بتسلّيط الضوء على نمط «التآلف الاجتماعي» بالغ الأهمية الذي لاحظتُه في غضون عملي الميداني الإثنوغرافي بين الشباب السوريين الثائرين الذين كانوا جزءاً من حركة الاحتجاج السلمية الأولى في مختلف المناطق السورية في عامي 2011 و2012.هذا المقال نتيجة سبعة أشهر من العمل الإثنوغرافي في لبنان (في المقام الأول) وفرنسا، بين عامي 2013 و2015، عبر مقابلة الثوار السوريين الشباب الذين شاركوا في المظاهرات السلمية وغيرها من الاحتجاجات. تتبّعت مسارات هؤلاء الشباب على مدار عامين، وقد فرّ العديد منهم من العنف في سوريا إلى لبنان، ومن ثم إلى فرنسا وأماكن أخرى.
على مر العمل الميداني، أجريتُ أكثر من 160 مقابلة نوعية شبه منظّمة مع 70 شخصاً، تحوّل 30 منهم إلى مُحاوَرين رئيسيين، وجرت مقابلتهم مرتين على الأقل (أو ثلاث في بعض الحالات). وإضافة إلى ذلك، وثّقتُ محادثات واتصالات وتعليقات أخرى في ملاحظاتي الميدانية، مضيفاً 50 شخصاً على الأقل لتصبح العينة الإجمالية 120 شخصاً. كان أغلب الأشخاص الرئيسيين الذين قابلتهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى والشباب المدنيين، ودرسوا في جامعات حلب ودمشق وحمص. كان من بينهم أيضاً منشقون سياسيون وفنانون ومفكرون مدنيون في منتصف العمر. أما الانتماءات الدينية للمصادر فتمتد عبر الجماعات الإثنية والدينية المتنوعة في سوريا، بما في ذلك السنة العرب والكرد، والمسيحيون، والعلويون، ومختلف الطوائف الشيعية الأخرى مثل الإسماعيليين. يعتبر بعض من قابلتُهم أنفسهم متدينين، بيد أنّ أغلبهم يُعرّفون عن أنفسهم كعلمانيين، ويؤمنون بضرورة وجود شكل من الفصل بين الدين والدولة. وتم رفد المقابلات والملاحظات بكتابات متنوعة، تشمل منشورات لسوريين على الإنترنت.
لا يدّعي هذا المقال شموله أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان وفرنسا، أو كامل أطياف «المعارضة» المتباينة (بما فيها العناصر الأكثر تديناً أو تشدداً)، وإنما يتناول التجربة والذاكرة الثورية بين قطاعات الشباب الثوري السوري المذكورة آنفاً، ويهدف إلى المساهمة في جانب واحد من جوانب التجربة السورية بواقعها المعقد وحربها المدمّرة اليوم.
ورغم انكسار هذا النمط من التآلف الاجتماعي لدى شريحة الشباب، بفعل اليأس والمعاناة اللذَين يُعتبَران سمة للحاضر المدمِّر، أرى أنه كان منتشراً بين شرائح محدّدة جداً من الحركات الاحتجاجية، أي شريحة الشباب المدنيين والمتعلّمين من الطبقة الوسطى في الأيام الأولى من الثورة بين عامي 2011 و2012، وتجلّى على شكل صداقات ثورية. ولدى متابعتي لمسارات وتجارب هؤلاء الشباب الثائرين وهم يفرّون من سوريا إلى لبنان، ثم إلى فرنسا وأماكن أخرى، لاحظتُ أهمية الصداقات القوية والعاطفية الجديدة التي تشكّلت في لحظات الاحتجاج، وأثناء التجارب التي تماثل ما سمّاه فيكتور تيرنر بـ«المجتمعات». كان شخصان من الذين قابلتُهم، داليا ووسيم، زوجَين كان شملهما قد اجتمع للتوّ في فرنسا حين رويا لي تجربتيهما في الصداقة. شارك كلاهما في أعمال ثورية سلمية في سوريا عامَي 2011-2012، كالتظاهر والنشاطات الاحتجاجية الإبداعية. وعلى غرار جميع السوريين الذين قابلتُهم (معظمهم غادر سوريا أواخر عامي 2012 و2013) أُجبِرا على الفرار حين غرقت البلاد في حرب مدمّرة.
* * * * *
كانت داليا جزءاً من شبكة ثورية في جامعة حلب، تُعرف باسم «طلّاب الثورة» أواخر عامي 2011 و2012. وكانت حلب «متأخرة» عن ركب الثورة حينها، إذ شهدت المدن السورية الكبرى، مثل حماة وحمص، مظاهرات وحشوداً جماهيرية ضخمة. وفي واحدة من أكبر المظاهرات السلمية في 1 تموز 2011 في حماة وصل عدد المتظاهرين إلى 500 ألف شخص، وفقاً لثلاثة قابلتُهم وشاركوا في المظاهرة.تتباين تقديرات عدد المتظاهرين. فبحسب هيومن رايتس ووتش، كان هناك «عشرات آلاف المتظاهرين، ومئات الآلاف حسب بعض التقديرات». وعلى الرغم من صعوبة تحديد العدد الفعلي، إلا أن المظاهرة كانت أكبر المظاهرات السلمية في سوريا، وأغلب من قابلتُهم يعتبرونها الأكبر. كانت لجان التنسيق المحلية تتشكّل بصورة عفوية في كلّ أنحاء البلاد، وتنظِّم النشاطات الاحتجاجية وتنسّقها، لكن حلب ظلت هادئة. ورغم اندلاع احتجاجات صغيرة في المدينة في حزيران (يونيو) 2011، إلا أن مركزها (ومركز دمشق) كانا معقلاً لمسيرات كبيرة مؤيّدة للنظام، وكان ذلك مؤشراً واضحاً على أنّ النظام يحظى بدعم شرائح سكانية عديدة. عزا البعض هدوء حلب إلى هيمنة طبقة التجّار عليها، وهي طبقة ارتبطت مصالحها بشكل وثيق بالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية للنظام السلطوي. وقد أشارت داليا ووسيم إلى أسباب مشابهة، مضافة إلى الذاكرة التاريخية الجمعية في حلب، عن حملة النظام لقمع التمرّد السابق في سبعينيات القرن الماضي، حين «أحرق أسواقاً بأكملها في المدينة» و«ورمى الناس في أفران المخابز».ورد هذا ضمن مشهد في رواية الكاتب السوري خالد خليفة التي تحكي عن حلب في ذلك الوقت مديح الكراهية.
لكن مع حلول أواخر عام 2011، وباستخدام مؤسستهم التعليمية رمزاً وقاعدة انطلاق لهم، بدأت داليا وطلاب آخرون بتحويلها إلى «جامعة الثورة». وبذلك حولوا الجامعة رمزياً إلى مكان لتعليم الآفاق الثورية الجديدة، بعد أن كانت أداة أيديولوجية بيد الدولة.
نجح عناصر الجيش السوري الحر (الذي تشكّل في 29 تموز-يوليو 2011 من منشقين عن الجيش السوري بهدف الإطاحة بالنظام بعد حملته العنيفة على المحتجين السلميين) في طرد قوات النظام من معظم الأجزاء الشرقية للمدينة وبعض المناطق الشمالية والجنوبية الغربية، وأخيراً من المدينة القديمة. وفي نهاية المطاف أصبحت حلب، المدينة التي بدت هادئة جداً في البدايات، مركزاً ثورياً عام 2012، وضمّت مجالس محليّة وفصائل مسلحة من أبناء المدينة. وفي الأشهر الأولى القليلة بعد تموز 2012، بقيت هذه السلطات الجديدة منضبطة ومتوازنة إلى حد ما بجهود المجتمع المدني الحيوي الجديد، الذي كان مظلة للمجموعات الإعلامية والأنشطة الثقافية والفنية والمدارس وفضاءات التعبير، لتعزيز الشعور الثوري والتصوّر الأيديولوجي لسوريا الحرة والمدنية الجديدة التي تسود فيها كرامة الإنسان. وتُذكر على وجه الخصوص الأسابيع والأشهر القليلة الأولى في المناطق «المحرّرة»، كصلاح الدين وبستان القصر وأحياء أخرى كانت تحت سيطرة الجيش السوري الحر بعد تموز من عام 2012، بوصفها فترات مجيدة لذلك المجتمع المدني الحيوي الجديد.
إلا أن العنف تصاعد أواخر عام 2012 وبدايات عام 2013، وأصبحت المجموعات المتشددة المتزايدة (مثل جبهة النصرة، التي سُمّيت لاحقاً بجبهة فتح الشام) منافِسة لفصائل الجيش السوري الحر الأكثر اعتدالاً، والذي كان لواء التوحيد أكبرها (على الرغم من اسمه الإسلامي، اعتبره من قابلتُهم معتدلاً وغير متطرف). سرعان ما توقفت حيوية المجتمع المدني الجديد مع الآمال بثورة سياسية واجتماعية، لأن النشطاء السلميين شعروا بضرورة الخروج ومساندة القضية الثورية من البلدان المجاورة. غادر البعض إلى غير رجعة، بينما استمرّ آخرون بالسفر جيئة وذهاباً من البلدان المجاورة. وقد شدّد بعضهم على مسؤولية العنف عن انحراف مسار ثورتهم السلمية، فيما اعتبره آخرون نتيجة طبيعية لمجرى الأحداث. أمّا في الواقع العملي، فقد عنى ذلك أن عليهم معرفة كيفية التعامل مع الفصائل المسلّحة لمواصلة مبادرات المجتمع المدني الجديد في سياق الخطر المتصاعد للحرب الوحشية. ويشير الحضور الطاغي لذاكرة المجتمع المدني الجديد وعلاقات الصداقة الجميلة، رغم مسار الأحداث المأساوي، إلى أن آثار هذه الذكريات لم تتبخّر في دخان الحرب.
هذه التعابير غير المسبوقة للمجتمع المدني، والتي لم تقتصر على حلب والآفاق السياسية الجديدة، لم تزعزع النظام الاستبدادي وأبديّته («الأسد إلى الأبد») فحسب، بل خلقت أيضاً مراكز ثقل جديدة في المجالات الاجتماعية السورية التي تعرضت للاهتزاز، مدفوعة بنمط محدّد من التآلف الاجتماعي، وهو النمط الذي تذكّره وسيم وداليا في فرنسا، المتّسم بـ«أسلوبه المختلف» و«صدقه»، والذي أضحى «صداقة ثورية جميلة»:
داليا: كان لدي صديق في الجامعة. لم أكن لأقف معه، إذ لم أرغب في أن يعرف أحد عن عملنا سوياً. كانت لدينا طريقة سرّية للتواصل.
وسيم: العلاقات بين الناس في الجامعة تغيرت بعد الثورة. فعلى سبيل المثال، لم تعرف داليا هذا الشخص من قبل، ولكن بعد الثورة نشأت علاقات جديدة بين الناس.
داليا (مقاطعة بحماس، ومبتسمة): نعم، علاقة «جديدة»!
وسيم: أصدقاء جدد.
داليا: أصدقاء جدد! ليسوا كالأصدقاء السابقين!
وسيم: أصبح الناس يتقاربون بشكل أعمق.
المؤلف: هل تعرفتِ على أصدقاء كثر؟
داليا (مع ابتسامة حنين): نعم.
وسيم: هو شكل مختلف، لقد كان شكلاً مختلفاً من الصداقة.
المؤلف: أي نوع من الصداقة هو؟
داليا: صداقة عمل، وأظن أنها كانت الصداقة الأجمل! لأننا جميعاً صادقون في عملنا ونهتم ببعضنا، ونخاف من حدوث شيء لأحدنا.
* * * * *
أريد في هذا المقال تناول الصداقة الثورية بوصفها نمطاً محدّداً من التآلف الاجتماعي. قد يبدو مفهوم الصداقة للوهلة الأولى عادياً ورومانسياً وغير مفيد في تحليل التعبئة الشعبية المرافقة للحركات الاجتماعية وكيفية تشكل الذوات الثورية في الثورات العربية. ولهذا السبب على الأرجح يتمّ تجاهله إلى حد كبير في المؤلفات المتعلّقة بالتعبئة الاجتماعية والثورة والأنثروبولوجيا السياسية (رغم أن الدراسات السياسية لأنظمة الاستبداد العربية تنظر إلى حد ما في روابط الصداقة). النتائج التي توصّلتُ إليها، مع ذلك، تشير إلى أنّ الصداقة كنمط اجتماعي لها دور أساسيّ في تشكيل الذاتية الثورية في سوريا بهدف التعبئة الاجتماعية وبلوغ الغايات الثورية. وعلاوةً على ذلك، أجادل بحاجتنا إلى التركيز على أهمية «الصداقة الجميلة» في صنع السياسة الثورية، بوصفها جزءاً من تحوّلات اجتماعية أكبر غالباً ما تحدث خلال الثورات، وقد وضعتُ هذه المحاججة في سياق الواقع المعقّد، وهو الحرب السورية اليوم. من وجهة نظر أكاديمية، لا يمكن بالتأكيد النظر إلى ما يجري في سوريا على أنه ثورة مكتملة قلبت النظام السياسي وأحدثت تحوّلات اجتماعية راديكالية. لكن من وجهة نظر الثوار السوريين المذكورين أعلاه، فهناك قيمة تجريبية وتحليلية في النظر إلى سوريا كمثال على ثورة جارية. ومن البديهي أن يكون توصيف الأهوال في سوريا محل خلاف عميق: فبالنسبة لبعض السوريين المتمسكين بنسخة النظام من الاستقرار، رُفِضت الثورة بشدّة واعتُبِرت تهديداً.عدّ دعوة صامويل شيلكه لدراسة ما وصفه بـ«المقاتلين العقائديين» و«القومية العسكرية»، في مقالته في هذا العدد الخاص [من مجلة ميدل إيست كريتيك]، هامة للغاية ويمكن أن تنسحب على حالة سوريا أيضاً. لا يوجد «خير مطلق» بحسب شيلكه، ويجب علينا كعلماء اجتماع دراسة الأشكال المختلفة من «الرغبة في الدفاع عن الخير». أما بالنسبة للسوريين الذين عملتُ ميدانياً بينهم، فالقضية ليست واضحة؛ ذلك أن الثورة انتهت بالعسكرة والعنف وفقاً لبعضهم، في حين يُصرُّ آخرون بينهم على أنّ الثورات، تاريخياً، تميل إلى أن تكون طويلة الأمد، وتنطوي في الغالب على حرب أهلية عنيفة. وحتى تهميش حركة الاحتجاج السلمية السورية، يمكن وضعه في «دورة الحياة» الطبيعية للثورات، التي يُنحّى فيها الثوار الأوائل غالباً أمام «الراديكاليين».بعد عمل كرين برينتون المؤثر عام 1937، طورت التحليلات التاريخية والاجتماعية للثورات نماذج مرحلية للثورات السياسية والاجتماعية (تناولت معظم الحالات فرنسا وروسيا وإنكلترا والصين، إضافة إلى إيران.. إلخ). يقسم برينتون الثورات إلى مراحل تشمل: فترة سقوط النظام، وفترة شهر العسل (تشكيل حكومة معتدلة جديدة قصيرة العمر)، و«فترة الرعب والقوة» (يتراجع فيها نفوذ الثوار الأوائل لصالح «المتطرفين» الذين يكونون في العادة أفضل عتاداً، وأكثر استخفافاً بحياة الإنسان، وما إلى ذلك) ثم أخيراً «انعكاس ثرميدوريان» حيث يصل الطاغية إلى السلطة (ستالين في روسيا، بونابرت في فرنسا، كرومويل في إنكلترا).
درج المؤرّخون وعلماء الاجتماع على دراسة الثورات بشكل رجعي، أي بعد وقوعها بسنوات عدة. لكن كيف يمكننا مقاربة الحرب السورية بوصفها ظاهرة اجتماعية جارية، شهدت لحظات ثورية؟ التركيز على التجربة الثورية في هذا المقال لا يوثق فقط مجموعة هامة من التجارب التي شهدتها الحرب في سوريا، وإنما يدفعنا للتفكير في أنواع التغيرات الاجتماعية اللاحقة للمأساة السورية: إذ لا تزال اليد السياسية العليا للنظام محصّنة إلى حد كبير، وإن كانت قد اتخذت أسلوباً سلطوياً جديداً. وعلى الرغم من عدم حصول تغيير سياسي، إلا أن النظام خسر السيطرة على مناطق واسعة، وخضعت هذه المناطق بدورها لأنواع مختلفة من السلطة السياسية لفترات زمنية مختلفة.تشمل الأمثلة مدينة منبج شمالاً ومخيم اليرموك في دمشق، إذ خضعت المنطقتان لنفوذ قوى مختلفة، من الجيش السوري الحر إلى جبهة النصرة إلى تنظيم داعش والفصائل الكردية (في حالة منبج). لقد تغيّرت التركيبة السكانية جذرياً مع نزوح قطاعات واسعة من السكان، وتحوّلت التحالفات الاجتماعية بشكل جذري، فيما تزايد العنف مع الخطاب والنزاع الطائفيَّين. ومن المؤكد أنّ سوريا تتغيّر جذرياً وباستمرار منذ آذار (مارس) 2011.
ليست «الصداقة الثورية الجميلة» ميداناً رئيسياً للسياسة الثورية فحسب، وإنما هي مثال عن تغيُّرات اجتماعية راديكالية تجري كجزء من الحرب في سوريا. وفي حين يُمكن للصداقات أن تخلق الخلافات أو أن «تتحول إلى شيء قبيح»، يَكمُن جمال الصداقات الثورية في تجربة الشباب السلميين الثائرين في سوريا، والذين تذكّروها خلال عملي الميداني، بشكل رجعي وفي ظروف مأساوية. وانطلاقاً من روح القضية الخاصة التي بين أيدينا، استلهم مفهوم جاك دريدا عن «النهايات» بصفتها تأرجحاُ مستمراً بين الحائط المسدود والأهداف الطوباوية الأولى وأسأل: كيف بدأت وتطورت الصداقات الثورية التي تقع في سياق تغييرات اجتماعية أوسع في الحرب السورية، وأي «نهاية» وصلت إليها في مواجهة العنف المتزايد والحرب؟ سأوضح في الفقرات التالية كيف استُبدِلت علاقات «الجمال» الاجتماعية في سوريا السلطوية والنيوليبرالية ما قبل الثورة، بصداقات جميلة ثورية تغذّي ثقلاً اجتماعياً جديداً.
الصداقة والتعبئة وانعدام الثقل الاجتماعي
قبل العودة إلى داليا ووسيم والصداقات الجميلة الأخرى، ينبغي تسطير ملاحظات حول مفهوم الصداقة، لا سيما فيما خص علاقتها بالسياسة والتغيير الاجتماعي وكونها لا تفيض بالجمال الصافي على الدوام وإنما قد تكون ميداناً للاختلاف أيضاً. تعود مسألة تشابك الصداقة والسياسة إلى الفلسفة القديمة. فعلى سبيل المثال، عرّف أرسطو الصداقة في الأخلاقيات النيقوماخية بوصفها ميداناً أولياً للدولة-المدينة (بوليس-polis، التي لا يُنظر إليها كـ«دولة» فحسب، وإنما كـ«مجتمع سياسي»). أما بالنسبة لجاك دريدا، وهو مثال أكثر معاصرة، فالصداقة عالقة في تناقض داخلي (أبوريا-aporia)، تتغذى فيه على التوترات الكامنة داخلها. غير أن فكرة الصداقة، باعتبارها فسحة للممارسة والتنظيم السياسي، قد نُحّيَت في العلوم السياسية الحديثة، وبناءً على ذلك، فإنّ تجربة الصداقة مغيَّبة في التحليل السياسي. ورغم وجود اهتمام متجدد في الأنثروبولوجيا بالصداقة الخاضعة للتجربة ظواهريّاً، إلا أنها لا تزال «موضوعاً مُهمَلاً». وقد درجت الأنثروبولوجيا على تفضيل نظرية طبقات النسب والقرابة على تصنيفات تُعتبر «غربية» وحديثة كالصداقة، وأسباب ذلك عديدة، لكنها متصلة بالطرق التي نُظِّمت فيها العوالم السياسية والاجتماعية «المحلّية» في ما وصفه أريك ديفيس بالفئات «المحدودة». فمفاهيم مثل القبيلة، والقرابة، والعائلة، استخدمها الأنثروبولوجيون لشرح سلوك الناس – وفقاً لبيير بورديو ونظرية الممارسة السوسيولوجية – أو كيفية فهمهم لعوالمهم، وفقاً لكليفورد غيرتز. وبعد عقود من الأعمال الأنثربولوجية المبكّرة القليلة التي تناولت الصداقة بوضوح، تزايدت المؤلفات، لا سيما مع المساهمات التي حرّرتها ساندرا بيل وسيمون كولمان وأميت ديساي وإيفان كيليك، فيما لا تزال دراسات الشرق الأوسط قاصرة في تناول هذا الموضوع. ولاحظ ميشيل عبيد عام 2010 أن «المؤلفات المتعلقة بالصداقة بوصفها مفهوماً تحليلياً، فضلاً عن كونها موضوعاً إثنوغرافياً في السياقات العربية، تكاد تكون غير موجودة». حتى الأعمال الأكثر جدة حول ما يسمى «الترفيه الإسلامي» و/أو المتعلقة بتعبئة الحركات الاجتماعية في الشرق الأوسط لا تنظر إلى الصداقة كمفهوم تحليلي، في حين تركّز الدراسات السياسية للشرق الأوسط على الصداقات لشرح الروابط السياسية في كل من الأنظمة الجمهورية والملكية. بيد أنّه في جميع هذه المجالات، ربما كان من المفيد التفكير تحليلياً بما تعنيه الصداقة، بالنسبة للترفيه والأخلاق الإسلامية لدى الشباب الشيعة في جنوب بيروت، على سبيل المثال، أو بالنسبة لأساليب تعبئة الحركات الاجتماعية قبل الانتفاضات العربية وبعدها.
وبالتالي، هناك فراغ يجب ملؤه، لا سيما في الدراسات الأنثروبولوجية للشرق الأوسط، والأنثروبولوجيا الناشئة حول الصداقة. هذه الأخيرة تساعدنا على فهم تجربة الصداقة ومعناها ووظيفتها عبر الثقافات المختلفة، لكن دون تقدير الديناميات الكامنة بين الصداقة والثورة، التي تسلّط الضوء على تشكّل الصداقات الجميلة ودورها في العملية الثورية. ومن اللافت استدعاء الجزء الأساسي من شعار الثورة الفرنسية «الحرية، المساواة، الإخاء أو الموت!» إحساساً بالقرابة والرفقة. فـ«الإخاء» هنا هو مثال حول اعتماد الصداقة في سياق الثورة على استعارة القرابة، لتبيان الكثافة السياسية والعاطفية المعرّضة للخطر في لحظة ثورية. تُولِّد الاضطرابات الثورية، بمعنى ما، نوعاً جديداً من «الإخاء»، لم يتشكّل عبر المصادفة البيولوجية، بل كثّفته الخبرة الثورية والعاطفية والتضحية ومحاولة قلب النظام الاجتماعي والسياسي. إذن، يمكن فهم التبعية التبادلية بين القرابة والصداقة، بسبب ترابطهما الثقلي في اللحظة الثورية. وفي حالة سوريا، كما سنرى أدناه، أوجد الثوريون لأنفسهم فضاءات تملك، حسب غسان الحاج في قراءته لبيير بورديو، «ثقلاً اجتماعياً صفرياً».أَدين لتعليقات غسان الحاج في تقديم مصطلح «مراكز الثقل الصفرية» في مؤتمر SIME الذي انعقد بعنوان «نهايات الثورات» في جامعة روسكيلدة السويدية في أيار 2015. وقد قدَّمتُ في المؤتمر ذاته نسخة سابقة من هذه الورقة برفقة مريم يونس، التي أَدين لها بالفضل أيضاً في التفكير بالصداقة والثورة. عبر إذابة ثِقَل «الحقول» المختلفة، أي القرابة والقبيلة والطائفة أو الدين، خلق الثوار خطوطاً جديدة من الثِقَل، تمثّل «حلم طيران اجتماعي»، في محاولة يائسة لتحدّي ثقل الحقل الاجتماعي. وقد خلقت هذه «المحاولات اليائسة» للثوار السوريين مراكز ثقل جديدة: هي الصداقات الثورية التي أضحت ميداناً للسياسة الثورية في عملية تغيير المجال الاجتماعي لسوريا السلطوية.
الاستثمار العاطفي والقيمة الإنسانية في سوريا ما قبل الثورة
لفهم هذا الميلاد للصداقات الجديدة، وخلق فضاءات ذات «ثقل اجتماعي صفري»، من الضروري إجمال موقع الصداقة بإيجاز في المجالات الاجتماعية في سوريا السلطوية ما قبل الثورة. واسمحوا لي هنا بالتأكيد على أنني لا أقدم محاججة واحدة تشمل المجالات الاجتماعية المعقّدة والمتعدّدة في سوريا. فهذا قد يحرّف التباينات الديموغرافية الضرورية بين البُنى الطبقية والحضرية والريفية، والحظوظ الأيديولوجية والاقتصادية. محاججتي تدور بشكل حصري حول شريحة معينة من السوريين، ألا وهي شريحة الشباب من الطبقة الوسطى والوسطى العليا، من المتعلّمين والمتمدّنين، مثل داليا ووسيم، الذين يشكّلون جزءاً من الحركة الثورية المتنوّعة في سوريا (والتي تشمل مجموعات متباينة). ورغم وجود ثغرة ينبغي ملؤها في التفكير حول الصداقة، كما ورد أعلاه، إلا أن الصداقة بوصفها فئة لم تُغفَل تماماً في المؤلفات المتعلقة بسوريا. ومن الأهمية بمكان ما توصّلت إليه كريستا سالامندرا في عملها الميداني الذي أجرته في تسعينيات القرن الماضي، والذي يُشير إلى استحالة وجود صداقات فاضلة وصادقة بين النخب في سوريا البعثية. ففي الدوائر النخبوية والتي يزداد تسليعها من المقيمين في دمشق «الجميلة كصورة على بطاقة البريد»، أصبح البحث عن الجمال والاستهلاك هو المألوف. وقد تختلف تركيبة هذا الجمال ووظيفته بشكل واضح عن سردية داليا، فالسيدات التي قابلتهنّ سالامندرا، وهنّ من أوساط نخبوية متمدّنة، يُخفين منافسة عدائية «ضارية» وضغينة تجاه بعضهن عبر المجاملات والتودد، في ظلّ «الضغوط على النخب التي تخاف السقوط من السلم الاجتماعي في الظروف المتقلبة على الدوام». وعبر التملّق السطحي ذي المعنى المُلتبِس (حين تقول إحداهن للأخرى على سبيل المثال: «لقد اكتسبتِ وزناً!»)، «تُحطّم» النساء النخبويات السوريات بعضهنّ، لترفع كل واحدة من شأنها، ولا تعرف أيهنّ موقعها نتيجةً لذلك. وبناءً على هذا، تُصبح «الصداقات» الجميلة في سوريا السلطوية النيوليبرالية «هشّة وقصيرة الأجل».تذكر سالامندارا في إحدى الحواشي فقط أن «الصداقات الحميمة» كان وجودها مُحتملاً بين الذكور الذين قابلَتهم. تستعير سالامندرا تَصوُّر «سيدة عَلَوية» للحساسيات بين الدمشقيين «الأصليين» والدمشقيين «الوافدين». تقول السيدة: «إنهم (الدمشقيون الأصليون) يظنون أن الناس في دمشق تجرّدوا من إنسانيتهم، وفقدوا الانفتاح والقدرة على التواصل والثقة… لا يُمكنك بناء صداقات مع النساء أو الرجال. قد تتمكن من بناء صداقات، ولكنها في جوهرها ليست صداقات حقيقية». وينسجم تسليع دمشق ما قبل الثورة، المُستكشف في نُخَب سالامندرا التنويرية،غالباً ما تشير «تنويري» إلى نخبة دمشق المجتمعية والفنية على وجه الخصوص، التي تسعى إلى «تنوير» المجتمع السوري «المتخلّف» الذي «ليس جاهزاً» بعد للتغيير السياسي. مع دراسات متعاقبة أجرتها ميريام كوك وليزا ودين. تصف ودين، على سبيل المثال، ما تسميه «أحلام الترقي الاجتماعي» في سوريا النيوليبرالية عشية الثورة، قائلة إن «الاستثمار العاطفي اقترن بالرغبة في العائد المادي، ليس فقط للقادرين على تحمُّل كلفة ذلك، بل لغير القادرين أيضاً لكن المصرّين على الارتباط بوهم الملذات ومكانة المُستهلِك».
تشير هذه الملاحظات إلى أنّ النيوليبرالية الاستهلاكية السورية التي كان يروِّج لها نظام الأسد تتجاوز حدود دوائر نُخَب دمشق التي تتحدث عنها سالامندرا، وتكشف عن «استثمارات عاطفية» شخصية كالصداقات. ويتجلّى منطق المنافسة السوقيّة عميقاً في أوصاف ودين وسالامندرا، ما يترك مساحة ضئيلة لتشكيل صداقات فاضلة أو أخويّة أو قوية، ناهيك عن الصداقات السياسية. وبينما لا يمكن إنكار وجود مثل هذه الصداقات في سوريا، رغم مواجهتها أشكالاً مختلفة من انعدام الأمان الراسخ، إلاّ أنه لا ينبغي التقليل من تَبِعات ملاحظات ودين وسالامندرا المهمة: فقد شجّعت سوريا البعثية ما قبل الثورة نمط كينونة نيوليبرالي، تُغذّيه المنافسة و«أحلام الترقي الاجتماعي» والملذّات والاستهلاك. وقد تعزَّز هذا النمط من الوجود ضمن سياق سلطوي يشكّل فيه الفساد والمحسوبية «مُنتهى» الكفاح لتحقيق الترقي الاجتماعي حسب مفهوم جاك دريدا. ذلك أن المناطق الريفية كانت مُهمَلة إلى حد كبير من جانب النظام، الذي فشل في التجاوب مع سنوات من الجفاف والفقر، أو في تأمين فرص عمل وخدمات رعاية اجتماعية ملائمة.
وفي عشية الثورة، لم يشكل هذا السياق، المجرّد من الأمان الاجتماعي والمدعوم بالسلطوية النيوليبرالية، «معارضة شديدة» فحسب، كما أوضحت ودين، بل صار خلفية للثورة، وحفّز الرغبات في المزيد من العلاقات الشخصية «الجميلة» الأكثر صدقاً من تلك التي صوّرتها سالامندرا: «فالجاذبية، والمعاني الكامنة في حيازتها وامتلاك المساحة لاستعراضها، كل ذلك يتجاوز بأهميته مقاييس القيمة الأخرى لدى نخب دمشق». لقد كانت المعاني الثورية الجديدة لـ«قيمة» الإنسان – أي الحقول الجديدة للثقل الاجتماعي – في طور التكوّن.
صداقات عميقة وصادقة
فلنعد إلى السياق الإثنوغرافي لداليا ووسيم وأفراد آخرين من شريحة السوريين التي يركّز عليها المقال بشكل أساسي، ألا وهي الشباب المتعلّم والمتمدّن الذي شارك في الحركة الثورية السلمية في سوريا. قد يُنظَر إلى هذه الشريحة الثائرة على أنها «نخبوية»، رغم وجود اختلافات كبيرة في الحالة الاقتصادية والوضع الاجتماعي بينها وبين من تكتب عنهنّ سالامندرا. فهم أفراد من الثوار الأوائل المنتمين إلى شرائح الطبقة الوسطى السورية الأخرى، وليسوا من النخب «التنويرية». وقد شكّلوا خلال الثورة صداقات ثورية جديدة، مُواجِهين بذلك أثر التجريد من الإنسانية الذي تمارسه السلطوية النيوليبرالية. ويتضح ذلك حين نتذكّر المحادثة بين داليا ووسيم في المقطع الافتتاحي من هذا المقال. إذ اكتسبت داليا، بكونها جزءاً من «جامعة الثورة» في حلب، العديد من الأصدقاء الجدد. وقد كان اكتساب أصدقاء جدد، والتعامل والتواصل معهم بصورة سرية، مهماً في الأيام الأولى للثورة في حلب، حين حاولت الأجهزة الأمنية قمع المعارضة.
تُبيِّن المحادثة بين داليا ووسيم كيف ظهر نوع جديد من الصداقة لداليا خلال تلك الأيام الثورية في حلب في 2011-2012. وتُلاحَظُ حداثةُ هذه الصداقات الجديدة بشكل لافت في مقاطعتها الحماسية لزوجها حين تقول: «نعم! صداقة جديدة»، مما يشير إلى تمزُّق العلاقات الراسخة سابقاً، فقد قسّمت الثورة السوريين وعلاقاتهم الاجتماعية بشكل واضح، وافترق البعض بسبب الاختلافات في الرأي حول طبيعة التغيرات التي تجتاح البلد. سيجد البعض الآخر، كما في حالة داليا، أصدقاء جدداً يتميزون بما يمكن تسميته خصالاً أكثر جمالاً: هي صداقات جديدة، كانت بكلمات داليا «عميقة»، و«صادقة»، وتتميز بالعاطفة و«الاهتمام». أمّا التناقض مع الإطراء التنافسي والظاهري الذي يتخلّل الجمال النيوليبرالي لصداقات من قابلتْهن سالامندرا في سوريا البعثية ما قبل الثورة، فلا يمكن إلّا أن يكون لافتاً للانتباه. يبدو أن الفقدان اللاإنساني لـ«الثقة والتواصل»، الذي شُدِّد عليه في توصيفات إحدى من قابلتهنّ سالامندرا، واجه تحدياً من جانب صداقات «أجمل» وأكثر إنسانية وثقة.
والأهم من هذا كله هو ما تقوله داليا عن صداقات الثورة حين تصفها بـ«صداقات العمل». لم تُبنَ هذه الصداقات فقط حول مصالح أو هموم اقتصادية مشتركة، أو مساعٍ لضرب قدرة المنافسين في الجمال للنهوض بالذات، ولا يمكن اعتبار أي من الثوار الذين صادفتُهم خلال عملي الميداني ساعياً لتحقيق الرخاء الاقتصادي عبر ارتباطاته الثورية. فالصداقات الثورية لها هدف محدد، وتشكّلت واستدامت عبر الالتزام السياسي والأفكار السياسية المشتركة حول الثورة. وكانت أوصاف الصداقة التي ذكرتْها داليا شائعة جداً لدى الثوار الذين قابلتُهم، فهم غالباً ما يرْوُون كيف شعروا فجأة بأنهم «وُلِدوا مجدداً». يقول أحدهم: «كان لدينا قدر كبير من الطاقة. لأول مرة في حياتي كلها شعرتُ بالانتماء لشيء ما». كان الاحتجاج تجربة شخصية صاغت صداقات سياسية وقوية وجديدة، وقد تشكلت هذه الشبكات وأُضفي الطابع الرسمي عليها في لجان التنسيق المحلية، فيما أُنشئت مجموعات سرية على فيسبوك، كتعبيرات غير رسمية عن الصداقات المتشكّلة حديثاً. وبطبيعة الحال، ينبغي أن لا نُغفل أن هذه الصداقات الثورية لم تتشكّل جميعها في الوثبة العاطفية للاحتجاج والثورة، لأن بعض الصداقات كانت موجودة أصلاً، وكان ثمة دوائر للمعارضين السياسيين وصداقاتهم في سوريا بالتأكيد، بيد أنّ مجيء الثورة أدى إلى تغيير المشهد الاجتماعي في سوريا: فإما أن تكون مؤيداً للثورة، أو مؤيداً للنظام.
كان الحفاظ على رأي محايد أمراً صعباً للغاية، وقد عنى استهلال صداقات جديدة نهاية الصداقات القديمة أيضاً، بحسب من قابلتُهم. فالصداقات القائمة قبل الثورة، مهما كانت تركيبتها ووظيفتها، قد انتهت، وافترق من دعم الثورة عمّن عارضها. وروى أحد من قابلتهم، وهو مسيحي من حماة، مثالاً راديكالياً عن التجدد الكامل للدوائر الاجتماعية، قائلاً: «أنا لا أتحدّث مع أيّ من أصدقائي الذين عرفتُهم قبل الثورة!». كانت قضيته نموذجية إلى حدّ ما بين من قابلتُهم، غير أنها ليست شائعة إلى حد كبير. فغالبية من قابلتُهم تمسّكوا ببعض الصداقات القديمة، لكنّهم جميعاً بَنَوا صداقات ثورية جديدة.
حقول جديدة من الجاذبية الاجتماعية
التجربة العاطفية المكثّفة، التي اختبرتها داليا عبر تشكيل صداقات جديدة، يتردّد صداها في المحادثات التي أجريتُها مع من قابلتُهم. كان الموضوع المهيمِن لديها هو التجربة الجمعية المتمثّلة في المشاركة بالمظاهرات، وفكرة عيش «الحلم الجديد». تُمثِّل هذه الولادة الجديدة بداية صداقات جديدة بتحدّيها المباشر والعلني تماماً للنظام:
«شاركنا بالكثير من المظاهرات في الميدان وكفرسوسة… وكان تاريخ 15 آذار شبيهاً بعيد ميلادي، أشعر أنني فعلتُ شيئاً مهماً فيه… كان ثمة أشخاص يتشاركون الحلم، وأنا أفتقدهم بحقّ. وأظن أن خطأ حياتي الأكبر كان الرحيل عن سوريا، لأن هذا هو ما يريده النظام. أعتقد أن العيش في جوار الموت أفضل من الموت المعنوي في مكان بعيد».
أصبحت التجربة السياسية المتمثّلة في «الولادة الجديدة» و«مشاركة الحلم» مع الآخرين أحداثاً فاصلة في حياة الثوار السوريين، فهم لم يلتقوا خلال التظاهر فحسب، بل التقَوا أيضاً بعد المظاهرات وفيما بينها، وتناقشوا سياسياً بشأن الأحداث: «لقد أجرينا كثيراً من النقاشات العظيمة!»، بحسب ما أخبرني أحدهم، واصفاً كيف كانت مجموعة حديثة من الأصدقاء الثوريين تلتقي في شقة أحدهم لإجراء النقاشات المكثّفة والتشارك العاطفي. تحدّث بحماس عن «الليالي الصيفية الحارة» على شرفة صديق، وهي ليالٍ شهدت ولادة أفكار جديدة حول المجتمع السوري: كان هذا الثائر جزءاً من لجان التنسيق المحلية. كان كل شيء مفتوحاً للنقاش، وبعد شهر من الثورة، أصدرت لجان التنسيق المحلية البيانات الأولى التي تضمنّت «رؤية سياسية لسوريا». لقد تبلورت عبر الصداقات أفكار معينة حول ما سيشكّل المجتمع السوري. ومن المهم الإشارة إلى أن الإحساس العاطفي والصداقات الثورية وبلورة الرؤية السياسية أمور لا يمكن فصلها ببساطة، لأن هذا قد يؤدي إلى طمس الآثار السياسية لتلك الليالي الصيفية الحارة والاجتماعات الأخرى غير الرسمية بين الأصدقاء.
كان الأمر المصيري في تجمّعات كهذه بين الأصدقاء، كما أرى، هو تغيير في مجالات الثقل الاجتماعي في المجتمع السوري. ففي هذه المرحلة من أيام الثورة الأولى اهتزّت السلطوية السورية بطريقة غير مسبوقة تاريخياً، وبدا وجود أفق في المستقبل لمجتمع بديل أمراً ممكناً. لقد خلق الثوار السوريون عبر التجارب العاطفية المتمثّلة في الصداقة والاحتجاج «خطوطاً جديدة للثقل الاجتماعي» تنافس خطوط السلطوية النيوليبرالية الراسخة. «الثقل الاجتماعي»، كما يكتب غسان حاج متأملاً في كتابات بيير بورديو:
«ليس الطريقة التي يسحبنا بها المجتمع إليه أو الطريقة التي نختبر بها جدّيّة الحياة فحسب، وإنما هو السبيل الوحيد لدينا لإثبات أنفسنا في الحياة الاجتماعية وإعطاء عالمنا الاستقرار والديمومة في مواجهة ’خفّة الكائن‘».
حين تترنّح أساسات السلطوية ويبدو المستقبل فجأة أكثر انفتاحاً، يدخل عدم-اليقين الثوري في المجال الاجتماعي. يُعَدّ هذا نوعاً آخر من عدم-اليقين الثوري، ويختلف عن ذلك الذي اكتشفَتْه ألبا شاه لدى الثوار الماويين في الهند. فبطل ألبا شاه الرئيسي، تشوتو روي، يقرّر أن يصبح ثائراً للبحث عن اليقين في المجال الاجتماعي، لأنه ليس متيقناً من كافة علاقاته الاجتماعية. وعلى النقيض من ذلك في سوريا، خلق الثوريون حقول يقين وثقة جديدة فيما بينهم. وقد بذلوا، في المقابل، قصارى جهدهم للتيقّن من هذه العلاقات:
«يثق الناس بالقادرين على إيلاء الثقة، والأمر شبيه بالشبكة. فإذا عرفت شخصاً لخمسة أعوام وقال لي: ثق بهذا الشخص، سأثق به حينها».
كان هذا الثائر بالتحديد يعتمد بشدّة على ثقة الأصدقاء. وعبر دوائر الثقة غير الرسمية هذه، كان قادراً على توجيه المساعدات الإنسانية الضرورية إلى المناطق السورية التي تعذر الوصول إليها بعد «شهر العسل» الثوري في الأيام الأولى، والذي تحوّل إلى حرب مُدمِّرة. قد يجزم البعض بأنّ الثوار السوريين اعترفوا، دون وعي، بثقل الوضع الثوري الجديد. وعبر المغامرة بحياتهم، وتنحية الصداقات القديمة لصالح الصداقات الثورية الجديدة، وتغذية هذه الحقول الجديدة بالأيديولوجيا الثورية، بدأوا بالتعامل بجدية مع الثقل الاجتماعي، ففي ظل وجود عدم اليقين الثوري تأتي «خفّة الكائن» التي تجذب من فورها قوى ثقل جديدة لتجنّب الانعدام الكامل للثقل الاجتماعي.
وبناء على ذلك، قد يتساءل المرء ما إذا كانت خطوط ثقل اجتماعي جديدة كهذه محصورة في الفضاءات الثورية بطريقة مادّية كما يرد في الأدب المتنامي حول ميادين الثورة كفضاءات انتقالية. بالنسبة لمارك بيترسون، على سبيل المثال، كان ميدان التحرير في مصر فضاءً انتقالياً بمعنى مادي، يمكن الدخول إليه والخروج منه جسدياً، وقد لا يكون من السديد استخدام تفسير مماثل في السياق السوري. بل على العكس، هناك مؤشر لا يمكن إنكاره على دخول مراكز الثقل الاجتماعي الجديدة «حقلاً من النزاعات تواجه فيه احتمالات الحفاظ على هذه القوى أو تغيير كينونتها».
«يتزوجون بدعم من العائلة!»
لم تكن مسارات المراكز الجديدة للثقل الاجتماعي محصورة في الأوساط الثورية. فأثناء عملي الميداني في لبنان، تمت إحالتي إلى عدد من أصدقاء الأشخاص الذين قابلتُهم هناك، وقد أصبحوا في فرنسا. كان محمد واحداً منهم، وعمل في إحدى المؤسسات الثورية التابعة للجان التنسيق المحلية في دمشق. كان محمد جزءاً من دائرة الأصدقاء المستمرين بالتواصل الوثيق رغم تباعدهم المادي. وتُشير سردية محمد بوضوح إلى تجربة دخول الثقل الاجتماعي الثوري حقل النزاعات الاجتماعية في سوريا. ورغم أن هذه وجهة نظره الخاصة، إلا أنّها تعبّر عن موضوع وأحاسيس مشتركة بين من قابلتُهم، وهي أنّ العلاقات الاجتماعية في سوريا بدأت بالتغير.
«أعتقد أنّ علاقتنا بالأصدقاء اختلفت عما كانت عليه في بدايات الثورة، فقد تغير المجتمع وتغيرت علاقتنا بأنفسنا، فضلاً عن تغيّر فهمنا وقدرتنا. يمكننا الحديث إذن عن تغيّر العلاقات حتى مع الأصدقاء. فقدنا كثيراً من الأصدقاء لأنهم اعتنقوا أفكاراً أخرى أو اختاروا جانباً سياسياً آخر، لكننا بدأنا صداقات جديدة بسبب تشارك المأساة والعمل السياسي والسجن والنفي إلى بلدان أخرى، كفرنسا وسواها، وهذا مهم جداً لأننا أمام خطوة جديدة. علاقتنا مع العائلة في الشرق الأوسط هي أمر في غاية الأهمية، ولكننا أمام خطوة جديدة نحو المجتمع المدني، تُبنى فيها علاقات مع أشخاص يحملون الأفكار السياسية ذاتها، ويعملون العمل ذاته، وهذا أمر مهم للمجتمع المدني في المستقبل، لأننا لم نعش في ظل مجتمع مدني في الشرق الأوسط سابقاً. وحتى في المدن، لدينا مجتمع العائلة، والدين، والطائفة، لكننا الآن أمام علاقة أخرى مع الأصدقاء. هل يمكنني الحديث عن الأصدقاء الكثر الذين ينتمون لديانات مختلفة وتزوجوا بعد الثورة؟ لقد حدث هذا في مجتمع الثورة، وليس في مجتمع النظام. أتفهم ما أعنيه؟ لقد تزوّج كثير من الأصدقاء من أديان مختلفة، ولم يكن هذا سهلاً من قبل، إذ لم يكن أمراً مقبولاً للعائلة، وهي إن قبلت ستكون قلقة مما قد ’يقوله المجتمع‘. لقد صار الأمر مختلفاً الآن، فهم يتزوجون بدعم العائلة: درزي تزوج سنيّة، أو درزي تزوج مسيحية، أو علوي تزوج سنية… في دمشق أيضاً، بدأوا يقبلون بالمُساكَنة بين الأصدقاء والصديقات. أعرف فتيات يرتدين الحجاب ويعشن مع شاب في الشقة ذاتها. وهذا مهم للغاية. حسناً، هذه تفاصيل صغيرة، لكنها قد تُمكّننا من بناء المستقبل».
لقد حدّد محمد ما هو الجديد بالتحديد في الصداقات الثورية، وهو أن الانقسام الناجم عن العمل الثوري يعطّل العلاقات الاجتماعية القائمة مع العائلة والأقارب والطائفة، وهذه جميعاً تُمثل مراكز خاصة من الثقل الاجتماعي. وبهذه الطريقة، لا يُزعزعُ تكوين حقول الثقل الاجتماعي الثورية استقرار الثقل النيوليبرالي القائم على الرغبة في الملذّات والترقي الاجتماعي فحسب، وإنما تؤدي هذه «القدرة الجديدة» و«العلاقات المتغيرة بين الناس»، إلى تعطيل الصداقات القديمة لأنّ الناس أُجبِروا على اتخاذ موقف مؤيد أو معارض للنظام. يرى الثائر هنا الصداقات التي شكلتها الثورة كـ«خطوة جديدة» للمجتمع السوري، حيث يتلاقى الأشخاص ممن يتشاركون «الأفكار السياسية» ذاتها ويتجمّعون لأجل «المستقبل» وبناء «المجتمع المدني». وقد أفسحت الفضاءات التي فتحتها هذه العلاقات الاجتماعية الجديدة المجال لحالات زواج عبر الطوائف بموافقة مفتوحة من العائلات، وهذا، وفقاً للشاب الثائر، مما لم يكن يمكن تصوُّره قبل الثورة. ويشير الاقتباس أيضاً إلى تشارك تجارب سياسية مشتركة، كالسجن و«المأساة المشتركة» والنفي. هذا «المجتمع المدني» الجديد الذي يذكره محمد في اقتباسه يدلّ على بداية دولة-مدينة جديدة، وفق تصور أرسطو، ذلك أن الحس السياسي الجديد أصبح ممكناً عن طريق الصداقة.
نهايات الصداقات الثورية
ليست نهايات الصداقات أمراً واضحاً، وقد ركّز المقال على نشوء الصداقات في التجربة الثورية وتطوّرها، وكيفية تشكّلها كحقول جديدة للثقل الاجتماعي. لدينا إذن توصيف معياري ومثالي لمجتمع سياسي جديد، يحاكي تصور الدولة-المدينة كما يراها أرسطو. بيد أنّ هذه، بالطبع، ليست القصة الكاملة، فالعنف والشقاق، حتى لو لم يكونا تناقضاً داخلياً بحسب ما يرى دريدا، إلا أنهما يعقّدان معيارية جمال الصداقات. وقد يتجلّى العنف بأشكال مختلفة، كما ذكر محمد سابقاً: كعنف السجن، و«المأساة» التي سبّبها العنف الجسدي، والعنف الذي يجبر الأصدقاء على الافتراق. ويعدّ التمسك بالفضيلة، أو الخير الإنساني المثالي الذي يراه أرسطو، صعباً للغاية، خاصةً في أوقات الحرب والعنف المُنفلت. وإلى جانب الاضطراب البنيوي الناجم عن العنف، شكّلت مسألة حمل السلاح، أو دعم مجموعات مثل الجيش السوري الحر، واحدة من الشروخ العميقة في الصداقات الثورية: فهل ينبغي الإصرار على فضائل الثورة والصداقات عبر استمرار الاحتجاجات السلمية ومواجهة الموت؟ أم يجب التكيّف وإعادة التنظيم بوسائل عنيفة؟ ما تزال مشاعر الذنب والخيانة للحركة السلمية الأولى، التي سبّبها العنف، مستمرة في مطاردة الثوار وعلاقاتهم الاجتماعية حتى هذه اللحظة، إذ تراجعت قوة صداقاتهم كحقول ثِقَل اجتماعي، بسبب التشتت القاسي للأصدقاء الثوريين. لا يزال الرابط العاطفي بينهم قوياً، ويستعين به أحد من قابلتُهم سابقاً حين يقول: «أنا حقاً أفتقدهم جميعاً للغاية». لقد عبّر المصدر عن العاطفة السياسية للهدف المشترك، والتي بُنيت على الصداقة، قبل أن يمزّقها العنف. ويدلّل هذا على تلاحم الصداقة بالثورة، والتجربة الحياتية بالهدف السياسي. لقد انتهت بعض الصداقات الثورية بسبب الخلاف المحتدم في الآراء حول حمل السلاح من عدمه. وليست الصداقات الثورية سوى شكل من أشكال الصداقات والعلاقات الاجتماعية التي تستغلها القوى السياسية المختلفة بقسوة، مضيفة المزيد من التعقيد على الصداقات في أوقات الاضطراب السياسي.
لا يبقى من الصداقات المستمرة الحنين وبعض الأسى فحسب، وإنما التبادل العميق للقيم والفضائل والأفكار والمسؤولية والأخلاق التي بُنِيت في الأزمنة الثورية. ولا تتبدّد خطوط الثقل الاجتماعي هذه بسهولة، رغم أنّ قيم الناس قد تتغير مع الأيام. وحين تتعثّر الثورات، إن لم تفشل أو تنتهِ بفعل الثورات المضادة، ما الذي يمكن أن نتعلمه من التركيز على الصداقات؟ تعدّ تجربة الصداقات الثورية «جميلة» بسبب كثافتها السياسية والعاطفية، وأيضاً بسبب ظروفها المأساوية، كالعنف والشقاق. وتُعلّمنا الصداقات الثورية كيف تساهم سياسات ثورية غير رسمية في التغيير الاجتماعي، وكيف تتزعزع حقول الثقل الاجتماعي السابقة (كالقرابة، والطائفة، والعائلة.. إلخ) بفعل الصداقة الجميلة.