أفقد القمع الذي مورس على الشعب السوري اتصال ملايين السوريين بالمكان الذي نشأوا وتعلموا وعملوا فيه، والذي تفاوت ابتعادهم عنه ما بين نزوح داخلي وخارجي وهجرة.
لا تقنية تعوّض أو تعالج هذا الاقتلاع الوحشي من المكان، مهما تقدمت، لكنها تفتح نافذة رقمية للتذكر والحنين، على هيئة عدسة كاميرا في قمر صناعي يطفو في مكانه البعيد بُعد المهجَّر عن وطنه – وأكثر – أو على هيئة عدسة كاميرا هاتف محمول يتجول وسط المكان مُلَمْلِماً فُتاته صُوَراً.
تتقاطع مسارات الكثير من السوريين في خوادم وادي السيليكون، يبحثون فيها – وقد هُجِّروا من ديارهم أو غادروها، ولم يعودوا قادرين على الوصول إليها مجدداً – عن صور أو بقايا، في ما يشبه وقوفاً على الأطلال، مع استبدال الغزل الذي اعتاد شعراء العرب افتتاح قصائدهم به بلعنة من أبعدهم وحال بينهم وبينها.

طقس التذكُّر عبر التجوُّل في خرائط غوغل، والبحث والتأمُّل في الطُّرُق والساحات وكل الأماكن التي عاش المهجَّر فيها أو زارها أو تظاهر فيها، لم يعد يقتصر على من يبعُد آلاف الكيلومترات في مَهجَره، بل حتى لمن يبعُدون كيلومترات قليلة – داخل سوريا – عن مدنهم وقراهم. تطلّبت صيانة الذاكرة المكانية إضافة تسميات لأماكن لا يوجد لها اسم على خرائط غوغل، كالبيوت والمحال التجارية والمدارس والجوامع، وإضافة أماكن جديدة على الخرائط يتيحها غوغل لرفد قاعدة بياناته. لكن وفقاً للطقس السوري، استُعملت هذه الميزة لتحويل الأماكن الشخصية ومواضع حنين المُهجَّرين إلى نُصُب تذكارية رقمية. عادة ما تُرفَق علامات تحديد المكان الجديدة بالصور التذكارية التي يحملها أصحابها عن هذا المكان.
يتجاوز بحث السوريين عن أماكنهم التي أُبعِدوا عنها خرائط غوغل إلى وسائل أخرى، كلها رقمية. فقد أصبحت مجموعات مناطقية على فيسبوك مزارات تجمع شتات صور المكان، قديمها وحديثها، كما تجمع شتات أبنائه المهجَّرين.
وإذا كان لغوغل خدمة «ستريت فيو» التي يشارك فيها مستخدمو الخرائط في صناعة محتوى مرئي ثلاثي الأبعاد للمدن الشهيرة، فإن كاميرات السوريين في الداخل، ممن ما زالوا يستطيعون التجول إلى هذا الحد أو ذاك، لديها خدمة مماثلة تلبّي طلبات المهجَّرين الراغبين بصور وفيديوهات خارجية وداخلية لبيوتهم.

ثمة حسابات فيسبوك وإنستغرام ويوتيوب قامت على هذه الحاجة لمحتوى تصويري – عادي جداً وبلا أي غرض جمالي – لشوارع وأزقّة البلاد، لمواد للتذكُّر بأكبر قدر من التفاصيل.
يقدم حذيفة فتحي صورة عن كيفية تلقي اللاجئ للصور القادمة من منزله وتفاعله معها:
«توقّف للحظاتٍ وفقدَ بوصلته. صرتُ أناديه: نحو اليسار يا غبي! إلى اليسار! لا أعلم لماذا أصبحتُ حاقداً عليه. تقدّم خطوتين نحو اليمين، عاد بعدها وأدخل الكاميرا عبر نافذة منصهرة. آآآه… ما كلّ هذا؟! ليته لم يَعُد أدراجه. ظهرتْ غرفتِي الصغيرة وكأنّها مطليّة بالأسود. حتّى الأرض فيها سوداء كالفحم».
,
خرائط الألم
بالنسبة لمن لا يملك أي وسيلة لمعرفة ما حلّ ببيته وحيه، تتطلّب متابعة حالة البيت عن بُعد على غوغل ماب صبراً طويلاً على غوغل حتى تحدّث خرائطها. أعرف صديقاً مهجَّراً تابع تغيُّرات سطح منزله عبر غوغل ماب لأكثر من خمس سنوات، كان يعتقد في بدايتها وبسبب بقعة داكنة اللون على سطح منزله أن قذيفة ما قد أحدثت فيه خرقاً كبيراً، لكنه أدرك بعدها أنها دالية العنب التي أورقت في موسمها وغطّت بقعة من سطحه.
صديق آخر كان يزور من الخرائط إياها المقبرة التي دفن فيها زوجته وابنه، الشهيدَين إثر قصف لقوات النظام، ويقرأ على روحَيهما الفاتحة.
يزن مغترب من سراقب، ومُهجَّر لاحقاً، يتحدث عن علاقته مع تلمُّس أثر مكانه في سوريا عن طريق خرائط غوغل:
كنت قد اشتريت شاليه في طرطوس على نية الاستقرار في سوريا، وأتممت دفع الأقساط قبل 2011، العام الذي كان مقرراً لي أن أستلم فيه الشاليه. لم أقم بزيارة المكان ولا لمرة واحدة، لأنه كان تحت أعمال البناء، وعندما حدثت الثورة صار السفر إلى طرطوس أصعب عليّ من السفر إلى أميركا.
وبعدها استولى أحد شبيحة النظام على البناء الذي كان فيه الشاليه الذي اشتريتُه، الأمر الذي كان سهلاً لأن كل أصحاب الشاليهات في البناء كانوا من محافظات أخرى مثل حلب وإدلب. كنت أقوم برحلات غوغل-مابيّة إلى الشاليه، أسبح قليلاً وأرجع (يضحك). تابعت من خلال رحلاتي المتكررة خلال السنوات الأولى للثورة النمو العمراني للمنطقة التي يقع فيها الشاليه، قبل أن يتمكن مني الملل. ثم تخليت عن كل أمل باستعادة ملكي.
شيء آخر لا علاقة له بفتح الخرائط على بيتي وبيوت جيراني لرؤية ما حلّ بها مدفوعاً بالحنين. كثيراً ما أفتح موقع استشهاد أخي في مدينة إدلب بعد نزوحه من سراقب مع أهلي، وأراجع مسار حركته من البيت للمدرسة. هذا الشارع أعرفه جيداً، فقد سبق لي أن مررت فيه، وأتخيل لو أنه اختار هذا المفرق أو هذا الشارع، أو مر من تلك الحارة، لكان الله سلّمه من الموت ولم يكن حدث ما حدث.
وبعدها أفتح على مكان قبره في بنش. تؤلمني جداً رؤية مقبرة أهل سراقب في بنش (أهل بنش أعطوا لجيرانهم من سراقب مقبرة خاصة بهم، فأغلبية أهل سراقب يدفنون موتاهم من المشتَّتين في الداخل في بنش لأنها الأقرب على سراقب). بعدها أذهب إلى المخيمات ويمتلئ قلبي قهراً. ثم أغلق.
صورة لمخيم أطمة قرب الحدود التركية كما تبدو على خرائط غوغل
أبناء المسافات
أسامة صديق مهجر من مسكنة، يتحدث لي عن واحدة من عدة وحدات قياس خاصة ابتدعها من مهجره بعد الحرب. كان قد استعان بميزة قياس المسافات على الخريطة لصناعتها وأسماها «أبو علوش»، مستعملاً هذه الوحدة لتقدير المسافات لرفاق مهجره. أبو علوش هو البقال الذي اعتاد أسامة في صغره الذهاب إليه وابتياع حاجيات المنزل لأمه. أبو علوش = 800 متر، وهي المسافة بين بيته ودكان أبو علوش في مسكنة.
وليد صديق مهجَّر من أبناء حي الصالحين في حلب. يقول أن تصفُّح الخرائط وفّر له أشياء لم يكن يخطر في باله يوماً أن يعرفها، او أن يسأل عنها، أو أن تكون ذات معنى. من بيته إلى الجامع الذي كان يصلي فيه، ومن بيته إلى المدرسة، ومن بيته إلى الملعب، كلها مسافات قام بقياسها على الخريطة. الأخيرة، كما يقول لي، تعادل أضعاف مسافات الجامع والمدرسة مجتمعة. ويقول أنا الآن على هذه الحال بسبب هذه المسافات؛ أنا ابن هذه المسافات.
نقاط عمياء على الخرائط
محمد شاب مهجَّر من درعا، تعرفت عليه في أعزاز بعد رحلة تهجيره. يقول إنه لم يكن يوماً يحتاج الخرائط، ولا يحب تصفُّحها، لكن يُذهله حجم ومكان تموضع قواعد النظام العسكرية في كل مرة تظهر له خرائط عسكرية مفصَّلة للجنوب السوري. يقول أننا كنا محاصرين قبل الثورة ولم نكن نعرف.
في الحروب الأهلية، كل الحروب تقطع أوصال البلاد. الجيش عندما يخرج من ثكناته، يحتل الطرقات. لا شيء جديداً في هذا. لكن استخدام الجيش للطرق للانتشار والوصول للبلدات والمدن الثائرة وسحْقها لم ينتهِ بانتهاء الحاجة العسكرية لها، بل بقيت الحواجز وأصبح معظمها من معالم الطرقات، وتحولت من وسيلة تؤدي غرضاً مؤقتاً إلى مكان عمل تُجمَع فيه الغنائم المالية والبشرية.
للمهجَّرين داخلياً، يمكن تسلية النفس بقياس المسافة بين مكان نزوحك وبيتك الذي هُجِّرت منه، وستعطيك خرائط غوغل المسافة والزمن اللازم بينهما، لكن هنا تنتهي التسلية؛ إياك والتنفيذ. فغوغل المسكين لا يعرف أماكن الحواجز، ولا يعرف شيئاً عن طبيعة من يقف عليها. هذا متروك للذكاء الاصطناعي مستقبلاً.
غوغل في القرية
واحدة من روائع الحياة الريفية أن للطُّرُق فيها أوضاعاً مختلفة عما هي عليه في المدن. ليست الحالة الفنية ما أقصده، ولكن الشكل والديمومة. فللقرية طرقها الزراعية الترابية، وهناك ما هو أصغر منها، ولكنها ترابية أيضاً – فلنسمِّها الطُّرُق المُفرَدة – وهي تتسع لسير شخص واحد فقط. هي تشبه دروب النمل، لأن ما يخطّها على الأرض مسير أشخاص مُفرَدين بأقدامهم اختصاراً للمسافات بين الأراضي. فعندما تقصد بيت فلان، كل ماعليك فعله أن ترسم خطاً مستقيماً باتجاهه وتمضي. هذا الخط، على كثرة استعماله، قد يصبح خطاً دائماً. لكن الطُّرُق المُفرَدة غالباً تتفاعل مع مواسم الأرض وفصول السنة. فما يُسلَك صيفاً قد لا يُسلَك شتاءً، وما لا يمكن ربيعاً يصبح ممكناً صيفاً. الصيف فصل الممكن في القرية، فصل تتحول فيها القرية لمختلَط طُرُقي في الأيام التي تلي جني المحاصيل الزراعية.
لكن لماذا أذكر هذا الطرق هنا؟
هذه الطُّرُق تظهر أيضاً على خرائط غوغل، لكن بدون الصفة الاعتبارية للطُّرُق.
الأرض لا تختفي مهما قست الحرب، وكذلك الطرق الرسمية التي قد تقطّع أوصالها لكن نادراً ما تتغير. أما هذه الطرق المؤقتة فمعرَّضة للزوال بغياب سالكيها، وهي طُرُق يراقب اختفاءها التدريجي مهجَّرو الأرياف – وأنا منهم – عبر غوغل ماب عاماً بعد عام، لتكون علامة على زوال آخر آثارنا. بصمتنا على الأرض تمحوها الأرض، لتخطّ المجنزرات وعربات الدفع الرباعي دروبها البديلة على طول البلاد وعرضها.
هذا بالطبع – وبشهادة مجرِّب – أشدّ على النفس من تهدُّم بيت العائلة، وذلك لأن ما هُدم يعاد بناؤه، لكن طرقاً اختفت تعني خطوات لم تُمشَ إلى حيث يجب، وأعماراً ضاعت ولا أحد قادر على إعادتها.
ٓ© يمان أبازيد
غوغل أدرى بشعابها
حجم ما دُمِّر من التجمعات السكنية السورية كبير، لكن ما «تغير» – أي استُبدل بجديد – نادر جداً. إذ لم تبدأ بعد عملية إعمار، لأن الحرب لم تنتهِ أصلاً. باستثناء بعض المناطق التي تم تدميرها ثم جرفها، تحافظ أغلب المناطق المدمرة على شكل تخطيطها القديم.
أما التغيير الكبير الذي حدث في شكل ومكان التجمعات السكنية، فهو ظهور المخيمات الكبيرة على إثر التهجير العنيف الذي مارسته قوات النظام، وحشر أعداد سكانية هائلة على الشريط الحدودي مع تركيا، ثم تحولها التدريجي الى مخيمات بيتونية ثابتة. هذا يعني أن أياً من المناطق السورية لم تتغير طرقها على السوريين، عدا تلك المخيمات – وهي ليست قليلة – التي أصبح لها مواقع محددة ومسمّاة على خرائط غوغل، وحجم ملحوظ بسهولة في الصور الفضائية. شوارعها، مدارسها، جوامعها، محلاتها التجارية، كلها أخذت أيضاً أسماءها على الخرائط.
إن تجمُّع هذه المخيّمات المكثِّف في المنطقة الممتدة بين سرمدا وأطمة وعلى كتف الحدود مع تركيا، لو قُضِي له أن يستمر فسيكون أكبر تجمع سكاني سوري بعد حلب ودمشق؛ تجمع لن يعرفه أي سوري من خارجه إلا في الخرائط. كما أن الأعمار الصغيرة من المهجَّرين الذين لم يحتفظوا بذكريات كافية عن أماكنهم قبل التهجير، ولم تُتَح لهم فرصة للتجول في البلد بعد، لن يعرفوا عن مواضع الأماكن وعلاقتها الجغرافية ببعضها إلا من خلال هذه الخرائط.
غوغل ماب في الميدان
كل القوات التي قاتلت على الأرض السورية، من جيش النظام إلى الجيش الحر وداعش والفصائل الإسلامية والإيرانيين، جميعها استعانت بخرائط غوغل في عملياتها العسكرية واستخرجت منها الخرائط المطبوعة.
الخرائط الإلكترونية التي تنشرها المواقع الإخبارية التي تتابع مجريات السيطرة على الأرض منذ بداية الثورة السورية والتابعة لمختلف الجهات، أصبحت من ذكريات الثورة، بشكلَيها الجميل والأليم، فخريطة يغلب عليها اللون الأخضر ما زالت تمثّل رمزاً لما استطاع الشعب يوماً أن يفعله. المدن التي حوصرت وأحاط أحمرُ النظام بأخضرها، إلى أن ذَبُل جوعاً وانطفأ، ما زالت جزءاً ذكريات الخرائط الموجعة.
,
خرائط بعضها فوق بعض
مما يساعد أيضاً على التذكُّر ما تُتيحه غوغل إيرث من صور تاريخية للأماكن في نطاقات زمنية مختلفة، مما يمكّننا من مراجعة صور لأماكن قبل تدميرها.
أكثر ما يعرفه السوريون من مؤسسات نظام الأسد معتقلاته وسجونه الرهيبة، لكن النائية منها والبعيدة عن خطوط المواصلات العامة، كسجنَي تدمر وصيدنايا. ومع غياب شبه تام لصورها من الخارج، تكاد خرائط غوغل تكون الوسيلة الوحيدة لرؤيتها ومعرفة أماكنها. وعلى الرغم من الخبرة المريرة للسوريين مع هذه السجون والمعتقلات، والروايات الكثيرة والمهمة عنها وعن الأهوال التي خبرها السوريون فيها، والتي قدّموها في الكتب والصحف والبرامج التلفزيونية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن هناك ثغرة صغيرة يدعو هذا النص لسدّها، وهي قسم المراجعات على مواقعها على خرائط غوغل أسوة بكل السجون والمعتقلات في العالم. لا أعرف شخصياً من يفعل هذا، لكن لن يكون مستغرباً أن يزور أهالي المعتقلين مواقع اعتقال أبناءهم في الخرائط.
الخطوط التي ترسم مناطق السيطرة العسكرية في سوريا، وعلى الرغم من عدم ثباتها، فهي تمثل بداية استبصار أي منطق تاريخي حول ما يمكن أن يحدث لاحقاً.
لكن حين يتعلق الأمر بالخريطة السورية ككل، لا يسعنا إلا تذكُّر ما قاله محمود درويش:
شبَّتِ النِّيرَانُ فِي قَلبِ الخَرِيطَةِ
ثُمَّ أَطفَأَهَا الشِّتَاءُ وَقَد تَأَخَّرَ
كَم كَبِرنَا، كَم كَبِرنَا
قَبلَ عَودَتِنَا إِلَىٰ أَسمَائِنَا الأُولَىٰ