في أحد أطرف وأجمل الحوارات الموسيقية في مسرحية جسر القمر، إن لم يكن في المسرح الرحباني كله، يتجلّى ملوك الجان لـ«شيخ المشايخ»، فيتفقّدهم جميعاً، منادياً واحداً واحداً باسمه: وين الملك الأصفر؟ وين الملك الأحمر؟ وين الملك الأزرق؟ ويرد كل من يقع عليه النداء بـ«حاضر»، والتي تغدو هي اللازمة الموسيقية للحوار، قبل أن تبدأ الكلمة في التردد – كأنما لا-إرادياً – على ألسن ملوك الجان: حاضر حاضر حاضر حاضر.

رغم كونهم ملوكاً، يرد ملوك الجان على شيخ المشايخ كأنهم جنود، يقف كل منهم في الصف ويرد على قائده بالهتاف عالياً لإثبات وجوده.

من هنا تنبع الطرافة في المشهد، أما الجمال فينبع من عناصر أخرى، ليس هذا للأسف مقام ذكرها.

,

لا تختلف حاضر التي ينطقها ملوك الجان هنا عن «أفندم»، المنطوقة في العسكرية المصرية بنفس الهدف؛ إثبات الوجود. ذلك أن الحضور يرتبط بشيء من الانضباط بالمفهوم الفوكوي، بالمواظبة على حضور الدروس مثلاً، أو بتوقيع الحضور في دفاتر العمل الرسمية، سواءً كان حضوراً نقيضه الغياب أو حضوراً نقيضه الانصراف.

تقول القاعدة الفقهية «إذا حَضَرَ الماء بَطَلَ التيمُّم»، ولكن هل تعني «إذا جاء الماء» أم «إذا كان الماء موجوداً»؟

يبدو «الحضور» عموماً كأنه مزيج مركّب من المجيء والوجود، يُشير للوصول ثم للمكوث بعد الوصول، وبالتالي يتضمّن شيئاً من الالتزام، ومن الواجب الذي يتعيّن علينا تأديته، ومن هنا ربما تُستخدَم الكلمة أحياناً في سياقات تتصل بالحداثة؛ المؤسسات والدفاتر والبيانات والامتثال، من أول الامتثال أمام القائد وحتى الامتثال للحبيب: «تنده أقول حاضر، مهما تغيب حاضر».

* * * * *

بمعناه كـ«وجود»، القرين الأساسي للحضور هو الحياة، الحياة الفائقة التي تفيض على حيوات الآخرين، ومن هنا نسمّي الزمن المضارع بـ«الحاضر»، ففي مقابل الماضي الذي مات، والمستقبل الذي لم يولد، نرى الحاضر باعتباره الزمن الحي الذي يمشي معنا خطوة بخطوة، غير متوقف أبداً عن الوجود.

تمد كلمة «حضور» معنى الوجود على خطه المستقيم، حتى تعني شيئاً يشبه الكاريزما أو الوجود الطاغي، فيقال مثلاً «هذا الممثل لديه حضور في المسرح»، ومن هذا المعنى أيضاً ننادي الأكبر سناً أو مقاماً بـ«حضْرتك»، أي: بحق وجودك هذا. ومن هذا المعنى أخيراً يقال «في حَضْرة فلان»، ويغيب تماماً هنا معنى «القدوم»، إذ رغم أني قد أكون أنا من زُرتُ فلاناً، إلا أنها حضْرتُه هو، هو من يجلس مَهيباً في صدر الغرفة ويغمرني تحته بوجوده الكثيف.

ولكن مع هذا الاقتران بمعنى الحياة والوجود، فإن لـ«الحضور» كذلك اقتراناً مُلغِزاً بالموت.

من بين كنايات كثيرة عن الموت، مثل «توفاه»، أو «أتاه» أو «جاءه»، فإن صيغة {إِذَاْ حَضَرَ أَحَدَكَمُ اْلْمَوْتُ} هي الأكثر شيوعاً في القرآن. هل يكون هذا هو الأصل في اشتقاق كلمة «الاحتضار»؟

عندما أسمع «إذا حضر أحدَكم الموتُ»، لا أتخيل شخصاً يموت في الخلاء أو على قارعة الطريق، وإنما غرفة مظلمة يرقد فيها المريض عاجزاً، ويزوره مَلَك الموت ليؤدي واجبه الذي كُلّف به من قبل ربه: قبض روحه، بصرامة القانون وحسم الماكينة، وفي ساعة لا يملك لها أحد تسويفاً.

* * * * *

تعني «حِدِر» في العبرية الغرفة، والمقابل العربي لها هو «خِدْر»، كما في «خدر الفتاة»، ولكني هناك كلمة عبرية أخرى وهي «حاصير»، بالصاد المكسورة كسراً ممالاً، وتعني البهو أو الردهة أو القاعة أو الحوش أو الفِناء أو القرية أو قاعة المحكمة. وبالتالي يُفسَّر اسم مدينة «حضرموت»، من بين تفسيرات عديدة، بمعناه العربي وهو «لقد حان الموت»، أو بمعناه العبري «محكمة الموت».

نظراً لكوننا، في «الحضور»، لا نمر مرور الكرام وإنما نبقى بعد مجيئنا، فإن الكلمة تكشف لنا عن طَرَف من المكان الذي نحضر فيه، حتى أن تعبيراً شامياً مثل «أنا حضرت المسلسل»، يمكن ردّه تاريخياً إلى قاعة المسرح أو السينما التي يزورها المشاهدون، قبل أن ينسحب بعدها على التلفزيون ومسلسلاته.

وواحد من أهم معاني «الحضر» وأكثرها أساسية هو معنى «المدينة».

كانت «العاصمة»، المدينة الأثقل وجوداً مما حولها، تُسمى قديماً «حاضرة»، وغالباً ما جاءت كلمة «حضارة» كتوسِعة لهذا المعنى، ويخلط الناس بكل أريحية بين كلمتي «تحضّر» و«تمدّن»، وتدلّ أفعال قريبة من جذر «حضر»، مثل «حظر» و«حصر» و«حاصر»، على معانى المنع والمنعة والمناعة في المدينة المسوَّرة.

هل يكون معنى «المدينة»، الكامن في جذر «حضر»، هو الأصل في الاستخدامات الرسمية المذكورة آنفاً: لقد مضى زمن الفوضى وبدأنا ننتظم في مدن وقوانين وبيروقراطيات؟

ولكن عموماً دعونا لا نطمئن كثيراً للتقسيمات الحديثة، إذ صحيح أن «الحضر» يشير اليوم في أذهاننا إلى المدينة، ولكن ربما لم يميّز الأقدمون بين القرية والمدينة كما نفعل اليوم، حتى أن كلمة «قرية» نفسها، سواء في العبرية أو العربية القرآنية، تدل على المدينة.

من هنا نسمح لأنفسنا بالتأمل في التقارب الصوتي بين جذري «حضر» و«خضر»، وبناء عليه نستنتج أن «الحضر» ربما جاء، في أصله البعيد، من شيء مثل النبات الأخضر، مثلما جاءت «الثقافة» في لغات أوروبية عديدة من معنى «الزراعة».

في كل من الـ«حضر» والـ«خُضرة»، على حد سواء، يظهر ظل من الماء. يعرّف تاج العروس «الحاضر» بأنه «المقيم على الماء»، و«جمعه حضور، وهو ضد المسافر»، ومن هنا ربما جاء معنى «المكوث» أو «الإقامة» في الجذر، أما «الخضرة» فارتباطها بالماء واضح ومفهوم، ويقول ابن الفارض في مَعرِض مقارنته بين موسى والخضر، أو بين «السكين» والاخضرار:

وَصَاحِب بِموسىٰ العَزمِ خُضرَ وَلَائِهَا .. ففيهِ إلىٰ ماءِ الحياةِ منافعُ

عموماً، إذا كنا نرى أن الحضارة بدأت من الزراعة والاستقرار في المكان، فهذا يعني بالبداهة أنها بدأت بشيء من الماء واللون الأخضر.

يبدأ الأطفال المصريون دراسة الحضارة الفرعونية انطلاقاً من الإنسان الذي «استقر حول وادي النيل بعد حياة الترحال»، ويثور في مصر الآن نقاشان مختلفان: واحد حول الحضارة المصرية، والثاني حول نهر النيل والسد الإثيوبي، وصحيح أن كلاً منهما ينبع من أسباب مختلفة، إلا أنهما يرفدان بعضهما بمنتهى السلاسة، حتى يخالهما المرء نقاشاً واحداً. ويمكننا تصور نقاشين مقابلين، عنوانهما الماء والحضارة كذلك، يثوران في إثيوبيا هذه الأيام.

لا يقتصر الأمر على الحضارات النهرية، إذ يدلنا التقارب الجيني بين كلمتي «الخضرة» و«الحضارة» – لو صح – على أن الارتباط بين المفهومين قد عُرف أيضاً في أعماق الجزيرة العربية، كما يدلنا على أن جذر «حضر»، وإن بدأ من معنى القرية والزرع الأخضر، إلا أنه سرعان ما تحوّر لاحقاً ليشير للمدينة، وأنه، في أحد أوجهه، يضع كلاً منهما، القرية والمدينة، في مقابل البادية أو الصحراء، التي نُظر إليها ربما باعتبارها نقيضاً لكل من الماء والخضرة والحياة.