تفتتح الجمهورية.نت سلسلة من النصوص تتعلق بالمدرسة والتعليم، ولكن من منظور مختلف بعض الشيء. لا نفكر بتوصيف التعليم في شرطه الراهن، ولا باستشراف التعليم في مستقبل مزدهر، يَفترض خلاصاً وخيراً وافراً يعقب الديستوبيا والانهيار الذي تعيشه منطقتنا والعالم على العموم، ويَفترض كذلك إمكانيات مادية هائلة للإصلاح والترميم وربما إعادة البناء. في سلسلتنا، المدرسة ليست بعد-قيامية، بل في قلب الواقع القيامي كما هو. هذا مبدأ التمرين في السلسلة.
ليس المقصود من تخيل التعليم إعادة إنتاج لفكرة التعليم البديل كنقيض بالضرورة للتعليم المركزي الذي تؤمّنه دولة مركزية؛ تعليم يركّز على تفتّح الفرد ومهاراته، وقد تمثله نماذج معينة في أذهاننا مثل مدارس مونتيسوري ومشتقاتها على سبيل المثال. التعليم في منظور هذه السلسلة هو بديل، ولكن بديل بحكم الواقع المعيش وليس بحكم صورة مسبَقة متخيَّلة عما ينبغي أن يكون؛ كضرورة للحياة والنجاة وتحقيق قدر من سعادة ممكنة. واحدة من مساهِماتنا الجذريات تحب أن نستبدل مثلاً سؤال «ما الاقتصاد البديل؟» بسؤال «ما البديل عن الاقتصاد؟». نحن هنا بالضبط، في نقطة نرى أن البديل جذري لأنه لا يحاول أن يكنس ركام الخراب. البديل في التعليم لا نريده أن يشبه البديل في العمران: إعادة إعمار فوقية تعني في عمقها استدامة الموت بطرق أخرى. في منظور السلسلة التي نقدمها، هناك ما يشبه اليقين أن القادم أسوأ، ونريد أن نفكر بتعليم يحضّر متعلمي بلداننا لهذا الأسوأ.
قبل كل شيء نسأل أنفسنا ما فائدة العلم والتعليم؟ وما هو شكل المدرسة والتعليم الممكن الذي يُتيح للمتعلم النجاة، طفلاً كان أم بالغاً؟ المقصود بالنجاة هنا أن يكون جزءاً من «العالم»، كإنسان متوازن إلى حد ما وقادر على الاستمرار بالحياة، بمعنى تعلم الحياة وليس الموت؛ الموت الحاضر كخطر محدق ودائم في سياقات بلداننا. هذه السياقات تزداد صعوبة على مختلف المناحي، اقتصادية وسياسية وبيئية واجتماعية، وهي تضم كثيراً من الأولاد المتسربين أو الذين لم تعد تستوعبهم أي بنى مدرسية، والظروف المعيشية الاقتصادية لمكان معيشتهم وأهاليهم متداعية لدرجة الجوع والبرد والاضطرار ربما للقيام بالأعمال البسيطة للمساهمة مع العائلة بسدّ الرمق. البيئة المحيطة لا تمثل إلا خطراً محدقاً من كل الجوانب: العنف، المخدرات، استغلال الأطفال، العنف الأسري إلخ. المدرسة في تمريننا هذا متنفَّس للخروج لبرهة من بيئة عنيفة، وإتاحة لأشياء حيوية، حتى الأكل ربما. في تمريننا، لن نقبل باحتمال أن يضطلع الأهل بمهمة التربية والتعليم بدل المدرسة المستقيلة أو غير الموجودة – التعليم المنزلي أو الـ«هومسكوولينغ» لا يدخل في إطار ما نتخيله، مهما كان العالم مخيفاً، ولدى بعض مُساهِمينا ومُساهِماتنا تحفظات على أشكال التعليم البديل الخاص خارج القطاع العام للدولة، في ظل اتجاه جامح للخصخصة وإعادة إنتاج تمايزات اجتماعية تعمّق اللامساواة في مجتمعاتنا. التمرين صعب إذاً، وهو يسعى للتوفيق بين مختلف المقيِّدات والمعايير والخصوصيات المحلية التي تدور في فلك التعليم.
نتطرق في هذه السلسلة لقضايا من هذا النوع، نصوغها في أسئلة:
هل المدرسة هي استشراف للمستقبل أم واقع آني، بمعنى هل نؤهل الأطفال بما يتناسب مع المستقبل من حاجات ومن أعمال، أم نؤهّلهم بما يُعّدهم لمواجهة واقع قاسٍ لا أفق فيه؟ ما هو الأفق؟ ربما ينبغي إعدادهم على فكر لا-خلاصي، يُنحيّ الأمل جانباً ويتعامل فقط مع ديناميات واقعية. كيف؟ وهل ينطبق هذا على التعليم الأساسي، أم يتجاوزه إلى التعليم ما بعد الأساسي؟ وهل تعتبر الحاجات الثقافية والفكرية والحاجة إلى الإنسانيات ضرورة في زمن انهياري كالذي نعيشه؟ وإن كان الجواب نعم، فكيف نُهندس المعرفة اللازمة لتلبية هذه الحاجة إزاء كمّ الحاجات الحيوية الأساسية؟ ما العلوم الصرفة الضرورية للبقاء؟ وهل البقاء يأخذ شكلاً صمودياً، والعلوم هي أدوات صمود؟ أي مهارات هي الأهم في تعليم أساسي؟ قراءة وكتابة وحساب؟ أم من واجب المدرسة أن تكون غير براغماتية بمنظور الفائدة المباشرة، وأن تفتح الأبواب على علوم عديدة تُتيح للذهن الإبحار والتعرف دون التركيز على الواقع بالضرورة؟ هل هذا متاح؟
هل نحاول أن نبني علاقات أفقية بين الأطفال والمدرّسين، في تهيئة لشيء من الديمقراطية والحريات، أم أن المدرسة في الدرجة صفر تتطلب شيئاً من القسر والتلقين لتحقيق إنجاز تعليمي ما بالحد الأدنى؟ وكيف؟ كل شيء هو في هذه الـ«كيف». ما التربية السياسية الممكنة في ظل الوضع السياسي الراهن؟ هي يمكن التربية على المواطنة والديمقراطية والتقدمية في ظل شرط سياسي مماثل؟ يفترض تمريننا أننا لم ننتقل بعد إلى ما بعد الديكتاتوريات؟ وكيف يمكن للتعليم أن يبني شبكات حماية مجتمعية في ظل هشاشة وانكشاف فردي يزداد اتساعاً؟
ما القيم الأخلاقية المرتبطة بالواقع التي تؤطّر تعلم طفل أو مراهق أو طالب راشد؟ في ظرف نشهد فيه الكثير من العدمية، كثيراً ما يتساوى الخير مع الشر. ما الذي ينبغي أن يتم تعليمه وتعلّمه أخلاقياً للمحافظة على «العالم» – بالمعنى الفلسفي للكلمة. ما هي القيم الحياتية المجتمعية الضرورية في مدرستنا لاستمرار البقاء بشكل متناغم بالحد الأدنى؟ قيم تعاضدية بين الأتراب؟ قيم أخرى؟ كيف؟
ما معنى التربية الإبداعية، في عصر يخدم الإبداع بشكل أساسي التنافسية وإنتاجوية نظم رأسمالية ونيوليبرالية لا تبتغي من التعليم الحياة المثلى للجماعات بقدر ما تبتغي تسيير عجلة تقدم اقتصادية تستنفد دم وحياة الأفراد؟
ما هو الجزء الكوني من التعليم الذي يتجاوز المحلية، وما هو المحلي جداً المرتبط بالبيئة المحيطة، والضروري لعدم اغتراب المتعلم والمتعلمة عن بيئتهما؟ وفي هذا الإطار كيف يمكن التفكير بتعلم اللغات والثقافات الأخرى؟ وأي لغات بعينها وثقافات بعينها؟
ما هي العناصر المحتملة لتربية خضراء في بلاد تم اجتياحها ونهبها وتدميرها وقتلها بيئياً؟
ما هي التربية الضرورية لفهم الزلازل التي أحاقت ببلداننا – من ثورات وحروب – في العقد الأخير، والتي كانت ذات نتائج كارثية في حالات مثل سوريا؟ النسيان كفعل تذكر ذكي، أم تكرار المأساة في تمرين تذكر ميكانيكي يعبّر عن رض جمعي؟ بمعنى: كيف نُخرج الأطفال من النسيان والتذكر كوجهَين لذاكرة مرضوضة، أي كيف ندرّس التاريخ؟ كيف نُخرجهم من مظلوميات أهاليهم المتعددة؟ هل ندرّبهم على الحس التاريخاني بالأشياء؟ كيف؟
كيف نربي علاقة الأطفال بإرثهم الديني والروحي؟ هل يمكن إغفاله؟ هي يمكن فعلاً أن نختزل الدين والإرث الماضي بتربية أخلاقية عمومية كما يُكرَّر أحياناً؟
كيف نربّي العلاقة مع الآخر؟ الآخر الطائفي، الديني، العرقي، اللوني، الجنساني، الجنسي، المناطقي، الثقافي؟ وما هو المعنى الواقعي والملموس للتربية النسوية؟ وضمن منظور النسوية، كيف نفكر بالصفوف المدرسية التي تفصل بين الإناث والذكور؟ هل استطاع هذا الفصل أن يؤسِّس لقيم نسوية مثل الأختية مثلاً؟ أم أنه على العكس أسّس لثقافة عدائية وتنافسية في صفوف نساء المستقبل كفئة مهمشة سلطوياً؟
هل القيم الجمالية والفنية ضرورية؟ عبر أي وسيط؟ تشكيلي؟ موسيقيي؟ مسرحي؟ يدوي؟ وما معنى الجماليات في لحظة ديستوبية؟ وهل نعلمهم الفلسفة؟ لماذا؟ وكيف؟
ما هي المهارات التي علمتنا إياها الحياة في بلداننا، مثلاً في سوريا؟ وهل ينبغي تناقلها؟ أم عدم تناقلها ونزع تعلّمها؟ كيف نختار؟ كيف ننقلها؟ هل هناك مهارات أخرى لم نتعلمها يوماً وضرورية؟ والمهارات تعني الأبسط من المهارات اليومية الحيوية، وحتى المهارات النفسية والفكرية المعقدة.
الكثير من أولادنا مغتربون عن أجسادهم، ولهذا تمظهرات عدّة. كيف نُرجع الصلة مع الجسد؟ أو كيف نصل الروح بالجسد؟
نطرح أسئلة حول البنية التحتية للتعليم كذلك، من حيث أن طبيعة البنية التحتية للتعليم هي ما يحدِّد ما إذا كان مكان التعليم الفضاء الخاص أم العام، وما إذا كانت مسهِّلة وميسِّرة للتعليم أم العكس تماماً؛ معيقة للوصول إلى خدمات التعليم. تقول إسلام الخطيب، إحدى المساهِمات في هذه السلسلة، أن وجود البنية التحتية وغيابها على حد سواء عمدية بامتياز في كثير من بلدان منطقتنا، وقد تكون أحياناً بُنى موت وليست بُنى حياة. نفكر في هذه المقولة في إطار بلد مثل سوريا، دُمِّرت نسبة كبيرة من بُناه التعليمية الأساسية، ويتم التفكير في إعادة إعماره ضمن منظور نفعي لا يصبّ إلا في صالح مقاولين ورجال أعمال يدورون في دائرة النظام الأسدي.
وماذا عن التعليم في مجتمعات اللجوء خارج البلدان الأم؟ بيّنت لنا السنوات الأخيرة، وخاصة أثناء أزمة كورونا، أن الصراع للوصول إلى التعليم بشكله الأساسي البسيط هو صراع هوية، ليس حقاً بقدر ما هو امتياز، وينبغي أن يمتلك الطفل اللاجئ الحد الأدنى من الأدوات أو الرأسمال العائلي أو العلمي ليصل إليه. كيف يمكن دمج هذه الأسئلة في التفكير في التعليم، وخاصة في ظل استقالة الحكومات المركزية للاضطلاع بواجباتها؟ وهل يمكن أن تكون مجتمعات اللجوء هذه فرصة للتفكير بتعليم بديل؟
تَوجَّهنا بأسئلتنا إلى مدرِّسين ومدرِّسات في مدارس وجامعات، موجودات على أرض الواقع وفي سياقات مختلفة من بلدان منطقتنا، بعضهمن حاولن ارتجال مدرسة في ظل ظروف قصوى مستحيلة، مثل وجود داعش وتسلطها على رقاب الناس، وكذلك منظرات ومؤرخات ومناضلات نسويات وحقوقيات. النصوص تتراوح بين الرجوع إلى تجارب عيانية واستخلاص المهم منها والتفكير بالممكن، مع إبراز الخصوصيات المحلية لبلد المدرِّسة أو المدرِّس، وبين تحليلات حول اللحظة الراهنة وأهمية التعليم فيها، ومقارنة تساؤلاتنا الراهنة مع التاريخ المعاصر لمسألة التعليم، مع التفكر بالتعليم التنويري الحديث الذي شغل أهل التربية ما بين عصر النهضة العربية والاستقلالات الوطنية. ما الذي يمكن أن يقوله التاريخ لنا، هل فعلاً الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا جديدة؟ سنفكر معهمن بالمدرسة خارج أسوار المدرسة التقليدية، بالمدارس الشعبية والمدارس النسوية ومدارس الدفاع عن النفس المستمدة من تجارب عالمية، وسنحاول أن نستعيد تجارب تربويين وتربويات جذريات في بلداننا وفي بلدان العالم. نصبو لأن تضم المقالات الآتية المتعة والفائدة لقرّائنا.