تولد وتكبُر الحكايات كأنها كائن حي، ثم تموت وتُنسى، أو يُكتب لها الخلود. وحكاية مخيم الركبان تكاد تكون استثناءً حتى في إطار الحكاية الأم، المأساة السوريّة، فهي آتية بعد مخاض عسير من رحم صحراء قاحلة لا تلِد سوى الموت، لكنها قاومت وعاشت، ليرويها هنا بعض أبطالها كما عاشوها.
في مكان ناءٍ قصيّ، قرب المثلث الحدودي السّوري-الأردني-العراقي، مقابل منطقة تُسمى «الرقبان» أقصى شمال شرقي الأردن في محافظة المفرق، فتح نازحون سوريون ثغرة يهربون عبرها من موت محتمل في سوريا إلى نجاة منتظرة في الأردن ومخيماته. ثم حملت هذه المنطقة عند السوريين اسم الرگبان، اشتقاقاً من لهجات محلية تقلب القاف إلى ما يشبه الكاف، لتكون منطقة وسطى لا نجاة فيها ولا هلاك، منطقة فوق الموت، وتحت الحياة.
حملت المنطقة توصيفات عدة عبر مراحل زمنية، من نقطة الركبان إلى تجمّع الركبان، قبل أن تصبح مخيماً يُعرَف باسم «مخيم الموت» أو «الساتر الترابي»، وهي تمتد على طول سبعة كيلومترات على الحدود السورية-الأردنية، في منطقة أوسع يُطلق عليها اسم «منطقة الـ55»، المحمية من قبل قوات التحالف الدولي المتمركزة في قاعدة التنف، التي تبعد نحو عشرة أميال عن المخيم، تحت السيطرة الأميركية-البريطانية مع فصائل سورية تتبع للتحالف. أما الـ55، فهو عدد الكيلومترات التي أعلنت قوات التحالف تحريم دخولها على قوات النظام وحلفائها في كل الاتجاهات انطلاقاً من قاعدة التنف.
صورة أقمار صناعية لمخيم الركبان في أيلول (سبتمبر) 2016
العبور
بدأت الحكاية مطلع العام 2013. كان الخناق يضيق على السوريين، وبدأ نزيف النزوح من مدينة حمص وريفها الشرقي، ومن بلدات في البادية السورية، بعد هجوم عنيف من قوات الأسد على هذه المناطق، تبعته محاولات اجتياح بري كُتب لها النجاح في مناطق عديدة، بمساعدة من حزب الله وميليشيات إيرانية في المنطقة.
شكلت مدينة القريتين في ريف محافظة حمص الشرقي مركز تجمّع للنازحين من هذه المناطق، ومنها كانت الوجهة عن طريق مهربين إلى «الركبان». دُفِعَت لأجل ذلك مبالغ مالية كبيرة كان يتقاضاها أشخاص من سكّان البادية السورية، نقلوا العائلات بشكل متواتر قَدَّره من تحدّثنا معهم بنحو عشرة إلى عشرين عائلة أسبوعياً كانت تُيمِّم وجهها شطر الركبان.
تم اختيار تلك النقطة لأنها موغلة في البعد، وقاحلة، وهو ما كان يُسهّل العبور منها إلى الأردن. هناك وبعد العبور والوصول إلى أحد المخيمات، إما أن يبقى النازحون فيها، أو أن يخرجوا منها بكفالة إلى أرض الأردن يمشون في مناكبها.
ظل تواتر النزوح شبه ثابت طيلة العام 2013، لأن أعنف المعارك بين قوات النظام وفصائل المعارضة السوريّة تركزت في ذلك الوقت في النصف الغربي من سوريا وفي وسطها، في محافظات حلب وإدلب ودرعا والأجزاء الغربية من محافظات حمص وحماة وريف دمشق، وكانت حركة النزوح بسبب هذه المعارك تتم شمالاً في أغلب الأحيان، أو جنوباً من درعا نحو الأردن مباشرة، أما النزوح من مناطق لا تملك طرقات سالكة وآمنة إلّا باتجاه البادية فكان أقلّ حدوثاً. لكن مع دخول عام 2014 طرأ متغير بدّل إلى حد بعيد المشهد العسكري، ومعه خريطة النزوح.
الانتظار
في منتصف العام 2014، أدى تمدد تنظيم داعش في أرياف حلب والرقة ودير الزور وحمص، إلى موجة نزوح كبيرة وجديدة من مناطق تمدده. مئات العائلات كانت وجهتها مخيم الركبان، وقد شكَّلَ هذا التوافد الفجائي صدمة لا تتحملها نقطة العبور النائية. تغيب الإحصائيات الدقيقة، إلا أن التقديرات تشير إلى أن مئة إلى مئة وخمسين عائلة كانت تتوافد إلى هناك أسبوعياً.
هذه الأعداد، تسببت ولأول مرة في بدء ظاهرة التأخير في دخول النازحين إلى الأردن. هذا التأخير، وما تسبب به من «انتظار»، سيكون لسنوات لاحقة كلمة السرّ لكل ما حلّ بذلك المكان والواصلين إليه.
صورة لمنزل في مخيم الركبان بسقف مكون من شادر فقط 2020
تدخّل أممي
نقطة الركبان، الخاضعة لمزاج طقس الصحراء وتقلباته القاسية وبُعده عن الحواضر، لا تُعين من يصل إليها كي يكون انتظاره سهلاً مهما كان قصيراً. ومع استمرار توافد النازحين، بدأت ملامح المأساة تظهر سريعاً، فتنبهت الأمم المتحدة بداية العام 2015 إلى تلك البقعة، وسريعاً بدأت الاستجابة بتقديم وجبات طعام، وشوادر استخدمها النازحون فقط لتكون سقفاً يقوم على أعمدة من الخشب، لكنها لا تقي من برد ولا حر. وقتها صار الانتظار للدخول إلى الأردن أطول، عشرة أيام على الأكثر، وهي أكثر ما يمكن أن يُطيقه المنتظرون في تلك البقعة من الأرض.
يُخبرنا من تَحدّثنا معهم أن زيادة الواصلين الراغبين بمغادرة ما أسموه «الجحيم السوري»، الذي تَكفَّلَ بصناعته كلٌّ من تنظيم الدولة وقوات الأسد وميليشياته، أدّت إلى تأخير دخولهم إلى الأراضي الأردنية. كانت تُنظَّم من أجل ذلك جداولُ أسبوعية للدخول، لعب في ذلك نظام «الكفالة» دوراً كبيراً، ومعه «الأعداد المحدودة» التي يقررها أشخاص منتدبون من الواصلين إلى نقطة الركبان ليكونوا صلة الوصل مع الحكومة الأردنية. بدأ الزمن يطول، وأخذت الأرقام التي تحصل عليها العائلات في الجداول تُشكِّلُ عبئاً وفارقاً.
منذ ذلك الوقت، بدأت تظهر ملامح «مخيم» على المكان، وتحولت نقطة عبور «الركبان -الحدلات» إلى شكل من أشكال الحياة، رُصِدَ فيها وجود آلاف من النازحين، الذين لم يخطر في بالهم أن يبقوا عالقين في هذا الجزء من الصحراء.
وبدأ زرع الخيام
تمدد تنظيم داعش سريعاً وسيطر على آخر الجيوب الآمنة شرقي سوريا، ومع سيطرته على مدن تدمر، مهين، القريتين، السخنة، الطيبة، تَسبَّبَ بموجة نزوح جديدة، ومعظم النازحين اختاروا التوجه إلى الركبان. بعضهم وصلت إليهم أنباء الانتظار القاسي عند الحدود في منطقة معزولة، فجاءوا ومعهم خيامهم، وطعامهم.
بدأت الخيام تُنصَب وسط الصحراء، وراح تَجمُّع النازحين المنتظرين يكبر، ومدة الانتظار تطول، ووجد تُجّار في هذا التجمع المعزول فرصة، وبدأوا بإحضار البضائع إلى المكان، بيعاً أو مقايضة لمن لا يملك المال.
صورة لمرحاض في مخيم الركبان 2017
صار للتجمع اسم: مخيم الركبان
في منتصف العام 2015 بدأ يظهر ما عُرف لاحقاً بسوق مخيم الركبان، وكان عبارة عن آليات متجاورة محملة بالبضائع. وفي أيلول (سبتمبر) عام 2015 قُدِّر عدد النازحين بنحو 70 ألف نازح، بحسب موفق سليمان، مدير المكتب التنفيذي لمجلس عشائر تدمر والبادية.
تبدلت الشوادر الموضوعة على أخشاب في رحلة الانتظار إلى خيام ثابتة في الأرض، واستبدلت الأمم المتحدة وجبات الطعام بحصص غذائية تتضمن مواد أساسية، مثل الخبز والأرز والعدس، وغيرها، ليشكل كلّ هذا مقدمات تحول التجمّع إلى ما لم يكن يتوقعه أحد، التحول إلى مخيم، ولأول مرة بدأ إطلاق اسم «مخيم» على المكان: مخيم الركبان.
ومع هذا الاستيطان القسري، حتى السوق استجاب لهذا التغيير، وتحول من عربات وآليات متجاورة إلى خيام، كل خيمة تختص ببيع بضاعة معينة. هذه الخيام المُصطفّة المتجاورة خارج المخيم نسبياً، صارت تشكل «سوق مخيم الركبان».
بدأ بعض النازحين بممارسة هذه التجارة في السوق، رفقة سيارات قادمة من المناطق الشرقية في سوريا محملة بالبضائع، وصِيغت لأجل ذلك اتفاقيات، وتحولت السيارات التي كانت ترافق السكان في رحلة النزوح إلى بسطات متنقلة تنقل البضائع الأساسية إلى النازحين، وتحمل معها أيضاً الخيام التي كانت تباع آنذاك بنحو خمسين دولار. وأمام اليأس والتململ، راح الأهالي يبنون خيامهم في تكتلات وفقاً للمناطق التي أتوا منها.
السوق الرئيسي في مخيم الركبان 2020
من سوق المخيم 2021
مقاومة الاستيطان
في بداية العام 2016، ورغم تحول المنطقة إلى ما عُرف باسم مخيم الركبان، لكن أياً من القاطنين فيه لم يكن بعد قد استسلم لفكرة الاستقرار في هذا المكان.
وبدأت عملية الدخول إلى الأردن تُنظَّم من جانب مفوضية شؤون الإنسان التابعة للأمم المتحدة: يُسجِّل النازحون أسماءهم، وتعمل المفوضية على إدخال 150عائلة أسبوعياً، وبالنظر إلى تضخم أعداد النازحين، طالت مدة الانتظار أكثر فأكثر، لتصل إلى أشهر، بعد أن كانت أول الأمر نقطة عبور سريعة بلا انتظار قبل نحو ثلاثة أعوام.
مدة الانتظار الطويلة اضطرت العائلات إلى تحسين ظروف «انتظارهم» بالاهتمام أكثر بمكان الإقامة، الخيمة. لكن مئات النازحين، بالمقابل، استسلموا وقفلوا راجعين في رحلة نزوح جديدة لا تقل قسوة وخطورة عن رحلتهم الأولى، باتجاه الشمال السوري إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة. وأما غير المطلوبين منهم للأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد فقد اختاروا طريقاً إلى تلك المناطق عبر منطقة شعاب في ريف السويداء، ومنها يتوزعون على مناطق سيطرة النظام. هذه الظروف كانت إحدى أهم تفسيرات عدم استقرار إحصائية أعداد النازحين في مخيم الركبان، إلا أن أرقاماً تزيد عن مئة ألف كانت متداولة في التقارير الصحفية والإحصائيات التقديرية عن عدد النازحين.
مسجد النور في مخيم الركبان 2020
الانتظار صعب، لكنّ العودة مستحيلة
شكري شهاب، ممرض من أهالي مدينة تدمر، له من العمر ثمانية وأربعين عاماً، متزوج ولديه أربعة أولاد، هُجِّرَ قسرياً من تدمر وجاء إلى مخيم الركبان في شباط (فبراير) عام 2016، وعينُه كانت على الداخل الأردني، بحثاً عن الاستقرار وحياة أفضل لعائلته.
يروي شهاب ما حدث فور وصوله: «قمت بالتسجيل في المفوضية للدخول إلى الأردن، لكن كان هناك ستة آلاف عائلة قبل عائلتي تنتظر الدخول، ومع معدل دخول نحو 150 عائلة أسبوعياً، وبحسبة بسيطة، عرفتُ أن أمامي فترة انتظار مدتها على الأقل عشرة أشهر. ورغم أن الانتظار صعب، لكن الخيار الثاني وهو العودة بدا مستحيلاً، فصنعتُ من الشادر خيمة مؤقتة لإيواء عائلتي».
بدأت عائلة شهاب وغيرها، على مضض، تركن لفكرة الانتظار الطويل. لأجل ذلك، بدأ بعض قاطني المخيم بمحاكاة مخيمات نزوح أخرى في السعي لإيجاد سبل للعيش في المكان، كالمدارس والنقاط الطبية والخيام، وسط ظروف اقتصادية سيئة ودعم أممي ومنظماتي باهت.
نور وسط العماء
في تلك الفترة، أي بدايات العام 2016، ورغم أنها مرحلة انتظار لا استقرار، إلا أن النازحين وخصوصاً الأطفال جاءوا بذاكرة محملة بالأسى، وخصوصاً القادمين من مناطق سيطرة تنظيم داعش، بسبب هول ما رأوا وسمعوا، وكانت ظروف النزوح في الركبان تُعمّق هذه المأساة.
أحد المُهجَّرين من مدينة تدمر، ورغم أنه لم يكن يحمل سوى شهادة الثانوية العامة، كان من ضمن مجموعة أشخاص فكروا بالأطفال النازحين: «ما الذي يمكن أن نفعله؟»، وظهرت فكرة إعادة تدوير عجلة التعليم. كان شيئاً استثنائياً أن تظهر مثل هذه الجهود في الركبان. يقول: «قمنا بجمع تبرعات بسيطة للغاية، مبلغ 200 ليرة سوريّة فقط (نحو نصف دولار في ذلك الوقت)، وتم بناء مدرسة هي عبارة عن شوادر بلاستيكية كانت توزعها اليونيسف، تقوم على أعمدة خشبية، والجدران عبارة عن بطانيات مثبتة بمسامير وحبال. ولحل معضلة المنهاج، قام المدرسون السابقون بالاعتماد على ذاكرتهم وتفريغها لتصير المنهاج المعتمد».
من أعمال بناء إحدى المدارس في مخيم الركبان 2017
أبو عبد الكريم، من مؤسسي المدرسة في الحي التدمري من المخيم، تحدَّث عن تلك المدارس، في تلك البدايات، والتي لم تكن سوى خيام لا تمنع عن الأطفال رمال الصحراء والغبار، ولا البرد، وكيف كانت تتمزق هذه الخيم، أو يسقط العامود الرئيسي فيها فوق رؤوس مَن في الخيمة.
يستحضر أبو عبد الكريم من ذاكرته تجليات البؤس واليأس قائلاً: «في ذلك الوقت، وكان فصل الشتاء، لا أنسى قدوم الأطفال من طرق مملوءة بالوحل والماء، في طقس صحراوي شديد البرودة». يُطرق صامتاً ويَستدرك: «جاء حينها طفل حافي القدمين، سألته عن حذائه فقال إنه أعطى حذاءه لشقيقته التي اضطُرت للذهاب إلى النقطة الطبية للعلاج!!». ثمة صور أخرى لهذا الإصرار على التعلّم: الخيام على ما فيها من ضيق، كثير من الأسر أقامت حلقات تدريس فيها لأطفالها.
لا يمكن إطلاق تسمية مدرسة على ما تم إنشاؤه في المخيم: بعض الشوادر، أوراق مثبتة على القماش تعمل كسبورة، ذاكرة مدرِّسين غير مختصين، كتاب وحيد تتناقله الأيدي، أطفال كثر في خيمة لا تتسع لأجسادهم وقوفاً، فقط وجود هؤلاء الأطفال وصراخهم العالي مردِّدين بعض الأحرف يوحي بما يشبه التعلّم في هذه الصحراء.
من أعمال بناء إحدى المدارس في مخيم الركبان 2017
لم تكن تحلم تلك البقعة الميتة من الصحراء أن تحتضن مثل هذا الإصرار، لا على الحياة فقط، بل حتى على استمرار التعلّم رغم ظروف غاية في القسوة خلال فترة يعتقد الجميع أنه ليست سوى فترة انتظار، أيام أو بضعة شهور على الأكثر، وتُطوى صفحة هذا الانتظار بما فيه من شقاء.
وجَّهَ من تكفلوا بمهمة التعليم في مخيم الركبان نداءات ومطالبات كثيرة، وفي نيسان (أبريل) عام 2017 أثمرت أحدها، وجرى اجتماع في النقطة الأردنية المقابلة للمخيم مع وفد أممي، وجرى الاتفاق على تزويد المخيم بمنهاج مُعد خصيصاً للاجئين. ورغم أن المنهاج تأخَّرَ نحو ثلاثة أشهر إلا أنه وبمجرد وصوله اعتُمد، وبدأ التدريس به لنحو عامين تاليَين، واقتصر التعليم في المخيم على المرحلة الابتدائية.
تقول فاطمة، وهي إحدى المتطوعات في التدريس: «بقينا ندرّس مناهج الأمم المتحدة إلى تشرين الأول (أكتوبر) 2018 حين أدخلت الأمم المتحدة مساعدات إنسانية، وكان من بينها قرطاسية ومناهج جديدة، لم تكن إلا مناهج نظام الأسد الابتدائية، فاضطررنا إلى اعتمادها منذ ذلك التاريخ إلى الآن، وعُدِّلَت بحيث تمت إزالة ما يشير إلى النظام وتمجيده».
أطفال في صف دراسي في المخيم 2020
زادت جهود دعم مسيرة التعليم ضمن أقصى الحدود الممكنة، ويضم المخيم اليوم أربع مدارس رئيسية، كل مدرسة تتألف من خمسة صفوف، تضم 900 طالباً، ويشرف على العملية التعليمية نحو 60 مدرساً متطوعاً. وحتى تاريخ اليوم، ما تزال تحديات رئيسية تواجه العملية التعليمية، تبدأ من غياب الكهرباء والتدفئة عن المدارس، وعدم توفر القرطاسية، وإن توفرت يعجز جل الأهالي عن شرائها بسبب الفقر الشديد.
الحالة المادية دفعت بطبيعة الحال إلى تسرب الأطفال من المدارس، والتحاقهم بالعمل في سوق المخيم لتأمين – أو للمساعدة في تأمين – قوت عائلاتهم.
الكارثة
نازحو مخيم الركبان كانوا على موعد مع صباح غير عادي في 21 حزيران (يونيو) 2016، عمّق من أوجاعهم وأحزانهم. قرابة الساعة السادسة صباحاً، عبرت سيارة مُلغمة الحدود السوريّة-الأردنية قبالة مخيم الركبان إلى القاعدة العسكرية الأردنية وانفجرت، قتلت ستة من حرس الحدود الأردني وأصابت أربعة عشر آخرين.
إثر هذه الحادثة، أغلق الأردن الحدود بشكل كامل، وانطفأ الضوء الوحيد الذي كان نفق انتظار النازحين، وكأنه ما كان ينقصهم عقب تهجيرهم ونزوحهم وتحمُّلهم قسوة الصحراء في أكثر الأماكن انعزالاً وقحلاً سوى أن تُغلق الحدود في وجوههم، في إعلان أوّليّ عن حصار يزيد البلاء بلاء، والشقاء شقاء.
شكري شهاب، الممرض المُهجَّر من تدمر، والذي كان يَعُدّ الأيام عداً ليأتي دور عائلته ويدخل الأردن، يقول: «حينها علمنا أن مقامنا هنا طويل، فاستبدلتُ الشادر (الخيمة المؤقتة) بخيمة أخرى اشتريتها من السوق، كان سعرها 12 ألف ليرة سوريّة (50 دولار وقتها). الخيمة مساحتها كانت لا تتعدى 16 متراً مربعاً، وهذه الخيمة لا تمنع الأمطار، التي تهطل هنا حتى في فصل الصيف. لا أنسى أول مرة اجتاحت مياه الأمطار خيمتنا، كان الأمر غاية في الصعوبة ومدعاة إلى قهر لا يُحتمل».
ملامح تحوُّل المخيم إلى قرية
ومع تحول الخيام المؤقتة إلى دائمة، وإغلاق الحدود الأردنية، وتقارب طبيعي للنازحين بحسب المنطقة، بدأت تظهر ما تشبه الأحياء، فهذا الحي التدمري، نسبة للنازحين من مدينة تدمر، وذاك حي القريتين، نسبة للنازحين من مدينة القريتين، وغيرهما، مثل حي مهين وحي عشيرة بني خالد، إلخ. بدأت تظهر بين الأحياء ما تشبه الطرقات، وصار المخيم شيئاً فشيئاً يتحول إلى قرية، تختصر على ضيق مساحاتها أسماء قرى ومدن وبلدات كأنها قطعة مصغرة لناحية واسعة من سوريا.
أطفال في إحدى مدارس المخيم 2020
أطفال في إحدى مدارس المخيم 2020
طقس المخيم
في صيف الركبان يتجاوز معدل درجات الحرارة 40 درجة مئوية بقليل، وتصل في بعض النهارات درجات الحرارة إلى 50 درجة مئوية، وفي الليل تنخفض إلى أقل من 20 درجة مئوية. وأما في الشتاء، لا تتجاوز درجة الحرارة 20 درجة مئوية، وفي الليل تنخفض إلى نحو 5 درجات مئوية.
يشهد مخيم الركبان عواصف رملية شديدة في فصل الصيف تجتاح المخيم، إلى حد انعدام الرؤية، وتتراوح بين 5 ساعات إلى يوم كامل، وفي بعض الأحيان حوّلت هذه العواصف نهار المخيم إلى ليل.
الفروقات الحرارية بين الصيف والشتاء، أو بين الليل والنهار في الفصل ذاته، إضافة إلى العواصف المطرية والغبارية، كل هذا جعل الحياة في الخيم جحيماً، وسبباً في أمراض عديدة، بل تسبَّب بوفيات وخصوصاً بين الأطفال الرضع. تزيد العواصف بدورها من المعاناة بسبب حالات الاختناق، وخصوصاً بين المصابين بالربو وغيرها من الأمراض الصدرية.
في المرات القليلة التي دخلت فيها المساعدات الإنسانية إلى المخيم، بَيَّنَ المسؤولون عنها النقص الحاد في الأدوات التي تساعد على مواجهة الطقس المتغير والعواصف الغبارية. لا مشافيَ في الركبان أو أجهزة أوكسجين أو حواضن أطفال. الوقود بأسعار مرتفعة، والبيوت الحجرية تمثل حالة من الاستحالة في هذه البيئة الرملية.
مئات الإصابات بالاختناق وسوء التغذية والربو والتهاب الكبد الوبائي سُجِّلت في المخيم، دون أن يتلقى المصابون المساعدة الطبية اللازمة، كل ذلك وسط عجز من الأمم المتحدة عن مساعدة السكان، وامتناع الأردن عن إدخالهم، أما الحكومة الأميركية التي تبسط نفوذها على منطقة الـ55 فتكتفي بالتواجد العسكري دون أي تحرك إنساني.
عاصفة غبارية في المخيم
المواجهة
في مرحلة ما بعد التفجير في حزيران (يونيو) عام 2016، وإغلاق الحدود الأردنية في وجه النازحين، وبسبب تقلُّبات الطقس وظروفه القاسية، ورغم الشح في كل شيء حتى في المياه، إلا أن قاطني المخيم بدأوا بابتكارات تساعد على حماية عائلاتهم.
أولى هذه الابتكارات كانت اللجوء إلى ما يُعرَف بالصيوان، وهو عبارة عن ألواح من الخشب أو أسطوانات من الحديد، تُغلَّف بشوادر وبطانيات، بمثابة عازل، وتصبح بديلاً عن جدران وسقف الخيمة القماشية. مساحة مفتوحة أكثر متانة، لا مرافق ولا مطبخ ولا غرف فيها.
بيوت الطين
بالمقابل، كان هناك من خَبِروا الشتاء وقسوته، وفي تموز (يوليو) عام 2016 توجه بعضهم إلى أسلوب جديد يُعوِّلون عليه لمواجهة قسوة الشتاء وأمطاره وعواصفه.
أبو محمد، أحد النازحين في المخيم وكان يعمل في البناء، يقول: «حين طال مقامنا في المخيم، ورأينا ما يفعل الشتاء بنا وبخيامنا، ورغم شح المواد الأساسية، لجأنا إلى الطين، واستخدمنا صناديق الفلين بمثابة قوالب، لإنتاج ما يشبه ’البْلوك‘».
ويضيف: «في الركبان كل شيء شحيح، وهذه المنطقة بخيلة في كل شيء، حتى اللجوء إلى هذا النمط من البناء ظهر فيه تحدي المياه الشحيحة للغاية، لذلك كنا نُحضرها من تجمعات المياه بعد هطول الأمطار، أو تجميع المياه المُستخدَمة في الخيام، وغيرها».
بدأت تُبنى بيوت الطين، والسقف فيها بشكل مثلث، والجدران غير مرتفعة، للتغلب على ضغط الهواء والعواصف. لم يكن يتجاوز ارتفاع السقف متراً ونصف المتر.
صورة لطوب الطين الذي يستخدم في البناء 2020
من الغرفة إلى البيت
بدأ تعداد سكان المخيم بالتناقص منذ أواسط 2016، وخصوصاً بعد انحسار سيطرة تنظيم الدولة وعودة بعض النازحين إلى مناطقهم، رغم خطورة تبعات مثل هذه العودة خصوصاً إلى مناطق سيطرة النظام السوري، وهي مغامرة دُفِع إليها النازحون بسبب قسوة ظروف الحياة في مخيم الركبان.
ومع تناقص أعداد النازحين، يروي لنا أحد النازحين كيف بدأ يختص بالبناء في مخيم الركبان بما توفَّرَ من مواد أولية: «مع توفر مادة الحديد، صرنا نصنع منها القوالب لإنتاج طوب الطين، وصارت عملية إنتاج هذا الطوب أسرع، وهنا تطور البناء بحيث بدأنا نبني بيوتاً، ولأول مرة صار هناك أكثر من غرفة، وكذلك المطبخ والمرافق الأساسية، لكن السقف في أغلب الأحيان ما يزال بشكل مثلث مثل الخيمة، وهو مؤلف من شادر معزَّز بطبقات عازلة من البلاستيك والبطانيات. ورغم النقلة النوعية في بناء البيوت، إلا أن العائق الأساسي في التوسع ما يزال قائماً، وهو قلّة المياه».
يضيف: «ومع مرور الأعوام بدأ اليأس بالتسرّب إلى الناس، وصار كثيرون على قناعة بأن العودة ستطول أكثر وأكثر، وبدأنا نتجرأ في عمليات البناء، بحيث بدأنا نرفع السقف أكثر وأكثر، باستخدام أعمدة الخشب للتدعيم، مع استخدام مادة السقف ذاتها أي ألواح الخشب أو اسطوانات الحديد المعزولة. ولاحقاً، صرنا نعتمد العزل في الجدران للتغلب على درجات الحرارة المتقلبة التي تسبب أمراضاً كثيرة، وخصوصاً للأطفال».
هذا الرجل الذي صار بنّاءً يحكي كيف شهد تطور عمليات البناء: «لم نتوقف عن تطوير البناء، وكل فترة نوجد شيئاً جديداً، ومن لديه القدرة المادية نؤمن له مادة الإسمنت لبناء البيت، لكنها مكلفة كثيراً». ثم يُحصي البيوت في المخيم قائلاً إن «85 بالمئة من البيوت اليوم طينية، وهي تختلف من حيث ارتفاع السقف وعدد الغرف وطرق الصرف الصحي والنوافذ والأبواب».
شكل من التنظيم الإداري
موفق سليمان، رئيس المجلس التنفيذي لمجلس عشائر تدمر والبادية، تحدث بداية عن هذا المجلس وخلفيات تشكيله قائلاً: «مسوغ إنشاء المجلس كان في البداية فضّ الخلافات، وتمكَّن فعلاً من القيام بهذه المهمة».
وأضاف أن الركبان كان يتطور بشكل لا يتوقعه – أو بالأحرى لا يريده – أحد: «كنا نتمنى لو وجدت خيارات أخرى، لكن غيابها اضطرنا لإيجاد البدائل وتنظيم أنفسنا والحرص على أن يحمي المجتمع هنا نفسه، إضافة إلى الذهاب باتجاه الجانب الخدمي».
وتحدث سليمان عن تطور رَافَقَ تطور العمران، حيث أُنشئت نقطة طبية، وبُنيت المدارس، والمساجد، وتنوعت المحال التجارية، وافتُتحت الصيدليات، وقام إلى جانب السوق سوق للمواشي، وآخر للمحروقات.
عيادة وصيدلية في مخيم الركبان
ويساعد مجلس عشائر تدمر والبادية، وفق مدير مكتبه التنفيذي موفق سليمان، في تنسيق توزيع المساعدات الأممية، والحرص على تقديم خدمات طبية محدودة بشكل مجاني، والدواء يُباع بأسعار رمزية. وأشار إلى جهود ضبط أسعار المواد الغذائية واصفاً إياها بالأمر الصعب، لأن التاجر في النهاية يعتمد على مهرِّبين والأمر منوط بقيمة ما يُدفع من رشى لضباط قوات النظام.
تكاد المجالات التي تنشط في مخيم الركبان تكون شاملة، حيث افتُتح أيضاً مكتب المرأة، ويعمل على تنظيم حملات توعية متنوعة، آخرها حملة توعية بخصوص جائحة كورونا. وعن التحديات، أوضح موفق سليمان أنها كبيرة بسبب ضعف الدعم المقدم، ويجري تذليلها من خلال المتطوعين، ومنها مثلاً رفع القمامة وإبعادها عن المخيم.
إلا أن التحدي الأبرز وفق سليمان يتمثل في أزمة الصرف الصحي، التي لا تكفي معها الجهود الذاتية أو التطوع، وتحتاج إلى ميزانية عالية لإيجاد حلول لها. والتحدي الآخر يتمثل في مياه الشرب: يقول سليمان إن المخيم يعتمد بالكامل على مياه الشرب التي تُجلَب من الأردن ويتم ضخها إلى صهاريج وعددها 20 صهريجاً، مُنوهاً إلى أن المياه للأسف ليست صحية تماماً.
تبدو المسميات أعلاه كما لو أنها تعني شكلاً من الأشكال الحياتية المستقرة، إلا أن هذه الصفات تُطلَق في سياق محاكاة لا يمكن الاعتماد عليها. على سبيل المثال، لا تشبه صيدليات الركبان تلك الموجودة في مناطق النظام أو الشمال السوري، دكاكين خضار تضع على رفوفها بعض الأدوية، أشخاص غير مختصين يوفّرون هذه العلب ويصرفونها دون دراية، وبأسعار مرتفعة، مع أخطاء قد تسبب تفاقم الحالة أو موتها.
ينسحب وصف الصيدليات على كل شيء، فسوق الوقود عبارة عن براميل تباع بحسب الأسعار القادمة من مناطق النظام، يضاف إليها الرشى والإتاوات لعناصر حواجز قوات الأسد ومرابح التجار. الأمر نفسه بالنسبة للخضار والمواد الغذائية التي تتضاعف أسعارها وتضيق أصنافها أيضاً بما هو متوافر، وبحسب مزاجية من ينقلها ويسمح بدخولها.
عيادة وصيدلية في مخيم الركبان
حصار كامل (نازحون لا لاجئون)
حتى أواسط العام 2017، كانت فصائل سورية معارضة للنظام تنتشر في مناطق عدة من البادية، وتسيطر على أجزاء من الطرقات المؤدية إلى المخيم، ويعتبر شهر تموز (يوليو) من العام 2017 تاريخاً لصعود أهمية ما يطلق عليه تسمية منطقة الـ55، وذلك بعد انسحاب ما تبقى من مقاتلي هذه الفصائل واتجاههم إلى جوار قاعدة التنف العسكرية، التي تأسست في العام 2014 لتكون قاعدة عسكرية للتحالف الدولي ضد الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة. ويمكن اعتبار أن منطقة الـ55 موجودة على أرض الواقع منذ بدايات العام 2016، عندما تم إنشاء معسكر تدريبي بالقرب من التنف لمقاتلين معارضين للنظام السوري، بهدف دعمهم وإشراكهم في محاربة تنظيم الدولة. وقد تم إنشاء هذه المنطقة عملياً بتوافقات دولية، إذ تعتبر إحدى مناطق خفض التصعيد، وقد استهدف التحالف الدولي قوات النظام السوري التي حاولت دخولها عدة مرات. ومنذ انسحاب جميع فصائل المعارضة من البادية إلى محيط قاعدة التنف، بات مخيم الركبان محمياً من هجمات قوات النظام نتيجة وقوعه ضمن هذه المنطقة.
أطبقت قوات الأسد حصارها على مخيم الركبان منذ تشرين الأول 2018 بدعم روسي، وذلك عبر قطع جميع الطرقات المؤدية إليه. وساهم في زيادة مأساة الحصار موقف الجانب الأردني من المخيم، الذي أغلق النقطة الطبية الوحيدة المفتوحة على الحدود السورية-الأردنية بداية 2020 بحجة انتشار فيروس كورونا، ليترك ما يزيد عن عشرة آلاف محاصر في المخيم لقدرهم دون مساعدات طبية أو إنسانية.
صالة إنترنت في مخيم الركبان 2020
شكّل الحصار ورقة مساومة يُلقي فيها كل من المسؤولين عن حصار المخيم واللاعبين الدوليين المسؤولية على الآخرين، ففي الوقت الذي فتحت فيه روسيا وقوات النظام معابر قالت إنها «إنسانية» لاستقبال من يرغب من سكان المخيم بالعودة إلى «حضن الوطن»، مع تحميل الولايات المتحدة مسؤولية عدم السماح لهم بالعودة – على طريقة فتح المعابر في الشمال السوري وتحميل مسؤولية عدم عودة السكان لهيئة تحرير الشام والحكومة التركية اللتين تمنعان ذلك.
في ظل هذه الدعوات، أطبقت روسيا وقوات النظام الحصار على السكان، ومنعت مرور المساعدات الإنسانية إليهم. نشط التهريب على الحواجز لإدخال ما يسد الرمق إلى السكان، ومُنع الخارجون منه للتداوي من العودة. وبسبب الظروف القاسية والموت المحتمل نتيجة الجوع والمرض، عادت عائلات كثيرة إلى مناطق النظام، إذ سجل عدد السكان في الركبان تراجعاً بما يزيد عن ثلاثة أرباع قاطنيه في 2019، والبالغ عددهم ما يقارب 45 ألفاً وقتها بحسب تقديرات موظفي إغاثة وبعض سكّان المخيم في ذلك الوقت.
يقول المركز السوري للعدالة والمساءلة إنه تم الإبلاغ عن حالات اعتقال وانتهاكات واسعة النطاق ضد السوريين العائدين إلى مناطق المصالحة، وإن المركز حصل على معلومات مفصلة حول اعتقال 133 مدنياً من مخيم الركبان منذ عودتهم إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، كما تم إرسال بعض العائدين لإكمال خدمتهم العسكرية الإجبارية.
في الوقت ذاته، تخلت الولايات المتحدة عن واجبها تجاه سكان المخيم، ورفضت تقديم المساعدات الإنسانية لهم بحجة عدم بقاء قواتها في هذه المناطق إلى الأبد، وعدم الرغبة في إطعامهم وتحمّل مسؤوليتهم.
أما الجانب الأردني فكان واضحاً في أنه لن يسمح لقوافل الإغاثة بالمرور من أراضيه لإيصال المساعدات إلى المخيم، وهو ما قاله وزير الخارجية الأردني في اتصال مع المبعوث الأممي الخاص بسوريا غير بيدرسون في شهر نيسان (أبريل) 2020: «إن الأردن لن تسمح بدخول أي شخص من المخيم إلى أراضي المملكة، أو أي مساعدات إنسانية يحتاجها المخيم … على الأمم المتحدة إدخال هذه المساعدات عبر الحكومة السورية».
تتذرع الأردن بأن سكان الركبان نازحون في سوريا وليسوا لاجئين في أراضيها، وعملت في مرات عديدة على إعادة بعض اللاجئين السوريين في أراضيها إلى داخل المخيم قسرياً، كما قالت منظمة العفو الدولية في أيلول الماضي، عندما دعت السلطات الأردنية إلى التوقف عن عمليات النقل القسري وضمان حصول سكان المخيم على السلع والخدمات الأساسية، بما في ذلك المساعدات الإنسانية بشكل عاجل، وبلا قيود.
صورة أقمار صناعية لمخيم الركبان في أيار (مايو) 2020
يعيش سكان الركبان بين موتين، موت موسوم بالحصار والجوع، وآخر بالعودة غير الآمنة، ويشكل بحكايته تكثيفاً لما يحدث في سوريا من تجاذبات بين الدول، والتغيرات السياسية التي ترسم في المنطقة وتتغير بحسب المعطيات الراهنة. في انتظار ذلك، تلد نساء المخيم أطفالهنّ في عربات الإسعاف دون أطباء، ويتوقف الفرن الوحيد في المنطقة نتيجة نقص الطحين، وتغيب الأدوية النوعية لأمراض السرطان والتهاب الكبد تاركةً المرضى يحملون أوجاعهم، بينما تنقسم عائلات تعيش أمهاتُها في مناطق سيطرة النظام بعد علاجهنّ محرومات من أزواجهنّ وأبنائهنّ، إلا عبر شاشة الهاتف المحمول – والذي يتطلب دفع نحو مئة دولار من أجل خدمة الإنترنت الفضائي tooway – ويمارس الرضع حقهم بالتنفس بصعوبة في ظل العواصف الغبارية دون أجهزة إرذاذ أو جرات أوكسجين، أما الأطفال الأكبر سناً فيكتفون بفكّ الحرف بعد انتهاء مرحلة الدراسة الابتدائية الوحيدة المتوفرة في تلك الصحراء.