بين المضاف والمضاف إليه، يشكّل الأول غالباً دور البطولة في الجملة. هو من يحمل على ظهره الكتلة الأساسية من المعنى، ولا يفعل المضاف إليه، وفق هذا التفسير، سوى توضيح سابقه، إعطائنا خلفية قصيرة عنه لنُلِمَّ بأبعاد الصورة الكبيرة، على نحو ما تفعل لقطات الفْلاشباك في الأفلام مثلاً.
عندما ننادي «رب العالمين»، فإننا ننادي الرب لا ننادي العالمين، وعندما نتكلم عن «طبيب العائلة»، فإن بطل قصتنا يكون الطبيب أكثر مما تكون العائلة.
يقترن المضاف بالمضاف إليه اقتران عربتَي قطار راكبتين مركّبتَين بلا حلقة معدنية تربط بينهما، كأنهما كتلة واحدة. ومن هنا ربما يُحبَّذ اختصار المضاف، قص أطرافه وتشذيبها كي يُفسح مكاناً للاحقه، فتُحذف منه أل التعريف ونون الجمع المذكّر السالم.
وتضيف العبرية قاعدة أخرى، يتغيّر فيها وزن المضاف وتشكيله بهدف التقصير من مدة نطقه، إذ تتحول هناك كلمة «بَيِت» مثلاً، في حالة نسبتها لكلمة أخرى، إلى «بِيت» كما ننطقها في مصر وفي لهجات عربية أخرى كثيرة جداً.
دائماً ما لفت انتباهي، من ناحية أخرى، كيف تنطق فيروز كلمة «بيت» بشكلين مختلفين، تبعاً لتغيّر وضعها من الإضافة، في قولها: بَيْتِك يا ستي الختيارة بيذكّرني بْبَت ستي، أي: ببيت ستي.
,
كثيراً ما ينجح المضاف والمضاف إليه في التحول لكلمة واحدة، ومن الأمثلة الراديكالية على هذا تعبير «بني آدم»، الذي يؤنَّث ليصبح «بني آدمة» ويُجمع على «بني آدمين».
أي خيال غريب رأى نسخة أنثوية من أبينا آدم وسمّاها «آدمة»، ونسخاً كثيرة متطابقة له وسمّاهم «آدمين»؟
هكذا يتساءل فيلسوف اللغة وهو يفكّر في رحلة المعنى ومفارقات القدر، أما واضع القواميس فيبدأ باللحظة التي تأسّست فيها كلمة «بنيئادم» بمعنى «إنسان»، ككلمة شرعية تُعامَل معاملة الكلمات الأخرى، غيرَ واجدٍ أي غضاضة في جمعها وتأنيثها وفق القواعد المعروفة للغة العربية.
* * * * *
كيف نترجم من الإنجليزية إلى الفصحى عبارة بسيطة مثل my camera؟
كاميرتي؟ كاميراي؟ الكاميرا التي لي؟ الكاميرا خاصتي؟
لا يبدو أي اقتراح منهم للأسف مريحاً تماماً، ذلك أنه لا مقابل، في العربية الفصيحة، لـ«بتاع» كما نقولها في مصر مثلاً. لا تحتوي الفصحى على أداة ملكية على غرار of الإنكليزية أو von الألمانية أو de الفرنسية والأسبانية.
ولا أعتقد بالمناسبة أن العيب في كلمة «كاميرا»، كونها غير عربية. جربوا، بدلاً منها، «آلة التصوير» وستعانون من نفس الركاكة.
من كل الاقتراحات السالفة، يبدو أن ثمة ميلاً، لدى ترجمة الأفلام الأجنبية غالباً، لاستعمال «خاصة»، وكان بإمكان الأخيرة أن تكون أداة الملكية في العربية، لولا أنها اشتُقَّت حديثاً وعلى يد نخبة من المترجمين، ما أفقدها شرعية الشعب وشرعية التاريخ معاً، فلا يراها القارئ المُدرَّب الآن إلا ويمتعض. أشك مثلاً أن أحدكم يرتاح تماماً لقراءة تعبير مثل «آلة التصوير خاصتي».
ثمة حِيَل كثيرة لتعويض غياب أداة الملكية، وكلها عربية سليمة ولا تشوبها شائبة، ومن أبرزها دخول حرف اللام، مشكوراً، لرأب بعض الصدع الذي يُحدثه غياب الـ«بتاع» في الفصحى، فيقال مثلاً: «الطبيعة الجميلة لمصر»، بدلاً من «الطبيعة الجميلة بتاعة مصر».
ولكن تظل هناك مع ذلك حالات مستعصية، نحتاج فيها بشدة لوجود أداة ملكية مستقلة، أبرزها عندما نستعير كلمات من لغات أجنبية، وما أكثرها في حياتنا المعاصرة، في مثل my video أو my espresso. كيف نترجم تعبيرات كهذه من دون استخدام «بتاع» أو مقابلاتها؟
نفتقد كذلك لأداة ملكية في الفصحى عندما نحب معاملة تركيب بعينه معاملة الكلمة الواحدة. أريد الكلام عن طبق «أم علي» كما تصنعه أمي، ألن تكون أبسط صيغة هي «أم علي بتاع أمي»؟ أريد المفاضلة بين «بيروت نجمتنا» كما يغنيها مارسيل خليفة، وتلك التي يغنيها سميح شقير. يمكننا الالتفاف كثيراً على المعنى، ولكن أول عبارتين، وأبسطهما، يجب أن تكونا «بيروت نجمتنا بتاعة مارسيل»، مقابل «بتاعة سميح شقير». وقيسوا على ذلك كل التركيبات التي تحولت لما يشبه مصكوكات تُنطق في نَفَس واحد.
* * * * *
وفق مجاز عربتَي القطار، تصبح أداة الملكية المستقلة بمثابة الحلقة المعدنية التي تربط بين الكلمتين، فيُعفى المضاف أخيراً من عبء اختصاره، ويتمكن من الاسترخاء والتمدّد واستعادة كل ما فقده، ومن ضمنه أل التعريف التي نُزعت منه أيام كان مضغوطاً في جسم زميله، حتى يقال «الطبيب بتاع العائلة»، مع إيلاء كل حرف حقه في كلمة «الطبيب».
باستثناء العربية، ثمة أدوات ملكية في كل ما أعرف من اللغات السامية، هناك مثلاً «ديل» في الآرامية والسريانية، وكان بإمكان المقابل العربي لها، في حياة أخرى، أن يكون «ذِيل» أو «ذُول»، لولا أن حرف الذال العربي، بجانب إشارته لمعنى اسم الإشارة، يفيد المعنى النقيض لـ«بتاع»: «ذو» بمعنى «صاحب».
أما أداة الملكية في العبرية فهي «شِل»، وقد جاءت على ما يبدو اختصاراً لـ«أشِر لـ» بمعنى «الذي لِـ»، كما في أول آية من نشيد الأنشاد: «شير هاشيريم أشِر لِشلومو» بمعنى «نشيد الأنشاد الذي لسليمان». ويفسّر لنا هذا المثال لماذا لا يستطيع حرف اللام دائماً تشكيل معنى أداة الملكية، إذ لن ينضبط المعنى تماماً دون أن يُسبَق بالاسم الموصول «الذي».
ولا تخلو أي محكية عربية – فيما أعرف – من أداة ملكية مستقلة، للدرجة التي يبدو فيها غيابها عن الفصحى لغزاً مُريباً.
تُستعمل في بلدان شمال أفريقية صيغة «ديال»، لتضرب على وترين مزدوجين، وتر فرنسي لاتيني هو de، ووتر آرامي-سامي هو «دِيل». أم أن تأثراً قديماً قد وقع ربما بين الأرامية واللاتينية في هذا الشأن؟
وفي لهجات الخليج، وبجانب صيغة «حق»، تُستعمل «متاع»، والتي ينسب البعض «بتاع» المصرية إليها، وأقترح، إضافة إلى هذا، احتمال أن تكون مقلوبة عن «تبع» الشامية، والتي أجد فيها الكثير من المنطق بالمناسبة، كون الإضافة تتعلق بالتبعية بالأساس، إذ ليس ثمة فارق كبير في المعنى بين «أنا بتاعك» و«أنا تابع لك»: I am yours.
بين كل هذا، يذهب تفضيلي الشخصي لأداة الملكية العراقية «مال»، في مثل «البيت مالي» و«الكاميرا مالتي»، ذلك أني منذ سمعت قديماً تعبير «مال النبي» باعتباره «ما للنبي»، حتى حدست أن كلمة «مال»، بمعنى «نقود»، هي اختصار عربي قديم لتعبير «ما لـِ»، بمعنى «الذي لِـ».
لكم تمنيّت لو كان بمقدور العراقية فرض كلمتها هذه على العربية الفصحى، وأن تُقبل وتُستعمل في أدبنا وصحافتنا. ولكن حتى لو لم يمكن هذا، فأنا راضٍ بأي شيء، ولو كان «خاصة»، ذلك أن ثمة مشكلة ملموسة هنا؛ ليست مشكلة تتعلق بهويتنا أو بصورتنا أمام الآخرين، وإنما بالقدرة على التعبير عن المعنى، الأمر الأساسي الذي اختُرعت من أجله اللغة.