آخر ما يُقلق الإنسان في العاصمة الألمانية هو التنقّل. فأياً كانت الوجهة التي تريدها، أمامك خيارات متعدّدة لوسائل التنقّل السريعة فوق الأرض أو تحتها. لا تضطر لانتظار أي من تلك الوسائل أكثر من دقائق معدودة، ولا تقلق أن يستوقفك أحدهم بسؤال عمن تكون أو عما تحمله، وحتى تذكرة السّفر لا تضطر للتفكير باستخراجها كل مرة، فمبدأ الثّقة الذي يعتمده نظام السير هناك يوفّر عليك ذلك.
في مدينة مهيأة لراحة البشر كهذه، لا يتوقّع الفلسطينيّ أن يجد ما يذكّره بالحواجز العسكرية، أو بمعبر «قلنديا» على وجه الخصوص، كما يسمّيه سائقو الحافلات المتجهة من القدس إلى رام الله.
تقع محطّة «تْشيكبوينت تشارلي» عند إحدى محطات مترو الأنفاق في مركز المدينة. وهي نقطة تفتيش سابقة كانت معبراً مركزيّاً بين شرق المدينة وغربها على جدار برلين. استمرّت بالعمل كنقطة عبور مركزيّة حتى سقوطه عام 1989، ثم كسائر الشواهد التاريخيّة في ألمانيا الحديثة، تحوّل الحاجز إلى «متحف». يزوّد المتحف زوّاره بشرح موسّع حول تاريخ ألمانيا المنقسمة منذ انتهاء الحرب العالميّة الثّانية وحتى توحيدها في تسعينات القرن الماضي، بالإضافة الى جولة داخل نقطة التفتيش التي تعرض صوراً أرشيفيّة من تلك الفترة وشروحات مقتضبة حولها وحول عمليّة عبور الحاجز.
بدأ المرشد جولتنا في المتحف ليشرح آلية عمل الجدار وضرورة وجود «نقاط عبور» لتنظيم الانتقال من الشرق إلى الغرب، ومعنى أن يكون عبورك مشترطاً بحيازتك أوراقاً معيّنة وباتساق حالتك مع مجموعة من الشروط. سألنا المرشد إن كنّا نفهم كلامه جيّداً، مشيراً إلى لكنته الإنكليزيّة الغريبة، فأجابه أحدنا مازحاً «نفهمك أكثر مما تتصور».
اجتزت حواجز عسكريّة عشرات المرات في طفولتي، حيث رافقت أبي في سيارته بمشاويره التسوّقية من عكّا إلى جنين والخليل وطولكرم. كان أول عُلّمت عن الحاجز أنهم «لا يوقفوننا عند الخروج، بل فقط عند الدخول»، وكان يقصد أبي الخروج من الأراضي المحتلّة عام 1948 إلى تلك المحتلة عام 1967 في الضفة الغربيّة.
اجتزت حاجزاً عسكرياً مشياً على الأقدام للمرّة الأولى خلال عامي الدّراسي الأول في القدس. كان حاجز قلنديا في طريق عودتي من رام الله. نسيت لوهلة أن «عودتي» مشكلة، وغفوت في الحافلة حتى وصلت الحاجز وبدأ الركّاب ينبّهونني للنزول واجتياز «المعبر» لأكمل سفري في حافلة أخرى تنتظرني خلفه.
اجتزت اللافتة الكبيرة «أهلاً وسهلاً بكم في معبر قلنديا»، ووصلت إلى مسلك حديديّ طويل وملتفّ يقف فيه عشرات النّاس. كان مغلقاً كالقفص. ينتهي ذلك المسلك الحديدي عند بوابة حديديّة أيضاً، دوّارة ومحكمة الإغلاق. انتظرت بدوري مع المارّة في المسلك الحديدي قرابة الأربعين دقيقة حتى وصلت تلك البوابة. كان خلفها قاعة مرتفعة السقف، جدرانها إسمنتيّة رماديّة وسقفها من شبكة وصفائح حديديّة كبيرة. في منتصف القاعة غرفة اسمنتية صغيرة مقابلة للبوابة الدّوارة والمسلك ومطلية بالأبيض، يجلس بداخلها جنديّان يُطلّان على المارّين من خلف شبابيك سميكة تتوسّطها فتحة دائرية ركّب عليها سمّاعة ومايكروفون.
يقوم هؤلاء الجنود بالتحكم بتلك البوابة الحديدية الدوارة من داخل غرفتهم. يُتيحون حركتها ليدخل من في الدور واحداً تلو الآخر، بينما تصدر صوت أزيز عالٍ يتوقف حين يوقفون حركتها من داخل الغرفة بكبسة زر فجائية، فيعلق أحياناً من كان يتأهب لدفع البوابة أخيراً في الدور بداخلها ولا يتمكن من التقدّم أو الرجوع، ويحيطه الحديد من كلّ جهة. أتى دوري واجتزت البوابة بسرعة، وبالطبع لم يكن الأمر قد انتهى كما ظننت. كان بجانب الغرفة الصغيرة طاولة كبيرة عليها آلة للتفتيش، فهمت أن علي إدخال أمتعتي بها واستلامها من الجانب الآخر.
وضعت حقائبي، هاتفي النقال، ساعتي وكل ما أحمل من معادن وأكملت سيري إلى الأمام في المنتصف بين الآلة على يميني والغرفة الصغيرة على يساري، بلا شيء سوى ملابسي الّتي تُظهر هويّتي بوضوح.
في هذه الأثناء، صدر صوت مزعج من تلك السماعة على شباك الغرفة الإسمنتية ففهمت أنه قد تم تشغيل المكبر الصوتيّ وأنهم سيقولون شيئاً ما. بدأ أحد الجنود بالصراخ من داخل الغرفة بكلمات لم افهمها «أويا!.. أويا!..». لم أفهم ما كان يقوله، ولا إن كان يكلمني أنا أم من هم أمامي بالدور.
نظرت إليه لأرى إن كان يكلمني أنا. كانت عيونه تقع عليّ، وشفاهه تتحرّك، لكن شيئاً ما بالطريقة الّتي كان ينظر بها جعلني أظنّ أنه يكلّم شخصاً آخر وينظر باتجاهي صدفة. أكملت سيري، فَعَلا صراخه وبدأ يضرب النافذة بذراعه ويصرخ مجدداً: «إنتا… أويا… طلّع أويا..». نظرت إليه مجدّداً، هذه المرّة لمحت السلاح بين رجلي الجندي الذي يقف خلفه. بارودة عريضة ومتوسّطة الطول، لم يكن موجّهاً إليّ، كان يضع ذراعه عليه كأنه يتخذه مُتّكَأً. رفعت نظري إلى الجندي الذي يصرخ مجدداً، وكنت على يقين بأنه لا يكلّمني أنا. كانت عيونه الزرقاء تبدو كأنها تنظر إلى صورة ما، أو إلى شيء ما؛ شيء يقف خلفي ربّما، أو أنه هو صورة تتحرّك لكنها لا تنظر إلي. هَلَعت عندما فهمت أنه يكلمني حين علا صراخ من يقفون بالدور خلف البوابة ليوضحوا لي أن ما يريده «هويّة».
أخرجتُ هويّتي وأنا أنظر إليه بحذر لأرى إن كان يقصدني فعلاً، نظر إلى هويّتي وقد هدأ روعه ثم قال لي بالعبريّة: «أكملي سيرك».
ظلت تطاردني تلك اللحظات لأشهر. كانت عيناه تنظر باتجاه عينيّ، لكنّه لم ينظر إليّ.
المرّة الثانية كانت أقل تعقيداً، لاحظت عند انتظاري في المسلك الحديديّ أن الكثيرين يبدأون بتجهيز هويّاتهم وتصاريحهم قبل دخول المسلك الحديديّ الضّيق. قمت بدوري بتجهيز هويتي الزّرقاء قبل وصولي إلى البوابة بأمتار، والأمتار قبل بلوغ البوّابة الحديديّة قد تعني ساعة أو أكثر من الوقوف.
في كلّ مرة أعبر بها ذلك الحاجز، أجد وسيلة مختلفة لإمضاء الوقت، غالباً أحدّق بالناس الواقفين أمامي وأتخيّل شكل حياتهم أو كيف مرّ يومهم، نتبادل النّظرات بصمت. وبين شطحاتي ،الخياليّة غالباً ما تراودني صورة لمحتُها وأنا بداخل سيارة أبي يوماً وعلقت في ذهني لسبب أجهله: شاحنة كبيرة كانت تقف بأزمة مرورية بجانبنا، كانت مليئة بصناديق بلاستيكيّة مرصوصة بالدجاج الحيّ، بقيتُ حينها أراقب حركتها وأعدّ الدجاجات الّتي شعرت أنّها تحدّق بي، إلى أن تجاوزنا الأزمة وتوارت الشّاحنة عن أنظاري.
لاحقاً في أعوام الدّراسة تعثّرتُ بفيلم وثائقيّ قام بتصويره مخرج إسرائيليّ على حواجز عسكريّة سمحت له بالتصوير لساعات. تابعت الفيلم بعناية، واستوقفني مشهد يقف فيه عجوز فلسطينيّ غاضب في البرد ويحاول الجنود إعادته إلى الخلف، إلى المسلك الّذي ينبغي له أن يكون فيه، ويرفض العودة. يضع أكياسه على الأرض ويحاول أن يقول شيئاً ما، يحرّك ذراعيه، يصرخ، ويردّد جملة مبهمة واحدة ظلّ يكرّرها أمام أحد الجنود بالإنكليزيّة:
I was a soldier.. your eyes… I swear the same you…you.. your eyes.. I am like exactly to you..
لم أتمكّن من حلّ لغز ذلك المشهد. وظلّ يتردّد صوته في رأسي كلما تذكرت تلك «النظرة».
بداية المسلك الحديدي في حاجز قلنديا قبل التغييرات الأخيرة. المصدر: شبكة القدس الإخباريّة
حين يُسأل أحدنا عن «وضع الحاجز» ويجيب بأنه «عادي»، فإنه غالباً يقصد أن الحاجز غير مغلق، وأن مدّة الانتظار لا تتجاوز السّاعة أو السّاعة والنّصف، وأنه أثناء عبوره لم يسمع صوت إطلاق للنار أو يلحظ استنفاراً غير معهود في حركة الجنود. في هذه الأيام «العاديّة»، لا ينظر الناس إلى بعضهم أو يتبادلون الحديث بشكل اعتياديّ كما يفعلون في الحافلة أو العيادة وإن طالت مدة الانتظار. في الحاجز لا يُسمَع سوى صوت الحديد. يهيمن صمت غريب هناك، لا يشبه حضورنا في أي حيّز آخر، يكسره في بعض الأحيان ضحك خفيف أو نظرات متبادلة بين الواقفين حين تخترق المكان رائحة شهيّة تنبعث من زوّادة أحدهم ويبدأ النّاس بتخمين الأكلة، أو عند سماع أطفال يتشاجرون، أو حين تعلو رنة جوّال أحدهم بأغنية شعبيّة راقصة.
هذه أشياء عادية، لا تستدعي الالتفات بأي مكان آخر، لكنّها في الحاجز تصبح استثنائيّة. فهذه ليست من مساحات الحياة الاجتماعية، ليست من مساحات «الحياة» عموماً، إنها مساحة تستوقف الحياة. ونحن بحضور تلك الأشياء التي نحبّها ونمتلكها، كلعبنا مع أطفالنا ورائحة طبخنا وغنائنا، نستردّ شيئاً من ملكيّة الوقت الّذي يمرّ ومن تجاوبنا الحسّي مع المكان.
صورة التُقطت مؤخراً لعمال فلسطينيين يعبرون حاجز بيت لحم بساعات الفجر
في رواية موت صغير التي تحكي حياة الصّوفي محيي الدين بن عربي، يشبّه الشيخ تألّم الإنسان لأذىً قديم بعد مروره بسنوات بقضاء الدَّين. فالشيخ الذي يفترق في طفولته عن مربّيته التي كانت في مقام أمّه، لا يدرك موقف الفراق ذاك إلّا بعد سنوات، في لحظة اعتباطيّة بين مريديه، يتذكّر وجهها وكلماتها الأخيرة ويجهش بالبكاء، وحين يسألونه عن سبب بكائه المفاجئ يجيب بأنّه يقضي ألماً قديماً لم يفهمه في طفولته، وأن ما لا يشعر به المرء في حين وقوعه، لسبب ما، يقضيه لاحقاً في كبره.
في «تْشيكبوينت تشارلي» قضيت آلام تلك الساعات في حاجز قلنديا. كان مُرشد الجولة قد استوفى للتوّ خلفيّة طويلة حول ألمانيا المنقسمة، وبدأ يسير بنا في الممرّات الضّيقة بين قواعد التّفتيش لنمشي مسار من كان يريد (ويستطيع) العبور من شرق برلين إلى غربها.
تَحدّث عن أوجاع فراق العائلات ووداعهم في هذه المحطّة، عن إذلال الجنود واستعلائهم، عن تخبئة الأوراق والممتلكات الخاصّة خشية مصادرتها على الحاجز، عن التفتيش، عن الانتظار في الدور، وعن إجراءات أخرى عديدة لا تنتهي. من المضحك المبكي أن تسمع أحدهم يروي تفاصيل مأساتك المعاشة كأنها شيء من الماضي الأليم الذي انتهى، وأن يطلب منك محاكاة التجربة لكي تتخيّلها. تَلَفّتُّ حولي لأرى إن كنت الوحيدة الّتي تختنق، ولأبحث في عيون بقية الفلسطينيين عن شيء يشبه غصّتي. التفتُّ للخروج واصطدمتْ قدماي بإحداهنّ، فأدرت رأسي لأبادر الحديث. أردت أن أسخر من الموقف وأقول لها «هل يمازحوننا؟» أو «هل هذا مسلسل على نتفلكس؟». لم أستغرق في التفكير كثيراً حتى وجدت رأسي يتحرّك نحو كتفها باضطراب، ووجهي ينقبض بشدّة.
كانت تخرج دموعي بصعوبة بالغة، كأن أحشائي تتصلّب نوبةً بعد الأخرى، أسترجع صورتي قبل خمس سنوات وأنا أنظر بعيون ذلك الجنديّ بهلع، أرى تلك الشاحنة الممتلئة بصناديق الدّجاج المرصوص. ينقبض جسدي للحظات ثم ألتقط أنفاسي من جديد. لم يكن بكاءاً عادياً. كان يشبه القيء.
كنت على قناعة بأن عبور الحاجز يصبح مع مرور الوقت أقل إيلاماً، وأن الثّقة والاعتداد بالأمل يحمي من سطوة القهر ليجعل الأمر اعتيادياً أو بلا معنى، كأي إجراء يوميّ آخر لا نُطيقه. والحقيقة أنّ الأمر لا يصبح أقلّ إيلاماً، ولا نحن «نعتاده»، ولكن عندما يكون التّنكيل الّذي يُمارَس عليك مقترناً بضرورة من ضرورات الحياة، كالتّنقُّل، تبدأ بإيجاد آليّاتك الخاصّة للصّمود والبقاء، تتجاوز مادّية المكان والزّمان القاسية وتَعبُر بفكرك وبانفعالاتك إلى مستوى آخر من «التواجد»، إلى حالة أخرى من «العيش»: تواجد تصغي فيه بوضوح أكبر إلى قوّتك الداخليّة وإنسانيّتك الّتي تراها جيّداً وبلا نقص مهما كانت شروط الواقع تدفعك للشكّ بها.
ومن هذه الحالة الوجدانيّة في داخلك، تستمدّ القوة لتواجه القبح الّذي أنت أمامه، ولو ليوم إضافيّ واحد، تجابهك كلّ يوم معركة محتّمة، بين معاناتك الصّاخبة والملموسة، وبين الأمل الّذي تُنمّيه أنت بداخلك. لا أنت ضحيّة هامدة، ولا أنت حر طليق… بعد.
في الضّفة الغربيّة، وعلى خطّ جدار إسرائيل الأمنيّ، هناك أكثر من 700 حاجز عسكري يستوقف تنقُّل الفلسطينيّين أو يمنعه، من بينها حواجز ثابتة ذات بنية ومأهولة بالجنود، ومن بينها حواجز إسمنتيّة أو جدارية لإغلاق طريق ما، ومن بينها ما يسمّى بالحواجز الطّيارة، أي المتحرّكة، بعضها لا يسمح بعبور المركبات، وبعضها لا يسمح بعبور المشاة. من خلال بعض الحواجز الرئيسيّة على الجدار، كحاجز قلنديا أو حاجز بيت لحم المعروف بـ«حاجز 300»، يمرّ عشرات آلاف الفلسطينيين مشياً للعمل في الأراضي المحتلّة. جلّهم يفعل هذا كلّ صباح.