بالكاد لمحته بين الأجساد العابرة التي تدس نفسها تحت الشمسيات. يقف ثابتاً وسط المطر الهاطل، يحاول التقاط صورة بهاتفه الخاص لأحد باعة السميت التركي المنتشرين على أطراف ميدان تقسيم الإسطنبولي. بدا لي أنه لم يتغير منذ آخر مرة رأيته فيها عام 2015، كُنت أعمل على تقرير لجريدة السفير العربي عن حملة لإحدى المجموعات الشبابية في غزة، وكان هو أحد منظِّميها. تركنا ساحة تقسيم بزحمتها خلفنا، وعبرنا من إحدى حارات شارع الاستقلال الجانبية، لنصل إلى المكان الذي سنجلس فيه. تذمرْنا لدقيقتين من إجراءات الكورونا الجديدة في تركيا وغزة، تبدلت الانطباعات المتسرعة، وبدا أن مياه كثيرة جرت في النهر منذ ذلك الحين.
سمعتُ ما لم يكن متوقعاً. يُفكر بالعودة إلى غزة. «مجنون شي؟!»، انفلتت الكلمة من لساني. «الحياة هي اللي مجنونة!»، يقول من استقتل أعواماً ليخرج من هناك. كانت سنة قاسية. سعى فيها لاستقرار يجهل كيف تؤكل كتفه.
خروج
وصل حسام سالم إلى تركيا منتصف كانون الثاني (يناير) 2018، تكللت محاولة السفر الثانية عشرة – خلال أربعة شهور فقط – بالنجاح أو النجاة أخيراً، وكانت تلك المحاولة الرابعة والثلاثين في تقويم الأربعة أعوام التي سبقت خروجه من غزة.
ضاع جوازه في إحدى المرات، وأخرى حان موعد السفر بينما توضع التأشيرة على جوازه في رام الله، وأكثر المرات أرجعه المصريون من المعبر، دون أسباب واضحة. آخر محاولات السفر الحثيثة سبقت خروجه بأربع شهور، حاول السفر لاستلام جائزة «إسطنبول فوتو أوورد» عن فئة المصور الصحافي الشاب، والمشاركة كذلك في معارض الجائزة التي أُقيمت في إسطنبول وأنقرة ونيويورك وموسكو.
تلقى حسام خبر فوزه بالجائزة وهو يُغطي جنازة مازن فقهاء، الذي اْغتِيل بكاتم صوت من قبل عملاء للمخابرات الاسرائيلية أمام منزله بحي تل الهوى في مدينة غزة. كانت الأوضاع الأمنية متوترة في القطاع حينها، والأمور تتجه إلى تصعيد ميداني بين الاحتلال وفصائل المقاومة في غزة. يستعيد حسام تلك اللحظة، كلحظة معقدة ويومية في آن واحد، تقول الكثير عن غزة وعن الحياة فيها، وتحديداً أن الصورة التي شارك بها في الجائزة تنقل مشهداً تنتصر الحياة فيه على الموت والدمار. «بتعرفش شو تحكي؟ بدك تفرح؟ بدكاش؟ الوضع متوتر كتير هون بس بدك تفرح؟».
قضى حسام شهوره الأولى في تركيا بالتجوال بين مناطق الأناضول والبحر الأسود الساحرة بطبيعتها، قبل أن يبدأ العمل مع وكالة تركية محلية كمصور صحافي، إلى جانب عمله كمصور حر مع وكالات ومواقع أخرى، غطى عدداً من القصص الصحافية، منها العملية العسكرية التركية شمال شرق سوريا، وتوجه اللاجئين نحو حدود اليونان، وقصصاً من مخيمات اللاجئين السوريين على الحدود مع تركيا.
أقام معرضاً بداية عام 2020، تصادف مع يوم مولده – الثاني من شباط (فبراير) – أسماه «إنسان خلف الحدود»، وقد تعاون فيه مع المصور الفلسطيني فايز أبو رميلة، حيث حاولا عرض صور تحمل داخلها مشاهد متشابهةَ المعاناة، توزعت بين ثلاث مناطق مختلفة، غزة والضفة الغربية وسوريا. لم يحضر المعرض إلا تسعة أشخاص. يُعاتب أصدقائه إلى اليوم، ويقول أن عام 2020 كان ليسير سلسلاً لو أنهم حضروا المعرض.
عودة إلى غزة
عمل حسام خلال السنوات العشر الماضية كمصور حر مع مؤسسات صحفية محلية ودولية. غطى بكاميرته ما يحدث على أرض غزة وفي سمائها، ملتقطاً يوميات الناس ومعاشهم، بدءاً من نتائج الثانوية العامة وليس انتهاءاً بالحروب المتعاقبة على المدينة.
كانت نتائج التوجيهي لعام 2010 أول حدث يغطّيه حسام بشكل صحفي لصالح مجلة السعادة المحلية. اعتذر يومها مصورهم الرئيس عن التغطية، فكلفوا حسام الذي كان قد حصل معهم على دورة تدريبية سابقاً.
عدّ حسام تلك لحظة فارقة لدخول العالم المهني والاحترافي، وترك عالم الهواة الذي عرفه نهاية عام 2008 بعد شرائه لكاميرا صغيرة من نوعية «بينك» بثمن 90 دولار. جاء ذلك في وقت بدأ فيه بالتعافي من إصابته الطويلة التي تركته في حالة هشة نفسياً. «كنت مش طايق الجامعة ولا البيت ولا الحارة».
ففي فصله الجامعي الرابع، سقط حسام على قدمه أثناء عودته للمنزل في إحدى الليالي. فلت رباطه الصليبي. لزم البيت وعتبته لتسعة شهور. أجرى عدداً من العمليات، كان صعباً على الأطباء في قطاع غزة أن يتعاملوا مع إصابة مماثلة. عام 2009، بدأ يستند على عكاز. بعدها بعام علم بقدوم طبيب فلسطيني من ألمانيا، اسمه عدنان البرش، شارك في عملية تركيب بلاتين في مفصل الرمانة سابقاً. أجرى حسام العملية على مسؤوليته الخاصة، ونجحت. تخلى عن العكاز وما زال يحتفظ بالبلاتين في مفصل قدمه.
«كنت بهرب من نفسيتي السيئة، ومن نظرة الشفقة بوجوه اللي حوالي»، بدأ يسجل في دورات التصوير الفوتوغرافي للمبتدئين، يخرج إلى البحر وشوارع غزة الرئيسة، يلتقط الكثير من الصور التي يستعر منها الآن. تعرَّف على مصوِّرين هواة من غزة عبر منتدى «فريق مصوري فلسطين»، وأقاموا سوياً معرض «غزة بعيوننا» في خيمة وسط ساحة الجندي المجهول.
بالتزامن مع ذلك، جرت الجامعة بعيداً عن حسام، وكل ذلك دون علم أهله. لم يتخرج حسام من الجامعة. أتم 4 فصول منها فقط، رغم إنهائه الثانوية العامة بمعدل 88 بالمئة علمي. «أبوي عشان مدرس ومخرج أجيال ما عجبه». سعى والده آنذاك لسفره بمنحة طب إلى سوريا، ولكن تعثر الأمر في النهاية، وسجل في تخصص هندسة الحاسوب في جامعة الأزهر، ولم يمتزج كثيراً مع التخصص، رغم غرامه القديم بالتقنيات، يوم امتلك شبكة إنترنت على مستوى الحارة ليُخرج منها مصروفه.
«يموت من لا يستطيع الركض في الطرقات»
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، يشبك خط النار بين سماء غزة وأرضها المقصوفة لتوها، وعلى سطح برج الغفري، يلتقط حسام صورة واسعة لذلك الخط الناجم عن قصف طائرات جيش الاحتلال لمقر وزارة الداخلية في حي تل الهوى. بعدها بساعات، أعلن الجيش الاسرائيلي أن التصعيد سيكون عملية عسكرية واسعة ضد غزة، أسماها «عامود السحاب». صباحاً، كانت تلك الصورة التي باعها حسام للوكالة الفرنسية تتصدر شاشات المواقع والصحف.
يطل برج الغفري من شرقه على مدينة غزة، وعلى مينائها من غربه، يبلغ عدد طوابقه ثمانية عشر. بسبب انقطاع التيار الكهربائي المستمر، كان يصعد حسام وزملائه منها خمسة عشر طابقاً من خمس إلى سبع مرات يومياً طوال الحرب وهم يحاولون الوصول لمكتب شركة الإنتاج التي عمل معها لفترة في تصوير المقابلات، وكان يصطحب معه كاميرته إلى كل المطارح ليصور كذلك لحساب مواقع وصحف عربية وأجنبية.
عدا عن طوابق برج الغفري، وصوت قصف الزوارق الذي لا يهدأ، والحركة الصعبة ليلاً، ومجزرة عائلة الدلو في ساعة الحرب الأخيرة التي راح ضحيتها عشرة من أبناء العائلة واثنان من الجيران، لا يذكر حسام كثيراً من أيام حرب 2012 التي استمرت لمدة ثمانية أيام، قتل خلالها الجيش الإسرائيلي 162 فلسطينياً. لا تقتصر حالة غياب الأحداث تلك على حسام لوحده. سمعت ذلك من عدد من الأصدقاء، ولديهم مبررهم «المنطقي»، أي حرب 2014. فأيام هذه الأخيرة كانت شديدة القسوة، ولا يحب الغزيون – ومنهم حسام – بدء حديثهم عنها إلا بقولهم «تنذكر وما تنعاد».
بالكاد تمكن من تدبير نفسه بعدسة من هنا وكاميرا من هناك، بعد أن دخلت حرب 2014 أول أيامها، وكاميراته وعدسته معطوبة إثر سقطة قاسية ختام إحدى جلسات التصوير. لم يأخذ أحد منه صوراً لمدة أسبوع كامل، حتى بدأ بالتصوير لصالح موقع ميدل إيست آي. اشتغل له طوال الحرب. شاعت له صور عديدة من الحرب، أشهرها صورته لوالد عائلة بكر وهو يشق قميصه ويبكي على أبناءه الثلاثة الذين قتلتهم الزوارق البحرية على شاطئ بحر غزة وهم يلعبون الكرة. أخذ حسام عن تلك الصورة جائزتين، واختارتها بي بي سي كإحدى أكثر صور عام 2014 تأثيراً على مستوى العالم.
«هل تستسلم؟ هل تكمل؟ مش مسموح تنصدم وتوقف؟»، أسئلة ضجت بها رأس حسام طوال أيام الحرب. «إذا إنتا بدكاش تنزل، غيرك كمان مش حينزل، ومحدش حيصور شيء»، كانت هذه حجته أمام نفسه ليكمل في الحرب، التي يصفها كَكَمين، تهرب منه في كل لحظة. أدرك ذلك بعد سماعه في اليوم الرابع والعشرين للحرب خبر استشهاد العم أبو حمزة البلتاجي خلال إجلائه لمصابين في استهداف طائرات الاحتلال لسوق البسطات في حي الشجاعية.
تعرف حسام على ضابط الإسعاف البلتاجي خلال حرب صيف 2014، عشية مجزرة الشجاعية تحديداً. ليلتها، أصرّ حسام وزملاؤه على الذهاب هناك ليلاً. أقلّهم سائق سيارة إلى مدخل الحي وتركهم يكملون طريقهم، ووصلوا مستشفى جنين الخاصة، وفي غرفة المسعفين، تحلقوا حول أبو حمزة الذي بدأ بإعداد العصير لهم.
الساعة الثانية عشر، بدأت هواتف الاستغاثة ترن، وفي الخارج ترتفع وتيرة القصف المدفعي بشكل مرعب. كان أهالي الحي محاصرين في بيوتهم بينما تنهال عليها القذائف.
رفض الجيش الاسرائيلي دخول الاسعافات، التي تتحرك بناءً على تنسيق مع الصليب الأحمر والهلال الأحمر الفلسطيني، لكن ابن الحي أبو حمزة أخذ المخاطرة وخرج بإسعافه على مسؤوليته الخاصة.
من منتصف الليل وحتى السادسة صباحاً، يُخرج أبو حمزة ما استطاع من نساء وختايرة ومصابين وجثث، يوصلهم إلى مستشفى الشفاء ويعود لينقل غيرهم. «تذكرت إنو معي كاميرا بعد أربع ساعات، قيامة والناس بتشرد»، يقول حسام الذي كان يجلس في كابينة الإسعاف طوال تلك الليلة، يساعد في صعود الناس وإنزالهم. تعرضوا لإطلاق نار قبل الفجر، غيروا عجلات الاسعاف، وعادوا لنقل الناس.
لم يدرك أحد فجاعة مع حصل ليلتها إلا حين بدأت تُنشَر مشاهد صباح اليوم التالي. على عتبات بيوتهم، في مطابخهم، تحت جدران غرفهم وأسقفها، نزفوا حتى الموت. 74 شهيداً، بينهم 17 طفلاً، و14 امرأة، و4 مسنين، حصيلة من قلتهم القوات الاسرائيلية ليلتها. «بتصل لمرحلة البلادة، بتصلك الأخبار، وبتملكش إلا كلمة ’الله يرحمه‘». كانت أصعب ليالي الحرب لحسام، عاد يومها للبيت ونام 48 ساعة متواصلة، وأخبر أهله حين استيقظ أنه كان في الشجاعية ليلة المجزرة.
أبو حمزة البلتاجي وفريقه الإسعافي، بداية حرب 2014 (المصور مجهول)
ماذا عن الاستقرار؟
«حاولت أهرب من الواقع، وتورطت في واقع أسوأ وأسوأ»، الخروج من غزة باعتباره إمعاناً في التوهان، يقول حسام الذي ولد في ليبيا عام 1989 داخل بيت لعائلة هُجِّرت من قرية هربيا إلى غزة عام 1948، وانتقلت منها لاحقاً إلى ليبيا. عمل أبوه مدرساً للفيزياء هناك، إلى أن عادوا عام 1997 إلى بيت العائلة الكبير في مخيم جباليا، بعد قرار من القذافي بإعادة الفلسطينيين إلى غزة والضفة عقب اتفاقية أوسلو. لم يكن ذلك غريباً على العائلة، فقد درس والده في مصر والعراق وترحل منهما أيضاً بسبب انضمامه لصفوف الجبهة الشعبية.
لا يتذكر كثيراً من أيام طفولته في ليبيا. «بتذكر إنو كل يوم جمعة كانوا الفلسطينيين يلتموا ويقعدوا، وبتذكر الحلاق الليبي اللي كان يحب فلسطين». لم يكمل أول يوم في مدرسته الجديدة في غزة، أراد أن يعود إلى ليبيا لسبب وجيه يناسب لامبالاته: «ليبيا الكل بطلع بتكرم ع المنصة أخر السنة، هان المناهج كتير صعبة».
رويداً رويداً، بدأ يعتاد على غزة، إلى الحد الذي تورط فيه معها. يُكابِد نفسه بالابتعاد، ويعود أثقل كل مرة. «مشان أرتب أموري»، يجيب عن سبب خروجه من غزة، يخبّئ أشياء داخل هذه الكلمات أكثر مما يختصر. هو من اعتاد أن يصور مشهد من يبكون على مُودِّعيهم، إلى أن جاء اليوم وكان في قلب المشهد. «لما شفت صوري، كرهت حالي كيف أصور الناس وأخليهم يطلعوا وهم ببكوا ع حدا مات وأخلي الصورة في بالهم». حدّث نفسه بذلك وهو ينظر إلى صوره وهو يبكي في جنازة صديقه الصحفي ياسر مرتجى، الذي قُتل برصاص قناصة إسرائيلين على الحدود مع غزة في ثاني جُمَع مسيرات العودة وفك الحصار.
رافق حسام وياسر بعضهما آخر سنتين من حياة الأخير، يلتقيان يومياً، يذهب حسام للعمل في مقر شركة ياسر وصديقه، حيث لم يرضَ بوظيفة كان قد عرضها عليه ياسر. «خلينا أصحاب أحسن»، قال له يومها. كان يوم استشهاد ياسر آخر أيام العمل والصحوبية. توجها سوياً إلى الحدود الشرقية لتغطية الأحداث، تعرض في بداية اليوم حسام لوعكة معتادة في جدار المعدة، تُصيبه في حالات عدة، منها شم الغاز المسيل للدموع. أثناء محاولته لاستعادة وعيه، أتى أحدهم ورمى جوالات ياسر في حجره وذهب بعد أن قال له: «ياسر تصاوب». لملم عدة التصوير، وتوجه لمستشفى ناصر. تحدث معه ما بين خروجه من غرفة العمليات إلى العناية. سأل الدكتور ياسر عن أسماء من حوله، وأجابه.
عاد حسام للبيت بعدها، ولكن بعد أقل من عشر دقائق يأتيه اتصال: «ياسر دخل العمليات تاني»، أبلغهم الطبيب بعد نصف ساعة من ذلك، «الله يرحمه».
من جنازة الصحفي ياسر مرتجى
«تفاصيل أيامك ووقتك مرتبطة بشخص، لما بروح بتكره المكان وكل شيء حواليك»، لذلك صار الابتعاد عن المكان كله خياراً لا مفر منه، على رغم قسوة ومجهولية البحث عن الاستقرار في مكان جديد.
«اختلفت عليّ الحياة شوي، بس لسا مكنتش قادر شيل طابع وجوّ غزة من صوري». يحب حسام كيف تستطيع إسطنبول على لحس دماغ أي إنسان، وكاميرته، ويكره فيها كيف تغدو نهاية كل يوم كوحش ثقيل، يُتعبك ويستنزفك، ولكنك مضطر للعيش في كنفه. فهو يحاول البقاء في المجال الصحفي، لكن متطلبات العيش في إسطنبول، وعدم استقرار العمل الصحافي الحر في ظل عدم توفر الوظيفة المستقرة، يضطره للذهاب لخيار التصوير في مجالات أخرى خارج الصحافة، وهو ما يضع حجراً ثقيلاً على خطط الارتقاء المهني التي قَدِم بها من غزة. لذلك ليس من الغريب أنه ينام كل ليلة وهو يخبّئ تحت وسادته ورقة العودة إلى غزة.
كان يفترض أن ينتهي النص عند الفقرة السابقة ويُنشر على ذلك. لكن حسام سيخطف نفسه إلى غزة يوم 10 أيار (مايو)، مفاجئاً عائلته وأصدقائه، ومخطِّطاً ليوم إفطار في بيت العائلة، وثانٍ على البحر مع رفقته، ليُعيّد في غزة، ومن ثم يعود إلى إسطنبول ورحلة البحث عن الاستقرار.
لكن مساء يوم عودته ذاته، يستهدف الطيران الاسرائيلي مجموعة من الغزيين، ويسقط 26 شهيداً، بينهم 9 أطفال وامرأة. هكذا استفتحت إسرائيل عدوانها المستمر على غزة، الذي لا يُشبه شيئاً مما كان قد كابده أهلها من حروب وهجمات صهيونية سابقة. «سقا الله حرب 2014»، على اختلاف صياغتها، كانت أكثر العبارات التي سمعتها وقرأتها من غزيين خلال الأيام الماضية.
أعمى من لا يبصر هذا الجنون الاسرائيلي والرغبة الوحشية في تكسير رؤوس الفلسطينيين ونفوسهم، قبل تفجير أجسادهم وتدمير منازلهم عليهم. جنون… 73 عاماً على النكبة وإسرائيل غير قادرة على حسم مشروع مستعمرتها في الأراضي المحتلة. 73 عاماً على النكبة، وفلسطين من البحر إلى النهر، تنتفض في وجه المجزرة المسماة «إسرائيل».
استيقظ حسام من نومته الأولى في غزة بعد العودة، وكأنها صحوة من نومة نامها قبل ثلاث سنوات. «غصة، حسيت وكأني ما طلعت من غزة خلال الفترة الماضية». يجول حسام بكاميرته بين شوارع القطاع المتفسّخة، البيوت والأبراج المهدّمة، على مداخل المستشفيات وفي منازل الشهداء وجنازاتهم، يتتبّع وجوه الناس وقصصهم. ويعزّي نفسه بالعودة إلى غزة في لحظة كهذه. «برا بكون مقهور وعاجز، هان حاسس فيه هداة بال». أعلم تماماً ما يتحدث عنه حسام، وما يتمناه كل الغزيين المغتربين الآن، أن يشاركوا أهلهم وأصدقاءهم وأحباءهم في غزة حصة من القهر والخوف وأصوات الصواريخ الطالعة والنازلة.