«أنا أحكي عن الحرية التي لا مقابل لها، أحكي عن الحرية التي هي نفسها المقابل».
هل يردّ هذا الاقتباس الشهير لغسان كنفاني على الشعار الذي تردَّد في القاهرة منذ عشر سنوات «ما تعبناش ما تعبناش، الحرية مش ببلاش»؟ أو هل ثمة ثمن يُدفَع من أجل الحرية، كما نادينا، أم أن الحرية هي نفسها الثمن الذي يُدفَع مقابل الحصول عليها، كما نادى كنفاني؟
في اللقاء الذي أجراه مؤخراً موقع مدى مصر مع فلسطينيين من غزة والضفة والداخل، تقول الناشطة فيروز الشرقاوي بخصوص الحراك الجاري: «صرت سامعة كلمة ’تحرير‘ كثير في أيامي، خلال يومي عم تنحكى، فيه جدية وفيه مزح، بس إنه هي حاضرة جداً».
ونحن أيضاً سمعناها كثيراً يا عزيزتي فيروز، من عشر سنوات سمعناها كثيراً، واليوم أيضاً نسمعها كثيراً.
* * * * *
بجانب معنى «الحريات الشخصية»، والذي شاع في بلدان الربيع العربي، فُهمت كلمة «حرية» لسنوات طويلة كذلك في ارتباطها بـ«تحرير الوطن»، سواء ضد قوى الاستعمار التقليدية، البريطانيين والفرنسيين، أو كما في حالة «تحرير فلسطين».
شكّلت فلسطين الرابطة الأمتن بين مفهومي «الثورة» و«الوطن»اللذين جرى تناولهما سابقاً. تعلَّمْنا الثورة ضد مبارك من تكنيكات النضال لأجل فلسطين، حتى مع اختلاف معنى الحرية بين كل من النضالين، إذ في ثورات الربيع العربي، وبعد عقود من الاستقلال، كنا نحتج على حكامنا الوطنيين ونطالب بحرياتنا الفردية، أما الفلسطينيون، وحتى اليوم، فهم لا يزالون يناضلون لأجل «التحرر الوطني» بالأساس.
في مظاهرات حيفا التي اندلعت في الثامن عشر من أيار (مايو) الماضي، تردّد كثيراً هتاف الـ«حرية» متبوعاً بموضوعها المنشود «لأسرانا الحرية»، «حرية حرية، للشيخ جراح الحرية»، ما أعاد لذاكرتي هتافاً آخر كنت أسمعه من عشر سنوات في التظاهرات التي غلب عليها الطابع الأناركي في مصر: أربع صفقات بالأيدي، دومدوم دومدوم، تليها زعقة واحدة: «حرية».
كان يكفي أحدهم أن يشعل الهتاف لمرة واحدة، حتى تهتف الجماهير بعدها لمرات متتالية، فيما يناسب مزاجاً أناركياً بلا قائد، يطالب بحرية مطلقة بغض النظر عن موضوعها.
* * * * *
مثلما أن «التعبير» هو في الأصل من «العبور»، فقد يكون الأقدمون قد نظروا سابقاً إلى تأليف النصوص باعتباره إطلاقاً لسراحها من العقول، فأصبح «التحرير» يعني أحياناً التأليف، حتى يُطلَق الآن نفس اللقب على سپارتاكوس محرّر العبيد، وعلى «الإدِتَر»، محرّر الكتب والمقالات.
ولكن لنتجاهل معنى التأليف، إذ يبدو لي تابعاً لمعنى «الحرية»، ولنركّز على معنى ثالث للفعل «حرّر»: نستخدمه في مصر بقولنا «هذا الجاكيت يحرّرني»، أي يدفّئني.
اشتُقت كلمة «حرية» من نفس الجذر الذي اشتُقت منه كلمة «حرارة»، وقد يكون المعنى الجامع بينهما هو الانتفاض وعدم الخمول، حتى أننا عندما نصف شخصاً بأن «دمه حُرّ»، فإن هذا قد يشير إلى استقلاليته، أو إلى التهاب مشاعره وقدرتها على الفوران.
لا فارق يُذكَر في مصر بين معنى «الدم الحر» ومعنى «الدم الحامي».
وبمناسبة «الحُمُوّ»، يلفت انتباهي ظهور حرف الحاء في الكلمتين الأساسيتين المعبّرتين عن السخونة باللغات السامية. فبجانب «حرارة» يقال في العربية «حمم» و«حميم»، ويقال في السريانية «حمتا» بمعنى «ساخن»، وفي العبرية، وبنفس المعنى، يقال «حَم»، وقد استعارها الفلسطينيون، فيما يبدو، عندما يقولون «الجو حَمّ اليوم» (أم أنها تعود، يا ترى، إلى «حميم» العربية؟).
يُحذِّر الآباء أطفالهم في مصر من لمس الأشياء الملتهبة، واصفين إياها – في كلمة قد تعود للمصرية القديمة – بأنها «سُخْنة يَحّ». وقد تكون «أحا» المصرية الشهيرة قد تطورت عن «يح» هذه، في الأصل للفزع ثم للاحتجاج، حتى عُدّت كلمة قبيحة دون أن يُفهَم ما القبيح فيها على وجه الدقة.
كتب أحدهم منذ أسابيع منشوراً طريفاً يستغرب فيه إحساس بعضنا بالبرودة عندما ينفخ في أصابعه قائلاً «هوف»، في مقابل إحساس الحرارة عندما ينفخ ويقول «أح».
قد يكون تفسير هذا أن مخرج الحاء أعمق من مخرج الفاء في الفم، فتخرج الأولى أشد حرارة، وكان من تجليات هذا على العموم سخرية المصريين من التنهيدة العاطفية الدافئة، والمُحِبّة للنظام، للإعلامي أحمد موسى، عندما دوّنوا حروفها باعتبارها «هيييح»، في تقليد أظن أن أول من بدأه كان فريق عمل البرنامج لباسم يوسف.
أما الراء، وهو حرف لا يُسمَع إلا عبر تردّد طرف اللسان على سقف الحنك، فيُضاف للحاء، حتى يشكل الاثنان كلمة «حرية»، مقرّبين إياها من معنى الـ«حركة»، ويمكننا سماعه وحده في كلمات مثل «ثار» و«نار» و«فار» و«أغار»، بل وحتى فعل «دار»، أي «انقلب».
وبمناسبة «الدوار»، فقد كان من أجمل هتافات الفلسطينيين في الأيام الأخيرة: «دوّار الزمن دوّار / بعد الليل بييجي نهار»، هتاف كأنه يفيد الومض السريع وانقلاب الأحوال، بعد أن ظن الاستبداد أن الوضع القائم سيظل قائماً إلى ما لا نهاية.
* * * * *
نفترض إذن أن الحرية تعبّر عن السخونة في المقام الأول، ولكنها قد تحوي أيضاً ظلاً من الحركة، وهو ما يبدو منطقياً من الناحية الفيزيائية، فالحركة – ويصفها المثل بأنها «بركة» – تنشّط الدورة الدموية، ما يُنتِج تسارعاً في نبضات القلب والإحساس بالصهد المنعش.
ليس القصد طبعاً أن أي مزيج حاء وراء يُنتج معنى حميداً بالضرورة، فهناك «حراكات» فاشية، وهناك «الحرب»، التي تشترك مع «الحرية» في معاني الحركة والحرارة، كما لا يُستبعد أن تُستخدم كلمة «حرية» نفسها في سياقات يمينية وعنصرية.
وبينما لا نزال في منطقة الحاء والراء، هناك معنى لافت يتعلق بالدابة التي «حرنت»، أي «تعطّلت»، ويصلنا منه معنى تمرد الدابة أكثر مما يصلنا سكونها، ودائماً ما أحببت أن أرى في الإضراب نوعاً من «الحرون»، التوقّف الهادف للحركة، تعطيل الماكينة بهدف إبدالها بأخرى جديدة.
وبهذه المعاني كلها، أميل إلى فهم الحرية كما صاغها غسان كنفاني باعتبارها هي نفسها المقابل، تحرّكاً يُجري الدم في العروق وفي جسم المجتمع؛ حرية تُفْضي إلى حرية، حرية نحصل عليها بعد أن ندفع ثمنها حرية.